الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: في الحقيقة والمجاز
الحقيقة: فعيلة، مأخوذة من الحق بمعنى الثابت، أو المثبت؛ لأن فعيل قد يكون: بمعنى الفاعل كالعليم بمعنى العالم، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح بمعنى المجروح.
فالفعيل المشتق من الحق إن كان بمعنى الفاعل كان معناه الثابت.
وإن كان بمعنى المفعول كان معناه المثبت.
نقل عن الأمر الذي له ثبات إلى العقد المطابق للواقع لأنه أولى بالوجود من العقد الغير مطابق.
ثم نقل من العقد المطابق إلى القول المطابق لهذه العلة بعينها.
ثم نقل إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب فاللفظ، كالجنس لشموله الحقيقة وغيرها.
والباقي كالفصل لها يميزها عن غيرها.
وقوله: المستعمل: في صفة اللفظ يخرج اللفظ، المهمل، وما
وضع أولًا ولم يستعمل وقوله: فيما وضع له، يخرج المجاز.
وقوله: في اصطلاح التخاطب، يدخل الحقيقة الشرعية واللغوية والعرفية العامة والخاصة حتى المشترك والمراد بالوضع إذا أطلق: الوضع الشخصي، وأحد قسمي الوضع النوعي: وهو ما كانت الهيئة فيه دالة على المعنى بنفسه من غير اشتراط قرينة خارجه عن اللفظ فلا يكون المجاز داخلًا أصلًا.
ويصير حد المصنف جامعًا مانعًا.
وقد يقال: الحق لغة الثبوت: وهو قدر مشترك بين هذه الأمور التي ذكرها المصنف.
ولو سلم المجاز فلا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله بل الجميع
مأخوذ من الحقيقة بعلاقةٍ معتبرة.
والتاء الداخلة على الفعيل المشتق من الحق لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة. وهنا تحقيق راجعه من الشرح.
(والمجاز: مفعل) من الجواز
بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان أو الزمان (أي بناء مفعل مشترك بين المصدر والمكان لكونه حقيقة فيهما) نقل من المصدر أو المكان إلى الفاعل الذي هو الجائز الذي يجوز المكان وينتقل.
والعلاقة إن كان من المصدر فهي الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق.
وإن كان المكان فالعلاقة إطلاق اسم المحل على الحال.
وإن كان من الزمان فلا علاقة بينه وبين الجائز، فلذا صرح بالمصدر والمكان دون الزمان.
ثم نقل من الفاعل إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح بحسب التخاطب.
فاللفظ كالجنس.
وقوله: في صفته: المستعمل يخرج المهمل وما وضع له أولًا ولم يستعمل.
وقوله: في غير ما وضع له، يخرج الحقيقة، ولا ينافي ذلك كون المجاز موضوعًا بالنوع لما مر في تعريف الحقيقة فإنه لا بد هنا من اشتراط قرينة خارجة عن اللفظ.
وقوله: المناسب المصطلح، ليشمل المجاز اللغوي والشرعي والعرفي العام والخاص، ويشعر بأنه لا بد بين المعنى الحقيقي والمجازي من العلاقة، ويحترز عن العلم المنقول كبكر لأنه لم ينقل لعلاقة.
وفيه مسائل:
الأولى:
الحقيقة اللغوية موجودة بالاتفاق كالحر والبرد، والسماء والأرض، لأنا نقطع باستعمالها في موضوعاتها وقدمها لأنها الأصل، وكذا العرفية موجودة بالاتفاق وهي التي نقلت من معناها اللغوي إلى غيره بحيث هجر الأول، وهي إما ألا يكون من قوم مخصوصين أو يكون.
فالأولى: تسمى العرفية العامة، وغلبت العرفية عند الإطلاق عليها، وذلك كالدابة لذوات الأربع، بعد أن كانت في اللغة لكل ما
يدب على الأرض، لأنها مشتقة من الدبيب فخصها العرف ببعضها، ونحوها، كالملك فإنه مشتق من الألوكة وهي الرسالة، نقله أهل العرف العام إلى بعض الرسل.
والثانية: وهي التي من قوم مخصوصين وتسمى العرفية الخاصة كالقلب والنقص، والجمع، والفرق،
للفقهاء وكالجوهر والعرض للمتكلمين، والرفع والنصب والجر للنحاة، فإن لكل واحد منهما معنى خاصًا في اللغة.
