الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: في الاشتراك
والمشترك: لفظ موضوع لكل واحد من معنيين فأكثر، معا على البدل من غير ترجيح.
فقولنا: ((معًا)) احتراز عن المشترك معنى، كالمتواطئ والمشكك،
وقولنا: على سبيل البدل عن الموضوع للجميع من حيث هو.
وقولنا: من غير ترجيح عن الحقيقة والمجاز.
واكتفى المصنف بما تقدم من تقسيم الألفاظ عن حد المشترك هنا
وإنما ذكر حد الترادف مع تقدمه في التقسيم توطئه للفرق، بينه وبين التأكيد، والتابع، وفيه مسائل:
الأولى: في إثباته.
أوجبه قوم عقلًا، لوجهين:
الأول: أن المعاني غير متناهية؛ إذ الأعداد أحد أنواع المعاني وهي غير متناهية، إذ ما من عدد، إلا وفوقه عدد.
والألفاظ متناهية، لتركبها من الحروف المتناهية، وهي ثمانية
وعشرون حرفًا، بضم بعضها إلى بعض مرات متناهية.
فإذا وزع المعاني الغير متناهية على الألفاظ المتناهية، لزم الاشتراك للمعاني الكثيرة في اللفظ الواحد، وإلا يلزم خلو بعض المعاني من الألفاظ؛ لأنه إذا وضع كل لفظ من الألفاظ، وهي غير متناهية لمعنى واحد، كان الموضوع له متناهيًا، وتخلو المعاني الباقية وهي الأكثر، بل لا نسبة لها لعدم تناهيها، وهو باطل؛ لأنه يخل بغرض الوضع وهو تفهيم المعاني.
ورد: بعد تسليم المقدمتين بأن المقصود بالوضع متناهٍ، أي لا نسلم أن الألفاظ متناهية، قولك: لأنها مركبة من الحروف المتناهية، قلنا: نعم، لكن لا نسلم أن المركب من المتناهي متناهٍ، كأسماء العدد فإنها غير متناهية مع تركبها من اثنى عشر اسمًا، هي الواحد إلى العشرة والمائة والألف، والباقي يتركب منها مثل أحد عشر، أو تثنية
مثل مائتان أو جمع مثل ألوف أو شبه جمع مثل ثلاثين.
ولا نسلم أن المعاني غير متناهية؛ لأن حصول ما لا نهاية له في الوجود محال، فما وجد فهو متناه.
سلمنا المقدمتين ومع ذلك لا يفيدكم؛ إذ المقصود بالوضع متناهٍ أي: أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها متناهية، لكونها مقصودة، وذلك ما نعلقه من المعاني، لامتناع تعقل ما لا يتناهى بالنسبة إلينا، وإن كان الواضع الله تعالى؛ لأن الوضع لفائدة مخاطبة الناس بها، وهو موقوف على تصورهم.
أو المعاني على قسمين:
منها: ما تشتد الحاجة إلى وضعه.
ومنها: ما ليس كذلك، كأنواع الروائح، فإنه لم يوضع لكل رائحة منها اسم يخصه، فإذا تقرر خلو بعض المعاني عن الأسماء، لا يلزم محال، فإن الوضع إنما يكون لما تشتد الحاجة إليه.
ولا نسلم أن هذا المحتاج إليه غير متناهٍ.
وقد يقال: دليلكم من أصله لو سلم يلزم منه خلو بعض المعاني بالضرورة، ولو قلنا: بالاشتراك، إذ لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي، فإنه لو وضع لفظ الكثير من المعاني، فإنها لا تتناهى ضرورة، والله أعلم.
الثاني:
أن الوجود يطلق على الواجب، وعلى الممكن.
ووجود الشيء عينه كما هو قول الأشعري (رحمه الله تعالى).
فالوجود الذي يطلق على الله تعالى، عين ذاته تعالى، والذي يطلق على الممكن عين الممكن، وليس هو أمرًا واحدًا فيهما فيكون مشتركًا في الاشتراك اللفظي.
ورد: بأن الوجود زائد مشترك، وليس الوجود عين الذات - كما زعمت - بل هو زائد عليها، فيكون مشتركًا اشتراكًا معنويًا فيكون مشككا.
وإن سلم أنه مشترك لفظًا، فوقوعه لا يقتضي وجوبه؛ لأن وقوع الشيء لا يستلزم وجوب وقوعه، فالدليل في غير محل النزاع.
