المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب ما جاء في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم - جمع الوسائل في شرح الشمائل - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابٌ كَيْفَ كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي ضَحِكِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مُزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْرِ)

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّمْرِ)

- ‌(بَابٌ فِي صِفَةِ نَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى)

- ‌(بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ)

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌بَابُ مَا جَاءَ فِي خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي حَيَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي سِنِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ)

الفصل: ‌(باب ما جاء في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم

الرَّاءِ (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَرَّسَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّعْرِيسِ وَهُوَ نُزُولُ الْمُسَافِرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالنَّوْمِ يَقِفُ وَقْفَةً ثُمَّ يَخْتَارُ الرِّحْلَةَ فَقَوْلُهُ (بِلَيْلٍ) إِمَّا تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا انْتَهَى.

وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّوْمُ مُطْلَقًا (اضْطَجَعَ) أَيْ: نَامَ أَوْ رَقَدَ

(عَلَى شِقِّهِ) أَيْ: طَرَفِهِ وَجَانِبِهِ (الْأَيْمَنِ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَوَضَعَ رَأْسَهُ الشَّرِيفَ عَلَى لَبِنَةٍ قُلْتُ لَعَلَّ هَذَا وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْقُرَى لِاسْتِبْعَادِ وُجُودِ اللَّبِنَةِ فِي الْبَوَادِي، وَالصَّحَارِي (وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ) وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ تَعْلِيمُ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُثْقِلَ بِهِمُ النَّوْمُ ; فَيُفَوِّتَهُمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ عَنْ وَقْتِهَا

‌(بَابُ مَا جَاءَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، وَعَقَّبَهَا لِنَوْمِهِ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ صلى الله عليه وسلم الْمُبَيَّنَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ وَالْمُعَيَّنَةَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ نَوْمِهِ عَلَى أَنَّ نَوْمَهُ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، وَأَكْمَلِ الطَّاعَاتِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ، وَتَرْكِ الْعَادَةِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافًا لِلزَّنَادِقَةِ، وَالْمُلْحِدِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْعِبَادَةُ، بَلْ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَوْتُ يَقِينًا ; لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: هُوَ يَقِينٌ يُشْبِهُ الشَّكَ فِي نَظَرِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ فَائِدَةُ الْغَايَةِ الْأَمْرُ بِالدَّوَامِ أَيِ: اعْبُدْ رَبَّكَ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ حَيَاتِكَ وَقَدْ رَوَى الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ:«مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ، وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» ، وَرَتَّبَ التَّسْبِيحَ، وَمَا بَعْدَهُ عَلَى ضِيقِ الصَّدْرِ حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَا يَكْشِفُ صَدَأَ الْقَلْبِ فَيَسْتَحْقِرُ الدُّنْيَا ; فَلَا يَحْزَنُ لِفَقْدِهَا، وَلَا يَفْرَحُ لِحُصُولِهَا وَوُجُودِهَا، فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الْآيَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النُّبُوَّةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا وَإِلَّا لَنُقِلَ وَلَمَا أَمْكَنَ كَتْمُهُ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مِنْ عُرْفِ تَابِعًا،

ص: 64

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِالْوَقْفِ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَعَمْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ ثُمَّ أَحْجَمَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّعْيِينِ وَجَسَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ آدَمَ وَقِيلَ نُوحٍ وَقِيلَ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ مُوسَى وَقِيلَ عِيسَى وَقِيلَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ بَلِ الْقَصْدُ مِنْ بَعْثَتِهِ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ الِاتِّبَاعُ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ إِذْ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَى مُتَابَعَتِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ الْمُتَابَعَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَى إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ، وَإِيرَادِ الْأَدِلَّةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَكُّلِ وَالْإِخْلَاصِ، وَنَفْيِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَا وَالِالْتِحَاءِ إِلَى السِّوَى قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْإِمَامُ السَّرَّاجُ الْبُلْقِينِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا كَيْفِيَّةُ تَعَبُّدِهِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا يَتَنَسَّكُ فِيهِ وَكَانَ مِنْ نُسُكِ قُرَيْشٍ فِي

الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُطْعِمَ الرَّجُلُ مَنْ جَاءَ مِنَ الْمَسَاكِينِ حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَقِيلَ كَانَتْ عِبَادَتُهُ التَّفَكُّرُ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالْعِبَادَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْقَلْبِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَصْنُوعَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ السَّنِيَّةِ، وَالشَّمَائِلِ الْبَهِيَّةِ، مِنَ التَّرَاحُمِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالتَّحَمُّلِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالتَّحَقُّقِ بِحَالِ الْفَنَاءِ وَمَقَامِ الْبَقَاءِ عَلَى مَا يَكُونُ مُنْتَهَى حَالِ أَكْمَلِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ، وَلِذَا قِيلَ بِدَايَةُ الْأَنْبِيَاءِ نِهَايَةُ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ بِدَايَةَ الْوَلِيِّ نِهَايَةُ النَّبِيِّ ; فَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْأَوَامِرِ الْفَرْضِيَّةِ، وَالزَّوَاجِرِ الْمَنْهِيَّةِ فَمَا لَمْ يَتَّصِفِ السَّالِكُ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُ دِينِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَلَايَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ حُسْنِ الرِّعَايَةِ، وَحِفْظِ الْحِمَايَةِ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَبِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَا: حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو عِوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِالْقَافِ وَجَهِلَ مَنْ ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيِ: اجْتَهَدَ فِي الصَّلَاةِ (حَتَّى انْتَفَخَتْ) أَيْ: تَوَرَّمَتْ (قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتَتَكَلَّفُ هَذَا) أَيْ: أَتُلْزِمُ نَفْسَكَ بِهَذِهِ الْكُلْفَةِ، وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ (وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ) وَفِي نُسْخَةٍ،:«وَقَدْ غُفِرَ لَكَ» بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) فَفِي النِّهَايَةِ: تَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ إِذَا تَجَشَّمْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَعَلَى خِلَافِ عَادَتِكَ، وَالْمُتَكَلِّفُ الْمُتَعَرِّضُ لِمَا لَا يَعْنِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:«أَنَا وَأُمَّتِي بَرَاءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ» انْتَهَى، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ ; فَتَأَمَّلْ (قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: أَتْرُكُ الصَّلَاةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْغُفْرَانِ فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقِيلَ لِلتَّسَيُّبِ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ أَيْ: أَتْرُكَ صَلَاتِي بِمَا غَفَرَ لِي فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! يَعْنِي أَنَّ غُفْرَانَ اللَّهِ إِيَّايَ: سَبَبٌ لِأَنْ أُصَلِّيَ شُكْرًا لَهُ فَكَيْفَ

ص: 65

أَتْرُكُهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ: كَيْفَ لَا أَشْكُرُهُ وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيَّ وَخَصَّنِي بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ؟ ! فَإِنَّ الشَّكُورَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَدْعِي نِعْمَةً خَطِيرَةً، ثُمَّ تَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ مُشْعِرٌ بِغَايَةِ الْإِكْرَامِ، وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ وُصِفَ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ ; وَلِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ النِّسْبَةِ وَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ وَهِيَ عَيْنُ الشُّكْرِ فَالْمَعْنَى: أَلْزَمُ الْعِبَادَةَ وَإِنْ غُفِرَ لِي لِأَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، وَقَدْ ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّ سَبَبَهَا إِمَّا خَوْفُ الذَّنْبِ أَوْ رَجَاءُ الْمَغْفِرَةِ ; فَأَفَادَ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ سَبَبًا آخَرَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى التَّأَهُّلِ لَهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَإِجْزَالِ النِّعْمَةِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَغْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ» ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ رَبِيعِ الْأَبْرَارِ.

(حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَمُثَلَّثَةٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْوَرَمِ هَكَذَا سُمِعَ، وَهُوَ نَادِرٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى تَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَهُوَ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنَ التَّوَرُّمِ، وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى ظَاهِرِ الْمُؤَنَّثِ الْغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ ثُمَّ نَصَبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ بَعْدَ حَتَّى (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَقِيلَ لَهُ تَفْعَلُ هَذَا) أَيْ: هَذَا الِاجْتِهَادَ، وَالْمَعْنَى: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ ! كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ (وَقَدْ جَاءَكَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ جَاءَكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُوا عَنْ تَقْصِيرٍ وَتَوَانٍ وَنِسْيَانٍ، وَسَهْوٍ كَمَا قَالَ عز وجل كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَنْبِ مَا تَقَدَّمَ ذَنْبُ آدَمَ، وَبِذَنْبِ مَا تَأَخَّرَ ذَنْبُ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا فَعَلَهُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ التَّقْصِيرِ وَبِمَا تَأَخَّرَ مَا تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا فِي التَّأْخِيرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِ أَحَدٌ عَنْ فَضْلِهِ سُبْحَانَهُ وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَمِلَ بِالْعَدْلِ مَعَ الْخَلْقِ لَعَذَّبَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَنَسْتَعِيذُ مِنْ عَدْلِهِ (قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.

(حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّمْلِيُّ) نِسْبَةً إِلَى رَمْلَةَ، بَلْدَةٌ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ (حَدَّثَنَا عَمِّي يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ) أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ (يُصَلِّي حَتَّى تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ) بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقَ وَوَجْهُ كُلٍّ

مِنْهُمَا ظَاهِرٌ (فَيُقَالُ لَهُ تَفْعَلُ هَذَا) أَيْ: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ ! كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَبْلَ قَوْلِهِ: «تَفْعَلُ» (وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ، الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: مِنَ التَّهَجُّدِ وَالْوَتْرِ (بِاللَّيْلِ) أَيْ: فِي أَيْ: وَقْتٍ كَانَ مِنْهَا (فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ) أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْوَاقِعَةِ أَحْيَانًا بَعْدَ نِصْفِهِ الْأَوَّلِ (ثُمَّ يَقُومُ) أَيِ: السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلتَّهَجُّدِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَيَحْيَى آخِرَهُ (فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ) وَهُوَ السُّدُسُ

ص: 66

الْأَخِيرُ (أَوْتَرَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: صَلَّى رَكْعَةَ الْوَتْرِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ صَلَّى الْوَتْرَ لِيَشْمَلَ الْمَذْهَبَيْنِ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً أَوْ رَكَعَاتٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:«كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ تِسْعَ سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِ سُوَرٍ آخِرُهُنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُصَنِّفُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: كَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِصَارٌ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرِ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْوَتْرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَقُومُ إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي اللَّيْلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوَتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ) أَيْ: فِي النَّوْمِ ; فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي السُّدُسِ السَّادِسِ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ ; وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ صُفْرَةَ السَّهَرِ عَنِ الْوَجْهِ (فَإِذَا) وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنْ (كَانَ)، وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (لَهُ حَاجَةٌ) أَيْ: فِي مُبَاشَرَةٍ (أَلَمَّ بِأَهْلِهِ) أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ قَالَ مِيرَكُ: فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: فِي كَلِمَةِ ثُمَّ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْ نِسَائِهِ بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ بِالتَّهَجُّدِ ; فَإِنَّ الْجَدِيرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَدَاءُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ثُمَّ هُنَا لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، أَخْبَرَتْ أَوَّلًا أَنَّ عَادَتَهُ عليه السلام كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً بِنَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَقِيَامِ آخِرِهِ ثُمَّ اتَّفَقَ أَحْيَانًا أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْ نِسَائِهِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ (فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ) أَيْ: فَإِنِ انْتَبَهَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ (وَثَبَ) أَيْ: قَامَ بِسُرْعَةٍ

وَخِفَّةٍ أَوْ قَعَدَ عَلَى لُغَةِ قَبِيلَةِ حِمْيَرَ ; فَإِنَّ الْوُثُوبَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْقُعُودِ (فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) أَيِ: اغْتَسَلَ (وَإِلَّا تَوَضَّأَ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا جَدِيدًا لِأَنَّ نَوْمَهُ لَا يَنْقُضُ كَذَا قِيلَ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْجَزْمَ بِذَلِكَ تَسَاهُلٌ إِذْ يُحْتَمَلُ هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ نَاقِضٌ آخَرُ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ (وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ صَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُمَا كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ ; فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلْ، وَإِلَّا فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ إِلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ كَانَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:«مَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ» انْتَهَى.

وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِلْمَامِ هُوَ الْجِمَاعُ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَوْلُهُ:«مُنْحَصِرَةٌ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ» ، غَيْرُ صَحِيحٍ هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ «أَفْضَلَ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ الْجِمَاعِ عَنِ

ص: 67

ابْتِدَاءِ النَّوْمِ لِيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَدَمُ التَّكَاسُلِ عَنْهَا بِالنَّوْمِ، وَالْقِيَامُ بِالنَّشَاطِ لِلطَّاعَةِ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا:«مَا صَلَّى صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ بَيْتِي إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ أَيِ: الدِّيكَ وَهُوَ يَصِيحُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم:«كَانَ رُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا فِي آخِرِهِ وَرُبَّمَا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا خَافَتَ» . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ يُصَلِّي بِنَا ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا يُصَلِّي، ثُمَّ يُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، حَتَّى يُصْبِحَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنِّسَائِيِّ:«كَانَ يُصَلِّي الْعَتْمَةَ ثُمَّ يُسَبِّحُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يِنْصَرِفُ فَيَرْقُدُ مِثْلَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، وَصَلَاتُهُ تِلْكَ الْآخِرَةُ إِلَى الصُّبْحِ» .

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ السَّنَدِ، وَلِذَا عَطَفَ بِقَوْلِهِ (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ) عَنْ كُرَيْبٍ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَخْبَرَهُ) أَيْ: كُرَيْبًا (أَنَّهُ) وَأَغْرَبَ شَارِحٌ فَقَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بَاتَ) أَيْ: رَقَدَ فِي اللَّيْلِ (عِنْدَ مَيْمُونَةَ) أَيْ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَهِيَ خَالَتُهُ) أَيْ: فَهُوَ مَحْرَمٌ لَهَا ; فَإِنَّهَا بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ قِيلَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو رُهْمِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَتَزَوَّجَهَا صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعْدَ خَيْبَرَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ تَحْتَ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُهَا لِأُمِّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ جَعْفَرٍ، وَسَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ حَمْزَةَ رضي الله عنهم، قِيلَ وَهِيَ الْوَاهِبَةُ نَفْسَهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْهَا خِطْبَتُهُ

وَهِيَ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا قَالَتْ: هُوَ وَمَا عَلَيْهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَجَعَلَتْ أَمْرَهَا لِلْعَبَّاسِ فَأَنْكَحَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمَّا رَجَعَ بَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَرِوَايَةُ: وَهُوَ مُحْرِمٌ، مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ دَاخِلُ الْحَرَمِ قُلْتُ إِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حَلَالٌ، وَحَيْثُ جَازَ الِاحْتِمَالُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، فَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ; فَإِنَّهُ لِلْمَقْصُودِ مُفَصَّلٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُصُوصِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُ النِّكَاحَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَمِنْ غَرِيبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِفَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَ التَّنْعِيمِ وَالْوَادِي فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَدَخَلَ قَبْرَهَا وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ الْأَشْهَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِضَمِّهَا وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْتُوحِ الْعَيْنِ أَيْ: جَانِبِهَا، وَالْوِسَادَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمِخَدَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الْمَوْضُوعَةُ تَحْتَ الْخَدِّ أَوِ الرَّأْسِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا الْفِرَاشُ لِقَوْلِهِ (وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: وَأَهْلُهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (فِي طُولِهَا) وَكَانَ رضي الله عنه نَامَ تَحْتَ رِجْلَيْهِ تَأَدُّبًا، وَتَبَرُّكًا وَقَدْ زَلَّ قَدَمُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا فَتَدَبَّرْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِحِلِّ نَوْمِ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ لَهَا مُمَيِّزٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا قَالَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ طَرِيقُهَا،

