المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من لم يعلم من الكلام إلا لفظه فهو مثل من لم يعلم من الرسول إلا جسمه - جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال

- ‌ الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه

- ‌ الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب

- ‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

- ‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

- ‌ جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب

- ‌القسم الثالث: خبر الواحد العدل

- ‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

- ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

- ‌ كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه

- ‌ الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين:

- ‌ التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن

- ‌نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا

- ‌الجواب من وجوهٍ:

- ‌ الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له

- ‌ السابع(2): أن نقله عن ابن عباس "إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر" لا يدلُّ على مورد النزاع

- ‌جوابُه من وجوه:

- ‌الأمثال المضروبة في القرآن

- ‌ النكرة في سياق النفي تَعُمُّ

- ‌ إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم

- ‌ الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم

- ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

الفصل: ‌من لم يعلم من الكلام إلا لفظه فهو مثل من لم يعلم من الرسول إلا جسمه

أو خوفًا منهم في الظاهر.

وهذا الثاني يُعذَر، وأما الأول فلا يُعذَر، إذ يجب على المؤمن الإيمانُ في قلبِه في كلِّ حال، ويكون في المنكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان"

(1)

. وكيف يُنكِر المنكرَ بقلبِه من لا يعرِف أنه منكرٌ، فالعلمُ قبلَ الحبِّ والبغضِ، والإيمانُ بالقرآن لفظِه ومعناه واجب، ومحبةُ لفظِه ومعناه واجب، وإنكارُ ما خالفَه ولو بالقلبِ واجبٌ، لكن يُعذَرُ المؤمنُ بعجزه. فالقلب كالبدن، فمن عجز عن معرفته فهو كالعاجز عن حفظ حروفه، ويَسقُط عنه خطابُ الإيمان بذلك، ويُخاطَب به القادرون، لكن لا يكاد يَعجِزُ مثلُ هذا أن يعلم أيُّ القولينِ أو القائلين أولى بالإيمان بالله ورسولِه، فعليه أن يكون مع أهل الإيمان بحسب إيمانهم، وإن ابتُلِي بمخالفة الفاجر خالفَه.

وهذا الذي ذكرتُه بيِّنٌ لمن تدبَّره، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. فإنّ الله تعالى إنما أنزل كتابَه لِيُعقَل ويُتدَبَّر، وتتبُّعُ المعاني أشرفُ من الألفاظ والكمال المقصود بالألفاظ، وهى معها كالأرواح مع الأجساد، فاللفظ بلا معنًى جسمٌ بلا روحٍ، و‌

‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

، ومن لم [يعلم] من الصلاة إلّا حركةَ البدن بالقيام والقعود والركوع والسجود. ولهذا قال تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية [البقرة/ 177]، وقد رُوي في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما هلكَ بنو إسرائيلَ حين شَهِدتْ أجسادُهم وغابتْ

(1)

أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 27

قلوبُهم"

(1)

. ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق/ 37]، قالوا: شاهدُ القلب غير غائبِه.

ولهذا ذمَّ العلماء، الراسخون والمؤمنون الصادقون من اقتصر في إعجاز القرآن على ما فيه من الإعجاز من جهة لفظه أو تأليفه أو أسلوبه، وقالوا: هذا وإن كان معجزًا فنسبته إلى ما في معانيه من الإعجاز نسبة الجسد إلى الروح، ومحاسن الخَلْق إلى محاسنِ الخُلُق، وهو يُشبِهُ مَن عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاسنِ خَلْقِه وبدنِه، ولم يعلم ما شرَّف الله به قلبَه الذي هو أشرفُ القلوب ونفسَه التي هي أزكى النفوس، من الأمور التي تَعجزُ القلوبُ والألسنةُ عن كمال معرفتها وصفتها، كما قال ابن مسعود

(2)

: "إنّ الله نظَر في قلوبِ العباد، فوجدَ قلبَ محمدٍ خيرَ القلوب، فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب أصحابِه بعد قلبِه، فوجدَ قلوبهم خيرَ القلوب، فاختارهم لصحبة نبيِّه وإقامةِ دينِه". وأظنُّه فيه أو في غيره

(3)

: "فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيء". وقال

(4)

: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات،

(1)

أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (157) من حديث عثمان بن أبي دهرش مرسلًا، ولفظه: "خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل

".