ونقل أهل العرف الخاص إلى معنى مصطلح عندهم كما سيجيء في القياس، بيان ما ذكره المصنف من اصطلاح الفقهاء واقتصر في التمثيل عليه لأنه يناسب المقام دون غيره.
واختلف في الحقيقة الشرعية: وهي الاسم (المستعمل فيما وضع له في الشرع،
وخص بالاسم لأن الاستقراء دل على عدم الحرف الشرعي وعلى عدم الفعل الشرعي إلا بالتتبع وهو إما مجرى على الفعل) كالزكاة والصلاة. وإما مجرى على الفاعل كالمؤمن والفاسق.
ولا نزاع في أن الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع المستعملة في غير معانيها اللغوية قد صارت حقائق فيها.
وإنما النزاع في أن ذلك لوضع الشرع وتعيينه، وأنها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة، لتكون حقائق شرعية وهو مذهب الجمهور، ونقله المصنف عن المعتزلة، حيث قال: فمنع القاضي أبو بكر، وأثبت المعتزلة، واختاره ابن الحاجب، أو لغلبتها في تلك المعاني في لسان أهل الشرع.
والشارع إنما استعملها فيه مجازًا لمعونة القرائن فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية، وهو مذهب القاضي أبو بكر.
فإذا وقعت مجردة عن القرائن في كلام أهل الكلام والفقه والأصول، ومن يخاطب باصطلاحهم يحمل على المعاني الشرعية وفاقًا.
وأما في كلام الشارع فالحق يحمل عليها، وعند القاضي على معانيها اللغوية.
وبعد تحرير محل النزاع ينبغي أن يعلم أن الآمدي في الإحكام والإمام في المحصول لم يذكرا سوى مذهبين.
أحدهما: إثبات كونها حقائق شرعية ونسبه كل منهما إلى المعتزلة، مع تصريح الآمدي بنسبته إلى الفقهاء أيضًا.
وثانيهما: نفي ذلك، ونسبه كل منهما إلى القاضي.
وكلام المختصر لابن الحاجب يوافق ذلك.
كذا حرر المحقق محل النزاع ثم قال: والحق لا ثالث لهما.
قال الشيخ سعد الدين، ولما كان في كلام المنهاج ما يشعر بأن هنالك مذهبًا ثالثًا حيث قال بعد تقرير المذهبين: والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأه.
نفاه، أي: المحقق، لأنه مذهب القاضي بعينه على ما تقرر في محل النزاع، قال: وهذا تحقيق جيد لو وافقه أدلة الفريقين.
واستشكل قول الشيخ: أنه مذهب القاضي بعينه بأن الظاهر أنه مذهب الجمهور لأنهم يقولون: إن الشارع نقلها، لكن لمناسبة فهي مجازات لغوية.
فمعنى قول المصنف أنها مجازات اشتهرت، أي: في كلام الشارع، فصارت حقيقة له بحيث صار المعنى اللغوي مهجورًا.
وقوله: لا موضوعات مبتدأه أي: لا مناسبة فلا تكون هذه الألفاظ لذلك خارجة من لغة العرب.
وفي الشرح هنا نقل يخالف ما قاله المحقق: تركته اختصارًا فراجعه إن تيسر.
وقال العبري: فأشار، أي: المصنف، إلى بطلان مذهب القاضي بقوله: أنها مجازات لأنا نعلم بالضرورة أن هذه المعاني ليست حقائقها اللغوية، وأشار إلى ما هو الحق عنده، وهو صيرورتها حقائق شرعية، بقوله: اشتهرت لأنه لو لم تصر مشهورة في هذه المعاني،
بحيث هجر في الشرع استعمالها في حقائقها اللغوية لما سبق إلى الفهم عند إطلاقها في الشرع هذه المعاني دونها.
وإذا سبقت علم أنها صارت حقائقها في الشرع.
وأشار إلى بطلان مذهب المعتزلة بقوله: لا موضوعات مبتدأه.