ص: 68

فَهِيَ حَسَنَةُ الْمَعْنَى جِدًّا إِذْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ يَطْلُبُ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِيهَا حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ سِيَّمَا، وَهُوَ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُرَاقِبًا لِأَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّهُ لَمْ يَنَمْ أَوْ نَامَ قَلِيلًا جِدًّا كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَنَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ مِنْ عَادَتِهِ السُّنِّيَّةِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ الْبَهِيَّةِ وَاعْتِزَالُهَا فِي النَّوْمِ كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ، وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَذْمُومٌ إِلَّا إِذَا اخْتَارَتِ الْمَرْأَةُ وَأَرَادَ الرَّجُلُ هِجْرَانَهَا تَأْدِيبًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: فَتَحَدَّثَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ (حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ) أَيْ: تَخْمِينًا وَتَقْرِيبًا (أَوْ قَبْلَهُ) أَيْ: أَوْ كَانَ قَبْلَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ (بِقَلِيلٍ

أَوْ بَعْدَهُ) أَيْ أَوْ كَانَ بَعْدَهُ (بِقَلِيلٍ فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ) أَيْ: أَثَرَهُ مِمَّا يَعْتَرِي النَّفْسَ مِنَ الْفُتُورِ (عَنْ وَجْهِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّرْدِيدَ الْمَذْكُورَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَاءً عَلَى تَرَدُّدِهِ بِأَنَّ غَايَةَ النَّوْمِ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَ النِّصْفِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ أَوْ نِصْفُهُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ (ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ) أَيْ: مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ حِلُّ الْقِرَاءَةِ لِلْمُحْدِثِينَ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ بَلْ نَدَبَهَا لَهُ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ نَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِنَاقِضٍ إِجْمَاعًا فَكَيْفَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَاتِ مُحْدِثًا مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ لِرَدِّ السَّلَامِ فَكَيْفَ لِكَلَامِ الْمَلِكَ الْعَلَّامِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ قِرَاءَتُهُ مُحْدِثًا لَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، فَقَوْلُهُ بَلْ نَدَبَهَا لَهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِقَوْلِهِ:«فَتَوَضَّأَ» عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُجَرَّدًا (الْخَوَاتِيمَ) جَمْعُ الْخَاتِمَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ الْيَاءِ، وَفِيهِ نَدْبُ قِرَاءَةِ خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ الِاسْتِيقَاظِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى الْفَوَائِدِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْإِيقَاظُ (مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) فِيهِ إِبَاحَةُ قَوْلِ ذَلِكَ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، وَقَالَ: بَلْ يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ وَكَذَا الْبَقَرَةُ وَأَمْثَالُهَا كَرَاهَةَ ظَاهِرِ الْإِضَافَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ. لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ السَّلَفِ لَا تَخْلُو عَنْ أَصْلٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ فَصْلٍ (ثُمَّ قَامَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى شَنٍّ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ الْقِرْبَةُ الْخَلِقَةُ (مُعَلَّقٌ) أَيْ: لِتَبْرِيدِ الْمَاءِ أَوْ لِحِفْظِهِ (فَتَوَضَّأَ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الشَّنِّ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْهُ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) أَيْ: وُضُوءَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَالْمَعْنَى أَسْبَغَهُ وَأَكْمَلَهُ، وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوأَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ أَيْ: لَمْ يُكْثِرْ صَبَّ الْمَاءِ، وَلَمْ يُسْرِفْ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْكَمِّيَّةِ، وَقَدْ أَبْلَغَ الْوُضُوءَ أَمَاكِنَهُ، وَاسْتَوْفَى عَدَدَهُ الْمَسْنُونَ (ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) حَالٌ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: فَتَوَضَّأَ وَاسْتَاكَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَاكَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْتَرَ بِثَلَاثٍ. وَلِمُسْلِمٍ: فَاسْتَيْقَظَ، فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ وَهُوَ يَقُولُ:«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ ; فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. قِيلَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ فَيُعْمَلُ بِهَا وَإِنْ سَكَتَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهَا لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَيْسَتِ الْوَاقِعَةُ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى يُحْمَلَ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا هِيَ

ص: 69

وَاحِدَةٌ، فَيَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَارُضِ الْعَمَلُ بِالْأَصَحِّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ ثُمَّ إِحْدَاهُمَا (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أَيْ: فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ

كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ (فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى) قِيلَ وَضَعَهَا عَلَيْهِ أَوَّلًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْأُذُنِ أَوْ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ إِلَّا عَلَيْهِ، أَوْ لِيُنْزِلْ بَرَكَتَهَا بِهِ لِيَحْفَظَ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَغَيْرِهِ (فَفَتَلَهَا) بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ يَفْتِلُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، فَحِينَئِذٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَخَذَ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ قِيلَ، وَفَتَلَهَا إِمَّا لِيُنَبِّهَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَوْ لِيَزْدَادَ تَيَقُّظُهُ لِحِفْظِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَوْ لِيُزِيلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ النُّعَاسِ لِرِوَايَةِ: فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ مَعْنٌ: سِتُّ مَرَّاتٍ) أَيْ: قَوْلُهُ رَكْعَتَيْنِ سِتُّ مَرَّاتٍ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً (ثُمَّ أَوْتَرَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يَعْنِي فَالْوَتْرُ وَاحِدَةٌ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ أَوْتَرَ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ بِرَكْعَةٍ مُنْضَمَّةٍ إِلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، قِيلَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ صَحِيحَةٌ، وَأَنَّ لَهُ مَوْقِفًا مِنَ الْإِمَامِ كَالْبَالِغِ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَاتِ جَائِزَةٌ، أَقُولُ: وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْفُرُوعِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهِيَةِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ إِذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ أَرْبَعَةٌ، قَالَ فِي الْكَافِي: أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْجَمَاعَةِ إِنَّمَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي، وَأَمَّا لَوِ اقْتَدَى وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ أَوِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يُكْرَهُ، وَإِنِ اقْتَدَى ثَلَاثَةٌ بِوَاحِدٍ اخْتُلِفَ فِيهِ وَإِنِ اقْتَدَى أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ كُرِهَ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ النِّقَايَةِ مِنْ جَوَازِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا نَقْلًا عَنِ الْمُحِيطِ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ، وَنَحْوِهِمَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ الصِّحَّةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي الْكَرَاهَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ اضْطَجَعَ) قَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ بِالِاضْطِجَاعِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ التَّهَجُّدِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَزُولَ عَنْهُ تَعَبُ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَيُصَلِّي فَرِيضَةَ الصُّبْحِ بِنَشَاطٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَلَالَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ الِاضْطِجَاعُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَيْضًا يَعْنِي لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكْرَارِ الِاضْطِجَاعِ ; فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلُ يُسْتَدْرَكْ فِيمَا بَعْدُ (ثُمَّ جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ) أَيْ: بِلَالٌ أَوْ غَيْرُهُ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ (فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَخْفِيفِهَا لَا عَلَى جَوَازِهِ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ، وَسَيَأْتِي تَحَقُّقُهُ (ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ) أَيْ: فَرْضَهُ،

ص: 70

وَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ: ثُمَّ اضْطَجَعَ ; فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. هَذَا وَوِتْرُهُ صلى الله عليه وسلم آخِرَ اللَّيْلِ هُوَ الْأَغْلَبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ، وَإِلَّا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْتَرَ مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ، وَالْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا دُوِّنَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَعْذَارِ

فَإِيتَارُهُ أَوَّلَهُ لَعَلَّهُ كَانَ لِمَرَضٍ، وَأَوْسَطَهُ لَعَلَّهُ كَانَ لِسَفَرٍ.

(حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَاسْمُهُ نَضْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضَّبِّيُّ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: فِيهِ فَفِي الْقَامُوسِ (مِنْ) تَأَتِي بِمَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ كَلِمَةُ «مِنْ» فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى نَحْوِ مَا قَالُوهُ فِي نَحْوِ صُمْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِي نَحْوِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) بِسُكُونِ الشِّينِ، وَيُكْسَرُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنَ الْوَتْرِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: أَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ مِنْهَا سُنَّةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَمَعَ هَاتَيْنِ، وَرِوَايَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ حُوسِبَ فِيهَا سُنَّةُ الْعِشَاءِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم رُبَّمَا صَلَّى تِسْعًا أَوْ سَبْعًا أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا ثَلَاثُ الْوَتْرِ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ أَوَّلَهُ (ابْنِ أَوْفَى) لَهُ صُحْبَةٌ مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ مَنَعَهُ)، الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (مِنْ ذَلِكَ) أَيِ: الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ (النَّوْمَ) فَاعِلُ مَنَعَهُ (أَوْ غَلَبَتْهُ) أَيِ: النَّبِيَّ عليه السلام (عَيْنَاهُ) أَيْ: كَثْرَةُ نُعَاسِهِ فِيهِمَا فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَقِيلَ أَنَّهُ شَكٌ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ غَلَبَةِ الْعَيْنَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَغْلِبُ النَّوْمَ بِحَيْثُ لَا

يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَنَامَ، وَمِنْ مَنْعِ النَّوْمِ قُوَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهِ لَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَغْلُوبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ مَنْعِ النَّوْمِ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَمِنْ غَلَبَةِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مَثَلًا يُمْكِنُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَهِجِّيرَاهُ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي انْتَهَى.

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلتَّقْسِيمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَدَمِ التَّنَبُّهِ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَبِهُ وَلَمْ يَتَنَشَّطْ لِلْقِيَامِ، أَوْ يَقُومُ وَيُصَلِّي بَعْضَ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْقِيَامِ (صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً) أَيْ: تَدَارُكًا لِمَا فَاتَهُ مِنَ التَّهَجُّدِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ النَّافِلَةِ بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ لِئَلَّا تَعْتَادَ النَّفْسُ بِالتَّرْكِ، وَعَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْهَا بِلَفْظِ: كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَقُمْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهَذَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ وِتْرَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ سَكَتَتْ عَنْ ذِكْرِ الْوَتْرِ ; لِأَنَّ تَدَارُكَهُ مَعْلُومٌ بِالْأَوْلَى لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عِنْدَنَا، وَآكَدُ مِنَ التَّهَجُّدِ عِنْدَ غَيْرِنَا عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى

ص: 71

التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَتْرَ يُقْضَى قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْفَجْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَرَدَ عَنْهَا أَيْضًا: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النِّسْيَانِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ لِأَدَاءِ قَضَاءِ الْوَتْرِ، وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى الْوَتْرَ وَلَوْ سَلِمَ فَقَضَاءُ التَّهَجُّدِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَضَاءَ الْوَتْرِ بِالْأَوْلَى عَلَى أَنَّهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَاتَهُ الْوَتْرُ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ أَوْسَطَهُ أَوْ آخِرَهُ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ عَادَتِهِ فِي اللَّيْلِ أَنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ، فَإِذَا نَامَ عَنِ التَّهَجُّدِ دُونَ الْوَتْرِ كَمَّلَ فِي النَّهَارِ هَذَا الْعَدَدَ الْفَائِتَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ رِوَايَةِ: ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَبَيْنَ رِوَايَةِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَصْرُوفًا وَغَيْرَ مَصْرُوفٍ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بِلَا صَرْفٍ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَلِكَ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: فِيهَا أَوْ مِنْ أَجْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ صَلَاتِهِ (فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ) أَيِ: الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ النَّوْمِ الْمُسَمَّاةَ بِالتَّهَجُّدِ أَوْ صَلَاةَ اللَّيْلِ (بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَهْوِينُ الْأَمْرِ عَلَى النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِحُصُولِ النَّشَاطِ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي شَيْءٍ فَلْيَكُنْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَتَعَوَّدَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَيَكُونُ الشُّرُوعُ فِي بَقِيَّةِ عَمَلِهِ بِالنَّشَاطِ، وَإِتْمَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.

وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى

حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ) أَيْ: أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَفَتْحِ هَاءٍ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ (أَنَّهُ قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (لِأَرْمُقَنَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ الرُّمُوقِ: وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاقَبَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ وَالْمَعْنَى لَأَنْظُرَنَّ وَأَحْفَظَنَّ (صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَرَى كَمْ يُصَلِّي كَذَا فِي شَرْحِ الْمُظْهِرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَلَ عَنِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ لِتَقْرِيرِهَا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَبْلَغَ تَقْرِيرٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ عِنَايَتُهُ بِالْمُؤَكِّدَاتِ (قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) الْعَتَبَةُ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ، وَالْمَعْنَى جَعَلْتُ عَتَبَتَهُ الْعَالِيَةَ وِسَادَةً لِي (أَوْ فُسْطَاطَهُ) وَهُوَ بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ بِضَمِّ فَائِهِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ تَوَسُّدِهِ عَتَبَتَهُ ; فَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ تَوَسَّدَ عَتَبَةَ بَيْتِهِ أَوْ عَتَبَةَ فُسْطَاطِهِ صلى الله عليه وسلم وَالظَّاهِرُ الثَّانِي ; لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْخَيْمَةِ فِي زَمَانِ السَّفَرِ الْخَالِي عَنِ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ، فَالتَّرْدِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِي عِبَارَتِهِ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ مِنْ عَتَبَتِهِ أَيْضًا عَتَبَةُ فُسْطَاطِهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا شَكَّ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) أَيْ: لِمَا سَبَقَ (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) ذَكَرَ طَوِيلَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِغَايَةِ التَّطْوِيلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّمَا طَوَّلَهُمَا ; لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ قُوَّةِ الْعِبَادِ، فَقَامَ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ ثُمَّ نَزَلَ بِالتَّدْرِيجِ كَمَا قَالَ: (

ص: 72

ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ قَوْلُهُ: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا» أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْمُوَطَّأِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَأَفْرَادِ الْحُمَيْدِيِّ لِمُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ

تَحْتَ مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ (فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، وَيَكُونُ الْوَتْرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَوْتَرَ، عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ مِنَ الْبَيْنِ قُلْتُ لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّهَجُّدِ عِنْدَهُمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَيَكُونُ الْوَتْرُ ثَلَاثًا، وَالْمَجْمُوعُ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَرَّرَ كَوْنَ الْوَتْرِ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى خِلَافِهِ بِلَا خِلَافٍ قَالَ: وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ شَارِحُوهُ، وَقَالُوا: الْوَتْرُ هُنَا ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ; لِأَنَّهُ عَدَّ مَا قَبْلَ الْوَتْرِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ لِقَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ أُخَرَ انْتَهَى.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَصْوَبُ رِوَايَةً، وَدِرَايَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَاهُ مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (أَخْبَرَهُ) أَيْ: سَعِيدًا (أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟) أَيْ: فِي لَيَالِيهِ وَقْتَ التَّهَجُّدِ، فَلَا يُنَافِيهِ زِيَادَةُ مَا صَلَّاهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم:«خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَخَرَجَ فِي الثَّانِيَةِ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ فَكَثُرُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَطَفِقَ رِجَالٌ مِنْهُمْ، فَمَا خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمُ اللَّيْلَةَ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجَزُوا عَنْهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، قُلْتُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَصْحَابِنَا حَيْثُ جَعَلُوا الْمُوَاظَبَةَ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَقِيلَ ; لِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ وَاظَبَ عَلَيْهَا مَعَهُمُ افْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ فَأَحَبَّ التَّخْفِيفَ عَنْهُمْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ:«حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ» ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ الصَّارِفَ مِنْ حَمْلِ الْأَثَرِ عَلَى الْوُجُوبِ تَقْيِيدُهُ بِالْبُيُوتِ ; لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى الْإِعْلَانِ كَمَا أَنَّ مَبْنَى النَّوَافِلِ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا قِيلَ النَّوَافِلُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ حَتَّى مِنْ جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ:«خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ قِيَامُ هَذَا الشَّهْرِ» (فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مَا نَافِيةٌ وَقَوْلُهُ (لِيَزِيدَ) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ، وَهُوَ لَامُ التَّأْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ لَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضَبْطِهِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ (فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ) أَيْ: مِنَ اللَّيَالِي الْمُتَبَرَّكَةِ (عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أَيْ: عِنْدَهَا فَلَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ مِنَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهَا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَكُلٌّ يُخْبِرُ عَنْ عَمَلِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ

الْوَتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ضَعِيفٌ، هَذَا وَقَدْ سَبَقَ عَنْهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، فَكَأَنَّهَا اقْتَصَرَتِ الْحَدِيثَ هُنَا، وَحَذَفَتِ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِمَا أَوْ لِعَدِّهِمَا شُكْرًا لِلْوُضُوءِ عَلَى مَا قِيلَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهَا ابْتِدَاءً (يُصَلِّي أَرْبَعًا) أَيْ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ (لَا تَسْأَلْ) أَيْ: أَيُّهَا السَّائِلُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ، وَأَنَّهُ نَهْيٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مَعْنَاهُ نَهْيٌ (عَنْ

ص: 73

حُسْنِهِنَّ) أَيْ: كَيْفِيَّةً (وَطُولِهِنَّ) أَيْ: كَمِّيَّةً فَقَوْلُ: «لَا تَسْأَلْ» كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الطُّولِ، وَالْحُسْنِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُنَّ مِنْ كَمَالِ الطُّولِ، وَالْحُسْنِ فِي غَايَةٍ ظَاهِرَةٍ مُغْنِيَةٍ عَنِ السُّؤَالِ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ بِالنَّهْيِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ عَلَى تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ:«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ لِخَبَرِ:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ، وَقِيلَ تَطْوِيلُ الْقِيَامِ لَيْلًا أَفْضَلُ، وَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ نَهَارًا أَفْضَلُ (ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَرْبَعِ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَلَوَيْنِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ السَّالِكُ أَرْبَعًا بِسَلَامٍ مَرَّةً وَسَلَامَيْنِ أُخْرَى جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرِعَايَةً لِلْمَذْهَبَيْنِ (ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّاهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُسْلِمٍ بَعْدَ إِيرَادِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْهَا (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ) تَعْنِي وَرُبَّمَا يَفُوتُ بِعَدَمِ الْقِيَامِ بَعْدَ الْمَنَامِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ إِلَّا عَلَى فَوْتِ الْوَاجِبِ (قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَالْمَعْنَى أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَنِّي لَا أَخْشَى فَوْتَ الْوَتْرِ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِحَيَاةِ قُلُوبِهِمْ، وَاسْتِغْرَاقِ شُهُودِ جَمَالِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَجَعَلَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَثِقُ بِالِانْتِبَاهِ، وَلَا يَخْشَى فَوْتَهُ، حَيْثُ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ تَأْخِيرُ الْوَتْرِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا» ، عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْفَجْرِ مِنْ وَظَائِفِ الْبَصَرِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَسْهُو يَقَظَةً لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ فَكَذَا نَوْمًا.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ) أَيْ: غَالِبًا أَوْ عِنْدَهَا (يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، فَلَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا وَلَعَلَّ الِاخْتِلَافَ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْحَالَاتِ، أَوْ طُولِ الْقِرَاءَةِ وَقِصَرِهَا، أَوْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَقُوَّةٍ وَفَتْرَةٍ

أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ (يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ) أَيْ: يَضُمُّ الشَّفْعَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَقِيلَ كَوْنُ الْوَتْرِ وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ (فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ الْوَتْرِ (اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ إِنْ كَانَ الصُّبْحُ قَرِيبًا أَوْ لِلنَّوْمِ إِنْ كَانَ وَقْتَ السَّحَرِ، وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَفْظُ (نَحْوَهُ) غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (ح) إِشَارَةٌ لِلتَّحْوِيلِ، قَالَ السَّيِّدُ لَيْسَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي «ح» لَفْظُ (نَحْوَهُ) وَقَالَ عَفِيفُ الدِّينِ فِي نُسْخَةٍ. ح. فَقَطْ وَفِي نُسْخَةٍ (نَحْوَهُ) فَقَطْ وَفِي نُسْخَةِ أَصْلِنَا كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ قَالَ عِصَامُ الدِّينِ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَاءُ التَّحْوِيلِ مَعَ نَحْوِهِ، وَفِي بَعْضِهَا بِدُونِ نَحْوِهِ، وَفِي بَعْضِهَا لَيْسَ حَاءُ التَّحْوِيلِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ النُّسْخَةَ

ص: 74

أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِعَدَمِ التَّحَوُّلِ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَإِيرَادِ التَّحْوِيلِ، قُلْتُ: إِجْمَاعُ النُّسَخِ عَلَى قَوْلِهِ (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ) بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْوِيلِ سَوَاءٌ ضَمَّ مَعَهُ لَفْظَةَ «نَحْوَهُ» لِلتَّأَكِيدِ أَوْ حَذَفَ وَاكْتَفَى بِنَحْوِهِ الْأَخِيرِ الْمَوْجُودِ اتِّفَاقًا نَعَمْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَاءِ التَّحْوِيلِ فَقَطْ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَمْعَنَ فِي النَّظَرِ فَتَدَبَّرْ.

(حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا لِمَا سَبَقَ (رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ) فَالتَّهَجُّدُ سِتُّ رَكَعَاتٍ بِسَلَامَيْنِ أَوْ بِثَلَاثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ؟ قَالَتْ: يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ، وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ، وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بَأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَهَا عَنْ صَلَاتِهِ فَقَالَتْ: سَبْعًا وَتِسْعًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أُشْكِلَ حَدِيثُهَا عَلَى كَثِيرٍ حَتَّى نُسِبَ إِلَى الِاضْطِرَابِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ لَوِ اتَّحَدَ الرَّاوِي عَنْهَا، وَالْوَقْتُ وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسْبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ انْتَهَى.

وَسَيُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ تَارَةً يُصَلِّي قَائِمًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ وَتَارَةً جَالِسًا ثُمَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ يَقُومُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَبَّا حَنِيفَةَ قَالَ يَتَعَيَّنُ الْوَتْرُ ثَلَاثًا مَوْصُولَةً مُحْتَجًّا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا حَسَنٌ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، فَأَخَذَ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَرَدَ: بِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَرِهَ الثَّلَاثَ الْمَوْصُولَةَ فِي الْوَتْرِ فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْكَلَامُ فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَمُخَالَفَتُهُ تَضُرُّ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَكْرُوهٌ، يُحْمَلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ، فَلَا يُنَافِي مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحُسْنِ، وَالْجَوَازِ، هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ هُوَ بِظَاهِرِهِ يَعُمُّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ، وَتَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا، وَالَّتِي قَبْلَهَا شَفْعٌ أَوْ أَكْثَرُ كَمَا قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا أَبْحَاثٌ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا لِلِاخْتِصَارِ.