وأحاله أي المشترك آخرون: لأنه لا يفهم الغرض، فيكون مفسدة، يعني المشترك لا يفهم منه غرض المتكلم، الذي هو المقصود بالوضع؛ لأن الفهم لا يحصل مع الاشتراك، لخفاء القرينة، فيكون وضعه سببًا للمفسدة، والواضع حكيم فيستحيل أن يضعه.
قالوا: وما يظن من ذلك فإما مجاز أو متواطئ.
ونوقض: بأسماء الأجناس؛ لأنه لو كان عدم فهم مراد المتكلم مانعًا للوضع، لزم عدم وقوع أسماء الأجناس، كالحيوان والإنسان، إذ لو قال اشتر لي حيوانًا، لم يفهم المقصود وكذا الأسود
ونحوه من المشتقات، فلا يدل على خصوصية تلك الذات، لكنه واقع غير ممتنع.
فإن قلت: اسم الجنس موضوع للقدر المشترك وهو مفهوم من اللفظ بخلاف المشترك، فإن المقصود منه فرد معين وهو غير معلوم.
أجيب: بأن اسم الجنس، وإن دل على القدر المشترك، والا أنه لا دلالة له على خصوصية الأفراد، فساوى المشترك في عدم الدلالة التفصيلية.
والتحقيق: أنا لا نسلم أن الفهم التفصيلي لا يحصل مع الاشتراك؛ لأن المقصود يعرف مفصلًا بالقرائن، كما ترى سلمناه، لكن ليس المقصود التفاهم التفصيلي في كل اللغة، بدليل أسماء الأجناس، بل قد يقصد التعريف الإجمالي كما يقصد التفصيلي.
والألفاظ المشتركة، وأسماء الأجناس، وإن لم تفد الفوائد
التفصيلية، لكنها تفيد الفوائد الإجمالية.
والمختار إمكانه أي: إمكان المشترك، لجواز أن يقع من واضعين، ولم يعلم كلمنهما وضع الآخر، وهو السبب الأكثري، بناء على أن للاصطلاح في الوضع مدخلا فلا مفسدة؛ لأن اجتنابها موقوف على العلم بوقوع الاشتراك، والفرض أن لا علم.
أو من واضع واحد لغرض الإيهام على السامع حيث جعل التصريح سببًا للمفسدة.
أو لنسبته إلى الجهل، وهذا هو السبب الأقلي.
وقوله: ووقوعه، عطف على إمكانه أي: والمختار إمكانه ووقوعه،
لغة للتردد في المراد من القرء ونحوه، من العين والجون، فلو كان متواطئًا أو مشككًا أو حقيقة ومجازًا لما وقع التردد.
وقد أطبق أهل اللغة على أن القرء للطهر والحيض معًا (على البدل) من غيرترجيح، وهو معنى الاشتراك.
ووقع في القرآن على الأصح مثل: ثلاثة قروء في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} .
وقوله تعالى: {والليل إذا عسعس} .
وهو مشترك بين أقبل وأدبر، وهذا قول مرجوح.
والذي نقله صاحب المحكم، عن الأكثرين، والنووي عن جمهور أهل اللغة، أن معناه: أدبر.
ونقل الفراء: إجماع المفسرين عليه، قال: وقال (آخرون: معناه أقبل وقال) آخرون: إنه موضوع لهما.
لكن المثال للتفهيم فلا يضر كونه مرجوحًا.
ووقوعه في القرآن له من الفوائد مع ما تقدم فائدة في الأحكام، وهي الاستعداد للامتثال إذا بين، وأنه يطيع بالعزم على الامتثال والاستعداد، له كما يعصى بخلافه.
الثانية:
أنه أي: المشتر بخلاف الأصل، أي: إذا دار اللفظ بين الاشتراك، والانفراد، كان الغالب الانفراد، واحتمال الاشتراك مرجوح، وإلا لم يفهم ما لم يستفسر، أي: لو لم يكن مرجوحًا،
لكان إما راجحًا على الانفراد، أو مساويًا له، وعليهما، فلا يحصل التفاهم عند التخاطب، إلا بالاستفسار، ثم يحتاج إلى البيان، والبيان محتاج إلى استفسار آخر.
ويلزم التسلسل، وهو باطل.
فإن الفهم يحصل بمجرد إطلاق اللفظ من غير احتياج إلى استفسار.