وإسناده ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة (5050).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 379) والطيالسي في مسنده (ص 23) والبزار كما في كشف الأستار (130) والطبراني في الكبير (8582) عنه موقوفًا. وإسناده حسن.

(3)

هو ضمن الأثر المذكور، وقد أخرج هذا الجزء فقط الحاكم في المستدرك (3/ 78) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 97) عن طريق قتادة عن ابن مسعود، وهو منقطع.

ص: 28

فإن الحيَّ لا تُؤمَن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أبرُّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقُها علمًا وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه وإقامةِ دِينه، فاعرِفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهَدْيِهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".

وهذا القدر الذي ذكرناه - من أن المقصود بالقرآن معانيه ومِن ذمِّ المعرضِ عن معناه - هو أجلُّ في نفسه وأظهرُ معرفةً من أن يُحتاج إلى بسطٍ، فإذا كان كذلك فمن أعرضَ عن معناه بالكلية فهو مُعرِضٌ عن البرّ المقصود منه، ومن أعرض عن معاني كثيرٍ منها فهو مُعرِضٌ عن كثيرٍ منه، فإذا كان يأمر بذلك الإعراض ويرغب فيه فهو أمر بالإعراض عن القرآن وأمر بنسيانه وتركه، ومعلومٌ أن هذا كفرٌ صريح. وإذا كان يقول: إنه ليس بمعرِضٍ عن معناه، ويتأوَّله على غير تأويله، ويقول: هذه معانيه، ويأتي بمعانٍ تُضادُّ معانيَه، فهو منافق كاذبٌ، بمنزلة من يقول: أنا أؤمنُ بحروفِه، وأتَى بكلامٍ ليس هو القرآن وقال: هذا هو القرآن، فهو منافق كاذب، ولهذا كان أضرَّ وأخبثَ، فإن الأول بمنزلة الكافر المعرض عن المسلمين، والثاني بمنزلة المنافق الذي أظهرَ الإيمانَ وفعلَ في المسلمين ما ينافي الإيمان.

ولهذا كان مبدأ هذه البدع الكبار - مثل الرفض والتجهُّم ونحو ذلك - من منافقين زنادقةٍ أبطنوا الكفرَ وأظهروا الإسلام، وجاء في الحديث من غير وجهٍ:"إن أخوفَ ما أخاف عليكم زَلَّةَ عالمٍ، وجدالُ منافقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مُضِلُّون"

(1)

. وهذه الثلاثة تتفق في الأمور الخبرية

(1)

أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 85) عن معاذ، وفي إسناده عبد الحكيم بن منصور وهو متروك.

ص: 29

والعلمية جميعًا، فإن الأمور الخبرية قد يَزِلُّ بعضُ العلماء فيها بالتأويل الذي هو تفسير آيةٍ أو حديث، أو في الحكم على مضمونِ ذلك بإثباتٍ أو نفيٍ يخالف مضمونَ النصِّ، وهذا كثير. وقد كان كثير من أهل البدع منافقين حقيقةً، يجادلون الناسَ بالقرآن ويُفسِدونَه بالتأويلات التي ابتدعوها، ويؤيدون مقاييسَهم الفاسدة بشواهدِ ذلك من غريب اللغة ونادِرها.

