المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمثال المضروبة في القرآن - جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال

- ‌ الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه

- ‌ الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب

- ‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

- ‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

- ‌ جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب

- ‌القسم الثالث: خبر الواحد العدل

- ‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

- ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

- ‌ كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه

- ‌ الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين:

- ‌ التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن

- ‌نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا

- ‌الجواب من وجوهٍ:

- ‌ الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له

- ‌ السابع(2): أن نقله عن ابن عباس "إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر" لا يدلُّ على مورد النزاع

- ‌جوابُه من وجوه:

- ‌الأمثال المضروبة في القرآن

- ‌ النكرة في سياق النفي تَعُمُّ

- ‌ إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم

- ‌ الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم

- ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

الفصل: ‌الأمثال المضروبة في القرآن

فالعقل الشريف عَقَلَ هذه الأمثال، كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43]، فالعالمون يعقلون هذا المثل كما قال تعالى، وعَقْلُهم له معرفتُهم بما فيه من الحق وبدلالته على الحق المطلوب، حتى يَبقَوا عالمين بعقلهم للحق المطلوب، لا على وجه التقليد لمجرد صدق المخبر، لكن كما قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ/ 6]. فإذا أوتوا العلم عقلوا أن الذي أُنزِل إليه من ربه من الأحكام الخبرية والأمرية والأدلة الدالة عليها - ك‌

‌الأمثال المضروبة في القرآن

- أنه هو الحق، فإن العاقل إنما يعقل ما لم يكن عنده من العلم بما هو عنده، وبالعلم بالمقدمات تُعلَم نتائجُها. ولهذا قال تعالى: إن الأمثال المضروبة {مَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43]، وأخبر أن الذين أوتوا العلم يرون الذي {أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ/ 6].

وإذا تبين بالقرآن وبعَقْلِ

(1)

الأمثال المضروبة فيه امتناعُ السَّمِيِّ لله، وأنه يمتنع أن يكون سميًّا في شيء من الأشياء حصل المقصودُ. والسميُّ هو المِثْل والشَّبهُ، كما نُقِل عن ابن عباسٍ

(2)

، وهو إما أن يكون مأخوذًا من المساماةِ وهي المرافعةُ والمعالاةُ، كما قالت عائشةُ عن زينب:"وهي التي كانت تُسامِيني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"

(3)

. فيكون "فعيل" بمعنى الفاعل، كالأكيل والقعيد والنظير.

(1)

في الأصل: "بالعقل".

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 585) والبيهقي في شعب الإيمان (122).

(3)

أخرجه مسلم (2422).

ص: 128

وإما أن يكون بمعنى المسمَّى باسمِه، كما قال في قصة يحيى:{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم/ 7]، فمن سمِّيَ باسم غيره فهو سميٌّ له، إذ الاسمُ هو مشتق في الاشتقاق التامّ من سَما يَسمُو، وإن كان في الاشتقاق الأوسط من وسَمَ يَسِمُ، كما قال ذلك من قاله من نُحاةِ الكوفةِ، كما بيَّنا أنواع الاشتقاق في غير هذا الموضع.

فسواءٌ كان السمِيُّ من التسمية أو المساماة فإن مرجعهما إلى شيء واحد، فإن المسمَّى باسم الشيء هو مُسامٍ له وإن لم يقصد ذلك، والمُسَامِي للشيء لا بدَّ أن يُسمَّى بأسمائه، إذ المراد بالاسم في هذه المواضع ليس هو مجرد اللفظ الذي يكون عَلَمًا كأسماء الأعلام، وإنما المراد بالأسماء ما يدلُّ على نُعوتِ المسمَّى وصفاتِه، فإن الاسم يرفعُ المسمَّى ويُعلِيه، وإذا ارتفع وعلا ظهر وتجلَّى، وذلك هو وصفُه وإظهارُ ما فيه. وهذا هو الذي عابَه الله تعالى على من سَمَّى الأوثانَ بأسماءٍ {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم/ 23].

