المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته - جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال

- ‌ الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه

- ‌ الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب

- ‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

- ‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

- ‌ جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب

- ‌القسم الثالث: خبر الواحد العدل

- ‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

- ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

- ‌ كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه

- ‌ الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين:

- ‌ التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن

- ‌نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا

- ‌الجواب من وجوهٍ:

- ‌ الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له

- ‌ السابع(2): أن نقله عن ابن عباس "إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر" لا يدلُّ على مورد النزاع

- ‌جوابُه من وجوه:

- ‌الأمثال المضروبة في القرآن

- ‌ النكرة في سياق النفي تَعُمُّ

- ‌ إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم

- ‌ الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم

- ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

الفصل: ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

"

ص: 155

بسم الله الرحمن الرحيم

(من الأسوِلَةِ المصرية على الفُتْيا الحمويَّة، والرَّدِّ على صاحب الأسْوِلةِ، وهو القاضي السَّرُوْجِيُّ) قال في الأسولة: وأمَّا كيف يُعمَل بقوله: خلق آدم على صُورتِه، وعلى صُورةِ الرحمن؟

قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالجوابُ أنه يُعمَل فيه ما عَمِلَه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وتابعو التابعين، وأئمة المسلمين، فإن هذا الحديث هو في الصحاح من غير وجهٍ، أَعني (على صورته)، واللفظة الثانية مرويةٌ عن ابن عمر موقوفًا ومرفوعًا

(1)

، ومثله عن ابن عباس

(2)

وغيره من السلف، وهو مرويٌّ بألفاظٍ متنوعةٍ، ومثله موجود

(1)

الحديث بلفظ (على صورة الرحمن) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 229) وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 268) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85) والآجري في الشريعة (725) والدارقطني في الصفات ص 64 والحاكم في المستدرك (2/ 319) من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر مرفوعًا. وأعله ابن خزيمة بثلاث علل، وناقشه شيخ الإسلام ونقل صحة الحديث عن إسحاق بن راهويه وأحمد وغيرهما، وقال: أدنى أحوال هذا اللفظ أن يكون حسنًا. انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 398 وما بعدها). وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 86، 87) من طريق سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء مرسلًا، وإسناده صحيح. وانظر فتح الباري (5/ 183).

(2)

أورده أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/ 97) نقلًا عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي في كتاب العظمة بإسناده عن ابن عباس - فيما يذكره عن الله تعالى -: "تعمد إلى عبيد من عبيدي خلقتُهم على مثل صورتي. فتقول: اشربوا يا حمير". وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (349) وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 150، وليس عندهما لفظ الصورة. وانظر بيان=

ص: 157

فيما عند أهل الكتب من الكُتُب المأثورة عندهم عن الأنبياء في التوراة وغيرها.

فأما السلف فلم يكن فيهم من تأوَّله، لكن في علماء السنة أهل الحديث الأكابِرِ من تأوَّلَه، كما سنذكره، ولكن كان في السلف من يترك روايته؛ فإن مالكًا رحمةُ الله عليه رُوي عنه أنه لما بلغه أن محمد بن عجلان حدَّث به كره ذلك، وقال: إنَّما هو صاحبُ أُمراءَ

(1)

. والمقتصدون يقولون

(2)

: إنما كره مالكٌ ذلك لأنَّ العلم الذي قد يكون فتنةً للمستمع لا ينبغي للعالم أن يُحدِّثَه به؛ لأنَّهُ مَضرةٌ بل فتنة، وأن يكون بلَّغه لمن لا يفتتن به؛ لوجوب تبليغ العلم، ولئلا يُكْتَم ما أنزل الله من البينات والهدى.

وهذا كما قال عبد الله بن مسعود: ما من رجلٍ يُحدِّث قومًا حديثًا لا تَبلُغه عقولهم، إلا كان فتنةً لبعضهم

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم

(4)

: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، ودَعُوا ما يُنكرون؛

= تلبيس الجهمية (6/ 448).

(1)

في ترتيب المدارك (2/ 44) قال مالك في ابن عجلان: لم يكن من الفقهاء.

وفي رواية ابن القاسم وابن وهب عنه: إنه كان لا يعرف هذه الأشياء، وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم، فينكروه أو يضعوه في غير موضعه. وانظر سير أعلام النبلاء (6/ 320) وميزان الاعتدال (3/ 644، 645).

(2)

في الأصل: "يقول".

(3)

أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11) بنحوه.

(4)

كذا في الأصل "صلى الله عليه وسلم" ولعله سبق قلم من الناسخ. وهو موقوف على علي بن أبي طالب، أخرجه البخاري (127). وقد عزاه المؤلف إلى علي =

ص: 158

أتُحِبُّون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه؟ ! ".

ولذلك كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة إذا خَشُوا فتنةَ بعض المستمعين بسماع الحديث لم يُحدِّثُوه به، وهذا الأدب مما لا يتنازع فيه العلماء؛ فإن كثيرًا من العلم يَضُرُّ أكثرَ الخلق، ولا ينتفعون به، فمُخاطبتُهُم به مَضرَّةٌ بلا منفعةٍ.

وقد سأل رجلٌ ابنَ عباس عن تفسير قوله [تعالى]: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق/ 12] فلم يُجبهُ، وقال: ما يمنعك أنِّيْ لو أخبرتُك بتفسيرِها لكفرتَ؟ وكفرُك بها تكذِيبُك بها

(1)

.