وأيضًا لامتنع الاستدلال بالنصوص، على إفادة الظنون.
فضلًا عن إفادة تحصيل العلوم، لجواز أن تكون ألفاظها موضوعة لمعان أخر وتكون تلك المعاني هي المرادة ونحن لا نعلمها، فلا يمكن التمسك بالنصوص.
ولأنه أقل بالاستقراء فإنه دل على أن الكلمات المشتركة أقل من المفردة والكثرة سبب الرجحان.
ولأنه يتضمن مفسدة السامع؛ لأنه ربما لم يفهم، والغرض من الكلام حصول الفهم، وربما فقدت القرائن، فلم يفهم مراد المتكلم، وهاب السامع استفساره، أي: المتكلم لعلو منصب المتكلم، أو استنكف، فلم يستفسر لحقارة المتكلم، أو لكون الاستفسار مشعر بعدم الفهم.
أو فهم غير مراده أي: غير مراد المتكلم، وحكى لغيره فيؤدي إلى جهل عظيم، فإن الجميع يفهمون غير المراد.
وقوله: واللافظ مجرور عطف على السامع، أي: ويتضمن مفسدة السامع ومفسدة اللافظ؛ لأنه قد يحوجه إلى العبث؛ لأنه إذا تلفظ بالمشترك، ولم يفهم السامع مراده منه فيجب عليه التلفظ بما يدل
عليه بطريق الإفراد فيقع المشرك عبثًا ضائعًا؛ ولأنه قد يؤدي إلى الإضرار أيضًا؛ لأنه قد يفهم غير مراده المؤدي إلى ضرورة فيفعله، أو يعتمد المتكلم فهمه، أي: فهم السامع (مع أن السامع لم يفهم مراده فيضيع غرضه أو غرض اللافظ.
وإنما كان الاشتراك متضمنًا لهذه المفاسد مع قلته فيكون مرجوحًا.
الثالثة:
مفهوما المشترك، إما أن يتباينا فلا يصدق أحدهما على الآخر فيكونا متضادين، أو نقيضين، كالقرء: للطهر والحيض، وضابطه -كما قال الآمدي: أن يمتنع الجمع بينهما كاستعمال صيغة
"افعل" في الأمر بالشيء، والتهديد عليه، فإن الأمر يقتضي التحصيل، والنهي يقتضي الترك.
قيل: وفي مثال المصنف نظر؛ إذ لا يمتنع تكليف المرأة بالاعتداد بقرء، مراد به الحيض والطهر.
أو يتواصلا فيصح اجتماعهما فيكون أحدهما جزءًا لآخر كالممكن للعام والخاص، والعام جزء الخاص.
فالإمكان العام: هو سلب الضرورة عن الطرف المخالف للحكم.
والخاص: هو سلب الضرورة) عن طرفي الحكم.
أو يكون أحدهما لازمًا له، أي: للآخر، كالشمس الموضوع للكوكب وضوئه اللازم له.
الرابعة:
جوز الشافعي والقاضيان: أبو بكر الباقلاني، وعبد الجبار،
وأبو علي الجبائي: إعمال المشترك في مفهوماته الغير المتضادة (وهو المختار).
ومنعه أبو هاشم، والكرخي، وأبو الحسين البصري، والغزالي
والإمام الرازي.
واعلم أن للمشترك أحوالاً.
الأول: إطلاقه على كل من (المعنيين على سبيل البدل بأن يطلق تارة، ويراد هذا، ويطلق تارة أخرى ويراد ذاك، ولا نزاع في صحته، وفي كونه حقيقة إذا قلنا بوقوعه في اللغة.
الثاني: إطلاقه على أحد المعنيين، لا على التعيين بأن يراد به في إطلاق واحد هذا أو ذاك مثل: تربصي قرء، أي: طهرًا أو حيضًا، وليكن ثوبك جونًا أي: أبيض أو أسود، وليس في كلام القوم ما يشعر بإثبات) ذلك أو نفيه إلا ما يشير إليه -كلام المفتاح -من أن ذلك حقيقة المشترك عند التجرد عن القرائن.
الثالث: إطلاقه على مجموع المعنيين، بأن يراد به في إطلاق واحد:
المجموع المركب من المعنيين، بحيث لا يصدق أن كلاً منهما مناط
الحكم، ولا نزاع في امتناع ذلك حقيقة، وفي جوازه مجازًا إن وجدت علاقة مصححة.