ولهذا كان أسماء الله الحسنى صفاتٍ له قولية، وهي دالةٌ على صفاته المعنوية، فيكون الله تعالى قد نفَى الإمكانَ أن يكون للهِ من يُسمَّى بأسمائه أو يُسامِيه، وهذا لا يُنافي ما ذكرناه أولًا مما في كتاب الله تعالى أن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماءٍ وسمَّى بعضَ مخلوقاتِه بتلك الأسماء، لأنا قد بينّا فيما تقدم ما في الأسماء من الدلالة على المشترك والمميز، ونحنُ نُلخِّص في هذا المكان مقصوده:

وهو أن أسماء الله - مثل العليم والقدير والرحمن والرحيم - دالة على نفسه المقدَّسةِ بما لها من نفسِ علمِه وقدرته ورحمته، وهذا الاسم الذي دلَّ على هذا المعنى لا يجوز أن يُسمَّى به سِواه أصلًا، وإذا أطلقناه

ص: 129

على المخلوق وقلنا في الإنسان: سميع بصير، فهذا الاسم الذي دلَّ على حقيقة سَمْع المخلوق وبَصرِه لا يُسمَّى الله به قطُّ، وأما الاسم المطلق الذي لا يُضاف فهو دالٌّ على القدر المشترك. فالاسم وإن كان لفظه قبلَ الإضافة والتعريف واحدًا، فهو بالإضافة والتعريف يصير دالًّا على أكثر مما كان دالًّا عليه حينَ التجرُّد.

ولهذا قال الفقهاءُ في باب الأيمان: إن أسماءَ الله ثلاثةُ أصنافٍ:

منها: ما هو نصٌّ، كقوله: الله، ورب العالمين، وأرحم الراحمين، ونحو ذلك. فهذه تكون يمينًا لا تحتمل غيرَ ذلك.

ومنها: ما هو ظاهر، وهو ما يكون بإطلاقِه لله، وقد يُسمَّى به غيرُه بالقرينة، كقوله: العزيز والحكيم والرؤوف والرحيم، ونحو ذلك.

ومنها: ما هو مجمل، لا ينصرف إطلاقُه إلى الخالق والمخلوق إلا بالقرينة، كقوله: الموجود ونحوه، فهذا لا يكون يمينًا إلا إذا نَوَى به الله، وهل يكون يمينًا بالنية على قولين بناءً على أن اليمين بالله تعالى هل تنعقد بالكناية: أحدهما يكون يمينًا، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما. والثاني: لا يكون يمينًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول القاضي أبي يعلى في بعض كتبه.

وهذا ثابت في جميع الأسماء التي تتغيَّرُ دلالتُها بالتقييد والإضافة في أسماء المخلوقين، فكيف بالاسم الدالّ على الخالق والمخلوق؟ فلفظ "الرسول" واحد، ومع هذا فلما قال:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل/ 16] وقال لنا: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور/ 63] لم تكن صفةُ الرسالة وقَدْرُها المدلولُ عليها باسم الرسول في أحد الموضعين هي الصفة والقدر المدلول عليها به في الموضع الآخر.

ص: 130

ويقال: هذا رسولُ هذه الأمة، ويقال في ذلك: رسولُ بني إسرائيل، فلا يُسمَّى أحدُهما باسم الآخر مطلقًا، وإن اشتركا في بعض مدلول الاسمين.

ولهذا كان من أسماء هذا الرسول: محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب والمقفّي ونبي الرحمة ونبي الملحمة والضَّحوك والقتَّال

(1)

، ونحو ذلك من الأسماء التي يختصُّ هو بمعاني بعضها، ويختصُّ بكمال معاني باقيها، فليس في الرسل من يُسمَّى بأسمائه مطلقًا، وإن كان يَشرَكه في بعض إطلاق بعض أسمائه عليه لمشاركته له في بعض معانيها.

وهذا لما قدَّمناه من أن الأسماء المتواطئة تَدُلُّ بمجرَّدِها على القدر المطلق المشترك الذي لا يُوجد مطلقًا مشتركًا إلّا في الذهن، وتدلُّ عند تعيينها بالتعريف على خصوص المعنى المعيَّن الموجود في الخارج الذي لا شركةَ فيه، فمدلولُها عند التعيين ليس فيه اشتراك أصلًا، كما أنه ليس فيها اشتراك ولا إطلاق، ولكن الذهن يأخذ القدر المشترك بين المعنيين، كما ينطق اللسانُ باللفظ المشترك المتواطئ الموجود في المحلَّين، وإن كان حالُ المطلق المشترك المتواطئ كالمعنى المطلق المشترك، وليس هذا بشرط الإطلاق إلّا في الذهن، كما أن اللفظ المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في كلام الناس واستعمالهم، واللفظ المقيّد بتعريف الإضافة وغيرها يطابق المعنى الذهني المقيد بفهم تلك

(1)

أخرج البخاري (3532، 4896) ومسلم (2354) من حديث جبير بن مطعم بعض هذه الأسماء، وأخرج مسلم (2355) من حديث أبي موسى الأشعري بعضها.

