الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك ولم يفهموه، ففيهم من يعرف أنه حقيقة قولهم ويقول: إن معاني هذه الألفاظ لم يُبيِّنها، إما لأن المصلحة كانت كتمانها، وإما لأنه هو لا يعرفها. فمن الزنادقة من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا.
وأما الذين شاهدوه فقد شهدوا له بالبلاغ، ونحن نشهد بما شهِد به إخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فإنه بلَّغ البلاغَ المبين، وعبدَ الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين. ولهذا قال أبو عبد الرحمن السُّلمي أحد أكابر التابعين: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآنَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل
(1)
.
وإذا عُلِمَ أن
الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه
، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا
(2)
. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين، فعُلِمَ أن بيانَ معانيه لهم كان أعمَّ من بيان ألفاظه.
ومن هذا الباب صاروا يروون عنه الأحاديث التي ليست ألفاظها
(1)
أخرجه أحمد في مسنده 5/ 410 وابن سعد في الطبقات 6/ 172 وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 460 والطبري في التفسير 1/ 74 وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن ماجه (61) والطبراني في المعجم الكبير 2/ 158، 165 عن جندب. قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ألفاظَ القرآن، لأنه قد كان يُبيِّن لهم معانيَ كثيرةً بغير ألفاظِ القرآن، وذلك هو حديثه. فإذا كان الصحابة قد تلقَّوا عن نبيهم لفظَ القرآن ومعناه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد، فالمنقول عن الصحابة من معاني القرآن كان في ذلك كالمنقول عنهم من حروفِه سواءً بسواءٍ، وإن تنازعَ بعضُهم في بعض معانيه فذلك كما قد يتنازعون في بعض حروفه، وكما قد تنازعوا في بعض السنة لخفائها عن بعضهم، إذ لم يكن كلٌّ منهم تلقَّى من نفس الرسولِ جميعَ القرآن وجميعَ السنة، بل كان بعضهم يُبلِّغ بعضًا القرآنَ لفظَه ومعناه، والسنةَ، كما قال البراء بن عازب: ليس كلُّ ما نُحدِّثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يَكْذِب بعضُنا بعضًا
(1)
. ولهذا ما يذكره ابنُ عباس من الحديث في القرآن والسنة تارةً يَذكُر من سمعه من الصحابة، وتارةً يُرسِلُه، لكثرةِ من سمعه منه، وبعض ذلك قد سمعه منه، فأما ما كان قبل الهجرة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما نزل فيه من القرآن من ذلك فلم يَشهَدْه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابنُ عباسٍ مُراهق، وكان عند الهجرة صغيرًا جدًّا.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل على نبيِّه الحكمةَ كما أنزلَ عليه القرآن، وامتنَّ بذلك على المؤمنين، وأمرَ أزواجَه بذكرِ ذلك، وقد بلغَ ذلك الصحابةَ كما بلغَهم القرآنُ، فلا يحتاجون في ذلك إلى أحدٍ. والحكمة هي السنة كما قال ذلك غيرُ واحدٍ من السلف، وذلك أنه قال:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب/ 34]، فما يُتلَى غير القرآن في بيوتهن هو السنة، إذ المراد بالسنة هنا هو ما أُخِذ عن الرسول سوى القرآن، كما قال في غير حديث: "ألا إني أوتيتُ
(1)
أخرج نحوه الحاكم في معرفة علوم الحديث 14.
الكتابَ ومثلَه معه"
(1)
وفي لفظٍ: "ألا إنه مثلُ القرآن وأكثر". ولهذا ذمّ المتخلف عن طلب السنة المكتفي بالقرآن فقال: "لا أُلْفِينَّ أحدَكم متكئًا على أريكتِه يأتيه الأمرُ من أمري مما أَمَرْتُ به أو نَهيتُ عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا من حلالٍ أحللناه، وما وجدنا من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه"
(2)
. وهذا المعنى قد استفاض عنه من وجوهٍ متعددةٍ من حديث المقدام بن معدي كرب وأبي ثعلبة الخُشَني وأبي هريرة وأبي رافع وغيرِهم، وهو من مشاهير أحاديث السنن والمساند المتلقاة بالقبول عند أهل العلم.
الوجه الثالث: أن بعض الناس لو قرأ مصنفات الناس [في] الطبّ والنحو والفقه والأصول، أو لو قرأ بعض قصائد الشعر، لكان من أحرصِ الناسِ على فهم معنى ذلك، ولكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلامٍ لا يفهمه. فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كلامُ الله وكتابه الذي أنزل إليهم وهداهم به وأمرَهم باتباعه، أفلا يكونون من أحرص الناس على فهمِه ومعرفةِ معناه، من جهة العادة العامة وعادتهم الخاصة، ومن جهة دينهم وما أمرهم الله به من ذلك؟ ولم يكن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظٌ يتفهَّمون فيه يكتبونه إلّا القرآن. لم يكن الأمر عندهم مثل
(1)
أخرجه أبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) عن المقدام بن معدي كرب. وهو حديث صحيح.
(2)
أخرجه أحمد 6/ 8 وأبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجه (13) عن أبي رافع. وحديث أبي ثعلبة الخشني في النهي عن أكل كل ذي نابٍ من السباع وعن لحوم الحمر الأهلية أخرجه البخاري (5527) ومسلم (1932، 1936). وحديث أبي هريرة في النهي عن كل ذي نابٍ من السباع عند مسلم (1933). ومضى حديث المقدام آنفًا.
