الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في المحكوم عليه
وفيه مسائل:
الأولى: المعدوم يجوز الحكم عليه،
والمراد به أن المعدوم الذي علم الله تعالى أنه يوجد بشرائط التكليف توجه عليه حكم في الأل، حكم بما يفهمه ويفعله فيما لا يزال.
فالتعلق عقلي لا تنجيزي وذلك جائز غير محال.
كما أنا مأمورون بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك الأمر كان حال عدمنا.
قيل اعتراضًا على هذا الدليل: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من سيولد من الكلفين فالله تعالى سيأمره، فالرسول حينئذ مخبر لا آمر.
قلنا: أمر الله تعالى في الأزل، معناه أن فلانًا إذا وجد
بشرط التكليف فهو مأمور بكذا.
قال العراقي: هذا يدل على أن المراد بالأمر هنا الإخبار، فإطلاق الأمر عليه مجاز.
وقد أبطل في المحصول كون الأمر معناه الإخبار في أوائل الأوامر والنواهي، واستشكله هنا.
وما نقله المصنف جزم به صاحب (الحاصل ونقله في) المحصول
عن بعض الأصحاب
قيل اعتراضًا على هذا الجواب: الأمر في الأزل، سواء كان بمعنى الإخبار، أو بمعنى الإنشاء، ولا سامع ينقل، ولا مأمور يمتثل عبث وسفه، وهو غير جائز على الحكيم.
فإن من يجلس في دار ويأمر بأوامر مختلفة ويخبر بأخبار متعددة من غير حضور أحد عد عابثًا سفيهًا، بخلاف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه وجد (هناك حينئذ) من سمع عنه وبلغ إلينا بالنقل.
قلنا: هذا مبني على القبح العقلي وهو باطل، ومع هذا أي مع تسليمنا القول بالقبح العقلي فلا سفه في مسألتنا.
وذلك لأنه ليس المراد بالأمر أن يكون في الأزل لفظ هو أمر ونهي، بل المراد به معنى قديم قائم بذات الله تعالى وهو اقتضاء الطاعة من العباد، وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين بذلك الطلب، وهذا لا سفه فيه، كما لا سفه في أن يكون في النفس طلب التعلم من ابن سيولد.
الثانية:
لا يجوز تكليف الغافل، وهو من لا يفهم الخطاب، كالساهي والنائم والمجنون، من أحال تكليف المحال.
ومفهومه أن بعض المجوزين يجوزون تكليف الغافل.
(وهم الأقل) وأكثرهم على أنه (لا يجوز)
وإنما قلنا: أن هذا مفهومه لأنه الواقع، ولأنه (أي
الاختلاف) صحيح من جهة المعنى.
وقوله: من أحال تكليف المحال -بغير باء- يحتمل أنه لا فرق عنده بينه وبين ما بالباء.
أو يرى الفرق -كما قيل به-
وهو أن تكليف المحال: الخلل فيه في المأمور.
والتكليف بالمحال الخلل فيه في المأمور به، وكلام المصنف مستقيم على الأول.
واعلم أن فهم المكلف للتكليف شرط لصحة التكليف عند المحققين.
وذلك بأن يفهم (المخاطب الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق) بأنه مكلف ويعلم أنه مكلف، وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار، فعلى هذا لا حاجة إلى استثناء التكليف بالمعرفة على ما سيجئ، لأن التكليف بالمعرفة ليس من تكليف الغافل في شيء لأن معناه: أن لا يفهم التكليف، والخطاب.
وهذا قد فهمه، إن لم يصدق به، ولم يعلم أنه مكلف.
فلا يكلف الغافل؛ لأن الفعل امتثالاً يعني أن الإتيان بالفعل على قصد الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى، يعتمد العلم بالأمر وكذا الفعل المأتي به.
لأن الامتثال: هو أن يقصد إيقاع الفعل المأمور به على سبيل الطاعة.
ويلزم من ذلك علمه بتوجه الأمر نحوه، وبالفعل.
ولا يتصور هذا من الغافل إذ لا شعور له بالأمر ولا بالفعل، فيكون تكليفه محالاً.
فإن قيل: الفعل المجرد عن قصد الامتثال قد يصدر من الغافل اتفاقًا،
وحينئذ إذا علم الله - تعالى - وقوع الفعل من شخص فلا استحالة في تكليفه به.
وقوله: ولا يكفي مجرد الفعل، جواب عن هذا السؤال المقدر في كلامه، أي: لا يكفي مجرد وقوع الفعل من غير قصد إلى إيقاعه في سقوط التكليف لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" متفق عليه.
أي: إنما تصح الأعمال بالنيات، فكل عمل لم يقترن بالنية لا اعتبار له.