(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوَهُ) أَيْ: فِي بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ

وَلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَحْوَهُ هَذَا بِمَعْنًى أَيْ: فِي بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ، وَلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَحْوَهُ هَذَا بِمَعْنَى مِثْلِهِ بِلَا تَفَاوُتٍ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) بِالْجَرِّ وَلَوْ رُفِعَ لَهُ وَجْهٌ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فِي جَامِعِهِ أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ انْتَهَى.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو حَمْزَةَ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالرَّجُلُ شَيْخُهُ هُوَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مَعَ تَخَالُفٍ فِي بَعْضِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ) مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ بِمَعْنَى فِي، وَلَفْظُ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ بِالصَّلَاةِ (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (فَلَمَّا دَخَلَ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَرَادَ الدُّخُولَ (فِي الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) إِلَخْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا بَعْدَ تَكْبِيرَةِ التَّحْرِيمَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ الْكَلِمَاتِ الْآتِيَةِ، وَكَذَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا دَرَجُوا عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ إِيَّاهُ بِالْكَبِيرِ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَفْعَلُ فَعْلَى يَلْزَمُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوِ الْإِضَافَةُ كَالْأَكْبَرِ وَأَكْبَرِ الْقَوْمِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَكْبَرِيَّةِ أَيْضًا قِيلَ حُدُوثُ الْمَوْجُودَاتِ، وَظُهُورُ الْمَخْلُوقَاتِ،

ص: 75

أَوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنَ الِاسْتِعْمَالَاتِ (ذُو الْمَلَكُوتِ) أَيْ: مَالِكُ الْمُلْكِ وَصِيغَةُ «فَعَلُوتَ» لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فِي رَحَمُوتٍ وَرَهَبُوتٍ وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: ذُو الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْمُلْكِ، وَمِنَ الثَّانِي بَاطِنُهُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِعَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (وَالْجَبَرُوتِ) فَعَلُوتٌ مِنَ الْجَبْرِ وَهُوَ الْقَهْرُ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ فَسُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا قَضَى عَلَيْهِمْ، فَهُوَ الْجَبَّارُ الَّذِي يَقْهَرُ عِبَادَهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (وَالْكِبْرِيَاءِ) أَيِ: التَّرَفُّعِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ (وَالْعَظَمَةِ) أَيْ: تَجَاوُزِ الْقَدْرِ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ، وَالْعَظْمَةُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمَالِ الصِّفَاتِ (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ) أَيْ: مَعَ فَاتِحَتِهَا وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، أَوْ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ افْتَتَحَ بِالْبَقَرَةِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ; فَإِنَّ مِنْ عَادَتْهِ دَوَامَ مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَدْ قَالَ:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عَلَى خِلَافٍ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ أَوِ الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الرَّاوِي لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ رَكَعَ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا) أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ قِيَامِهِ) وَالْمُرَادُ أَنَّ رُكُوعَهُ كَانَ مُتَجَاوِزًا عَنِ الْمَعْهُودِ كَالْقِيَامِ، وَأَغْرَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ (مِنْ) هَذِهِ لِلْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ نَحْوًا أَيْ: مَثَلًا، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ

مِنْ قِيَامِهِ بَعْدَ الرُّكُوعِ (وَكَانَ يَقُولُ) قِيلَ هُوَ حِكَايَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِحْضَارًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَنَّ «كَانَ» يُحَوِّلُ «يَقُولُ» مِنْ مَعْنَى الْحَالِ إِلَى الْمُضِيِّ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الْمُشْعِرِ بِالْكَثْرَةِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ وَقَالَ:(سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ) بِفَتْحِ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ) كَرَّرَهُ لِإِفَادَةِ التَّكْثِيرِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَانَ قِيَامُهُ) أَيْ: بَعْدَ الرُّكُوعِ (نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِرَبِّيَ الْحَمْدُ) بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ (لِرَبِّيَ الْحَمْدُ) التَّكْرَارُ لِبَيَانِ الْإِكْثَارِ (ثُمَّ سَجَدَ فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ) أَيِ: اعْتِدَالِهِ مِنَ الرُّكُوعِ (وَكَانَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى) اخْتِيرَ التَّسْبِيحَاتُ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 76

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ اخْتَارَهُمَا بَعْدَ نُزُولِهِمَا، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الْعَظَمَةِ لِلرُّكُوعِ الْمُشِيرِ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ، وَالْأَعْلَى لِلْخَفْضِ الدَّالِ عَلَى كَمَالِ الْخُشُوعِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَانَ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقُولُ) أَيْ: فِي جُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ (رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي) وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي النَّوَافِلِ، وَقَوْلُهُ (حَتَّى) غَايَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: لَا يَزَالُ يُطَوِّلُ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ حَتَّى (قَرَأَ) فِيهِنَّ (الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ وَالْأَنْعَامَ. شُعْبَةُ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ الرُّوَاةِ هُوَ (الَّذِي شَكَّ فِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ أَوِ الْأَنْعَامِ، قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي رَكْعَةٍ لَكِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ هَلْ هُنَّ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ أُخَرَ؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي

لِئَلَّا يَلْزَمَ إِطَالَةُ الثَّانِيَةِ قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ، وَالْأَنْعَامَ شَكَّ شُعْبَةُ فَيُحْمَلُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ عَلَيْهَا بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قُلْتُ: رِوَايَتُهُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَتْ نَصًّا فِي الْمَعْدُودِ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ أَوْ سُؤَالٌ سَأَلَ اللَّهَ أَوْ تَعْوِيذٌ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ قَامَ نَحْوًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَائِدَةَ أَوِ الْأَنْعَامَ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى، أَوْ فِي ثَلَاثٍ أُخَرَ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةِ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ فَمَضَى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْنِ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ، الْحَدِيثَ. قُلْتُ: تَقْدِيمُ النِّسَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِرُّ مِنْ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْتِيبِ السُّوَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الْآيِ ; فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ قَالَ مِيرَكُ: فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صَرِيحَتَانِ فِي قِرَاءَةِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَأَظُنُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالصَّوَابُ ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ ثُمَّ رَكَعَ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ التِّرْمِذِيُّ قَوْلَهُ: فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَتَكُونُ صَلَاةُ حُذَيْفَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَتْ فِي لَيْلَتَيْنِ فِي إِحْدَاهُمَا قَرَأَ السُّوَرَ الثَّلَاثَ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي الْأُخْرَى قَرَأَ السُّوَرَ الْأَرْبَعَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ يُقَالُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَهْمًا وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ ; فَإِنَّ فِيهِمَا التَّفْصِيلُ وَالتَّبْيِينُ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِمَا، «فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ» حَتَّى قَالَ: «يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ» فَمَضَى إِلَى آخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ اتِّحَادُ الْمُخْرِجِ، وَهُوَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ لِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالِاضْطِرَابِ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ أَصْلًا انْتَهَى.

وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ لَكِنَّ رِوَايَةَ الشَّيْخَيْنِ: «فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ» إِلَى آخِرِهِ ظَاهِرُهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ الْكُلَّ فِي رَكْعَةٍ خَطَأٌ مِنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَمَّا أَوَّلًا، فَلِمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ:«فَافْتَتَحَ» إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ لَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ مَفْهُومَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ السُّوَرَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ فِي رَكْعَةٍ لَا أَنَّهُ قَرَأَ الْكُلَّ فِي رَكْعَةٍ.

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ) قِيلَ هَذَا مَجْهُولٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِ الرِّجَالِ، فَلَعَلَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ الْبَصْرِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ،