ص: 131

الحقيقة المعينة، والحقيقة الخارجة المعينة مطابقة لذلك المعنى المفهوم من هذا اللفظ المعين، واللفظان في حال تعيينهما والمعنيان الذهنيان

(1)

والحقيقتان الخارجتان كل منهما متميز بنفسه، ليس فيه شركة مع غيره، ولكن معنى قولنا:"إنه يشاركه" أن الذهن يُدرِك أن هذا يُشبِه هذا من تلك الجهة، وكلٌّ منهما لا يكون في نفسه مطلقًا بشرط الإطلاق ولا مشتركًا بشرط الاشتراك، ولكن المعنى المطلق يوجد فيه لا بشرط الإطلاق، والمشترك يوجد فيه لا بشرط الاشتراك، بل مع تقييد وتخصيص.

ومن هنا قيل: كما أن بين اللفظين اشتراكًا واشتباهًا فكذلك بين المعنيين اشتراكًا واشتباهًا

(2)

، لكن هذا القدر المشترك المشتبه ليس داخلًا في حقيقة أحدهما الخارجة الموجودة أصلًا مشتركًا، إذ الذي فيها لا يكون مطلقًا بشرط الإطلاق، وإنما هو مطلق لا بشرط الإطلاق، بل هو مقيد بالتعيين، ولا مشتركًا بشرط الاشتراك، وإنما يقال: هو مشترك للمشابهة، بل هو مختصٌّ متميز.

ثم إذا عُرِف هذا [في] جميع الأسماء المتواطئة وأنها إذا دلَّت على معنيينِ لم يكن في المدلولين الخارجين اشتراك، بل كلٌّ منهما متميز بنفسه، فلا يكون اسمُ هذا اسمًا لهذا ولا اسمُ هذا اسمًا لهذا قطُّ من جهة التعيين، فإن اسم المعيَّن لا يكون اسمًا لغيره، لكن إن كان المسمَّيانِ متماثلين في بعض الأمور صحَّ أن يُسمَّى أحدهما باسم الآخر، ويقال: هو سَمِيُّه، فإن التَّماثل في الحقيقة يُوجب التماثل في أسمائها، فيقال:

(1)

في الأصل: "المعنيان والذهنان".

(2)

كذا في الأصل بالنصب.

ص: 132

هذا الإنسانُ سَمِيُّ هذا، وهذا السواد سميُّ هذا، وهذا العالم سميُّ هذا، لتماثلهما في العلم وإن تفاوتَا في غيره.

وأما إن كان المسمَّيان غير متماثلين في شيء من الأشياء لم يكن أحدُهما سميًّا للآخر بحالٍ، فإذا قيل لجبريل: الروح، وقيل: الذبابةُ فيها روحٌ، لم تكن روحُ الذبابة سميًّا لجبريل الذي اسمُه الروح، وإذا [قيل] عن جبريل:{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير/ 21]، وقيل عن بعض أهل الكتاب:{إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 75] لم يكن هذا الأمين سميًّا لذلك الأمين، وذلك لأن اللفظ دلَّ على أن بينهما تشابهًا من بعض الوجوه، وهو أصل الأمانة، وأما حقيقتها وصفتها وقدرُها فلم يشتبها فيه، فلم يكن اسمُ أحدهما دالًّا على مثل مدلول اسم الآخر، فلم يكن سميًّا له.