وسأله رجل عن قوله [تعالى]: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج/ 4]، فقال: يوم من أيَّام الرب، أخبر الله به، الله أعلمُ به

(2)

.

وسأل بعضهم زرَّ بن حُبيشٍ عن حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، وله سِتُّمئة جناحٍ، فلم يُحدِّثْهُ

(3)

.

ومن المعلوم أنَّ فيما

(4)

رُوِيَ [في] هذا الحديث ما قد يَفْتِنُ بعضَ الناس؛ إمَّا بتكذيبٍ لحق، وإما بتصديقٍ بباطل فيعتقد اعتقادًا فاسدًا،

= في بيان تلبيس الجهمية (1/ 362، 6/ 374، 8/ 329).

(1)

انظر تفسير الطبري (23/ 78) والدر المنثور (14/ 563، 565).

(2)

انظر الدر المنثور (14/ 695).

(3)

أخرجه البخاري (3232، 4856، 4857) ومسلم (174). وليس فيهما أنّ زِرًّا لم يُحدِّثه. وقد ذكر المؤلف نحو ما هنا في بيان تلبيس الجهمية (1/ 363).

(4)

في الأصل: "إنما".

ص: 159

أو يرُدُّ اعتقادًا صحيحًا، أو يُوقعُ تباغُضًا وتعاديًا، وغير ذلك من الأمور المُحرَّمة المتعلقة بالأمور الخبريَّة، وبالأفعال الأمريَّة.

وقولُ مالكٍ رحمه الله في ابن عجلان: هو صاحبُ أُمراءَ؛ كأنَّه - والله أعْلمُ - يُريدُ بذلك أن [جُلَساءَ]

(1)

الملوك لا يضعون العلم مواضعه، وإنما يقولون ما عنده مُطلقًا؛ لطلب التقرب إلى الملوك أو لغير ذلك، من غير تمييزٍ بين ما ينتفع به الملوك وما لا ينتفعون به.

وهذا الحديث فيه ما يجب تبليغُه للملوك؛ من نهي النبي صلى الله عليه وسلم [عنْ] ضَرْبِ الوجهِ، ولذلك روى مالكٌ هذا المعنى عن ابن عجلان نفسه، كما سنذْكُرُهُ إنْ شاء الله، ورواهُ البُخارِيُّ في صحيحه

(2)

، لكنَّه كَنى عنهُ في هذا الموضع؛ لئلا يُعابَ عليه صُورةُ التناقُض في كونه يَكره له روايتَه، ثُمَّ يرويه هو عنه.

وأنكر بعضُ الناس على مالكٍ إنكارَه لروايته، وقال: كيف يُنكِرُ

(1)

زيادة ليستقيم المعنى.

(2)

برقم (2559)، وإسناده: "حدثني محمد بن عبيد الله، حدثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، قال: وأخبرني ابن فلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة

". يقصد المؤلف أن مالكًا روى الحديث عن ابن عجلان المذكور، ولكن البخاري كنى عن اسمه بقوله "ابن فلان". وهذا يستقيم إذا كان قائل "وأخبرني ابن فلان" هو مالك بن أنس، وكان المراد بابن فلان هو ابن عجلان. والذي جزم به المزي وابن حجر وغيرهما أن القائل هو عبد الله بن وهب، والمراد بابن فلان: ابن سمعان، يعني عبد الله بن زياد بن سمعان المدني. وابن وهب سمع الحديث من لفظ مالك وبالقراءة على ابن سمعان، وكان ابن وهب حريصًا على تمييز ذلك. انظر تحفة الأشراف والنكت الظراف (10/ 306) وفتح الباري (5/ 182).

ص: 160

تبليغَ حديثٍ صحيحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكر الكلام بالرأي المخالف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقَرَنوا هذا بما يُذكَرُ عن رَبيعَةَ وأبي

(1)

ونحوهما من أهل رأي المدينة؛ أنهم كانوا ينكرون على ابن شهابٍ وأبي الزِّناد الأحاديثَ الصحيحةَ، وهما أوَّلُ من أحدثَ [في مدينة]

(2)

النبيِّ صلى الله عليه وسلم الحدَثَ بالقول بالرأي في الدين، وقد عُلِمَ ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيمن أحدثَ في مدينته صلى الله عليه وسلم حدثًا

(3)

.

وضمُّوه إلى ما قاله ابنُ أبي ذِئْبٍ في ذلك لحديث "البَيِّعَين بالخَيارِ"

(4)

، وذكروا أشياء لا أُحِبُّ ذكرها؛ لأن المتكلِّم بها عظيمٌ، والمتكلَّم به عظيم، وهم أئمة مجتهدون، فالكلام في ذلك يُشبِه الكلام فيما وقع بين الصحابة؛ إذ المعنى المقتضي لذلك يَعمُّ الصحابةَ وسائرَ طبقات الأمة

(5)

؛ إذْ كُلُّ طبقةٍ مُتأخِّرة ينبغي أن تستعمل من الطبقة المتقدمة معنى هذه الآية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر/ 10].

(1)

هنا كلمة غير واضحة في الأصل.

(2)

زيادة على الأصل.