وإلا لم تكن لغة عربية، أي: الحجة المختارة أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعات مبتدأه لم تكن عربية، إذ لم يضعها واضع لغة العرب بإزاء هذه المعاني، وإذا لم تكن عربية، فلا يكون القرآن كله عربيًا، لاشتماله على ما ليس بعربي حينئذٍ، وما بعضه- خاصة- عبي لا يكون عربيًا كله، وهو، أي: كون القرآن غير عربي، باطل لقوله تعالى:{وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} ، ونحوه من الآيات الدالة على كونه عربيًا، كقوله تعالى:{إنا أنزلناه قرآنا عربيا} {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}
قيل: المراد بعضه، أي: بعض القرآن لا كله إذ الضمير في قوله: {إنا أنزلناه} للسورة.
ويجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه، فإن الحالف على أن لا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه، وإذا كان بعض القرآن يسمى قرآنًا، جاز إن يشتمل القرآن على ما ليس بعربي مع أن السورة كلها عربية.
قلنا: استدلالكم بالحلف وإن دل على أن المراد بالقران البعض، لكنه معارض بما يقال إنه بعضه، فإنه لو أطلق عليه القرآن لم يكن لإدخال البعض معنى.
وأيضًا فأن بعض ذلك الشيء غير ذلك الشيء.
فيصح أن يقال: إنه بعض القرآن، لا كله فعلم أن تسمية بعض القرآن قرانًا مجاز فيكون المراد من قوله:{إنا أنزلناه قرآنًا} ، كل (القرآن، إذ) الأصل في الإطلاق الحقيقة.
هذا وقد نص الشافعي- رضي الله عنه على أنه إذا قال لعبده: إن قرأت القرآن فأنت حر، لا يعتق إلا بقراءة الجميع فيمتنع الحنث.
وقد يقال: ؛ المعارضة غير تامة.
لأن ذلك إنما يكون فيما لم يشارك البعض الكل في مفهوم الاسم كالمائة، فإن المائة اسم لمجموع الآحاد المخصوصة.
فلا يصدق على البعض بخلاف مثل الماء، فإنه اسم للجسم البسيط البارد الرطب بالطبع، فيصدق على الكل، وعلى أي بعض منه، فتصح أن هذا البحر ماء، ويراد بالماء مفهومه الكلي، وأنه بعض الماء، ويراد بالماء مجموع المياه الذي هو أحد أفراد هذا المفهوم، والقرآن من هذا القبيل.
فالسورة قرآن، وبعض من القرآن بالاعتبارين.
على أن هاهنا شيئًا آخر، وهو أن القرآن قد وضع بحساب الاشتراك للمجموع الشخصي وضعًا آخر، فيصح أن يقال: السورة بعض القرآن.
قيل: سلمنا أن المراد بقول تعالى: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا} مجموع القرآن، وتلك- أي: الألفاظ غير العربية- كلمات قلائل، فلا تخرجه- أي: القرآن- عن كونه عربيًا لقلتها، كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية، فإنه لا تخرج عن كونها فارسية فكذا هنا.
قلنا في الجواب عنه: إن اشتمال القرآن على تلك الكلمات وإن
كانت قلائل تخرجه عن كونه عربيًا، وإلا أي: إذ لو لم تخرجه، لما صح الاستثناء منه، وقد صح، إذ يصح أن يقال: القرآن عربي إلا الألفاظ الشرعية، وكذا في القصيدة الفارسية المشتملة على قليل من الألفاظ العربية، يصح أن يقال: هذه القصيدة الفارسية إلا تلك الألفاظ العربية.
قيل: يكفي في عربيتها- أي: الألفاظ الشرعية- استعمالها- أي: العرب- لها في لغتهم، حتى يكون اللفظ ما يستعمله العرب، سواء كان في معناه الذي وضعه الواضع بإزائه، أو في غيره، وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية، وإن كانت موضوعاتها مبتدأة فلا يلزم اشتمال القرآن على غير العربي.
قلنا: استعمال العرب تلك الألفاظ في معانيها الشرعية، دون اللغوية لا يكفي كونها عربية، لأن تخصيص الألفاظ باللغات إنما هو
بحسب الدلالة، أي: دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها.
وإن كان كذلك، فإذا دلت على معاني لم يضعها واضع العربية بإزائها لم تكن عربية.
وفيه إشكال، وجوابه في الشرح.