فالله تعالى هو السميع البصير، فإذا سُمِّي بعضُ مخلوقاته بالسميع البصير لم يكن مدلولُ اسمِه تعالى مِثْلًا لمدلولِ اسم ذلك المخلوق بوجهٍ من الوجوه، فإذا لم يكن مُسمَّى السميع البصير الذي هو الذات والصفة مِثْلًا لذلك، لا الذات مثل الذات ولا الصفة مثل الصفة، امتنع أن يكون اسمُ هذا يُقال على هذا، وأن يكون سميًّا له، وإن كان من مدلولِ الاسمين تشابهٌ من بعض الوجوه. والتشابه ليس هو التماثل بوجهٍ من الوجوه، فإن الشيء قد يُشبِه ما يكون مخالفًا له، إذ ما من شيئين إلّا وقد يَشتبهانِ ولو في أدنى شيء، ولو أن في أحدهما غير الآخر وخلافه وضدّه، ومثلُ هذه المشابهة لا توجب تماثلًا بوجهٍ من الوجوه، بل رفعُ الاشتباه من كلِّ وجهٍ يقتضي عدم أحدهما. وقد قدّمنا كلام العلماء في ذلك، وامتناعَ محققيهم أن يَنْفُوا المشابهةَ من كل وجهٍ، وإن نفَوا

ص: 133

المماثلة من كل وجه.

فهو سبحانه ليس له شِبْهٌ ولا له مِثلٌ بوجهٍ من الوجوه، إذ التماثل بوجهٍ من الوجوه منفيٌّ عن الله تعالى بالنصوص المتقدمة، وبالأمثال العقلية المضروبة التي أرشد إليها النصُّ، إذ لو حصلَ له مثلٌ في بعض الأمور لزِمَ الجوازُ والوجوب والامتناع من كل الوجه، فيلزم التناقُض والمحالات المتقدمة، وأما الاشتباه في بعض الأمور فلا يستلزم الاشتراك في الوجوب والجواز والامتناع، بل لا بدَّ منه بين كلِّ موجودين.

فمن فَهِمَ هذه المعاني الشريفة فهمَ ما بين الأسماء من التواطئ والافتراق، وما بين مدلولها من التباين والاشتباه، وعلمَ أن الله ليس له مِثلٌ ولا سَميٌّ، لا في نفسه ولا في شيء من صفاته ولا من أفعاله، ولا يُسمَّى أحدٌ بشيء من أسمائه أصلًا، وعلمَ أن المخلوق إذا سُمِّي بالأسماء التي تصير اسمًا لله إذا أضيفتْ إليه، فلم يُسَمَّ بأسماء الله ولا بمثل أسماء الله، ولا صار شيء من الأسماء سميًّا لله، ولكن الاسم الذي يكون اسمًا لله إذا سُمِّي الخلق به يصير اسمًا لهذا إذا سُمِّيَ به، وكونُه يصير اسمًا له إذا سُمِّي به لا يُوجب كونه سميًّا له، وإنما لأجل ما في اللفظين من التواطئ دلَّا على معنًى مشترك، وهو ما بين الحقيقة من تشابه في معنى الاسم، وأنه بثبوت ذلك المعنى الذي يأخذه الذهن مشتركًا يكون الموجود موجودًا، وإلّا كان معدومًا، كما قد بيناه لما تكلمنا على الوجود الواجب والممكن.

وبهذا تبيَّن لك أن المشبِّهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحقِّ فضلُّوا، والمعطِّلة أخذوا نفي المماثلة بوجهٍ من الوجوه، وزادوا فيه على

ص: 134

الحق حتى ضلُّوا، وأن كتاب الله دلَّ على الحقّ المحض الذي تَعْقِله العقولُ السليمةُ الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه. فالنُّفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه أو التمثيل بشيء من خلقه بوجهٍ من الوجوه، فإن المماثلة بوجهٍ من الوجوه تقتضي التناقض والمحال، فإنه لو فُرِض أن الله تعالى يُماثِلُ شيئًا من خلقه في علمه أو إرادته أو غضبه أو حِلْمِه بوجهٍ من الوجوه، كان ذلك الوجه الذي تماثلا فيه يقتضي أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر.

ولهذا جاءت هذه الشريعةُ بكمال التوحيد والتحميد والتنزيه، فقال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال:"أجعلتَني لله نِدًّا؟ قل: ما شاء الله وحدَه". فجعله بمماثلتِه له في المشيئة جاعلًا له نِدًّا، مع أنه لا بدَّ بين المشيئتين من قدرٍ مشتركٍ واشتباهٍ، ولكن ليس بينهما تماثلٌ وتَنَادٍ.