الرابع: إطلاقه على كل واحد منهما، بأنه يراد به في إطلاق واحد هذا وذاك على أن يكون كلاً منهما مناط الحكم ومتعلق الإثبات والنفي، وهذا هو المتنازع فيه، وعلى هذا قياس الجمع بين الحقيقة والمجاز، أعني إرادة المعنى الحقيقي والمجازي، بل ربما يستغنى عنه بذكر المشترك كما فعل المصنف نظرًا إلى أن اللفظ موضوع للمعنى الحقيقي بالشخص والمجازي بالنوع.
وقوله: "الغير المتضادة" إشارة إلى أن المتضادة لا يمكن إعماله فيهما.
تنبيه:
استعمل المصنف "الغير" بالألف واللام وليس بخطأ، فهو رأي بعض النحاة كما أفاده النووي في التهذيب، واختاره.
لنا: الوقوع في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} والصلاة لفظ مشترك بين المغفرة والاستغفار، وهما معنيان مختلفان، والمراد في الآية كلا معنييه دفعة واحدة؛ لأن الصلاة من الله -تعالى -مغفرة، ومن الملائكة استغفار، والوقوع دليل الجواز.
وفسر الصلاة بالمغفرة، وإن فسرها غيره بالرحمة؛ لأن
الرحمة من الله تعالى مجاز، لأنها حقيقة: رقة القلب، وهو على الله تعالى محال.
والكلام في الحقيقة دون المجاز.
قيل اعتراضًا على هذا الدليل: الضمير متعدد؛ لأن "يصلون" فيه واو الجمع، وهو متعدد، فضمير عائد إلى الله -تعالى -وضمير عائد إلى الملائكة، وإذا تعدد الضميران فيتعدد الفعل، فكأنه قيل: إن الله يصلي، والملائكة يصلون.
قلنا: يتعدد معنى لا لفظًا، وهو المدعى، يعني: أنك إن
أردت تعدد الفعل لفظًا فممنوع، وإن أردت تقديرًا فمسلم، لكن الملفوظ يكون واحدًا مرادًا به المعاني المختلفة، وهو المدعى.
ولك أن تقول: يجوز أن تكون الصلاة مستعملة في القدر المشترك بين المغفرة والاستغفار، أي الاعتبار بإظهار شرفه.
وهو وإن كان مجازًا، والمجاز خلاف الأصل، لكنه مرجح على الاشتراك.
أو الخبر محذوفًا تقديره: إن الله يصلي، وملائكته يصلون، وإن كان فيه إضمار، وهو خلاف الأصل، لكنه مرجح على الاشتراك لمساواته للمجاز.
ولنا أيضًا الوقوع في قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له} الآية.
إذ المراد بالسجود: الخضوع والانقياد؛ لأنه المتصور من الذوات.
ووضع الجبهة على الأرض، وإلا لكان تخصيص كثير من الناس غير مفيد لاستواء الكل من الناس والدواب في السجود بمعنى الانقياد، فثبت إرادة المعنيين المختلفين.
قيل اعتراضا على هذا الدليل: حرف العطف بمثابة العامل.
فكأنه قيل: يسجد له من في السموات، ويسجد له من في الأرض، إلى آخر الآية. فتكون الأفعال متعددة مستعملة في معان
مختلفة، فليس من الاشتراك في شيء.
قلنا: لا نسلم أن حرف العطف بمثابة (العامل، فإن) العامل هنا رافع، والحرف لا يرفع.
وإن سلم أن حرف العطف بمثابة العامل فبمثابته في العمل أي يقوم مقامه في الإعراب لا في المعنى.
وليس في أكثر النسخ "في العمل" فعلى هذا، تقديره: إنا وإن سلمنا أن العاطف بمثابة العامل، لكنه على هذا التقدير يلزم أن يكون بمثابة العامل الأول بعينه، لكون حرف العطف قرينة له، وإذا كان بمثابة الأول بعينه يكون اللفظ واحدًا والمعنى كثيرًا، وهو المدعى.
قيل في الآيتين: يحتمل وضعه للمجموع أيضًا، فالإعمال في البعض، أي يحتمل أن يكون لفظ الصلاة والسجود موضوعًا للمجموع من حيث هو مجموع، كما هو مجموع لكل واحد واحد، فيكون السجود مثلاً موضوعًا لثلاثة معان: لوضع الجبهة على انفراده، والانقياد على انفراده، ولهما معًا.