قيل: ما ذكرتم من الدليل على أن القرآن كله عربي غير مشتمل على ما ليس بعربي منقوض بالمشكاة:
قيل: حبشية، وقيل هندية، ومعناها الكوة.
والقسطاس: فإنه رومي، ومعناه: الميزان.
والإستبرق والسجيل فارسيان، ومعنى الأول: الديباج الغليظ، مع أنها مذكورة في القرآن.
فيكون مشتملًا على ما ليس بعربي.
قلنا: كون هذه الألفاظ من تلك اللغات لا ينافي كونها عربية، لجواز أن يضعها واضع العربية بإزاء ما وضعها واضع تلك اللغات
بإزائه، إذ توافق اللغات في الوضع غير ممتنع، كالصابون والتنور.
وإليه أشار بقوله: وضع العرب وافق فيها لغة أخرى.
واعلم أن جعل الأعلام من المعرب، أو مما فيه النزاع، محل مناقشة.
لأن النزاع في أسماء الأجناس المنسوبة إلى لغة أخرى المتصرف فيها عند العرب بدخول اللام، والإضافة، ونحو ذلك.
والأعلام بحسب موضعها العلمي ليست مما ينسب إلى لغة دون لغة، ولا هي أيضًا مما تصرفت العرب فيها فاستعملتها في كلامهم.
والمصنف- رحمه الله تعالى- تابع للأكثرين، في أنه ليس في القرآن المعرب، ونص عليه الشافعي- رضي الله عنه في أول الرسالة.
وجاء عن البراء بن عازب، وأبي موسى الأشعري.
وأبي ميسرة، وسعد بن غياض، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن عباس، وعكرمة- رضي الله عنهم تفسير ألفاظ وقعت فيه أطلقوا عليها أنها بلسان غير العرب.
وهذا ليس صريحًا في مخالفة الأكثر لاحتمال التوافق كما قال المصنف.
وعورض الدليل الدال على كون هذه الألفاظ مجازات مشهورة لا موضوعات مبتدأة بأن الشارع اخترع معان لم تكن معقولة للعرب، فإنها معان حديثة فلم تضع لهم ألفاظًا، لأن وضع اللفظ لمعنى مشروط بتعقله.
وكانت الحاجة ماسة إلى تعريفها للمكلف، فلابد لها من ألفاظ موضوعة من قبل الشارع بإزائها تدل عليها ويعبر بها ليمكن المكلف معرفتها.
قلنا: كفى التجوز: إيضاحه:
أنكم إن أردتم أنه لابد لها من إحداث ألفاظ مبتدأة
فممنوع، لأن النزاع لم يقع إلا فيه.
لم لا يجوز أن يكتفي بالمجاز بأن يدل عليها، ويعبر عنها بألفاظ تدل عليها مجازًا، لما بينها وبين معانيها اللغوية من العلاقة المعتبر نوعها في العربية كالصلاة، فإنها في اللغة حقيقة للدعاء، ثم أطلقت على المعنى الشرعي مجازًا لما بينهما من العلاقة، وهي كون الدعاء جزء من المعنى الشرعي حتى يكون من باب إطلاق اسم الجزء على الكل.
وإن أردتم أنه لابد لها من ألفاظ كيف كانت يعبر بها عنها فمسلم، لكن لا يلزم من كونها دالة عليها حقيقة لجواز أن تدل عليها مجازًا.
وعورض أيضًا: بأن الإيمان في اللغة:
هو التصديق، بالإجماع. ومنه {وما أنت بمؤمن لنا} .
وفي الشرع: فعل الواجب، ولا مناسبة مصححة للتجوز.
ولأنه أي لأن الإيمان عبارة عن الإسلام، وإلا يعني لو لم يكن إياه لم يقبل من مبتغيه- أي: من طالبه- لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} لكن الإيمان مقبول اتفاقًا.
وأيضًا: لم يجز استثناء المسلم من المؤمن، لأنه حينئذ يكون مفهوم أحدهما مغايرًا لمفهوم الآخر، فلا يكون أحدهما من جنس الآخر، فلا يصح الاستثناء، لأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كانا متغايرين امتنع إخراج أحدهما من الآخر، لكن الاستثناء صحيح، بل واقع، فلا يصح نفيه، وقد قال تعالى:{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} .