ولهذا قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد/ 16]، وقال تعالى:"ومن أظلمُ ممن ذهبَ يخلقُ كخلقي؟ فليخلقوا ذرَّة وليخلقوا بعوضةً! "

(1)

. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهُون بخلق الله"

(2)

، حيث فعلوا مثلَ ما فعلَ، ولو أنه في الصورة فقط، ولهذا يقال:"أحْيُوا ما خلقتم"

(3)

. وقال: "من صوَّر صورةً كُلِّف أن يَنفُخَ فيها الروح وليس بنافخ"

(4)

. لأنه لما فعلَ مثلَ الصورة في الجسم صار مضاهيًا ذاهبًا يَخلُق كخلقِ الله، فقيل له: حَقِّقِ التماثلَ فانفُخْ

(1)

أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (2111) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (5954) عن عائشة.

(3)

أخرجه البخاري (5957) عن عائشة.

(4)

أخرجه البخاري (2225) ومسلم (2110) عن ابن عباس.

ص: 135

فيها الروحَ، ولستَ بفاعل. فكان التماثلُ من كل وجه معجوزًا عنه، فنُهي عن المماثلة من بعض الوجوه، لأنه همٌّ بإظهار التماثل من غير تحقيق.

ومع هذا فالإنسان له أفعالٌ لها أسماءٌ، ولله تعالى [أفعالٌ لها] أسماءٌ تُسمَّى هي بتلك الأسماء، مثل:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات/ 47]، ومثل قوله:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، ومثل قوله:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف/ 145]. ولم يكن العبد ظالمًا بهذه الأفعال، لأنه لم يُماثل الربَّ فيها بوجهٍ من الوجوه، وإنما [فيها] اشتباهٌ من بعض الوجوه التي لا تُوجب محذورًا، بل تُحقِّق الثابتة في الموضعين.

فتدبَّرْ ارتفاعَ التماثُل بين الخالق والمخلوق من كل وجه، ولم تكن المماثلة ثابتةً من كل وجه، وتدبَّر ثبوتَ الحقائق التي لا بدَّ أن يكون بينها قدرٌ مشترك واشتباهٌ سُمِّيَ أحدهما من تلك الجهة بالاسم الذي تسمَّى به الآخر، وإن لم يكن أحدهما اسم الآخر، إذ الاسم هو مجموع المجرَّد والمقرونِ به من الإضافة أو لام التعريف، وإنما وجود الاسم المجرد في الموضعين مثل وجودِ المضافين في موضعي الإضافة، وأحدِ جُزئَي المركَّب في موضعَي التركيب، فإذا قلتَ: غلامُ زيدٍ وغلامُ عمرو لم يكن أحد الاسمين هو الآخر، ولم يكن أحدهما سمِيَّ الآخر، وأينَ عبد الله وعبد الرحمن من عبد شمس وعبد اللات؟ ولهذا غيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسماء من كان متعبَّدًا لغير الله من المسلمين، مثل من كان سُمِّيَ عبد شمس وعبد اللات، فسمَّاهم عبد الله وعبد الرحمن، لم يكن أحدُ الاسمين مثلَ الآخر. وإذا كان شخصان أحدهما اسمه عبد الله والآخر عبد شمس لم

ص: 136

يكن أحدهما سَمِيَّ الآخر ولا مُسمًّى باسمه، وإن كان لفظ الاسمين متفقًا في النصف، وهو لفظ المضاف، لأن الإضافة الاختصاصية قَطعتْ ذلك الاشتراك الذي كان موجودًا قبلها.

فإذا قلتَ: سميع وسميع، فهو كقولك: عبد وعبد، وإذا قلت: الله السميع البصير والإنسان السميع البصير كان هذا التباين أعظم من قولك: عبد الله وعبد شمس، إذ التعريف باللام كالتعريف بالإضافة.

فتدبَّرْ هذا، فإن هذه المعاني الشريفة نافعة في هذه المسائل التي كثر الاضطراب فيها، فالمنزِّهُ أحسنَ في نفي المماثلة من كل وجهٍ وإثباتِ المباينة والمخالفة كما تقدم، ولكن إذا زاد بنفي المعاني الثابتة لله في نفس الأمر ونفي حقيقة أسمائه لما في ذلك من نوع اشتراكٍ في الاسم واشتباهٍ في المعنى = كان مبطلًا معطِّلًا، لأن الذي كذَّب به من الحق ونفاه قد يكون أعظم مما كذَّب به من الباطل ونفاه. والمُثبِتةُ أحسنوا في إثباتِ حقيقة الله بما له من الصفات التي

(1)

لا يكون هو هو إلّا بها، وفي إثباتِ أسمائه الحسنى المبيِّنة لحقائق صفاته، فإنه لولا ثبوتُ هذه الصفات التي هي العلم والقدرة والكلام ونحوها، لم يكن ربًّا ولا خالقًا، بل لولا ثبوت أصل الصفات لم يكن موجودًا أصلًا. وإثباتُ ما لا صفةَ له إثباتُ ما لا وجودَ له، وهو إثباتُ معدوم.