فعلى هذا يكون استعمال اللفظ في المجموع استعمالاً في بعض معانيه لا في كلها وهو خلاف المدعى.
قلنا: فيكون المجموع: مستندًا إلى كل واحد، وهو باطل، أي لو كان المجموع مرادًا لزم أن يكون المجموع من المغفرة والاستغفار، مستندًا إلى الله تعالى، وإلى الملائكة، وهو باطل.
ويكون المجموع من وضع الجبهة، والخضوع مستندًا إلى كل واحد من الشجر والدواب وغيرهما، مما ذكر في الآية، وهو باطل لأنه
محال.
احتج المانع من تجويز استعمال المشترك في جميع معانيه: بأنه إن لم يضع الواضع للمجموع، لم يجز استعماله فيه؛ لأنه استعمال له في غير مدلوله، وإن وضع له أيضًا، كان استعمالاً في بعض معانيه، وهو غير المدعى، وترك هذا الأخير؛ لأنه يعلم مما تقدم.
قلنا: لم لا يكفي الوضع: لكل واحد للاستعمال في الجميع، يعني يكون اللفظ موضوعًا لهذا ليدل عليه بالمطابقة، وللآخر كذلك فيكون اللفظ موضوعًا لكل واحد من المفهومين لا بشرط شيء من الانفراد والاجتماع.
وحينئذ إذا استعمل في الجميع يكون مستعملاً فيما وضع له فيكون حقيقة.
أو يقرر هكذا: لم لا يكون الوضع لكل واحد كافيًا للاستعمال في المجموع مجازًا من باب إطلاق اسم الجزء على الكل.
ومن المانعين: من جوز الاستعمال في الجميع، وكذا
المثنى؛ لأنه في معناه، مثبتًأ كان أو منفيًا، نحو اعتدي بالأقراء أو لا تعتدي بالأقراء؛ لأن الجمع متعدد فجاز تعدد مدلولاته، بخلاف المفرد.
ومن المانعين: من جوز استعمال المشترك في جميع معانيه في السلب، وإن لم يكن جمعًا نحو: لا تعتدي بقرء، ومنعه في الإثبات؛ لأن السلب يفيد العموم، فيتعدد، بخلاف الإثبات.
ففي كلام المصنف حذف، وتقديره كما قررته؛ لأنهما فرقتان لا فرقة واحدة، والفرق ضعيف.
وأما في الجمع: فلأنه يفيد تعدد معنى المفرد، فإن قول القائل: اعتدى بأقراء، معناه: بقرء وقرء وقرء، فكما لا يصح في
المفرد لا يصح في الجمع فإن آحاد الجمع يجب أن يكون من جنس واحد.
وأما في السلب فلأن النفي لا يفيد إلا رفع مقتضى الإثبات فإذا لم يفد في جانب الإثبات لا يفيد في جانب السلب أيضًا.
ونقل عن الشافعي -رضي الله تعالى عنه- والقاضي أبي بكر الوجوب.
أي: وجوب حمل لفظ المشترك على جميع معانيه حيث لا قرينة معه تدل على تعيين المراد فيه، احتياطًا، لتحصيل مراد المتكلم، إذ لو لم
يحمل عليه، فإما أن لا يحمل على شيء من معانيه، وفي ذلك إهمال للفظ بالكلية.
أو يحمل على بعض معانيه دون بعض، وهو ترجيح بلا مرجح لاستواء اللفظ بالنسبة إليهما، وعدم القرينة المعينة للبعض فتعين الحمل على الكل.
فيكون المشترك عامًا، عند الشافعي رضي الله عنه فعلى هذا العام عنده قسمان:(قسم متفق الحقيقة، وقسم مختلف الحقيقة).
وظاهر كلام المصنف أنه للاحتياط لا للعموم، وكونه للعموم هو ظاهر كلام إمام الحرمين،
والغزالي.
واختار بعض المتأخرين أن الاحتياط ومسمى العموم واحد.
تنبيه:
الوضع: جعل اللفظ (دليلاً على المعنى كتسمية الولد محمدًا وهذا أمر متعلق بالواضع.
والاستعمال: إطلاق اللفظ) وإرادة المعنى، وهو من صفات المتكلم.
والحمل: اعتقاد السامع مراد المتكلم، أو ما اشتمل على مراده.