فلفظة "غير" من أدوات الاستثناء، ولولا الاتحاد لم يستقم الاستثناء لأنه مفرغ فيكون متصلًا مستلزمًا للدخول فيما قبله،
أي: ما وجدنا فيها بيتًا من بيوت المؤمنين، إلا بيتًا من المسلمين.
وإنما يكون بيت المؤمن، إذا صدق المؤمن على المسلم.
إذ التحقيق: أنه ليس المراد بالبيت هو الجدران، بل أهل البيت.
فيكون التقدير: فما وجدنا أهل بيت من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين، فثبت أن الإيمان الإسلام.
والإسلام هو الدين المعتبر، لقوله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} .
والدين (عبارة عن) فعل الواجبات، لقوله تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} أي: دين الملة المستقيمة.
ولفظ "ذلك" إشارة إلى جميع ما تقدم، فيجب أن يكون كل ما تقدم دينًا معتبرًا، وكل ما تقدم فعل الواجبات، فيجب أن يكون المذكور دينًا، لأن الذي تقدم ذكره: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهما من الأفعال الواجبة، فثبت أن الدين فعل الواجبات، (فإذا كان الإيمان في اللغة: التصديق وفي الشرع: فعل الواجبات)، فيكون مفهومه الشرعي مغايرًا لمفهومه اللغوي، فيكون من مخترعات الشرع ويلزم ما ذكرنا.
قلنا: الإيمان في الشرع: تصديق خاص، وهو تصديق النبي- صلى الله عليه وسلم في كل أمر ديني، علم مجيئه ضرورة، فيكون حقيقة شرعة، ومجازًا لغويًا من باب إطلاق الكل
على الجزء، كما مر في الصلاة.
وما ذكروا من الدليل فمقدماته ممنوعة، لأن مقدماته: إن الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الدين، وهما ممنوعان.
إذ لو صحتا، لكان مفهوم الإيمان مفهوم الإسلام والدين.
لكن مفهوم الإيمان يغاير مفهومهما لغة وشرعًا.
أما لغة؛ فلأن الإسلام لغة: الانقياد، والدين: الطاعة والعمل الظاهر، وهما مغايران مفهوم الإيمان لغة، أعني: التصديق.
وأما شرعًا: فلأن مفهوم الإيمان شرعًا، لو كان عين المفهوم الشرعي للإسلام، لما جاز في الشرع إثبات أحدهما ونفي الآخر، لكنه وقع في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا
أسلمنا}. فنفى الإيمان وأثبت الإسلام، وفيه نظر مذكور في الشرح.
وإلى هذا كله أشار بقوله: وهو غير الإسلام والدين، فإنهما: الانقياد، والعمل الظاهر، ولهذا قال تعالى:{قل لم تؤمنوا وقولوا أسلمنا} .
وإنما جاز الاستثناء، أي: استثناء المسلم من المؤمن، لصدق
المؤمن على المسلم، بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام شرعًا، وهو لا يستلزم اتحاد الإيمان والإسلام.
فالاستثناء لا يدل على أنه هو
فروع على الحقيقة الشرعية المنقولة من اللغة لمناسبة.
الأول: النقل خلاف الأصل، يعني إذا دار اللفظ بين أن يكون منقولاً أو غير منقول، فالحمل على كونه غير منقول أولى.
إذ الأصل بقاء الأول على ما كان عليه، والنقل مناف لهذا الأصل فكان مرجوحًا.
ولأنه أي: النقل يتوقف على وضع اللفظ، بإزاء المعنى الأول، المنقول عنه، ونسخه، أي: نسخ المعنى الأول بأن يصير الاستعمال به مهجورًا.
ووضع ثان للفظ بإزاء المعنى المنقول إليه، وغير المنقول.
يتوقف إلا على الوضع الأول فقط، وإذا كان كذلك فيكون النقل متوقفًا على مقدمات أكثر، مما يتوقف عليه غير المنقول، فيكون مرجوحًا، لأنه أندر وجودًا من الموقوف على مقدمات أقل.
الفرع الثاني: الأسماء الشرعية أي التي وضعها الشارع لمعنى، بحيث تدل عليه بلا قرينة، موجودة.
المتباينة: كالصلاة والزكاة والصوم.
والمترادفة: كالفرض والواجب والإنكاح والتزويج والمندوب والسنة وقد مر فلذا لم يذكره هنا.