وليس اعتبار طلاق السكران وقتله وإتلاقه من قبيل التكليف، بل من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، كاعتبار قتل الطفل وإتلافه فإنه سبب لوجوب الضمان والدية من ماله على وليه وهو غير مكلف به قطعًا، بل كربط وجوب الصوم بشهود الشهر.
ونوقض بوجوب المعرفة فإن التكليف بها واقع مع أنه تكليف للغافل؛ إذ لو كان المكلف عارفًا بالآمر الذي هو الله تعالى لم يكلف مرة أخرى، وإلا لزم تحصيل الحاصل.
وأجيب: بأنه مستثنى عن هذه القاعدة، وهو أنه لا يجوز تكليف الغافل إلا في هذه الصورة.
ولما استشعر المصنف ضعف هذه المناقضة وجوابها كما حققته لك في أول المقالة بناه وقال: ونوقض وأجيب.
الثالثة: الإكراه الملجئ: وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، كالملقى من شاهق (يمنع التكليف بالملجأ إليه أو بنقيضه أو
بهما) لزوال القدرة عنه، لأن الملجأ إليه واجب الوقوع، ونقيضه ممتنع الوقوع، (ولا قدرة على واحد من الواجب والممتنع.
وليس هذا كوجوب الفعل عند الداعية) والشروع فيه مع بقاء التكليف؛ لأنه وإن كان واجب الصدور ونقيضه ممتنع إلا أن أصل القدرة باق معهما، بخلاف الإكراه الملجئ، فإنه يرفع أصل القدرة فاقترقا.
قال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب: هذا الإكراه أي الملجئ لا يسمى إكراهًا عند المحققين؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا مع تصور اقتدار
وأفهم كلامه: أن الإكراه غير الملجئ، وهو الذي لا يصل للأول لا يمنع التكليف، كما لو قيل له: إن لم تقتل هذا وإلا قتلتك، وعلم أنه إن لم يفعل وإلا قتله.
فالمكره: لا مندوحة له عما أكره عليه إلا بالصبر على ما أكره به.
ونقل عن الأشاعرة: (لأن الفعل ممكن والفاعل متمكن وله اختيار).
قال العراقي: وأما الفقهاء فقالوا: لا يباح بالإكراه القتل ولا الزنا في حق الرجل بالاتفاق، كما نقله الرافعي في الجنايات.
والمرأة اختلف كلام الرافعي فيها: والظاهر فيها الإباحة.
قالوا: وتباح السرقة، وشرب الخمر، والإفطار، وإتلاف مال الغير والخروج من الصلاة والتلفظ بالكفر.
الرابعة: التكليف يتوجه ويتعلق بالمكلف عند المباشرة للفعل والشروع فيه، والموجود قبل ذلك ليس أمرًا، بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورًا، كما نقله في المحصول عن أصحابنا، أي: الأشاعرة.
واستشكل: لأنه يؤدي إلى سلب التكاليف، فإن المكلف يقول: لا أفعل حتى أكلف ولا أكلف حتى أفعل.
وأجيب: بأنه قبل المباشرة متلبس بالترك، فتوجه إليه التكليف بترك الترك، وهو فعل؛ فإنه كف النفس عن الفعل، فقد باشر الترك، فتوجه إليه التكليف بترك الترك حالة مباشرته للترك وذلك الفعل، وصار اللوم والذم قبل المباشرة على التلبس بالكف عن الفعل المنهي ذلك الكف عنه.
لأن الأمر بالشيء يفيد النهي عن تركه.
ذكره بنحوه إمام الحرمين في تكليف ما لا يطاق.
وقال: الذهاب إلى أن التكليف عند الفعل مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل.
وقال هو وغيره: الأشعري لم ينص على جواز التكليف بما لا
يطاق، وإنما أخذ من قاعدتين:
أحدهما: أن القدرة مع الفعل (والتكليف قبل ذلك).
والثانية: أن الأفعال مخلوقة لله تعالى.
فالمصنف اختار عكس مذهب الأشعري.
وقال المحقق شرحًا لكلام ابن الحاجب (والتابع فيه للآمدي):
التكليف بالفعل ثابت قبل حدوثه وينقطع بعد الفعل اتفاقًا، وهل هو باق حال حدوثه لا ينقطع؟
قال الأشعري به، ومنعه إمام الحرمين، والمعتزلة.
ولا يتحقق مع الشيخ ما يصلح محلاً للنزاع فنقول:
إن أراد أن تعلقه لنفسه فلا ينقطع فحق، لكنه لا ينقطع بعد حدوثه كما لا ينقطع معه، لأن حقيقة التكليف أنه تكليف بالفعل، وطلب له، سواء اعتبر حال حدوث الفعل، أو قبله، أو بعده.