إذا علمت ذلك، فالمسألة السابقة بين فيها إطلاق المتكلم لفظ المشترك وإرادة جميع معانيه.
وفي هذه بين أن السامع إذا سمع لفظًا مشتركًا، ولم يكن قرينة حمله على جميع معانيه عند الإطلاق فيما يمكن الجمع والتحصيل.
(ولذا قال): في الاستعمال جوز، وفي الحمل يجب.
لكن قال الشيخ سعد الدين: إن ما نقل عن الشافعي رضي الله عنه وهو أنه يصح للمتكلم، استعماله فيهما، ويجب على السامع حمله عليهما، أخص من مذهب القاضي والمعتزلة، والمراد: الصحة اللغوية، فيتميز عن مذهب أبي الحسين، والغزالي، إذ الصحة عندهما، عقلية، بمعنى أنه لا دليل على امتناعه سوى منع أهل اللغة، فيكون مخالفًا لنقل المصنف.
وقال العراقي: وافق الشافعي رضي الله عنه والقاضي أبا بكر، أبو عليالجبائي في وجوب الحمل حيث لا قرينة، كما نقله المصنف في باب العموم والقاضي عبد الجبار، كما نقله الإمام في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
قال الرافعي: الأشبه أن المشترك لا يحمل على جميع معانيه.
الخامسة: المشترك: إن تجرد عن القرينة فمجمل، عند
من لا يحمله على جميع معانيه.
وأما عند من يحمله عليها كالشافعي -رضي الله تعالى عنه- فواضح مما تقدم.
وإن قرن به ما يوجب اعتبار واحد أي معين، تعين الحمل عليه، كقولك: رأيت عينًا باصرة، وزال الإجمال.
وإن كان غير معين، فمجمل ولم يذكره لوضوحه.
أو قرن به أكثر من واحد من مسمياته.
فكذا أي: يحمل على ذلك الأكثر عند من يجوز الإعمال في المعنيين إذا أمكن.
فإن لم يمكن، بأن يكونا متضادين، فمجمل.
وهذا معلوم مما سبق.
وإن أوجب اعتبار كل المسميات فكذا حكمها، ولم يورده المصنف؛ لأنه يعلم من قوله: أو أكثر.
وعند المانع من إعمال المشترك في معنيين مجمل.
أو قرن به ما يوجب إلغاء البعض أي: بعض معانيه.
كقوله: رأيت عينًا لا تقوم بها الأشياء.
فينحصر المراد في الباقي من معانيه بعد إلغاء ذلك البعض الذي تقتضي القرينة إلغاؤه.
فإن كان الباقي بعد الإلغاء واحدًا تعين حمله عليه.
وإن كان الباقي أكثر فعند المجوز محمول عليه، وعند المانع مجمل.
وعلم جميع ذلك مما مر في كلام المصنف.
هذا كله إذا كان البعض الملغي معينًا، وإلا فهو مجمل.
أو قرن بالمشترك ما يوجب إلغاء الكل، فيحمل على المجاز لتعذر حمله على الحقيقة.
فإن كان بعضه ذا مجاز فقط حمل عليه، وإن كان لكل منها مجاز فقد تعارضت.
وإليه أشار بقوله: "وإن تعارضت حمل على المجاز".
الراجح: هو أو أصله "أي حقيقته".
فإذا تساوت الحقائق، ولم تتساوى المجازات، بل بعضًا أقرب إلى حقيقته حمل اللفظ عليه لرجحانه بالأقربية.
وهو المراد بقوله: "حمل على الراجح هو".
وإن لم تتساوى الحقائق، بل رجح بعضها، والمجازات متساوية حمل اللفظ على المجاز، الذي حقيقته راجحة. وإليه أشار بقوله:"أو أصله".
وإن تساويا أي الحقائق والمجازات، قال العبري: فهل يجب حمله على جميعها أو يجوز أو يمتنع؟
فيه الخلاف المذكور في المشترك بالنسبة إلى حقائقها.
وعند المصنف مجمل.
أو رجح أحدهما أي أحد المجازين على المجاز الآخر وترجح أصل المجاز الآخر على حقيقة المجاز الراجح فمجمل.
لأن لكل منهما رجحانًا على الآخر من وجه فاستويا.
ولك: أن تقول: عند الاستواء ينبغي أن يحمل على الجميع عند المجوز.
ونظر في جواز رجحان بعض حقائق المشترك؛ إذ رجحانه ينافي الاشتراك.