والمتواطئة: كالحج، فإنه يطلق على: الإفراد، والتمتع، والقران.
وهذه الثلاثة: مشتركة في مفهوم الحج وهو الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، والحلق.
والمشككة: كالفاسق بالنسبة إلى من يرتكب الكبيرة الواحدة ويرتكب الكبائر المتعددة كذا قيل.
والمشتركة: على الأصح كالصلاة الصادقة على ذات الأركان الفعلية، والقولية، كالفرائض المكتوبة حالة الأمن، وعلى العادمة لجميع الأركان الفعلية، مثل صلاة المصلوب فإنها فقدت القيام والقعود والركوع والسجود، وعلى العادمة لبعضها (وذلك كصلاة) الجنازة فإنها عدم فيها الركوع والسجود دون القيام، فإن لفظ
صلاة يطلق على الثلاثة وليس بينها قدر مشترك، فتعين الاشتراك لفظًا إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة.
قال الصفي الهندي: وهو ضعيف، لأن كون الفعل واقعًا بالتحرم والتحلل، قدر مشترك بين تلك الصلوات، فلم لا يجوز أن يكون مدلولها واحدًا؟
قال: والأقرب: أنها متواطئة بالنسبة إلى الكل، لأن التواطؤ خير من الاشتراك.
ثم مثل للمشتركة بالطهور، فإنه يطلق على الماء والتراب، وما يدبغ به، وليس بينهما قدر مشترك يصح أن يكون مدلول
اللفظ.
وأورد عليه أنه اكتفى بالتحرم والتحلل، وليكن بإزالة المانع قدرًا مشتركًا بين هذه الأمور.
والمعتزلة: سموا أسماء الذوات دينية، كالمؤمن والفاسق، أي قسموا الأسماء الشرعية إلى: أسماء الذوات، كالمشتقات مثل المؤمن، والكافر، والمصلي والمزكي، وسموها دينية.
وإلى أسماء الأفعال: كالصلاة والزكاة، وهي الشرعية، تفرقة بينهما.
وتبع المصنف في ذلك الإمام الرازي.
وقال بهاء الدين السبكي: الخلاف بيننا وبين المعتزلة بالنسبة إلى أصول الشريعة، فإنهم يثبتون الوضع فيها ويسمونه بالديني.
ونحن لا نثبت ذلك إلا في الفروع.
ووافقه على هذا بعض المتأخرين.
وقال: إن كلام المصنف باطل، بل المنقول عن المعتزلة أن الأسماء المتعلقة بأصول الدين مشتقة كانت أو غيرها، دينية: كالإيمان، والمؤمن، والكفر، والكافر، وما تعلق بالفروع فهي: الشرعية كالصلاة والمصلي.
وقال الإسنوي نحوه قال: وممن نص عليه إمام الحرمين
والغزالي
والحروف الشرعية: لم توجد، واستعملها الشرع في معناها اللغوي.
قال العراقي: وليس كذلك، بل هي كالأفعال توجد بالتبع، فإن نقل متعلق معاني الحروف من المعاني اللغوية، إلى المعاني الشرعية،
مستلزم لنقلها كذا قال فتأمله.
والفعل الشرعي: وجد بالتبع، لنقل الاسم الشرعي، فيتبع الاسم مثل صلى الظهر، فإن الفعل عبارة عن المصدر والزمان.
وإذا كان المصدر شرعيًا، فلا بد أن كون الفعل شرعيًا ولم يوجد بطريق الأصالة بالاستقراء.
الفرع الثالث: صيغ العقود والفسوخ، كبعت وطلقت،
وفسخت فهي في اللغة أخبار وفي الشرع قد تستعمل أخبارًا.
فإن استعملت لإحداث حكم فهل هي للإخبار عن ثبوت الأحكام كما كانت بحسب اللغة؟ وبه قالت الحنفية، وذلك بتقدير ثبوتها قبيل اللفظ، أو نقلت منها إلى إنشاء العقود والفسوخ، وهو المختار.
إذ لو كان أخبارًا، وكان ماضيًا، أو حالًا، لم يقبل التعليق على شرط؛ لأن التعليق عبارة عن توقيف دخول الشيء في الوجود على
دخول غيره في الوجود، وهو والماضي والحال موجود فلا يقبله.