والأئمة المُضِلُّون من الأمراء والعلماء والمشايخ والملوك، الآمرون بخلاف ما أمر الله به ورسولُه، والناهون

(1)

عما أمر الله به ورسولُه، والمخبرون

(2)

بخلاف ما أخبرَ الله به ورسولُه، ففيهم الكذبُ في خبرِهم والظلمُ في أمرِهم وعلمِهم، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن

(3)

أنه قال لكعب بن عُجْرَة: "أُعِيذُك بالله من إمارة السفهاء"، قال: وما ذاك يا رسولَ الله؟ قال: "أمراءُ يكونون من بعدي، مَن دخلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبهم وأعانَهم على ظلمهم فليسوا منِّي ولستُ منهم، ولن يَرِدُوا عليَّ الحوضَ، ومن لم يَدخُلْ عليهم ولم يُصَدِّقهم بكَذِبهم ولم يُعِنْهم على ظلمِهم فأولئك مني، ويَرِدُون عليَّ الحوضَ".

فهذا الكلام قليلٌ من كثيرٍ يتبيَّن به أن مَن عَدَلَ عن تفسير الصحابة

(1)

في الأصل: "والناهي".

(2)

في الأصل: "والمخبرين".

(3)

أخرجه الترمذي (614، 615) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث عبيد الله بن موسى. وأيوب بن عائذ الطائي يُضعَّف ويقال: كان يَرى رأي الإرجاء.

ص: 30

وما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك - إمَّا سالكًا [طريقًا] أخرى إلى فهم القرآن أو مُعرِضًا عن الجميع - فلا بدَّ له من الجهل والضلال والإفك والمحال، وهو على شفا جُرُفٍ هارٍ يؤديه إلى الكفر والنفاق، فإن انهارَ به وقعَ في نارِ جهنم، وصار من أهل الحراب والشقاق، {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال/ 13]، و {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة/ 33].

ولهذا ما زال كل ذي عقلٍ ودين يردُّون علم معاني الكتاب والسنة إلى العلماء والفقهاء فيه، الذي تَلقَّوه طبقةً بعد طبقةٍ ميراثًا محفوظًا، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خطبته التي رويناها عنه لكُمَيل بن زياد

(1)

: "احفَظْ ما أقول لك، القلوبُ أوعيةٌ فخيرُها أوعاها، الناسُ ثلاثة: عالم ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ يميلون مع كلِّ صائحٍ، لم يَستَضِيئوا بنورِ العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيقٍ. يا كُمَيل! العلم خيرٌ من المال، العلمُ يَحْرُسُك وأنتَ تَحرُسُ المال، العلمُ يَزكُو على العملِ والمالُ يَنقُصُه النفقةُ، العلمُ حاكمٌ والمالُ محكومٌ عليه، ماتَ خُزَّانُ المال وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وأمثالُهم في القلوب موجودةٌ. آهِ آهِ! إن ههنا - وأشارَ بيده إلى صدرِه - علمًا لو أصبتُ له حَمَلةً، بلى أصَبْتُ لَقِنًا غيرَ مأمون عليه، يستعمل آلةَ الدين في طلب الدنيا، يَستظهرُ بِنعَمِ اللهِ

(1)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 79، 80) وأبو هلال العسكري في ديوان المعاني (1/ 146، 147) والمزي في تهذيب الكمال (24: 220 - 222).

ص: 31

على عبادِه وبحُججه على كتابه، أو مُنقادًا لأهل الحق لا بصيرةَ له في أحنائِه، ينقدح الشكُّ في قلبِه بأوَّلِ عارضٍ من شبهة، لا ذَا ولا ذاك، فمنهومٌ باللذات سَلِسُ القياد للشهوات، أو مُغْرًى بجمع المال والادخار، أقرب [شيء] شبهًا بهما الأنعامُ السائمة، كذلك يموتُ العلم بموتِ حامليه". ثم قال:"اللهم بلى! لن تَخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بحجته".