ولهذا كانت النفاة معطلةً متناقضةً ممثّلةً له بالمعدوم، أما تناقضُها فمن حيث أقرتْ بوجوده واستحقاقه الكمالَ المطلقَ والوجود الأتم، ثم وصفتْه بما يستلزم أنه لا يكون شيئًا أصلًا، فضلًا عن أن يكون قائمًا حيًّا.

(1)

في الأصل: "الذي".

ص: 137

ومثَّلتْه بالمعدوم، فكانت أضلَّ ممن مثَّله بالموجود الشيء، وكانوا مع ذلك معطلة عطَّلوا صفاته بإقرارهم واعترافهم، وعطَّلُوا حقيقتَه بما هو لازمٌ لهم. كما قد

(1)

بيَّنا أن إثباتَ المثلِ له بوجهٍ من الوجوه يُوجِب التناقض في نفسه، فرفعُ الصفات بالكلية ونفيُ وجود معنى مشترك ومشابهةٍ بوجهٍ من الوجوه متناقض أيضًا في نفسه. ثم هذا يقتضي عدمه، وذلك يقتضي نقصه، فلهذا كان التعطيلُ شرًّا من التمثيل.

وإنما تناقض لأن من

(2)

أثبته موجودًا عالمًا قادرًا، وقد علم أن في خلقه موجودًا عالمًا قادرًا، إن لم يُثبِتْ لوجودِه خصائص الوجود، ولعلمِه خصائص العلم، ولقدرتِه خصائص القدرة، وهو أن يكون وجودُه ثابتًا متميزًا بنفسه عن غيرِه من الموجودات ذي حقيقة ثابتةٍ بحقيقة الإثبات، ويثبت لعلمه خصيصة الإدراك والتمييز والمعرفة والإحاطة بالأشياء، ولقدرتِه خصائص القدرة التي بها يفعل الأفعال = وإلّا لم يُثْبِت موجودًا ولا عالمًا ولا قادرًا، ومتى أثبت هذه الخصائص فمن المعلوم بالضرورة أن لأحدنا منها نصيبًا، فإن لنا وجودًا وعلمًا وقدرة، [و] لنا ثبوتٌ

(3)

محقق، وتمييز وقدرة بها نفعل، فإن رفعت هذا المطلق المشترك فقد عطَّلتَ الذات بالكلية وجعلتَها معدومةً بعد إقرارك بوجودها، وهذا تناقض، وهذا المعنى قد أوضحناهُ فيما تقدم.

فإذا زاد

(4)

المثبِتُ وجعل بينه وبينَ غيرِه مماثلةً من بعض الوجوه،

(1)

في الأصل: "وإذا كما قد".

(2)

في الأصل: "ما".

(3)

في الأصل: "لنا ثبوتًا".

(4)

في الأصل: "اراد".

ص: 138

مثل أن يجعل علمه أو قدرتَه أو رحمته أو غضبَه مثلَ شيء من صفاتِ خلقه، أو يجعل ذاتَه مثل ذاتِ شيء من خلقِه من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو بِلَّورٍ أو لحم، كما يُحكَى عن بعض المشبِّهة أنه قال: هو سَبِيكةٌ من فضَّةٍ، وعن بعضهم أنه قال: هو لحمٌ ودم ونحو ذلك = فهذا غلوٌّ في إثبات الحقيقة أدَّى

(1)

إلى التماثل الموجب لنقصِه وعدمه.

