الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسيره
(1)
عن ابن عباس أنه قال: التفسيرُ على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير تَعْلَمه العلماءُ، وتفسيرٌ لا يُعذَر أحدٌ بجهله، وتفسيرٌ لا يعلمه إلّا الله، ومن ادَّعى عِلْمَه فقد كذب.
الوجه الثاني: أن الدرجة الثانية أن يسمعَ اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظمًا ونثرًا، وكل ما تعتري نقلَ الحديث من الآفات فهو هنا أكثر، وهذا أمرٌ معلوم لمن كان خبيرًا بالواقع، فيكون نقل ألفاظ اللغة ثم معرفة مرادِهم من تلك الألفاظ يَرِدُ عليه أكثر مما يَرِدُ على معرفة مراد الرسول، لأن معرفة مراد الرسول توفرت عليها الهِممُ والدواعي، وصانَه الله فهو محفوظٌ بحفظ الله ثم بالعادة العامة والخاصة، أكثر من معرفة مراد شاعرٍ مادحٍ أو رَاثٍ أو هاجٍ أو مُشبِّبٍ أو واصفِ ناقةٍ أو امرأةٍ أو فلاةٍ أو مفتخرٍ.
الوجه الثالث: أن الدرجة الثالثة أن يسمع اللغة ممن سمعَ الألفاظ، وذكر أنه فهم معناها من العرب، كالأصمعي فيما سمعه من الأعراب وذكر أنه فهم معناه. ومن هذا الباب كتب اللغة التي
(2)
يذكرون فيها معانيَ كلامِ العرب بألفاظ المصنفين، ومعلومٌ أن هذا يَرِدُ عليه
(3)
أكثر مما يَرِدُ على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال: إنه فهم معناه، وبيَّنه لنا بعبارته.
الوجه
الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب
، ومن المعلوم أنه يَرِدُ على هذا من الأسولة أكثر مما يَرِدُ على نقل
(1)
لم أجده في تفسير عبد الرزاق. وقد أخرجه الطبري 1/ 70 وابن المنذر في تفسيره (255). وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 18.
(2)
في الأصل: "الذين".
(3)
في الأصل: "على".
الحديث.
الوجه الخامس: أن الدرجة الخامسة أن يُعلَّمَ اللغةَ بقياسٍ نحوي أو تصريفيٍّ قد يدخلُه تخصيصٌ لمعارضٍ راجح، وقد يكون فيه فرقٌ لم يتفطَّن له واضع القياس القانوني. ومن المعلوم أن هذا يَرِدُ عليه أكثر مما يَرِدُ على من تعلَّم المعاني الشرعية من القواعد الكلية التي وضعها الفقهاء.
وإذا كان الأمر كذلك فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريقٌ أصلًا إلّا ما يَرِدُ عليه من الآفاتِ أضعافُ ما يَرِدُ على هذه الطريق، فلا يجوز له ترجيحُ غيرها عليها، فيكون أحد الأمرين لازمًا له:
إما أن يَستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويَعدِلَ عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية والاعتقادات الراجحة والظنون الغالبة ما لا يوجد في غيرها إلى ما هو دونها في ذلك كلِّه، بل يَستبدل باليقين شكًّا وبالظنّ الراجح وهمًا، ويستبدل بالإيمان كفرًا وبالهدى ضلالة، وبالعلم جهلًا، وبالبيان عِيًّا، وبالعدل ظلمًا، وبالصدق كذبًا، وبالإيمان بكتب الله وبكلماتِه تحريفًا عن مواضعها.
وإما أن يُعرِضَ عن ذلك كلِّه، ولا يجعلَ للقرآن معنًى مفهومًا، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/ 2] فلا يَعقِله، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء/ 82] فلا يتدبره، وقال:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [ص/ 29]. فلا يتدبر ولا يتذكر، وقال:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43] فلا يكون من العالمين العاقلين لها. وإذا سلكَ هذا
المسلك استطار شررُه وتعدَّى ضررُه، فيلزمُ تعطيلُ معاني الكتاب والسنة وفتورُ الرسالة، إذ الرسول الذي لم يُبيِّن بمنزلة عدم الرسول، والكلامُ الذي بلَّغَه الرسولُ ولم يُعقَل معناه يَدخُل في حدِّ الأصوات المسموعة التي ليس فيها حروفٌ مُبيِّنةٌ للمعاني.