هذا لفظ الحديث الذي رواه أهل العلم بذلك، وأما قولهم "إمَّا ظاهر مشهور وإمَّا غائب مستور" فمن أكاذيب الرافضة الذين يزعمون أنه أشار به إلى ما لا حقيقة له. وليست هذه الزيادات في شيء من الروايات إلّا في مثل "نهج البلاغة"

(1)

الذي أكثره موضوع، وضعه واخترعَه الشاعر المعروف بالرضي. وتمام الحديث:"أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانُوا ما استوعَره المُتْرَفون، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صَحِبُوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحلِّ الأعلى. آهِ آهِ! شوقًا إلى رؤيتهم".

ففي هذا الحديث أن أمير المؤمنين قسمَ حملةَ العلمِ المذمومين ثلاثة أصناف:

المبتدع الفاجر الذي ليس عنده أمانةٌ وإيمان، يَبْطَرُ الحقَّ الذي جاء به الكتابُ ويَغْمِطُ الخلقَ، يجادل في آياته بغير سلطانٍ أتاه، إنْ في صدره إلَّا كِبرٌ ما هو ببالغِه. وهؤلاء مثل المتفلسفة والمتكلمة الذين يعارضون القرآنَ ويَعتَدُون على أهلِ الإيمان.

(1)

ص 497 بنحوه.

ص: 32

والصنف الثاني: المقلِّد المنقاد بلا بصيرة ويقين، مثل ما يوجد في كثير من العلماء والفقهاء الذين لهم ذَكاءٌ وصحةُ إيمان. وإنما ذكر الثالث لأن النفس يكون ذنبها تارةً بالجهل، وتارةً بالظلم، إما بالقوة الشهوانية، وإما بالقوة الغضبية، فهؤلاء أهلُ الاعتداءِ في القوةِ الغضبية بالكبرِ والطعنِ هم القسم الأول، والجهال هم المقلدون وهم القسم الثاني، وأهل الشهوة هم القسم الثالث.

ثم ذكر خلفاءَ الرسل القائمين بحجج الله وبيِّناتِه، فقال:"لن تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجته، لكيلا تَبطُل حُجَجُ الله وبيناتُه". ومعلومٌ أن الله تعالى إنما أقامَ الحجةَ على خلقِه برسُلِه، فقال:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]، فلم يَبقَ لهم بعد الرسلِ حجةٌ، وإنما تقوم الحجةُ في مغيبهم ومماتهم بمن يُبلِّغ عنهم، كما قال:"لكيلا تَبطُل حججُ الله وبيناتُه"، ولا تقوم الحجةُ حتى يُبلِّغ اللفظَ والمعنى جميعًا، إذ تبليغُ اللفظ المجرد الذي لا يدلُّ على المعنى المقصود لا تقوم به حجةٌ، بل وجودُه كعدمِه. فالقائمون بحجة الله هم المبلِّغون لما جاءت به الرسلُ لفظًا ومعنًى، ولهذا قال:"وبيناتُه" وهي ما يبين الحق.

ثم وصفَهم فقال: "هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، هَجمَ بهم العلمُ على حقيقةِ الأمرِ، فاستلانُوا ما استوعَرَه المُتْرَفُون، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلونَ". فإنه قد ذكر أن مَن سِوى هؤلاءِ جاهلٌ أو مُتْرَفٌ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِلَ، فيستوحشُ مما عداه ويَنفِر عنه، كما يُصيبُ المكذبين ببعض ما جاءتْ به الرسلُ من استيحاشِهم لكثيرٍ منه لجهلِهم به، وكما يُصيبُ المؤمنَ بلفظ الجاهل بمعناه، وأما العلماء فكما قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ

ص: 33

الْحَقَّ} [سبأ/ 6]. والمترف هو الذي ترك العملَ بعلمه واستحسن ذلك، كما تقدم في وصفِ صاحبِ الاعتداء في كِبْره وشهوتِه. فأخبرَ أن هؤلاء علموا ما جاءت به الرسلُ، فأَنِسُوا به وعَمِلُوا بذلك واستلانوه، فقال:"فاستلانوا ما استوعَره [المُترفون]، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون".