(3)

أخرج البخاري (6755 ومواضع أخرى) ومسلم (1370) عن علي بن أبي طالب مرفوعًا: "من أحدثَ فيها حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

(4)

أخرجه البخاري (2111) ومسلم (1531) عن عبد الله بن عمر، وفي الباب عن غيره من الصحابة. وكان ابن أبي ذئب يُنكر على مالكٍ اختياره ترك العمل به، حتى جرى منه لذلك في مالكٍ قولٌ خشنٌ حمله عليه الغضب. انظر التمهيد (17/ 197 ضمن موسوعة شروح الموطأ).

(5)

في الأصل: "الأئمة".

ص: 161

ومعلومٌ أن كلام العلماء بعضهم في بعضٍ - بالاجتهاد تارةً، وبنوع من غيره أخرى - يُشبِه ما وقع بين بعض الصحابة وبعضٍ من القال والفعال.

فالمؤمن يجمع بين القيام بحق الله، بمعرفة دينه والعمل به، وحقوق المؤمنين متقدميهم ومتأخِّريهم؛ بالاستغفار وسلامة القلوب، فإنه من كان له في الأمة لسانُ صدقٍ - بل ومن هو دونه - إذا صدر منه ما يكون مُنكرًا في الشرع

(1)

، فإما أن يكون مجتهدًا فيه، يَغفِر الله له خطأه، وإما أن يكون مغمورًا بحسناته، وإما أن يكون قد تاب منه. بل من هو من دون هؤلاء إذا فعل سيئةً عظيمةً فالله يَغفرِها له؛ إما بتوبةٍ، وإما باستغفاره، وإما بحسناته الماحية، وإما بالدُّعاء له، والشفاعة فيه، والعمل الصالح المُهدَى إليه، وإما أن يُكفِّر عنه بمصائب الدنيا، أو البرزخ، أو عَرَصات القيامة، أو برحمة الله تعالى، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يتوقَّى القولَ السيئَ في أعيان المؤمنين المتقين، ويُؤَدِّي الواجبَ في دين الله، والقولَ الصدق، واتباع ما أمَر الله به، واجْتنابَ ما نَهى الله عنهُ.

وكما أنَّ هذا الواجبُ في المسائل العملية، فكذلك في هذه المسائل الخبرية، لا سيما فيما يَغمُض معناهُ، ويَشتبه على عموم الناس الحقُّ فيه بالباطل، فهذا المسلك يجب اتِّباعه، إذْ قلَّ عظيمٌ في الأمة إلا وله زلَّةٌ، وقد جاء في الحديث التحذيرُ من زلَّةِ العلماء

(2)

.

(1)

في الأصل: "ما يكونون منكرين للشرع".

(2)

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (10/ 211) عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده مرفوعًا: "اتقوا زلَّة العالم وانتظروا فيئتَه". وكثير هذا ضعيف جدًّا، قال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. لكن جاءت آثار كثيرة عن =

ص: 162

وهذه المسألة التي نحن فيها لا بدَّ فيها [من ذلك]، إمَّا من جانب النفي والنهي، وإما من جانب الإثبات؛ فالمُثْبِتَةُ تجدُ في النُّفاة من هو عظيمٌ عندها، والنُّفاةُ تجدُ في المُثْبِتَةِ من هو عظيمٌ عندها، فلا بُدَّ من رعاية حق الله بالواجب في الإثبات أو النفي، والأمر والنهي، وحقِّ عبادِهِ المؤمنين، بما لهم من إيصال حقوقهم إليهم، من المحبَّة والموالاة وتوابع ذلك، واجتناب البغي والعُدوان عليهم.

وقد حَملتْ طائفةٌ ثالثةٌ نهيَ مالك لرواية هذا الحديث على العموم، وقد رُوِي عنهم أنَّه كَرِه رواية أحاديثَ في هذا الباب، فجعلوا هذا قُدوةً في المنع من رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة

(1)

عنه، ثمَّ يُنزِلون ذلك على رأيهم، فمنهم من يجعل ذلك عامًّا في رواية جميع أحاديث الصفات، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ونحوهم من الجهميَّة، من النهي عن رواية هذه الأحاديث والتكذيب بها، كما يفعلون ذلك في مُكْنتِهم، كما فعلوه في إمارة أبي إسحاق

(2)

ونحوه، ومنهم من يَخُصُّ ذلك ببعضها.

وفي الجملة فالكلام في حق رواية الأحاديث وقُبح ذلك فيه تفصيلٌ ليس هذا موضعه، والذين قَبِلوا

(3)

هذا قد يوافقونهم على أنَّ هذا كان مقصودَ مالك؛ لكون ذلك سببًا للقدح فيه، ولنظرائه وأصحابه من أئمة الفقهاء فيه من الكلام، فلا أُحبُّ ذكره هنا.

= السلف في التحذير من زلّات العلماء تُراجع في مواضعها.

(1)

في الأصل: "إنما عنه"!

(2)

يعني المعتصم العباسي.

(3)

في الأصل: "قبل".

ص: 163

وأمَّا أهل الاقتصاد العارفون بقدر مالكٍ، فيقولون: هو كان أعلمَ وأبينَ من أن ينهى عن رواية الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيًا عامًّا، فإنَّ هذا أمرٌ بكتمان ما أمر الله بتبليغه، ومخالفةٌ لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التَّبليغ، حيثُ دعا لصاحبه بالنَّضْرَة في مقالتها وتأديتها عنه

(1)

.

قالوا: والنهي إنما يكون لسببٍ خاصٍّ كضعف حفظ المحدِّث، أو لدينه، أو اشتغال المحدِّث به عمّا أُوجِب عليه، ونحو ذلك، كما كان عمرُ ينهى عن الحديث الذي لم يَضبِطه صاحبه، وينهى أن يشتغل الناس عما يؤمرون به في القرآن بما لم يجب عليهم من الحديث، ونحو ذلك.