وقد ذمَّ الله تعالى من كان حالُه في كتابه هكذا، وجعلهم كفَّارًا بمنزلة الأموات، وحَمِدَ من سَمِعَ كلامَه فعَقَلَه ووعاه، وجعل ذلك صفة المؤمن الحيّ، فقال:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة/ 171]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان/ 73] وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام/ 36]، وقال تعالى:{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف/ 40]، وقال تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة/ 7]، وقال تعالى:{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد/ 16]، وقال تعالى:{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء/ 155].
وإذا كان من عَدَلَ عما فسَّر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه والتابعون القرآنَ فأحدُ الأمرين لازمٌ له: إمّا أن يَعْدِلَ إلى تفسيره بما هو دون ذلك، فيكون محرِّفًا للكلم عن مواضعه، وإمّا أن يبقَى أصمَّ أبكمَ لا يسمعُ من كلام الله ورسوله إلّا الصوتَ المجرَّد الذي يَشْرَكُه فيه البهائمُ ولا يَعقِلُه. وكلٌّ من هذين الأمرين باطلٌ محرَّمٌ = ثبتَ تعيُّنُ الطريقة النبوية السلفية
وبطلانُ الطريقة التحريفية والأمِّيَّة، فالتحريفية لها الجهلُ المركّب والكفر المركَّب، والأمية لها الجهلُ البسيط والكفر البسيط.
وقد ذمَّ الله تعالى الطريقين في القرآن، فقال تعالى في الأولى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} [البقرة/ 75 - 77]. فهذه الطريقة المذمومة التي سلكها علماءُ اليهود وأشباههم في أنهم يُحرِّفون كلام الله أو يكتمونه لئلا يُحتَجَّ به عليهم في خلافِ أهوائهم. فمن عَمَدَ إلى نصوص الكتاب والسنة فحرَّفها أو كتمها ففيه شَبَهٌ من هؤلاء، كما تجدُ ذلك في كثيرٍ من أهل الأهواء، يكتم ما أنزله الله تعالى من الكتاب والسنة عمن يحتج بها على خلافِ هواه، فيَغُلُّ الكتبَ المسطورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ويمنع تبليغَ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن المنقول، ولو قدرَ على منع القرآن لفعلَ، وما ظهرَ من ذلك حرَّفَه عن مواضعِه بتأويلِه على غيرِ تأويلِه، ثمّ يَعمِدُون إلى كتبٍ يضعونَها، إمَّا منقولات موضوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةِ والأئمة، فكم عند أهل الأهواء من الآثار المكذوبة، ويقولون: هذه منزَّلةٌ من عند الله، إذ ما جاء به النبي فهو من عند الله، أو يضعون كلامًا ابتدعوه أو رأيًا اخترعوه، ويُسمُّونه مع ما وضعوه من المنقولات دينَ الله وأصولَ دينه وشرعَ الله والحقَّ الذي أوجبه الله، وأكثرهم [يأخذُ] على ذلك أعواضًا من مالٍ أو رئاسة. ففيهم شَبَهٌ من الذين قال الله فيهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِمَّا
يَكْسِبُونَ} [البقرة/ 79]. ولا ريبَ أن غالبَهم ليس مثلَ اليهود، إذ لا يكون إلّا من كان كافرًا محضًا، لكن فيهم من الشَّبَه بهم بقدر ما شاركوهم فيما ذمَّهم الله تعالى عليه. وقد يكون في الشخص أو الطائفة بعضُ المذموم من الخصال والأفعال التي هي مما ذمَّ الله تعالى عليه أهلَ الكفر والنفاق، وإن كان فيه أيضًا ما يُحمَد عليه من الإيمان. هذه صفة من حرَّف التنزيلَ أو كتمه أو استدلَّ بما وضعه
(1)
وابتدعه.
وأما المعرض عن الكلام في معناه بالكلية فقد قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة/ 78]. والأماني التلاوة والقراءة، فهم لا يعلمون إلّا مجردَ تلاوتِه وقراءته بألسنتهم، يُقيمون حروفَه ويُضيِّعون حدودَه علمًا وعملًا، لا يعرفونها ولا يعملون بها.
فهذه أربعة أمورٍ ذمها الله تعالى: تحريف ما أنزله الله، وكتمانه، وكتابة ما ينسب إليه مما يخالفه، والإعراض عن تدبُّر كلامِه. فمن الناس من يجمع الأربعةَ، وهم رؤوس أهل البدع وأئمتهم الذين وضعوا مذاهبَ مخالف الكتاب والسنةَ، وجعلوها من دينِ الله وأصولِ الدين وفروعِه التي أوجب الله قولها واعتقادها، وقالوا عن الله: إنَّ الله أمرَ بهذا القول والاعتقاد وهذا العمل والاعتماد، فإخبارُهم عن الله بإيجابِ ذلك واستحبابِه أعظمُ من مجرَّدِ إخبارِهم عنه بأن ذلك جائزٌ عند الله إذ قد يجيء من عند الله ما لا يجب علينا به عملٌ، لكونه منسوخًا أو لكونه خبرًا لا يجب علينا به عملٌ ونحو ذلك. وتحريفُهم لنصوص الكتاب والسنة ظاهرٌ، وكذلك كتمانُهم ما يَحتجُّ به أهلُ الإيمان عليهم من الآثار
(1)
في الأصل: "به ما وضعه".
