الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون من بيان اتفاق القرآن والحديث، فهذا نافع في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح، ونافعٌ في إثبات ما دلَّ عليه القرآن والحديث من الأحكام الخبرية العلمية الاعتقادية والأحكام العملية الإرادية. ثم
الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال
، فالحديث يُقرِّر النصَّ ويَكشِف معناه كشفًا مفصَّلًا، ويُقرِّب المراد بالظاهر ويَدفع عنه الاحتمالاتِ، ويُفسِّر المجملَ ويُبيِّنه ويُوضِّحه، لتقوم حجةُ الله به، ولتبيينِ أن الرسول بيَّن ما أنزِل إليه من ربه، بيَّنَ معناه وحروفَه جميعًا، وأنه لم يترك البيان لا لمجملٍ ولا لظاهرٍ، ولم يُؤخِّره عن وقتِ الحاجة، بل قد بيَّن ذلك أحسنَ البيان وأجملَه.
وبهذا جَرتْ عادةُ أئمة السلف وأتباعهم المصنفين في الأبواب أن يذكروا الآيات والأحاديث المناسبة في هذه الأبواب وغيرها، كما فعلَ البخاري ومَن قبلَه ومَن بعدهم من سائر الأئمة، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على أحاديث النزول وصحة معانيها بما في القرآن من آيات المجيء والإتيان ونحو ذلك. وهل يُنكِر ذلك من له أدنى عقلٍ وإيمان؟
وأيُّما أحسنُ: الاستدلالُ على معاني الكتاب بما رواه الثقات الأثباتُ ورثةُ الأنيباءِ وخلفاءُ الرسلِ عن رسولِ الله المبلِّغِ عن الله المبيِّن لما أنزل الله عليه، وبما قاله الصحابة والتابعون وأئمة الهدى، وتأويلُ القرآن الذي هو تفسيره بهذه الطرق؟ أم يُؤخذ تفسيرُ القرآن وتأويلُه وبيانُ معانيه من أئمةِ الضلال وشيوخِ التجهُّم والاعتزال كالعلَّاف والنظَّام والمَرِيْسي ونحوهم؟ فإن هذه التفسيرات والتأويلات عنهم وعن أمثالهم، أو يُنقَل ذلك عن بعض أهلِ العربية الذي يتكلم فيه بنوعٍ من
الظن والهوى، وإن كان أئمة العربية وعلماؤها على خلافه.
وأيُّما أحسنُ: الاستشهاد على معاني القرآن بنفس ألفاظِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وألفاظ الصحابة والتابعين التي يُستفاد بها معنى الآيات على الخصوص وهو المطلوب، ويُعلَم بها اللغةُ التي نزل بها القرآنُ، وبها خاطبَ النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الصحيح الثابت؟ أو الاستشهاد على ذلك ببيتٍ من شعرٍ، كقوله
(1)
:
إن الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما
…
جُعِلَ اللسانُ على الفؤاد دليلَا
وكقوله
(2)
:
ثم استوى بِشْرٌ على العراقِ
…
من غيرِ سيفٍ ودمٍ مُهراقِ
وكقوله
(3)
:
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ
…
إلى الرحمن تنتظرُ الفلاحَا
وأمثال ذلك من الشعر الذي قد يقال فيه: إنه لم يُروَ بإسنادٍ صحيح عن قائله، بل كثيرٌ من أهل صنعة الشعر يُكذِّبه، ولو رُوِي بإسنادٍ فمن المعلوم أن أسانيدَ الحديثِ والآثارِ أكثر وأكبرُ، والعلماء بها أعلمُ
(1)
البيت للأخطل في ديوانه 560 من الأبيات المنسوبة له، وهو له في الموشَّى 9 والتمهيد للباقلاني 284 وألف باء 1/ 32 وشرح شذور الذهب 28. وبلا نسبة في البيان والتبيين 1/ 218.
(2)
الرجز بلا نسبة في لسان العرب (سوا) ورصف المباني 372. ونُسب للأخطل في تاج العروس (سوا)، وهو في ديوانه 557 من الأبيات المنسوبة له.
(3)
البيت لحسان بن ثابت في التمهيد 312 وتفسير الرازي 30/ 200، 202 ولا يوجد في ديوانه.
وأصدقُ، وهم أعدادٌ لا يُحصِيهم إلَّا الله.
فإذا لم يَجُزْ تفسيرُ القرآن وتأويلُه بالألفاظ والمعاني التي هي بينَ
(1)
محفوظةٍ منقولةٍ من إمامٍ إلى إمام ومن عددٍ إلى عددٍ، أفيجوزُ أن يُرجَعَ في معاني القرآن إلى بيتٍ من الشعر أو كلمةٍ من الغريب أحسنُ أحوالِها أن يَرويَها واحدٌ عدلٌ عن بعض الشعراء؟! وإذا كانت الأخبارُ لا تُفيد علمًا فجميعُ ما يذكرونه من اللغة الغربية والشعر المنقولة بمثل ذلك دونه، ولم نعلم أنه قاله عربي، بل يجوز أن يكون كذبًا، فإذا حملنا عليه كلام الله فقد قلنا على الله ما لا نعلم.