وقد قال بأنه ينقطع بعد الفعل.
وإن أراد أن تنجيز التكليف باق بعد، فهو باطل؛ لأنه تكليف (بغير الممكن، لأنه تكليف بإيجاد) الموجود، وهو محال.
ولأنه تنتفي فائدة التكليف وهو: الابتلاء لأنه إنما يتصور عند التردد في الفعل والترك وأما عند تحقق الفعل فلا.
وحمل بعضهم كلام المصنف على كلام ابن الحاجب فقال:
قوله: التكليف يتوجه عند المباشرة، أي: متوجه عند المباشرة، فكأن الكاتب صحفه فعلى هذا لا إشكال في تقرير الدلائل، وموافقة المسائل.
قلت: ولا حاجة إلى قوله: متوجه - بالميم - بل يمكن تأويله على بابه، بمعنى أنه يتوجه عند المباشرة أيضًا، كما أنه متوجه قبلها، ولا تصحيف.
لكن قال الشيخ سعد الدين: الذي نقل عن الأشعري في الكتب المشهورة أن التكليف إنما يتعلق عند المباشرة لا قبلها.
وقال الأبهري: وكأن الشارح - يعني المحقق - كثيرًا ما يقول عند قراءة هذا الموضع عليه: ليس هذا التحرير - يعني الذي حرره ابن الحاجب - على ما ينبغي فلذلك بنى عليه ما بنى من أنه لا يتحقق مع الشيخ محل النزاع.
فعلى هذا لا ينبغي أن يقرر كلام المصنف (على كلام ابن الحاجب).
وقال الكرماني: لا خلاف هنا في أن التكليف العقلي أزلي أو غير أزلي، ولا في التكليف التنجيزي، المعبر عنه بالتعلق.
إذ ذلك متوجه بدخول الوقت اتفاقًا، بل في أن التكليف إنما هو عند المباشرة، أي بنفس وقوع الفعل منه، أو بالإيقاع الذي الوقوع مترتب عليه، ثم بسطه.
وهنا أبحاث حسنة في الشرح ينبغي الإطلاع عليها في هذا المقام، تركتها خوف التطويل.
وقال المعتزلة: بل يتوجه التكليف قبلها، أي: قبل المباشرة.
لنا: أن القدرة حينئذ أي: موجودة عند الفعل، فقبله ليس بقادر، والقدرة شرط التكليف عندكم.
قيل: التكليف الذي أثبتناه قبل المباشرة ليس تكليفًا بنفس
الفعل، بل تكليف في الحال بالإيقاع للفعل في ثاني الحال، أي: في الزمن الثاني.
قلنا: الإيقاع المكلف به إن كان نفس الفعل المأمور به، فمحال التكليف به في الحال قبل الفعل؛ لأنه يلزم من امتناع التكليف بالفعل قبل التلبس به امتناع التكليف بالإيقاع؛ لأن الفرض أنه هو، وإن كان الإيقاع غيره، أي: غير الفعل، فيعود الكلام إليه ويتسلسل، يعني يعود الكلام إلى هذا الإيقاع، هل وقع التكليف به في حال وقوعه أو قبله؟
فإن كان الأول فيلزم أن يكون التكليف حال المباشرة وهو المدعى.
وإن كان قبله لزم أن يكون مكلفًا بما لا قدرة له عليه؛ لأن القدرة مع الفعل.
فإن قالوا: التكليف إنما هو بإيقاع هذا الإيقاع فينقل الكلام إليه ويؤدي إلى التسلسل، أو ينتهي إلى إيقاع يكون التكليف به حال المباشرة
وهو المدعى.
ولا يقال: إيقاع الإيقاع نفس الإيقاع، لأن الإضافة تدل على المغايرة.
قالوا - أي المعتزلة: الفعل عند المباشرة، واجب الصدور، أي الوقوع، لوجود علته التامة، وهي القوة المستجمعة لشرائط التأثير، وكلما كان واجب الوقوع. لا يكون مقدورًا لامتناع تركه، إذ القادر هو: الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك.
وإذا لم يكن مقدورًا لم يكن مكلفًا به، وإذا بطل التكليف عند المباشرة لزم التكليف قبلها.
قلنا: الفعل حال القدرة، والداعية كذلك، أي: واجب الوقوع مع أنه مقدور عندكم.
والقدرة: القوة المستجمعة لشرائط التأثير.
وقالت المعتزلة: القوة التي من شأنها التأثير.
والداعية: هي الميل الحاصل عقيب النفع.
والمجموع من القدرة والداعية هي العلة التامة.