المعروفة والكتب المنقولة نقلًا صحيحًا.
ثم إن هؤلاء لهم حالانِ: تارةً يرون تحريف النصوصِ على وَفْقِ آرائهم، ويُسمُّون ذلك تأويلًا، وتارةً يرون الإعراضَ عن تدبُّرِها وعَقْلها، ويُسمُّونه تفويضًا. فهم بين التحريف والأمِّيَّة، منهم من يُوجِب هذا، ومنهم من يوجب هذا، ومنهم من يستحبُّ هذا، ومنهم من يستحب هذا، ومنهم من يُوجب أو يستحبُّ هذا لطائفةٍ وهذا لطائفةٍ، أو هذا في حالٍ وهذا في حالٍ.
وكثير من الناس لا يجمعُ هذه الصفاتِ الأربعة المذمومة، بل يكون منها خصلة أو خصلتان: إمّا الأمية وإمّا التحريف وإمّا الكتمان أو غير ذلك، ثم من كان مؤمنًا لا يكون هذا حاله في جميع القرآن، لكن في بعضِه أو في كثيرٍ منه، كما عليه طوائفُ من أهلِ الكلام ومن اتبعَهم، وربما فعلَ ذلك في أكثر القرآن، كحالِ الفلاسفة من القرامطة والباطنية ونحوهم.
ثم اعلم أن طريقة التحريف لا تُسلَكُ ابتداءً، لأن تفسير الكلام بخلاف مقتضاه لا يقبله القلبُ إلّا بموجب، بل تُسلَك ابتداءً طريقةُ الكلام والكتاب المضافِ إلى الدين وليس منه، وهو ما يُسمُّونه المعقولات التي هي المجهولات، ويجعلون ذلك هو الاعتقاد وأصول الدين التي أمرَ الله بها، والحكمة الحقيقية والعلوم اليقينية التي ينبغي للفضلاء تحصيلُها، ويَصُدُّون الناسَ عن القرآن بالطريقة الأمية، ويتفاوضون فيما بينهم بطريقة التحريف.
ولهذا يُقرِّرون أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقينَ، فإن هذا يمنع ما أمر الله به من عَقْلِه وتدبُّرِه وتذكُّرِه والتفكُّرِ فيه، ويجعل الطريقة الأمّيّة حجةً،
إذ كان ذلك لا يُفيد علمًا ويقينًا. وطريقة التحريف تتقابل فيها الاحتمالات، فإنه إذا لم يكن إلى العلم بالمراد سبيلٌ تَعيَّن الإعراضُ عن مُرادِ القرآن، وهى الطريقة الأمية. قال الله تعالى:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة/ 78]، {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية/ 24].
ومما يجب أن يُعلَم أن من أعظم أبواب الصدِّ عن سبيل الله وإطفاءِ نورِ الله والإلحادِ في آياتِ الله وإبطالِ رسالةِ الله دعوى كون القرآن لا يُفهَم معناه، ولا طريق لنا إلى العلم بمعناه، أو لا سبيل إلى ذلك إلّا الطرق الظنية. ولهذا يَسلك هذا الطريق من نافقَ هنا من المتكلمة والمتفلسفة ونحوهم، فإنهم إذا انسدَّ عليهم بابُ الرسالة والأخذ منها رجعَ كلٌّ منهم إلى ما يوحيه الشيطانُ إليه، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام/ 121].
ثم القرآن إما أن يحرفوه، فيكونون في معناه منافقين يُظهرون الإيمان بلفظه وهم بمعناه كافرون، وأما أن يُعرِضوا عن معناه فيكونوا به كافرين، كما قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} [طه/ 123 - 126]. والنسيان تركُها والإعراض عنها، وكذلك ترك استماعها وترك تدبُّرِها وفَهْمِها، وترك الإيمان بها والعمل بها، كل ذلك من نسيانها. وقراءةُ مجرد حروفها وحفظه أو استماع مجرد صوت القارئ بها لا يمنع النسيان المذموم، فلا بدَّ من الإيمان الذين يتضمن معرفتَها والعملَ بها، وهذا وإن لم يكن واجبًا على كل أحدٍ في كل آيةٍ على سبيل التفصيل، لكن الإيمان بالله
أوجبَ مجموعَ هذا على مجموعِ الأمة.