وهذا معلومٌ بالضرورة والاتفاق من المثبتةِ والنافيةِ أن اللغة المستفادة من الشعر والغريب الذي يعلمه الآحاد دُونَ ما يُستفاد من نَقْلِ أهلِ الحديث، فإذًا لا يُفيد العلم بأن العربيَّ قالَه، ولو عَلِمْنا أن العربي قالَه لم يكن عِلْمنا بمرادِ العربي منه إلَّا دون عِلْمِنا بمرادِ الرسول والصحابة والتابعين من ألفاظهم. فإذا كان هذا دونَ الحديث في النقل والدلالة لم يكن حملُ معاني القرآنِ عليه بأولى من حَمْلِها على معنى الحديث والآثار، بل تلك أولى من وجوهٍ كثيرة، بل لا يجوز أن يقال: هذا معنى الآية لمجرد إسناد الشعر والغريب ودلالة ذلك، إذ هما لا يُفِيدانِ العلمَ به، فيكون تفسير القرآن بهذه الطريق قولًا على الله بلا علم.
وإذا لم يكن هذا معلومًا، وغيرُه ليسَ معلومًا، بطلتْ دلالةُ الكتابِ والسنة، وسقطَ الاستدلالُ به وفهمُ معانيه، والله أمرَنا بتدبُّرِه وعَقْلِه، فإذا لم يكن لنا طريقٌ إلى العلم بمعناه، لا من جهة نَقْلِ الشعر والغريب، ولا
(1)
كذا في الأصل. ولعلها "سننٌ" أو "بَيِّنةٌ".
من جهة نقل الحديث والآثار، بطلَ العلم بمعناه، فلا يَصِحُّ الأمرُ بتدبُّرِه وعَقْلِه، وهذا خلاف القرآن.
ثم لو ثبتَ النقلُ عن العربي الشاعر أو الناثر، وعُلِمَ أنه أراد معنًى بذلك اللفظ، لكان ذلك لغةً له قد أرادها باللفظ، فلم يكن إثباتُ اللغة بمجردِ هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول في الحديث والآثار، ولا أولى من استعمال القرآن الموجود في نظائر ذلك اللفظ، فإن اللفظ في القرآن يكون له نظائر، ولهذا صنَّفَ العلماءُ كتب الوجوه والنظائر
(1)
، ويُروى ذلك عن السلف. فالوجوه: الألفاظ المشتركة، والنظائر: الألفاظ المتواطئة، الأول فيما اتفق لفظُه واختلفَ معناه، والثاني فيما اتفق لفظُه ومعناه. فحَمْلُ معاني كلام الله على ما يُوجَد من اللغة في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا يتخاطبون بلُغتِه، والتابعين الذين أخذوا عنهم تلك اللغة = أولى من حَمْلِ معانيه على ما يُوجَد من اللغة في كلامِ بعض الشعراء والأعراب، فإن كل احتمالٍ يتطرَّق إلى فهم كلامِ هؤلاء يتطرق إلى فهم كلام أولئك لما يقولونه من النظم والنثر، فان المستمع لكلامهم يتطرق إلى فهمه لمعانيهم أكثر مما يتطرق إلى المستمع لكلام الرسول والصحابة والتابعين، فما يُذكر من احتمال مجاز أو اشتراك ونحو ذلك فتطرقه إلى كلامهم أكثر.
وهذا كله بطريق التنزل والتقرب إلى المنازع، وإلّا فالأمر أجلُّ مما ذكر، وذلك من طريقين: أحدهما بيان استقامة هذه الطريق، والثاني بيان أنه لا طريق يقوم مقامها، فيتعين.
(1)
من أشهرها: مؤلفات مقاتل بن سليمان والدامغاني وابن الجوزي.
فأما الأول فمن وجوهٍ:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه القرآنَ لفظَه ومعناه جميعًا، فإن البيان لا يحصل بدون هذا، وقد قال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 4]، وقال:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 138]. ولو خاطبهم بلفظٍ لم يفهموا معناه لم يكن ذلك بيانًا. وقد امتنَّ عليهم في غير موضع بكونه أرسله بلسان عربي وأنه يسَّره
(1)
عليهم بذلك، فقال:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/ 2]، فهل يعقلونه إذا لم يعرفوا اللفظ؟ وكذلك:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان/ 58]، فكيف يتذكر من لا يفهم الكلام؟ قال:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت/ 44] أي أقرآن أعجمي ونبي عربي أو مخاطب عربي! فدلَّ على أنه فصَّل آياتِه، والتفصيل التبيينُ المنافي للإجمال، فلو كانت آياتُه مجملةً لم يُفهم معناها لم تكن آياتُه قد فُصِّلت، والتفصيل إنما يكون للبيان والتمييز الذي يزول معه الاشتباه والاشتراك والإجمال المنافي لفهم المراد بالخطاب، وإن كان المعنى المفهوم قد يحصل بينه وبين معنى آخر مشابهةٌ ومشاركةٌ تمنع إدراك حقيقته التي لا تُفهم بمجرد اللفظ. وقد قال الله تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت/ 18]، وإذا كان المخاطبون لم يفهموا معنى كلامه لم يكن قد بلَّغَهم بلاغًا مبينًا، ومن قال ذلك فلم يشهد له بالبلاغ.
وهذا حال هؤلاء الذين يزعمون أنه لم يُعرَف من جهتِه معاني القرآن، فإنهم يقولون: لم يُبيِّن ولم يُبلِّغ، وإن كانوا يقولون ما يستلزم
(1)
في الأصل: "انسرح".