فهذا الكلام فيما نُقِل عن مالك في هذا، وأما بقية السلف الذين كانوا قبله وبعده ونظراءه فقد رووه كلَّه وبلَّغوه، وحملهُ أكابر العلماء بعضُهم عن بعضٍ.

منهم: اللَّيثُ بنُ سَعْدٍ نَظيرُ مالك، قال الشافعيُّ: كان أفقه منه، رواهُ عن محمد بن عجلان، عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقولنَّ أحدكم لأحدٍ: قبَّح الله وجهَك، ووجهًا أشبهَ وجهَك، فإنَّ الله خلق آدم على صورته". وقال: "إذا ضرب أحدُكم فليجتنبِ الوجهَ، فإن الله خلقَ آدمَ على صورته". ورواهُ عن الليث ابنهُ شعيبٌ المشهور، وعن شعيبٍ الرَّبيعُ بن سليمان صاحب الشافعيِّ، وعن

(1)

في الحديث المشهور: "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه .. ". أخرجه أحمد (1/ 436) والترمذي (2657، 2658) وابن ماجة (232) من حديث ابن مسعود. وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأنس بن مالك وغيرهم. وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب مفرد وهو مطبوع.

ص: 164

الربيعِ الإمام محمد بن إسحاق بن خُزيمة

(1)

.

ورواه أيضًا عن ابن عجلان: يحيى بنُ سعيد القَطَّانُ

(2)

، إمامُ أهل الحديث مُطْلقًا في المعرفة والإتقان، ورواهُ عنهُ العلماءُ المشاهير. وكان ابنُ عجلان يرويه عن أبيه [وسعيد]

(3)

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ضربَ أحدُكم فليجتنبِ الوجهَ"

(4)

، لم يزد على ذلك، لم يُفرِّق بين روايته عن المقبري وعن أبيه. وقد أخرج أصله البخاري في صحيحه

(5)

من حديث مالك عن ابن عجلان، ولم يُسمِّه.

ورواه معمرٌ نظيرُ مالك عن همام عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدمَ على صورته؛ طوله سُتُّون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهبْ فَسَلِّمْ على أولئك النفر، وهم نفرٌ من الملائكة جلوسٌ، فاستمِعْ ما يُحيُّونك؛ فإنها تحيتُك وتحيَّةُ ذُرِّيتك. قال: فذهب، فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله، قال: فزادُوهُ (ورحمة الله). قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم؛ طوله ستون ذراعًا، فلم يَزلِ الخلقُ ينقصُ حتى الآن". أخرجاهُ في الصحيحين من هذا الوجه

(6)

.

(1)

أخرجه في كتاب التوحيد (1/ 81، 82) بهذا الطريق.

(2)

ومن طريقه أخرجه أحمد (2/ 251، 434).

(3)

زيادة لما سيأتي من الكلام. وسعيد هو المقبري.

(4)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (174) بهذا الطريق.

(5)

برقم (2559). وقد سبق الكلام فيما يتعلق بإسناده، وهل فيه رواية مالك عن ابن عجلان أم لا.

(6)

البخاري (6227) ومسلم (2841).

ص: 165

ورواه مسلمٌ

(1)

من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتلَ أحدُكم أخاه فليجتنب الوجهَ؛ فإن الله خلق آدم على صورته".

ورواه عبد الرحمن بن مهديٍّ الإمام المشهور، عن سفيان الثوري الإمامِ الكبيرِ عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ عن عطاءِ بن أبي رباح

(2)

.

ورواه الأعمش عن حبيبٍ، وأسنده عن [عطاء عن]

(3)

ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُقبِّحِ الوجهَ؛ فإن ابنَ آدم خُلِق على صورة الرحمن"

(4)

.

وحدث به أيضًا سفيانُ بنُ عيينة الإمام

(5)

، وذكر الإمام أحمد

(6)

لما حدث به جعل عبد الله بن الزبير الحميدي الإمام صاحبُ الشافعي يقول: هذا الحقُّ، وهذا، وهذا، وابن عُيينة ساكتٌ لا يرُدُّ عليه.

ورواه الخلَّال في كتاب السنة

(7)

عن المرُّوْذيِّ، قلتُ لأبي عبد الله: كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم على صورته"؟ قال:

(1)

برقم (2612/ 115).

(2)

مرسلًا، أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 86، 87). وإسناده صحيح.

(3)

زيادة من مصادر التخريج.

(4)

سبق تخريجه في أول الفصل.

(5)

أخرجه الحميدي في مسنده (1120) والبخاري في الأدب المفرد (172) من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة.

(6)

كما رواه الخلال عن المروذي عنه، وسيأتي.

(7)

لا يوجد في المطبوع منه. ونقله المؤلف في بيان تلبيس الجهمية (6/ 415) وذكره أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/ 90، 94) مختصرًا.

ص: 166

الأعمش يقول عن حبيب بن أبي ثابتٍ، [عن عطاء]

(1)

عن ابن عمر: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن". وأما الثوري فأوقفه، يعني حديث ابن عمر. قال: وقد روى أبو الزّنادِ عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "على صورته"

(2)

، فنقول كما جاء في الحديث.

