الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبيّ، فإنه كان بمنزلة الملوك الرؤساء المُطاعين في أتباعِهم.
ومن اعترض على السنة والجماعة بنوع تأويلٍ: قياسٍ أو ذوقٍ أو تأويلٍ منه خالفَ به سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ففيه شَوْبٌ من الخوارج أتباعِ ذي الخُويصرة.
وإنما الحق أن يكون الدينُ كلُّه لله، وتكون كلمة الله هي العليا، والمبلِّغُ لكلمة الله الآمرُ بطاعةِ الله هم رُسُلُ الله الذين خُتِمُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ختمَ الله به النبوةَ والرسالةَ، فليس بعده نبي ولا رسولٌ. ومن أُطِيعَ من الأمراء والملوك والمشايخ فلأنهم يأمرون بما أمر الله به ورسولُه طاعةَ متابعةٍ واتباعٍ، لا طاعةَ مشاركةٍ وابتداع. فهذا هذا، والله أعلم.
فصل
وأما الوجهُ الثالث: فقوله: "قد تأوَّل السلفُ كثيرًا منها ومن الآياتِ، وأذِن لنا في التأويل ابنُ عباسٍ، وهو حَبْر هذه الأمةِ وترجمانُ القرآنِ في غير ما آيةٍ في هذا الباب، قال: إذا خفيَ عليكم شيء من القرآن فابتغُوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، وقال في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم/ 42]: أما سمعتم قولَ العرب: قامتِ الحربُ على ساق"
(1)
.
ف
الجواب من وجوهٍ:
أحدها: إن كان المرادُ بالسلف الصحابةَ فهذا النقلُ عنهم باطلٌ، لم يتأوَّلْ أحدٌ قَطُّ من الصحابة شيئًا من آيات القرآن التي ظاهرُها أنها صفةٌ لله
(1)
سبق التعليق عليه في أول الكتاب.
تعالى. ولقد بحثتُ عن هذا الباب وكشفتُه، وطالعتُ التفاسير المنقولة عن الصحابة نقلًا صحيحًا، فلم أجدْ عن أحدٍ من الصحابةِ أنه تأوَّلَ آيةً واحدةً من الآيات التي ظاهرُها صفةٌ على نفْيِ الصفة، بل وجدتُ عنهم من الآثار التي تُقَرِّرُ النصوصَ وتُثبِتُ الصفاتِ وتُصرِّحُ بمنافاةِ قولِ المتأوِّلين والمعطِّلين ما لا يتسع هذا الموضع لكتابته، ولا يَحضُرني تفاصيلُ ذلك، وليست الكتبُ عندي، وكتابةُ مثل هذا من الحفظ متعذر.
فهذا السؤال الذي أوردَه قد انقلبَ عليه، وهو من أعظم الحجج القطعية على صحة مذهب المثبتةِ للصفات المانعين عما يُضادُّها من التأويلات، إذ جميع الصحابة قد ثبتَ عنهم بأنواع الثابت من المنقولات إثباتُ صفة العُلُوِّ وغيرِها من الصفاتِ، بالنصوص الصريحة التي لا تحتمل خلافَ ذلك، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم تأويلٌ يخالف ذلك بما يخالف الظاهرَ. فالمتأوِّل بما يخالف الظاهرَ مع أنه مبتدعٌ لهذه التأويلات، فهي بدعةٌ مخالِفةٌ لإجماع السلف، لا بدعةٌ مسكوتٌ عنها.
ومع أنهم لم يتأوَّلوا ما ظاهرُه الصفةُ فلم أعلم عن الصحابة نزاعًا فيما يُقال: إنه من الصفات، إلّا في قوله:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، فإن هذا مُتنازَعٌ فيها زمنَ الصحابة، فعن ابن عباس وطائفةٍ ما ذكره المعترض أن المراد به الكشفُ عن شدَّةٍ. وقد بَعُدَ عَهْدِي بالإسناد عن ابن عباسٍ هل هو متصلٌ أو منقطعٌ
(1)
. وعن أبي سعيد الخدري وغيرِه جعله من الصفات، وفي الصحيحين
(2)
حديث أبي سعيد
(3)
وغيره.
(1)
في هامش الأصل: "صحح إسنادَه البيهقي، كذا في الدر".
(2)
البخاري (4919، 7439) ومسلم (183).
(3)
في هامش الأصل: "أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد: =
وسببُ النزاع أنه ليس في ظاهر الآية ما يدلُّ على أنها من الصفات، لأنه قال:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، ولم يُضِفْ ذلك إلى الله بل نكَّرَه، ومعلومٌ أن هذا لا يدلُّ بنفسِه على أنه صفةٌ لله، بخلاف ما أضيفَ إليه، ولهذا تنازعَ فيه الصحابةُ، فمن أثبته احتجَّ بحديثِ أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين، وقال أيضًا: فرقٌ بين أن يُقال: كُشِفَ الشيءُ وأن يقال: كَشَفتُ عنه، فإن الشدَّة يقال فيها: كشَفَها الله أي أزالها، كما قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} إلى قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} [الأعراف/ 134 - 135]، وقال تعالى في حق أيوب:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} ، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس/ 23]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام/ 40 - 41]، وقال تعالى:{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون/ 75].
قالوا: فالشدَّة يقال فيها كشفَها، ولا يقال: كشفَ عنه. وأما الكشف عن الشيء فهو إظهاره وإبرازه، كما يُكشَف العذاب عن الناس، فالعذاب نفسه مكشوف، وأما الناس فهم مكشوفٌ عنهم لظهورهم وبروزهم بعد زوال العذاب عنهم.
وإن كان المراد بقوله "السلف" التابعين فلا أعلم أحدًا من التابعين
= سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربُّنا عن ساقِه
…
الحديث". وهذا من أحد القراء نقلًا عن الدر المنثور (14/ 642).
تأوَّل شيئًا من النصوص التي ظاهرها الصفة، بل القول فيهم كالقول في الصحابة، إلّا أن دعوى الإحاطة بكلامهم أصعب، وعامة الأئمة والمفسرين على إثبات الصفات كما تقدَّم عن الصحابة، والنقول بذلك عنهم كثيرة لا تنحصر، وبينهم نزاعٌ في الساق كما تقدم. وقد نُقِلَ عن مجاهد
(1)
في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة/ 115] أي فثّمَّ قبلة الله، ومن قال ذلك منع أن يكون لفظ الوجه هنا ظاهرًا في الصفة، بل الوجه كالوجهة، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة/ 148]، ومن أثبت الصفة مع ذلك سلك طريقةً أخرى.
والمقصود هنا بيان أنه لا نسلِّم أن ظاهر الخطاب إذا كان صفةً لله تأوَّلها السلف.
وإن كان المراد بالسلف من كان في زمن الأئمة من أهل البدع مثل الجهم والجعد، أو من بعد هؤلاء مثل أبي الهذيل العلاف وطبقته وبِشر المريسي ونحوه، فهؤلاء الذين ابتدعوا هذه التأويلات، والكلام فيها معهم ومع أتباعهم.
الوجه الثاني: أنه لو ثبت عن بعض الصحابة أو التابعين تأويلٌ فهو مثل تنازعهم في تفسير الآيات وبعض الأحكام، فمن المعلوم أن الآية التي ذكر تأويلها عن ابن عباس قد نازعه فيها غيرُه، وقد قال تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء/ 59]. وليس قول بعض الصحابة حجةً على بعض.
(1)
أخرجه عنه الترمذي (2958). والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 13).