لكنها قابلة للتعليق إجماعًا، لاعتبار قول القائل: طلقتك إن دخلت الدار، وتطليقها عند دخول الدار.
وإلا أي وإن لم يكن ماضيًا ولا حالًا، بل لو كان خبرًا عن مستقبل، لم يقع معناه من الطلاق وغيره، فكان إذا قال: طلقتك لا يقع به طلاق كما لو قال: سأطلقك لكن الطلاق يقع به إجماعًا.
(وأيضًا: لو كانت هذه الصيغ أخبارًا، فإما أن تكون صادقة أو كاذبة، إذ الأخبار لا تخلو عنهما، وكلاهما باطل لأنها) إن كذبت لم يعتبر في الشرع، لكنها معتبرة فيه إجماعًا.
وإن صدقت فصدقها يتوقف على وقوع مدلولاتها؛ (لأن ما لا يقع مدلوله من الأخبار لا يكون صادقًا، فوقوع مدلولاتها) إما أن
يتوقف على صدقها فيلزم الدور، لتوقف كل واحد من وقوع المدلول والصدق على الآخر.
وإليه أشار بقوله: "إما بها فيدور".
أو يتوقف على غير صدقها وإليه أشار بقوله: "أو بغيرها"، وهو باطل إجماعًا.
مثلًا صدق طلقتك إما أن يتوقف على وقوع الطلاق أو غيره.
فإن توقف على وقوع الطلاق، وهو يتوقف على صدق طلقتك فيدور.
وإن توقف صدق طلقتك على شيء آخر غير وقوع الطلاق فهو باطل إجماعًا، لأن وقوع الطلاق منتف عند انتفاء الصيغة.
ولا يقال: يجوز أن يكون صدقه باعتبار المستقبل، فلا يلزم الدور لأن البحث بتقدير قطع النظر عن الزمان، فلا تكون إخبارات، إذ بطلان اللازم يوجب بطلان الملزوم.
وأيضًا: لو كانت للإخبار، للزم أنه لو قال: للرجعية.
طلقتك لم يقع الطلاق، كما لو نوى الإخبار عن الطلاق الماضي، لكنه يقع به الطلاق اتفاقًا.
فإذا بطل كونها للإخبار بهذه الأدلة تعين كونها للإنشاء.
وهنا نظر في الأدلة وزيادة تحقيق في الشرح.
الثانية
في مباحث المجاز
المجاز: إما أن يقع في المفرد (من الألفاظ)، مثل الأسد للشجاع، فإنه يستعمل في غير موضوعه الأصلي لمناسبة.
أو يقع في المركب: وهو أن يستعمل كل واحد من الألفاظ المفردة
في موضوعه الأصلي، ويسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، مثل قول الشاعر: وهو الصلتان العبدي- وكان مسلمًا-.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي.
فأشاب، وأفنى، وكر، ومر: مستعملة في موضوعها اللغوي، والإسناد مجاز؛ لأن المشيب والمغني هو الله تعالى.
قال العراقي: والصواب التعبير بالتركيب، لأن التجوز في هذا القسم إنما هي النسبة بين المفردين.
لا يقال: هذا البيت فيه إطلاق الصغير على الشيخ، باعتبار ما كان، فهو مجاز في المفرد والمركب.
لأن الصغير ليس ركنًا في الإسناد، لوقوعه فضلة، فإنه مفعول فلا اعتبار به.
وقال الشيخ سعد الدين: وقد اختلفوا في نحو أشاب الصغير، لعدم كون كر الغداة، ومر العشى، فاعليه حقيقة كما تقدم؛ لأن مدلول إسناد الفعل إلى الشيء، هو قيامه به وثبوته له، بحيث يتصف به، وهذا لا يصح ظاهرًا فيما أسند إلى غير ما هو له، من المصدر، والزمان، والمكان، وغيرها، فلابد من تأويل، إما في المعنى، أو في اللفظ.
واللفظ: إما المسند، أو المسند إليه، أو الهيئة التركيبية، الدالة على الإسناد وإلا لكان كذبًا.
الأول: أن لا مجاز فيه بحسب الوضع، بل بحسب العقل حيث أسند الفعل إلى غير ما يقتضى العقل إسناده إليه، وهو قول الشيخ عبد القاهر والإمام الرازي وجميع علماء البيان.