قال

(3)

: وسمعتُ أبا عبد الله يقول: لقد حضرتُ الحميديَّ بحضرة سُفيان بن عيينة، فذكر هذا الحديث:"خلق آدم على صورته"، فقال: من لا يقولُ بهذا فهو كذا وكذا، يعني من الشَّتم، وسفيانُ ساكتٌ، لا يرُدُّ عليه شيئًا.

وقدْ ذكر هذه القصةَ صالحٌ عن أبيه في (كتاب السُّنة) أيضًا، وذكر حديث الحميدي وابن عيينة.

قال المرُّوذي

(4)

: سمعت أبا عبد الله - قيل له: أيُّ شيء أُنكِرَ على بِشْر بن السَّرِيّ؟ وأيُّ شيءٍ كانتْ قصتُه بمكة؟ قال: تكلم بشيء من كلام الجهميَّة، فقال: إنَّ قومًا يَحُدُّون. قيل: التشبيه؟ فأومأ برأسه: نعم، قال: فقام به مؤمل حتى خَنَسَ، فتكلم ابن عيينة في أمره حتى أُخرج، قال: إنه صاحب كلام.

وليس الغرض تعديدَ طرقه، وإنما الغرض الأصلي أن الأئمة المتفق

(1)

زيادة من المصادر السابقة.

(2)

أخرجه مسلم (2612) وأحمد (2/ 244، 449) والحميدي في مسنده (1121) بهذا الطريق.

(3)

أي المرُّوذي. ونقل المؤلف هذا النص في بيان تلبيس الجهمية (6/ 415 - 416).

(4)

نقل عنه المؤلف في المصدر السابق (6/ 417).

ص: 167

على إمامتهم في الأمة

(1)

ما زالوا يروونه ولا ينكرونه، ولا يتأولونه، على المحفوظِ عنهم في

(2)

ذلك، وأول من بلغنا أنه تأوَّله ممن هو من العلماء المعروفين: أبو ثور، فلما تأوله أنكر ذلك عليه الإمام أحمد وغيره، وقصته في ذلك معروفة، ذكرها المرُّوذي في (كتاب القصص)، وذكرها الخلَّالُ وغيره، وذكرها أبو طالب المكيُّ في كتابه المسمى بـ (قُوْتِ القلوب)

(3)

وقد ذكر [ها] غير واحدٍ؛ كالقاضي أبي يعلى في كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات)

(4)

.

وكذلك تأوله الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزيمة، وجعل الضمير عائدًا على المضروب، وعلَّلَ رواية (الرحمن) وتأوَّلها - بتقدير صحَّتها - على أن الإضافة إلى الله إضافة خلق؛ لأنَّ الله خلقه تشريفًا وتكريمًا

(5)

. وقد قيل: إن أبا الشيخ الأصفهاني أيضًا ممَّنْ تأوَّله

(6)

. فهؤلاء الثلاثة من المشهورين بالسُّنة، لكن جماهيرهم أنكروا ذلك.

قال المحافظ أبو موسى المدينيُّ في (مناقب الإمام إسماعيل بن محمد التيمي قِوامِ السنة)

(7)

: سمعتُه يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن

(1)

في الأصل: "الإمامة".

(2)

في الأصل: "ضد" تحريف.

(3)

(1/ 168). وانظر إحياء علوم الدين (2/ 168) وطبقات الحنابلة (1/ 212) وسير أعلام النبلاء (11/ 289).

(4)

(1/ 90).

(5)

انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 81) وما بعدها.

(6)

ذكره المؤلف ممن تأوَّل هذا الحديث في بيان تلبيس الجهمية (6/ 377)، ولذلك أنكر عليهم أئمة السنة.

(7)

نقل المؤلف هذا النصَّ عنه في بيان تلبيس الجهمية (6/ 409 - 411).

ص: 168

خزيمة في حديث الصورة، ولا نطعن عليه بذلك، بل لا يُؤخذُ عنه هذا فحسبُ.

وقال الشيخ أبو الحسن بن الكَرَجي، أحدُ الأئمة الكبار من أصحاب الشافعي، في كتاب (الفصول من الأصول عن الأئمة الفُحول)

(1)

: فإن قيل: قد منعتم التأويل، وعددتموه من الأباطيل، فما قولكم في تأويل السلف؟ وما وجهُ نحوٍ مما يُروى عن ابن عباس في معنى {اسْتَوَى}: استقر؟

(2)

وما رويتم عن سفيان في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد/ 4]، قال: بعلمه

(3)

.

فقال في الجواب: إن كان السلف صحابيًّا، فتأويله مقبول. وقَرَّرَ ذلك.

قال: فإن صح عن ابن عباس هذا وضعنا له الحدَّ، وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء، وقلنا: إنه ليس باستقرار يتعقَّبُ

(4)

تبعًا واضطرابًا، بل كيف شاء وكما شاء.

فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا، فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقلة الحديث والسنة، ووافقهُ الثقاتُ الأثباتُ، تابعناهُ ووافقناهُ، فإنه إن لم يكن إجماعًا حقيقةً، ففيه مُشابِه الإجماع؛ إذْ هو سبيلُ المؤمنين،

(1)

نقل المؤلف النصَّ الآتي عنه في بيان تلبيس الجهمية (6/ 401) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (4/ 181 - 182).

(2)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 401) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 72) وغيرهما.

(3)

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 155).

(4)

في الأصل: "يتصف". والتصويب من بيان تلبيس الجهمية (6/ 403).