ص: 77

أَوْ عَلِيُّ بْنُ دُؤَادٍ بِضَمِّ الدَّالِ بَعْدَهُ وَاوٌ

بِهَمْزَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَقَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى أَصْبَحَ بِهَا يَقُومُ، وَبِهَا يَرْكَعُ وَبِهَا يَسْجُدُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: لِأَبِي ذَرٍّ أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ فَقَالَ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَوْلُهُ بِآيَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَامَ أَيْ: أَحَيَى بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ قِرَاءَتُهَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِهَا يَقُومُ وَبِهَا يَرْكَعُ، وَبِهَا يَسْجُدُ ; فَإِنْ قُلْتَ لَا يُلَائِمُهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، وَكَذَا مَا وَرَدَ فِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِلَّا أَنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ تَنْزِيهِيٌّ، أَوْ لَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى كَانَ يَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْآيَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَبْنَاهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْنَاهَا بِأَنْ يَقُولَ فِيهِمَا سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَا تُعَذِّبْنَا، وَارْحَمْ أُمَّتِي، وَلَا تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَاغْفِرْ لَهُمْ ; فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ احْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُهَا فِي قِيَامِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ الْعُلَمَاءُ، وَكَذَا احْتِمَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ بَلْ قَرَأَهَا خَارِجَهَا فَاسْتَمَرَّ يُكَرِّرُهَا إِلَى الْفَجْرِ، وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَامَ مِنْ قَامَ بِالْأَمْرِ أَخَذَهُ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ ; فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَبَعْضَهَا خَارِجُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا دَاوَمَ عَلَى تَكْرِيرِ مَبَانِيهَا، وَالتَّفْكِيرِ فِي كَثْرَةِ مَعَانِيهَا لِمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَشِيَتْهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَحَالَةِ تِلَاوَتِهَا مِنْ هَيْبَةِ مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ مَا أَوْجَبَ اشْتِعَالَ نَارِ خَوْفِ الْحِجَابِ، وَمِنْ حَلَاوَةِ مَا اخْتُتِمَتْ بِهِ مِنَ الْغُفْرَانِ مَا اقْتَضَى الطَّرَبَ وَالسُّرُورَ فِي الْجِنَانِ رَجَاءً لِغُرُفَاتِ الْجِنَانِ، وَلَذَّةِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِسْرَارِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ عَلَّلَهَا بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى عِظَمِ تَجَلِّيهِ بِوَصْفِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ تَجَلِّيهِ إِذْ لَمْ يَتَصَرَّفْ إِلَّا فِي مُلْكِهِ، وَلَمْ يَحْكُمْ إِلَّا فِي مُلْكِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ رَتَّبَ عَلَيْهَا صِفَةَ الْعِزَّةِ، وَالْحِكْمَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ بَاهِرَ تَجَلِّيهِ بِوَصْفِ التَّفَضُّلِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، الْمُقْتَرِنِ بِالْعِزَّةِ الدَّامِغَةِ وَالْحِكْمَةِ السَّابِغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: صَلَّيْتُ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ) بِالْإِضَافَةِ وَرُوِيَ بِقَطْعِهَا

عَلَى الصِّفَةِ،

ص: 78

وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا فَقِيلَ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ غَلَبَتْ فِي أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا مَا يُرَادُ ذَمُّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الْمَضْمُومَةُ فَجَارٍ مَجْرَى الشَّرِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْخَيْرِ وَقَدْ قُرِئَ قِرَاءَةً مُتَوَاتِرَةً بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِإِضَافَةِ أَمْرٍ إِلَى سَوْءٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ، وَجَوَّزَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ بِالصِّفَةِ، ثُمَّ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَالْمَعْنَى قَصَدْتُ أَمْرًا سَيِّئًا (قِيلَ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ) أَيْ: مُصَلِّيًا (وَأَدَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: أَتْرُكَهُ يُصَلِّي قَائِمًا أَوْ مَعْنَى «أَقْعُدُ» أَنْ لَا أُصَلِيَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفْعَ، وَأَتْرُكُهُ يُصَلِّي، وَكِلَاهُمَا أَمْرُ سُوءٍ فِي الْجُمْلَةِ لِظُهُورِ صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ.

وَأَمَّا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَهْمِ أَنَّ مُرَادَهُ إِبْطَالَ الصَّلَاةِ لِلْإِطَالَةِ، وَقُعُودَهُ لِلْمَلَالَةِ، فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ وَلِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَنَّ النَّفْلَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ فِعْلِ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ مِنْ وُصُولِ مَرَامِهِ.

قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: الْقُعُودُ جَائِزٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَمَا مَعْنَى السُّوءِ.

قُلْتُ: سُوءٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْأَدَبِ، وَصُورَةِ الْمُخَالَفَةِ قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ.

أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ هَمَّ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا لَا تَرْكِ الْقِيَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:«وَأَدَعَ النَّبِيَّ» وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَبِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوَهُ) أَيْ: إِسْنَادًا وَحَدِيثًا.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) أَيْ: مِنْ مَقْرُوئِهِ (قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ) أَيْ: مِقْدَارُ ثَلَاثِينَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْأَقَلِّ (أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْمِينِ تَحَرُّزًا عَنِ الْكَذِبِ أَوْ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيعِ ; بِأَنْ يَكُونَ تَارَةً إِذَا بَقِيَ ثَلَاثُونَ، وَتَارَةً إِذَا بَقِيَ أَرْبَعُونَ (قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ مُقَدَّمٌ فِي الْحُدُوثِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَمُقَارِنٌ لَهَا فِي الْبَقَاءِ (ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ

ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) قَالَ مِيرَكُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَنْ يَرْكَعَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا أَنْ يَرْكَعَ قَائِمًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَشْهَبَ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ

ص: 79

رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ; بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ النَّشَاطِ، وَعَدَمِهِ وَقَدْ أَنْكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ هُوَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا أَخْرَجَهُ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ: لَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَرَأَ بَعْضَهَا جَالِسًا، وَبَعْضَهَا قَائِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ) بِالتَّصْغِيرِ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَطَوُّعِهِ) أَيْ: كَيْفِيَّتِهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ; فَإِنَّ التَّطَوُّعَ تَنَفُّلٌ مِنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ الْتِزَامُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّعًا مِنَ النَّفْسِ (فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا) أَيْ: يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ صَلَاةً طَوِيلَةً حَالَ كَوْنِهِ (قَائِمًا) فَطَوِيلًا صِفَةُ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ، وَلَمَّا حَذَفَ الْمَوْصُوفَ حَذَفَ تَاءَ التَّأْنِيثِ عَنِ الصِّفَةِ (وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا) ثُمَّ مَنْ عُدِمَ الْفَهْمَ نَسَبَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى الْوَهْمِ، وَمَنْ جَعَلَ الطَّوِيلَ صِفَةَ اللَّيْلِ، وَأَرَادَ بَعْضَهُ أَيْ: زَمَنًا طَوِيلًا مِنَ اللَّيْلِ فَقَدْ أَبْعَدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يُصَلِّيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ بَعْضُهُ أَطْوَلُ، وَبَعْضُهُ طَوِيلٌ وَبَعْدَهُ قَصِيرٌ، فَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ أَصْلًا (فَإِذَا قَرَأَ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ (وَهُوَ قَائِمٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ فِي حَالِ الْقِيَامِ (رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ) أَيْ: مُنْتَقِلٌ إِلَيْهِمَا فِي حَالِ الْقِيَامِ (وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ جَالِسٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ جَالِسٌ)

مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَفِيهِ جَوَازُ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لَكِنَّ الْقَاعِدَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ إِلَّا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُصُوصِيَّةِ بِهِ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْمُطَّلِبِ

ص: 80

بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ (السَّهْمِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ) أَيْ: بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ عَنْهَا (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهَا أَيْضًا (قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ) بِضَمِّ سِينٍ، وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: فِي نَافِلَتِهِ (قَاعِدًا) وَسُمِّيَتِ النَّافِلَةُ سُبْحَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ النَّافِلَةُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي فِي الْفَرِيضَةِ نَافِلَةٌ فَقِيلَ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحَةٌ ; لِأَنَّهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ.

قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَوَّلِهِ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا الْحَدِيثَ (وَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ) أَيِ: الْقَصِيرَةِ كَالْأَنْفَالِ مَثَلًا (وَيُرَتِّلُهَا) أَيْ: بِتَبْيِينِ حُرُوفِهَا، وَحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَتَمْيِيزِ مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا وَبِالتَّأَنِّي فِي مَبَانِيهَا، وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا، وَقِيلَ التَّرْتِيلُ أَدَاءُ الْحُرُوفِ، وَمُحَافَظَةُ الْوُقُوفِ (حَتَّى تَكُونَ) أَيْ: تَصِيرَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّرْتِيلِ (أَطْوَلَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ طَوِيلَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ التَّرْتِيلِ كَالْأَعْرَافِ مَثَلًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ حَتَّى تَكُونَ أَيِ: السُّورَةُ الَّتِي يُرَتِّلُهَا أَطْوَلَ مِنْ سُورَةٍ هِيَ أَطْوَلُ مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ الْمُرَتَّلَةِ حَالَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَتَّلَةٍ.

(حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ) أَيْ: عُثْمَانَ (أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ) أَيْ: أَبَا سَلَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ) بِالرَّفْعِ، وَالْمُرَادُ بِصَلَاتِهِ نَافِلَتُهُ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (جَالِسٌ) فَكَانَ تَامَّةٌ. وَقَالَ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ: كَانَ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ خَبَرُهَا مَحْذُوفٌ مِثْلَ كَانَ ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا، أَوِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي خَبَرِ كَانَ وَجُمْلَةُ:«وَهُوَ جَالِسٌ» خَبَرُهَا، وَالرَّابِطَةُ مَحْذُوفَةٌ انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ

ص: 81

لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ هُنَا التَّبَعِيَّةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَلَّاهُمَا لَا التَّجْمِيعُ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ) يُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ لِلثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ وَلِسُنَّةِ الْمَغْرِبِ فَقَطْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: لَا تُجْزِئُ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا فِي الْمَسْجِدِ، قُلْتُ: وَيُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ) حَيْثُ فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ

يُصَلِّيَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ.

«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» .

اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا لَكِنْ بِزِيَادَةٍ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَدَا لَهُ الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ» .

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ) قِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: حَدَّثَنِي غَيْرُ حَفْصَةٍ، وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَظْهَرُ (الْفَجْرُ) أَيِ: الصُّبْحُ (وَيُنَادِي الْمُنَادِي) أَيْ: يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا سُنَّتُهُ (قَالَ أَيُّوبُ أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِنَافِعٍ ; لِأَنَّ أَيُّوبَ رَاوٍ عَنْهُ (قَالَ) أَيْ: نَافِعٌ بَعْدَ قَوْلِهِ رَكْعَتَيْنِ (خَفِيفَتَيْنِ) وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَيُسَنُّ تَخْفِيفُهُمَا وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي تَطْوِيلِهِمَا مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ عَلَى أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا لَمْ يُسَمَّ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: يُنْدَبُ تَطْوِيلُهُمَا وَلَوْ لِمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرُبَّمَا يُقَالُ أَنَّهُ جَمْعٌ حَسَنٌ لِيَحْصُلَ تَدَارُكُ مَا فَاتَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَانَ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا آيَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا أَيِ: اسْعَوْا إِلَيَّ مُسْلِمُونَ) آيَةَ آلِ عِمْرَانَ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَوْ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِيهِمَا سُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ وَصَحَّ: «نِعْمَ السُّورَتَانِ تَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» .

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَنَا أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ أَفْضَلُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِكُلِّ حَدِيثٍ، وَلَوْ مَرَّةً فَيُؤْتَى بِكُلِّ مَا وَرَدَ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي رَكْعَتَيْهِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلنَّوَوِيِّ فِي اسْتِحْبَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ

ص: 82

ظُلْمًا كَثِيرًا، وَظُلْمًا كَبِيرًا، فَهُوَ ظَاهِرُ الدَّفْعِ إِذَا الْوَارِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ لَا كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً، وَقَدْ رَوَى الْمُصَنِّفُ وَالنَّسَائِيُّ رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا - أَيْ: بِسُورَتِيِ الْإِخْلَاصِ - فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» ، وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ بِقِرَاءَتِهِ بَعْضَ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَيُوَافِقُهُ قِيَاسُ الْإِخْفَاءِ فِي سَائِرِ السُّنَنِ النَّهَارِيَّةِ، وَاللَّيْلِيَّةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا فَيُنَافِي رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يُصَلِّيهِمَا انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ أَنْ تُحَدِّثَهُ

حَفْصَةُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ رَمَقْتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» .

وَلِمُسْلِمٍ: «لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا» .

وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا وَاجَبَتَانِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الرَّوَاتِبِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتُسَنُّ هَذِهِ الضَّجْعَةُ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَفَرْضِهِ لِذَلِكَ وَلِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَدْبِهَا لِمَنْ بِالْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ نَدْبَهَا بِالْبَيْتِ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ وَجْهُ التَّخْصِيصِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِعْلُهُ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَقَوْلُ النَّخَعِيُّ: أَنَّهَا ضَجْعَةُ الشَّيْطَانِ، وَإِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهَا فَهُوَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ، قُلْتُ هَذَا مَحْمَلٌ بَعِيدٌ إِذْ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ صَاحِبُ السَّجَّادَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِمُتَابَعَتِهِ يُسْتَبْعَدُ عَدَمُ وُصُولِ فِعْلِهِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْكَارُ وَعَدُّ الْبِدْعَةِ وَالضَّجْعَةُ الْمَذْمُومَةُ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَوْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُتَهَجِّدِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ عَائِشَةَ.

لَمْ يَضْطَجِعْ صلى الله عليه وسلم لِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ لَيْلَتَهُ فَيَسْتَرِيحُ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مَجْهُولًا. فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّهُ وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا لَا مَعْلُومًا يَكُونُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ مَقْبُولًا، وَيُقَرِّبُهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوِ الْوَتْرِ كَانَ يَضْطَجِعُ، وَيُنَاسِبُهُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَتِهَا أَنَّهَا لِلرَّاحَةِ، وَالنَّشَاطِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ أَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فِي وُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ مَيْمُونِ) بِالصَّرْفِ (بْنِ مِهْرَانَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِي رَكَعَاتٍ) أَيْ: مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُمَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ) وَيُنْدَبُ الْوَصْلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْفَرْضِ لِخَبَرِ رَزِينٍ. «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ رُفِعَتْ صَلَاتُهُ فِي عِلِّيِّينَ» ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُمَا فِي الْمَسْجِدِ (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِرَكْعَتَيِ الْغَدْوَةِ) أَيِ: الْفَجْرِ (وَلَمْ أَكُنْ أَرَاهُمَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَمْ أُبْصِرْهُمَا (مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهِمَا (إِلَّا فِي الْبَيْتِ) وَقَدْ يُصَلِّي غَيْرَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْبَيْتِ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ

ص: 83

الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ

(قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ ثِنْتَيْنِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ رَكْعَتَيْنِ (وَبَعْدَ الْعَشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ ثِنْتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ ضَمْرَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (يَقُولُ سَأَلْنَا عَلِيًّا رضي الله عنه عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: عَنْ كَيْفِيَّةِ نَوَافِلِهِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فِيهِ، وَلَمَّا فَهِمَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْهَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لَا لِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهَا (قَالَ) أَيْ: عَاصِمٌ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (إِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ ذَلِكَ) أَيْ: بِحَسْبِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْغِيبِ السَّائِلِينَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ وَالْحَافِظُ عَنِ الْكَسَلِ. قَالَ أَيْ: عَاصِمٌ (قُلْنَا مَنْ أَطَاقَ مِنَّا ذَلِكَ صَلَّى) أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُطِقْ مِنَّا عَلِمَ ذَلِكَ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا) إِشَارَةٌ إِلَى جَانِبِ الشَّرْقِ (كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا) إِشَارَةٌ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ (عِنْدَ الْعَصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) وَهَذَا هُوَ صَلَاةُ الضُّحَى فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ (وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الظُّهْرِ صَلَّى أَرْبَعًا) قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَبْلَ الزَّوَالِ قَرِيبًا مِنْهُ وَتُسَمَّى صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حَيْثُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.

«صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» .

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا (وَيُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ) وَكُلٌّ مِنَ الْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ مُؤَكَّدَةٌ لِمَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، رَوَى الشَّيْخَانِ: كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَا إِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ، وَالثَّانِي فِيمَا إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا سُنَّةَ الظُّهْرِ فِي الْبَيْتِ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَظُنَّ أَنَّهُ سُنَّةُ الظُّهْرِ وَهَذَا أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يِصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: الْأَرْبَعُ كَانَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَالرَّكْعَتَانِ فِي قَلِيلِهَا قَالَ مِيرَكُ: وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ فَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا أَيْ: فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ الدَّاوُدِيُّ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَرْبَعًا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَفَ مَا رَأَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَيْنِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ مَا فِي الْمَسْجِدِ دُونَ مَا فِي بَيْتِهِ، وَاطَّلَعَتْ عَائِشَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا لَفْظَةُ «كَانَ» فَيَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهِيَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَقْضِيهِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ عُرْفًا (

ص: 84