الثاني: أن المسند مجاز عن المعنى الذي يصح إسناده إلى المسند إليه، المذكور، وهو قول ابن الحاجب.
الثالث: أن المسند إليه استعارة بالكناية عما يصح الإسناد إليه حقيقة، وهو قول السكاكى.
الرابع: أنه لا مجاز في شيء من المفردات، بل يشبه التلبس الغير الفاعلي بالتلبس الفاعلي، فاستعمل فيه اللفظ الموضوع لإفادة التلبس الفاعلي، فيكون استعارة تمثيلية كما في: أراك تقدم رِجلًا وتؤخر أخرى.
وهذا ليس قولًا لأحد من علماء البيان ولكنه ليس ببعيد.
أو المجاز فيهما أي: في الإفراد والتركيب.
كقوله: "أحياني اكتحالي بطلعتك" أي: سرني رؤيتك، فاستعمل
الإحياء في السرور، والاكتحال في الرؤية. وهو مجاز. والإسناد أيضًا مجاز، لأن فاعل السرور هو الله تعالى لا الرؤية.
قال العبري: والحق أن إسناد الإحياء إلى الاكتحال مجاز، لا إسناد المسرة إلى الرؤية، لأن اللغة لم تبن على مذهب الأشعري.
فعلم من هذه الأمثلة أن المجاز قد وقع في اللغة، وهو الأصح، خلافًا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني.
ووقع أيضًا: المجاز في القرآن، والحديث على الأصح.
ومنعه أبو بكر بن داود والظاهرية: في القرآن والحديث.
(ونقل عن ابن القاص).
قال العراقي: والمشهور عن ابن داود، منعه في القرآن خاصة كما ذهب إليه بعض الحنابلة، وبعض المالكية.
لنا: قوله تعالى: {جدارًا يريد أن ينقض} .
فإن الظاهر من لفظ الإرادة، غير مراد لامتناع كون الجدار مريدًا، إذ لا شعور له، فوجب صرفها إلى غير الظاهر، وهو المجاز، وهو
هنا استعارة، لأنه شبه إشرافه على السقوط، بالإرادة المختصة بذوات الأنفس.
ولا يقال: الإرادة هنا حقيقة بخلق الله تعالى فيه إرادة للقطع، بأنه ليس بمراد، وإن كان ممكنًا. فإنما يقع عند التحدي، وإظهار المعجزات. وإذا جاز في القرآن، جاز في الحديث.
وأما وقوعه في الحديث: فلقوله عليه الصلاة والسلام "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
قال ابن داود فيه، أي: في المجاز إلباس، لكونه لا ينبني عن معناه بنفسه، فلا يناسب كلام الشرع؛ لأنه مبين للشرع.
قلنا: لا إلباس مع القرينة، وهو إنما يستعمل في الشرع مع القرينة.
قال مخصصًا حجته القرآن: ل وقع المجاز في القرآن، لكان الله تعالى متكلمًا بالمجاز.
ولو كان متكلمًا بالمجاز لجاز أن يقال: الله تعالى متجوز، إذ المتجوز هو المتكلم بالمجاز.
لكن لا (يجوز أن) يقال لله تعالى، بأنه متجوز.
قلنا: لعدم الإذن، فإن أسماء الله- تعالى- توقيفية.
فلا يطلق عليه إلا بإذن، وقد انتفى، فلانتفاء إذن الشارع امتنع إطلاق اسم المتجوز على الله- تعالى- لأنه لا يصح لغة، واللازم صحته لغة.
أو عدم جواز الإطلاق، لإيهامه الاتساع فيما لا ينبغي، لأن قولنا فلان متجوز، يوهم أنه يتسمح، ويتوسع، فيما لا ينبغي من الأقوال والأفعال، لاشتقاقه من الجواز، وهو التعدي.
تنبيه: المجاز يطلق بحسب الاشتراك على ما سبق، وعلى كلمةٍ تغير حكم إعرابها بسبب زيادة أو نقصان كما سيجئ، ووعلى نفس الإعراب المتغير.
انتهى بحمد الله تعالى الجزء الثاني من
كتاب
مختصر تيسير الوصول شرح منهاج الأصول
ويليه
إن شاء الله
الجزء الثالث
وأوله
الثالثة
شرط المجاز العلاقة