فقد تبيَّن أن الغُلوَّ في تحقيقه حتى يُمثَّل ببعض المخلوقات يُوجِب الحكمَ بالعدم، وأن الغُلوَّ في تنزيهه حتى يُرفَع ما يُعلَم من القدر المشترك المشتبه يُوجِب العدم، فكلٌّ من فريقي الغُلاة في النفي والإثبات يَستلزمُ قولُه عدمَه، لكن النفاة يلزمهم الحكمُ بالعدم ابتداءً من أولِ أمرِهم، إذ لم يُثبوا شيئًا محقَّقًا أصلًا، وإنما ظنُّوا أنهم أثبتوا، والمثبتة يلزمهم الحكمُ بالعدم انتهاءً في آخر أمرهم، لأنهم أثبتوا شيئًا محققًا، واعتقدوا اعتقادًا صحيحًا، ثم زادوا في تمثيله ما يُوجِب أن يكون في صفة المعدوم. فلهذا كان الأولون أضلَّ، ولكن ليس في المسلمين ولا من مُثبِتي الصانع من يبتدئ بالنفي، بل لا بدَّ أن يُثبِتَ أولًا الصانعَ ويُقِرّ به، ثم يبالغ إما بالنفي وإما في الإثبات، فلهذا لم يُصرِّح أحدٌ من مثبتة الصانع بعدمِه، وإن كان قولُه يستلزم ذلك، وهو للنفاة ألزمُ وأبلغُ لزومًا وأسبقُ لزومًا وأوضحُ لزومًا. فهذا هذا، والله أعلم.

فإن قلتَ: إن الفقهاء الأصليين

(2)

وغيرهم تنازعوا في نفي المساواة هل يقتضي نفيَها من كل وجهٍ أو يقتضى نفيَ كمال المساواة؟ على قولين، ومَيلُ أصحاب أبي حنيفة وكثيرٍ من أهل الأصول إلى عدم

(1)

في الأصل: "أدته".

(2)

كذا في الأصل، ولعل الصواب:"فقهاء الأصلين" أو "الفقهاء والأصوليين".

ص: 139

العموم، ومَيلُ كثيرٍ من أصحابي الشافعي وأحمد إلى أن هذا يوجب دفع جميع المساواة، فلا يكون الكافر كُفؤًا للمسلم ومساويًا له في باب الدماء، فلا يكون دمه كدمه، ولا يكون كفؤًا له. وإذا انتفت المساواة والمكافأة لم يُقتَل المسلم بالكافر الذمي. ويقول طوائف: إن هذا يوجب انتفاء المساواة المطلقة، والاشتراك في بعض الأحكام لا يمنع انتفاءَ المساواة، بدليل أنهما يستويانِ في كثير من الأحكام. وأنتم قد ذكرتم أن ما نفاه الله عن نفسه من الكفؤ والسَّمِيِّ والمِثْل يقتضي نفي ذلك من جميع الوجوه، وهذا الأصل اللفظي متنازَعٌ فيه، ولا بُدَّ من تقريرِ ذلك بالدليل.

قلت: هذه المسألة تُشبِه دخولَ حروف النفي والنهي على ألفاظ العموم، مثل أن يقول: لا كلَّمتُ القومَ ولا أكلتُ هذا الرغيفَ، ففعلَ بعضَ المحلوفِ، أو مثل قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر/ 20] هل تُوجِب اللغةُ عمومَ النفي أو نفيَ العموم؟ وفي هذا الأصل قولان في مذهب أحمد وغيره. ومسألة اليمين مشهورةٌ عند الفقهاء، فالمشهور في مذهب أحمد - وهو مذهب مالك - أنه يَحنَث بفعلِ بعضِ المحلوف عليه، والرواية الأخرى عنه - وهى ظاهر مذهب أبي حنيفة والشافعي - أنه لا يَحنَث بفعل بعض المحلوف عليه عندهم كلهم مع الإطلاق، فأما مع قرينة العموم أو الخصوص فلا يبقى نزاعٌ، مثل إذا قال: لا أكلتُ الخبز أو اللحم، أو قال لامرأته: لا كلَّمتُ الرجال، فهنا يَحنَث بفعلِه البعضَ، إذ لا يُراد هنا عمومُ النفي بل مطلق النفي. ولو قال: واللهِ لا بَينتُ هذا الحائطَ وحدي، ولا نقلتُ هذا الترابَ وحدي، مما تُبيِّن القرينة أنه امتنع من فعل الجميع، لم يَحنَث بفعل البعض، أما في الأصول فيذكرون القولين مطلقًا في مذهب أحمد

ص: 140