وهذه صفه أئمة الهدى من الصحابة والتابعين، كسعيد بن المسيَّب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، ومن بعدهم مثل الثوري ومالك وإبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وفُضيل بن عياض ونحوهم، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد وعبد الله بن وهب وأبى سليمان الداراني ومعروف الكرخي والشافعي ونحو هؤلاء. ثم كان من أقوم هؤلاء بهذه المنزلة في وقته أحمد بن حنبل ومن يقاربُه في ذلك، كإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وبشر بن الحارث الحافي وغير هؤلاء. فإن الإمام أحمد كما قال فيه أبو عمر النحاس الرملي

(1)

رحمه الله: "عن الدنيا ما كان أصبَره! وبالماضين ما كان أشبَهَه! أتتْه الدنيا فأباها، والبدع فنَفاها"، فهو من أعظم من أَنِسَ بما استوحشَ منه الجاهلون، واستلانَ ما استوعَره المترفون.

وهؤلاء وأمثالُهم من الأئمة كما قال الله تعالى فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة/ 24]. فأيُّهم كان أعظمَ يقينًا بآيات الله وصبرًا

(2)

على الحقّ فيها كان أعظمَ إمامةً عند الله من غيرِه، ومن مثلِ هؤلاء يُؤخَذ تفسير القرآن والحديث، كما

(1)

انظر سير أعلام النبلاء 11/ 198 وفيه: أبو عمير بن النحاس.

(2)

في الأصل: "صبروا".

ص: 34

قال أبو عبيد - وعلمه باللغة في الطبقة العليا، مع ما له من البراعةِ في بقية العلوم - لمّا ذكرَ تنازعَ بعض أهلِ اللغة وعلماء الفقه والحديث في تفسير نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمالِ الصمَّاءِ، وأن بعض أهلِ الغريب فَسَّره بالتجليل، وأن علماء الدين فسَّروه بإبداءِ المنكب، قال أبو عبيد

(1)

: "والفقهاءُ أعلمُ بالتأويل"، والتأويل هو التفسير، وهو حقيقة المراد. يعني أن الفقهاء يعلمون ما عُنِي بالأمر والنهي، لأن ذلك مطلوبُهم، وأهل الغريب يتكلمون فيه من جهة اللفظ فقط وما تريده به العربُ كما قدمناه.

وكذلك ذكر هلال بن العلاء الرقّي - فيما أظنُّ - أنهم لمّا سمعوا نهْيَ النبي صلى الله عليه وسلم عن العَقْر قال: سألنا فلانًا وفلانًا من أهل العلم باللغة فلم يَعرِفوا معناه، وأظنُّه ذكر أبا عمرو الشيباني وطبقتَه، قال: فقلنا: ارجعوا بنا إلى أهلِه، فجاؤوا به إلى أحمد بن حنبل، فسألوه فقال: كانوا في الجاهلية إذا ماتَ فيهم كبيرٌ ذبحوا عند قبرِه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما فيه من تعظيم الميت الذي يُشبِه النياحةَ ويُشبِه الذبحَ لغير الله. ولهذا كرِه أحمد الأكلَ مما يُذبَح على القبور. قال هلال: فقلنا: هذا والله العلمُ، ثم أنشدَ لبعضِ عربِ الجاهلية

(2)

:

وإذا مَررتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه

كُومَ الرِّكابِ وكلَّ طِرْفٍ سَابحِ

فهذا بعض ما يتعلق بكون الأحاديث والآثار موافقةً للقرآن ومفسِّرةً له.

(1)

في غريب الحديث (2/ 118).

(2)

البيت لزياد الأعجم أو الصلتان العبدي من قصيدة في أمالي اليزيدي 2 وذيل أمالي القالي 9.

ص: 35