ص: 169

وتوافقُ المتقين، الذين لا يجتمعون على ضلالة، ولأنَّ الأئمة

(1)

لو [لم] يعلموا

(2)

أنّ ذلك عن الرسول والصحابة [لم] يتابعوه.

فأمَّا تأويلُ من لم يتابعه عليه الأئمة فغيرُ مقبولٍ، وإن صدر ذلك التأويل من إمامٍ معروفٍ غير مجهول؛ نحو ما يُنسَب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة تأويلُ حديث "خلق آدم على صورته"، فإنه تفرَّد بذلك التأويل، ولم يُتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، كما روينا عن أحمد رضي الله عنه، ولم يُتابعه أيضًا من بعده، حتى رأيتُ في كتاب (الفقهاء) للعبادي الفقيه أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كُلِّ واحدٍ منهم مسألةً تفرَّد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة، وأنه تفرَّد بتأويل هذا الحديث:"خلق آدم على صورته"

(3)

. على أنِّي سمعتُ عدَّةً من المشايخ رووا: أن ذلك التأويل مزوَّرٌ مرفوضٌ

(4)

على [ابن] خُزيمة، وإفكٌ افتُري عليه

(5)

، فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله، ولا نلتفت إليه، بل نوافقُ ونتابع ما اتفق الجمهور عليه

(6)

.

وجماعُ ذلك أنَّ منهم من جعل الضمير عائدًا إلى المضروب، ومنهم من جعله عائدًا إلى آدم، وهذا الذي يُذكر عن أبي ثور، وهو الذي أنكره أحمد وغيره.

(1)

في الأصل: "الأمة". والتصويب من المصدر السابق.

(2)

في الأصل: "تعلموا". والزيادتان من المصدر السابق.

(3)

انظر طبقات الفقهاء الشافعية للعبادي ص 44.

(4)

في الأصل: "مردود مرفوض". والتصويب من بيان تلبيس الجهمية (6/ 405).

(5)

ولكنه ثابت من كلام ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 87 - 92).

(6)

إلى هنا انتهى النقل من كتاب أبي موسى المديني، ثم يبدأ كلام المؤلف.

ص: 170

والذين قالُوا: الضميرُ عائدٌ إلى الله، كما يدلُّ عليه سياقُ الحديث وألفاظُه المنقولة، ويوافقُ حديث ابن عمر وابن عباس وغيرَ ذلك، فقد قيل: إنَّه أضافه إليه إضافة تشريفٍ وتكريم، كما قال ابنُ خزيمةُ. قال

(1)

: هو من إضافة الخلق إليه، كقوله:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان/ 11]، و {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف/ 73]، وقوله:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ} [النساء/ 97]، وقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم/ 30].

وسلك آخرون مسلكًا آخر؛ فجعلوا الصورة هي الصورة المعنوية، وبهذا قال ابنُ عقيل والغزاليُّ وغيرُهما.

ثُمَّ منهم من قال: هي صورةُ المُلْكِ والتدبير، فإن الآدمي أُعطِيَ من الملك في جميع أجناس الحيوان ما فيه نوعٌ من صورة الرُّبوبية، وهذا اختيارُ ابنِ عقيلٍ.

ومنهم من قال: صورةُ الصفات، وهو أنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ مريد، والذين أبطلوا هذا التأويل ردُّوا ذلك

(2)

بأنَّ صورة الصفات مشتركة بين الملائكة والجن، وصورة المُلْك لا تختص بآدم، وقد قالوا: سياق الأحاديث وألفاظها يردُّ ذلك.

وقد تكلم أبو محمد بنُ قتيبة في (مختلف الحديث)

(3)

عليه، وقرَّره

(1)

في كتاب التوحيد (1/ 87) وما بعدها.

(2)

في الأصل: "بذلك".

(3)

تأويل مختلف الحديث ص 147 - 150. قال في آخره: والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست بأعجبَ من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلفُ لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتِ في =

ص: 171

على مذهب السلف وأهل السنة، وقال: هذه صفة من الصفات، كالصفات الواردة في القرآن. وتكلم بكلام قد بَعُدَ عهدي به.

وهؤلاء لا يدفعون ما استنبطَ أولئك من المعاني الصحيحة التي أثبتُوها، وإنما يُنازعونهم في معنى ما نَفَوه من الحق في أحاديث الصورة الأخرى وإثبات التأويلات، كما ينازعون الممثِّلةَ في إثبات الباطل. وطائفة من متأخِّري العلماء والصوفية سلكوا هذا المسلك؛ كأبي الفرج بن الجوزي وغيره.

ورأى

(1)

آخرون أنه أراد الصورة الفعلية، وهو أن الإنسان هو العالم الصغير، الذي اجتمع فيه ما تفرَّق في العالم الكبير، فهو على صورة العالم. وزاد الاتحادية على هؤلاء؛ إذ هم يقولون: إنه هو العالم، والإنسان مخلوقٌ على صورة العالم.

وبالجملة فهذا الحديث بعينه قد ثبت عن أئمة السنة وعلماء الأمة إنكارُ تأويله، وليس هؤلاء ممن بان جهلُهم، وسقطتْ مكانتُهم، بل من تأمَّل كتبَ المناظرة التي بين المناظرين وبين منازيعهم علم أيُّ الفريقين أهدى وأقومُ حجةً. ولكن العالم يعرفُ الجاهل لأنه كان جاهلًا، والجاهلُ لا يعرف العالم لأنه ما كان عالمًا. فما عند المنازعين شُبَهٌ عقلية ونقلية

(2)

ما لم تخطر ببالهم، ولكن قد يُمسِكُ العالمُ عن الكلام؛ لقصور المخاطب أو لهواه، فأما عند قوَّة عقله وقوة دينه فإنه يخاطب بقدر عقله ودينه، فإن مخاطبة الناس إنما تكون بقدر عقولهم.