فمن كان يرى أن الذي أمر الله به [إما] أن تكون الأمة كلها أميةً لا تَعقِلُ معاني الكتاب، وإما أن يكون فيها من يُحرِّفه بالتأويلات المبتدعة، فهو ممن يدعو إلى الإعراض عن معاني كتاب الله ونسيانها. ولهذا صار هؤلاء يَنْسَون معانيَه حقيقةً كما يُنسَى اللفظُ، فلا يَخطُر بقلوبهم المعنى الذي أراده الله ولا يتفكرونه، وهذا نسيانٌ حقيقي لمعاني كتاب الله، وإن كان فيهم من يحفظ حروفه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والدارمي
(1)
وغيرهما: "هذا أوانُ يُقبَضُ العلمُ" فقال زياد بن لبيد: يا رسولَ الله! كيف يُقبَضُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءنا، فقال:"إن كنتُ لأحسبُكَ من أفقهِ أهلِ المدينة، أوَ ليست التوراةُ والإنجيلُ عند اليهود والنصارى فما أغنَتْ عنهم؟! ". بيَّن صلى الله عليه وسلم أن وجودَ الكتب المسطورة والحروف المسموعة المقروءة بالأصوات المسموعة لا تُغنِي من العلم شيئًا إذا لم يَقترِنْ بها فهمُه وفقهُه ومعرفتُه.
ولهذا قال عبد الله بن مسعود: "إنكم في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ قُرَّاؤه - وفي روايةٍ: كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه - كثيرٍ مُعطوه قليلٍ سائلوه، وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ قراؤه أو خطباؤه قليلٌ فقهاؤه قليلٌ معطوه كثيرٌ سائلوه"
(2)
. فبيَّن أن الزمان المحمود هو الذي يكون [فيه] فقهاءُ يفقهون معاني القراءةِ والخطاب، أمّا كثرة من يقرأ القول ويتكلم بالخطاب بلا
(1)
أخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) عن أبي الدرداء. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2)
أخرجه أبو خيثمة في العلم (109).
فقهٍ فإن ذلك مذموم، ذكر هذا في نعت أبناء الدين، ثم قال في نعت أبناء الدنيا: إن المحمود كثرة المعطي وقلةُ السائل، لا كثرة السائل وقلة المعطي. فعُلِمَ أن ما أوجبَ تركَ فقه القرآن فهو مذموم، فكيف بما أوجبَ تحريفه وتبديلَه!
واعلم أنه لما حرَّف من حرَّف من المنتسبين إلى العلم كثيرًا من معاني القرآن، وجعلوا ذلك هو فقهه وفهمه ومعرفة معانيه في أصول دينهم وفروعه، ووضعوا من الكلام الذي ابتدعوه، والكتب التي
(1)
كتبوها بأيديهم، وجعلوها مأمورًا بها من عند الله أو مأثورةً من عند الله، وكثُرَ هؤلاءِ وكبُرَ أمرُهم = صارَ آخرون من المؤمنين الذين علموا بطلانَ ما ابتدعوه وتحريمَ ما قالوه، وكتبوه ينهون عن ذلك كما أمر الله ورسولُه، وينهونهم عما ابتدعوه من التأويل الذي هو تحريف الكلمِ عن مواضعه، ويقولون: هذا بدعة وضلالة، والسلفُ لم يتأوَّلوا هذه التأويلات، ورأى أولئك أن في هذه التأويلات من الفساد، ما لا تقبله العقول والقلوب، [و] من الاختلاق ما يوجب الافتراقَ والشقاقَ. وضعُفَ أولئك المؤمنون عن تحقيق الإيمان بمعاني القرآن، إمّا في بواطنهم لما عارضوهم به من الشبهات، وإما في ظواهرهم لما قاموا به من المجادلات والمجالَدات، أخلَد الفريقانِ إلى الطريقة الأميةِ المتضمنةِ الإعراضَ عن معاني كثيرٍ من القرآن، وصار ممن يرى هذه الفتن والافتراق يَصُدُّ قلبه عن تدبُّر القرآن وفهمِه ومعرفةِ الحديث وعلمِه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء/ 61] خوفًا من شبهات المنافقين التي يُوحيها شياطين إنسِهم وجنِّهم إلى قلبِه،
(1)
في الأصل: "الذي".