ما هو في المتأخرين أن قومًا يقرأون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفهمون في كلام آخرين، وآخرون يشتغلون بعلوم أُخَر، بل كان القراء عندهم أهل العلم المحفوظ، وذلك اسمٌ معروفٌ لهم. وهذا مما يُوجِب العلمَ بحرصهم على فهم معناه، وإذا كانوا حِرَاصًا والرسولُ بين أظهرهم فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في بيانِ معانيه وتفصيل مجملِه وبيان متشابهه، فعُلِم أنهم أخذوا عن الرسول بيانَ معاني آيات القرآن التي يقال: إنها مشكلةٌ أو مجملةٌ.
الوجه الرابع: أن أصحابه المعروفين هم الذين نزل القرآن بلغتهم، فإن لغاتِ العرب وإن اشتركت في جنس العربية فبينها افتراق في مواضع كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما خاطب أهلَ اليمن كتب إليهم بلغةٍ هي غريبة بالنسبة إلى لغة قريش، والقرآن نزل بلغة قريشٍ ونحوِهم من أهل الحاضرة والبادية، وأولئك هم خواصُّ أصحابه، فلا يحتاجون في معرفة لغتهم وعادتهم في خطابهم إلى شعر شاعر غيرهم، فضلًا عمن يكون حدثَ بعدَهم.
الوجه الخامس: أن الصحابة سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث
الكثيرة، ورأوا منه من الأحوال، وعلموا بقلوبهم من الأمور ما يُوجب لهم من فهم ما أراد بكلامه ما يتعذرُ على من بعدهم. فليس من سمع ورأى وعلم حالَ المتكلم كمن كان غائبًا، ولم يرَ ولم يسمع منه، ولكن علم بعض أحواله وسمع بواسطةٍ. وإذا كان الصحابة سمعوا لفظه وفهموا معناه كان الرجوع إليهم في ذلك واجبًا متعينًا، ولم يُحتَجْ مع ذلك إلى غيرهم. ولهذا قال الإمام أحمد
(1)
: أصول السنة عندنا التمسك بما كان
(1)
في أصول السنة (رواية عبدوس بن مالك العطار)25. وانظر طبقات الحنابلة =
عليه أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه وأصحابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية:"هو ما كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي"، أو قال:"ما أنا عليه اليومَ وأصحابي"
(1)
.
فثبتَ بهذه الوجوه القاطعة أن الرجوع في تفسير القرآن
(2)
- الذي هو تأويله الصحيح المبيِّن لمراد الله تعالى به - إلى الصحابة هو الطريق الصحيح المستقيم، وأن ما سواه إمّا أن يُخطئ بصاحبه، وإما أن يكون دونَه في الإصابة. ولهذا نصَّ الإمام أحمد على أنه يُرجَع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه منهم أحدٌ
(3)
. ثم من أصحابه من يقول: هذا قول واحد، وإن كان في الرجوع في الفتيا في الأحكام إليه روايتان. ومنهم من يقول: الخلاف في الموضعين واحد
(4)
.
ثم نعلم أن الصحابة إذا كانوا حفظوا فالتابعون لهم بإحسانٍ الذين أخذوا عنهم وتَلقَّوا منهم لا يجوز أن يكونوا عَدَلوا في ذلك عما بلَّغَهم إيَّاه الصحابة، لا يجوز ذلك في العادة العامة، ولا في عادةِ القوم وما عُرِف من عقلهم ودينهم، مع ما علموه من وجوب ذلك عليهم في دينهم. فإذا كان هذا يُوجِب الرجوعَ إلى الصحابة والتابعين فكيف
= 1/ 241 وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 156.
(1)
أخرجه الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث حسن مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وأخرج الطبراني في الأوسط (5019، 8004) عن أنس نحوه.
(2)
في الأصل: "تفسير القرآن إليهم".
(3)
انظر العدَّة 3/ 721.
(4)
انظر المسوّدة 336.
بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وأما الطريق الثاني فمن وجوهٍ:
أحدها: أن نقول: [من] لم يَرجعْ إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن وما [يُراد] بها كما رجع إليهم في نقل حروفه وإلى لغتهم وعادتهم في خطابهم، فلا بدّ أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة عن غيرهم، لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة، وغايته أن يباشر عربًا غيرهم، فيسمع لغتهم ويَعرِف مقاصدهم، ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ. وهذا إنما يصح إذا سَلِمَ اللفظُ من كلام العربي هذا ويَسْلَم في القرآن أيضًا من احتمال المعاني المختلفة لمجازٍ واشتراك، وإلّا فمتى كان اللفظ من أحدهما دون الآخر دالًّا على معنى آخر بطريق الاشتراك والمجاز لم يكن المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر، فغايته فيه القياس، وهو موقوف على اتحاد معنى اللفظين.
ثم من المعلوم أن جنس ما دلَّ على القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس في عادتهم، وإن كان بينهما قدرٌ مشترك، فإن الرسول جاءهم بمعانٍ غيبية لم يكونوا يعرفونها، وأمرَهم بأفعالٍ لم يكونوا يعرفونها، فإذا عبّر عنها بلغتهم كان بين ما عناه وبين معاني تلك الألفاظ قدرٌ مشترك، ولم تكن مساويةً لها، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تُعرَف إلّا منه. فعُلِمَ أن عامة من يأخذُ معاني القرآن من اللغة التي سمعها من العرب العرباء وباشرَهم فيها أن يكون قائسًا قياسًا يحتمل الضدَّ، وأن يكون ما فاتَه من الفارق أعظمَ مما أدركَه بالجامع، وهذا برهان واضح، ولهذا كانوا يقولون ما ذكره عبد الرزاق في