= القرآن. ونحن نؤمن بالجميع، ولا يقول في شيء منه بكيفية ولا حدّ.

(1)

في الأصل: "روى".

(2)

في الأصل: "لعقلية".

ص: 172

ثم ليعلم أن ليس في السلف من أنكره أو دَفَعه، بل اتفق العلماء والفقهاء على رواية أصله في الجملة؛ إذْ كان فيه أمرٌ ونهيٌ لا يُمكِنُ الفقهاءَ تركُه، وهو نهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه وتقبيحه، فاحتاجوا إلى ذلك ليُبيِّنوا أنه لا يجوز ضرب الوجه في الحدود والتعزير، ولا في المقاتلة، حتى إن مالكًا رحمه الله احتاج إلى روايته، فرواه عن ابن عجلان أيضًا، وكنى عنه

(1)

لكن تركَ روايةَ الجملة الثانية. ورواه البخاري في صحيحه

(2)

من طريقه هكذا. وقرن معه رواية همامٍ، لكن ذكر البخاري رواية همام في خلق آدم

(3)

بتمامها.

فقال البخاري

(4)

: (باب: إذا ضرب العبدَ فليجتنبِ الوجهَ) ثنا محمد بن عُبيد الله، ثنا ابن وهب، حدثني مالك بن أنس قال: وأخبرني ابنُ فلان عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثني عبد الله، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه".

وهذا شطر الحديث، ومعلومٌ أن هذا الشطر الذي رواه الناس كُلُّهم، [و] اتفق العلماءُ على تلقيه بالقبول والعمل به، يُبطِلُ جميعَ التأويلات الفاسدة التي نُقلت في الشطر الآخر، وهذا من حكمة الله [و] حِفْظِ الله للذكر الذي أنزله على رسوله، فإن قوله:"خلق آدم على صورته" لم يُنازِعْ أحدٌ من العلماء في صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل رواه

(1)

سبق ما فيه.

(2)

برقم (2559).

(3)

برقم (3326).

(4)

في صحيحه مع الفتح (5/ 182).

ص: 173

الخلقُ كلُّهم من أهل الحديث والفقه، والكلام والتصوف، والخاصة والعامة، وتلقَّوه بالقبول كما تلقَّوا حروفَ القرآن، وإن تُرِكتْ روايتُه في بعض المواضع لمصلحة راجحةٍ. وإنما تنازعوا في صحة قوله:"على صورة الرحمن"، وتنازعوا في الضمير في قوله:"على صورته" إلى من يعود؟ فقيل: يعود على مضروب قيل له: "قبح الله وجهَك، ووجهَ من أشبهَ وجهَك"، فقال:"إن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب"، كما يذكر ذلك طائفةٌ من أهل الكلام، ويروون فيه حديثًا باطلًا عند أهل الحديث، لا أصل له

(1)

.

وفيمن جعلَ الضميرَ عائدًا على المضروب ابنُ خزيمة، لكنه لم يَحتجَّ في ذلك بحديث؛ لأنه كان إمامًا في الحديث والفقه، يعلم أن ليس في هذا حديثٌ، لكنه لما روى الحديث الصحيح:"لا يقولن أحدُكم لأحد: قبح الله وجهك، ووجهًا أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته"

(2)

، وقوله:"إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته"

(3)

، قال: الهاءُ في هذا الموضع كنايةٌ عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب، الذي أمرَ الضاربَ باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبَّح وجهه. فزجرَ صلى الله عليه وسلم أن يقول:"ووجهَ من أشبهَ وجهَك"؛ لأن وجه آدم شبيهُ وجوهِ بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبَّح الله وجهَك ووجهَ من

(1)

انظر مشكل الحديث لابن فورك ص 7. قال المؤلف في بيان تلبيس الجهمية (6/ 424): هذا لا أصل له، ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث.

(2)

انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 81، 82).

(3)

المصدر السابق (1/ 83).

ص: 174

أشبه وجهك، كان مُقبِّحًا وجهَ آدم. فتفهَّموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تَغلَطوا ولا تُغالِطُوا، فتصُدُّوا عن سيبل الله، وتَحمِلوه على القول بالتشبيه الذي هو ضلال

(1)

.

وقيل: يعود على آدم، كما يُذكرُ عن أبي ثورٍ وطائفةٍ أخرى.

والذين أعادوا الضمير إلى الله لهم فيه أيضًا أقوال.

فتبليغُ جميع العلماء والفقهاء للفظِ بعض الحديث وحُكمِهِ، يُبيِّنُ لهم ما نازع فيه بعضهم من معنى باقيه، وهو نهيهُ عن ضرب الوجه مطلقًا. فقوله:"إذا قاتل أحدُكُم فليجتنب الوجهَ، فإن الله خلقَ آدم على صورته"، أو "إذا ضرب أحدكم"، فنهى عن ضرب الوجه نهيًا عامًّا، وعلَّلَهُ بأنَّ الله خلق آدم على صورته، وكونُ آدم خُلِقَ على صورةِ هذا المضروب لا يُناسبُ النهيَ عن ضربه؛ فإنَّ آدم خُلِقَ على صورةِ سائرِ جسده، ومع هذا فيُضرَب أكثرُ جسده ولم يَنهَ عن تقبيح شيءٍ غيرِ الوجه، ولأنَّ مشابهة الإنسان للإنسان في الصورة لا تقتضي اشتراكهما في ثوابٍ ولا عقابٍ، ولا مدح ولا ذمٍّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال، فقال:"رأيتُ أشبهَ الناس به عبد العُزَّى بن قَطَن"، فقال:[يا] رسول الله صلى الله عليه وسلم! أيضرُّني شَبَهُهُ؟ فقال: "لا؛ أنت مؤمنٌ، وهو كافرٌ"

(2)

.

وأيضًا، فكان ينبغي أن يُقال: خُلِقَ على صورة آدم، لو أراد ذلك المعنى فإنه هو المخلوقُ على مثال آدم، لم يُخلَقْ آدمُ على مثالِهِ.

(1)

المصدر السابق (1/ 84، 85).

(2)

أخرجه البخاري (3440، 3441) ومسلم (169) من حديث ابن عمر.

ص: 175

وأيضًا فإن هذا من المعلوم الذي يعلمه الجميع

(1)

أنَّ بعض بني آدم مخلوقون على صورة سائرهم، من آدم وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، فلو أُريد بتعليل التَّقبيح هذا لقيل: هذا التقبيح يتناولُ آدم، ويشملُ الأنبياءَ والصالحين، أمَّا نفسُ الإخبار بأنه

(2)

الخَلْق المعلومُ فلا يَصلُح ولا يَحسُنُ. كما لو شتم رجلٌ رجلًا، بأن قال: قبَّح الله بدنًا أشبهَ بدنَك، أو أعضاءً أشبهتْ أعضاءك أو رأسًا أشبهَ رأسك، لكان يُقال: هذا شتمٌ لجميع البشر من النبيين والصديقين، ولا يقال: بأن الله خلق آدم على بدن هذا، ولهذا لا يحسن: لا تُقبِّحوا أو لا تضرِبوا، البدن ولا الرأس ولا الأعضاء؛ فإن الله خلق آدم على رأسه أو بدنه أو أعضائه.

وأيضًا فلو نهى عن ذلك لما فيه من شتم الأنبياء لذكر جميع الانبياء؛ إذْ فيهم من هو أفضلُ من آدم، لا يخُصُّ آدم بذلك، وإنْ كان هو الأبُ؛ لأنَّ المقصود بيان

(3)

ما في اللفظ من شتم الأنبياء والصالحين على ما ذكروه، لا نفسُ الإخبار بالأمر المعلوم لكلِّ أحدٍ.

وكذلك كونُ آدم خُلِقَ على صورة آدم، هذا لا يناسبُ النهيَ عن ضربه أو تقبيحه، سواءٌ قيل: على الصورة التي كانت في علم الله وكتابه، أو على صورة الطين، أو صورتِه ابتداءً، لم يُنقَل من صغر إلى كبر، كما خُلِق أولادُه، أو نحو ذلك من الأمور التي تُذْكَرُ في معنى قول القائل: خلق آدم على صورة آدم، ليس شيءٌ [من] ذلك مما يصلحُ أن يكون علَّةً للنهي عن ضرب الوجه وتقبيحه، فإن ظهره وبطنه وسائر أعضائه التي

(1)

في الأصل: "جميع".

(2)

في الأصل: "بأن".

(3)

في الأصل: "بان".

ص: 176

تُضربُ ضربًا، والتي قد [يكون]

(1)

تقبيحها بمنزلة الوجه في ذلك، بل مذاكيرُ الآدميِّ كوجهه في ذلك، فلمَّا كان الحكمُ المذكور ليس مشتركًا بالنصِّ وإجماع المسلمين، لم يَصلُحْ أن تكون العلةُ مشتركة، مثل من يقول: لا نقبل هذا، فإنه آدميٌّ، أو من ذرية آدم، هذا لو كانت العلةُ مشتركة، فكيف وهي منتفيةٌ عن هذا المحل؟

وهنا

(2)

أيضًا وجهٌ آخرُ قاطعٌ بفساد ما زعموهُ، وذلك أن النهي عن الضرب والتقبيح إنّما

(3)

هو لوجوه بنيه التي لم تُخلَقْ كما خُلِقَ آدمُ من الطين ابتداءً، بل خُلِقَتْ من نطفةٍ، ثم من علقةٍ، ثم من مضغةٍ، فإذا نهى عن ضرب هذه وتقبيحها لمعنًى لا يُوجَد فيها، كان هذا من فاسد الكلام، فعلةُ الحكم لا تتناول هذا المحل، وقيل: هذا بمنزلة أن يقال: لا تَضرِبْ هذا أو لا تشتُمْهُ؛ لأن آدم كان نبيًّا، أو لأن الله علَّم آدمَ الأسماء كلها، أو لأنَّ الله أسجد له ملائكتهُ، ونحو هذه الصفات التي خصَّ الله بها آدمَ في الفضل.

(نقلته من خطِّ شيخ الإسلام مؤلِّفه رحمه الله ورضي عنه - وبقي منه قائمة ووجه وقليل من الوجه الآخر، في ثالث شهر جمادى .. ).

(1)

هنا في الأصل كلمات غير واضحة.

(2)

في الأصل: "هذا".

(3)

في الأصل: "مما".

ص: 177