المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحدها: متواتر لفظا ومعنى - جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال

- ‌ الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه

- ‌ الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب

- ‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

- ‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

- ‌ جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب

- ‌القسم الثالث: خبر الواحد العدل

- ‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

- ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

- ‌ كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه

- ‌ الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين:

- ‌ التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن

- ‌نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا

- ‌الجواب من وجوهٍ:

- ‌ الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له

- ‌ السابع(2): أن نقله عن ابن عباس "إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر" لا يدلُّ على مورد النزاع

- ‌جوابُه من وجوه:

- ‌الأمثال المضروبة في القرآن

- ‌ النكرة في سياق النفي تَعُمُّ

- ‌ إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم

- ‌ الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم

- ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

الفصل: ‌أحدها: متواتر لفظا ومعنى

وأما الطريق الثاني

وهو بيان وجوب قبول الأخبار الصحيحة، فنقول:

أما قوله: "هذه الأخبار آحادٌ لا تُفيد العلمَ بل تُفيد الظنَّ، كما عُرِف في الأصول"، فنقول: الأخبارُ في هذا الباب - وهو باب الأمور الخبرية والعلمية - ثلاثة أقسام:

‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

.

والثاني: مستفيضٌ متلقًّى بالقبول.

والثالث: خبرُ الواحدِ العدلِ الذي يجب قبولُه.

أما الأول فمثلُ الأحاديثِ الواردة في عذاب القبر وفِتنتِه، وفي الشفاعة، وفي الحوض، ونحو ذلك. فإن هذه متواترةٌ في باب الأمور الخبرية كتواتُر الأحاديث الواردةِ في فرائضِ الزكاةِ والصوم والصلاة والحج والمناسك، وفى رجم الزاني ونصابِ السرقة ونحو ذلك. وأبلغُ منها الأحاديثُ الواردةُ في رؤية الله تعالى في الآخرة، وعلوِّه على العرش، واثبات الصفاتِ له، فإنه ما من بابٍ من هذه الأبواب إلّا وقد تواتَر فيها المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا معنويًّا، لنَقْلِ ذلك عنه بعباراتٍ متنوعةٍ من وجوهٍ كثيرةٍ يمتنع بمثلِها في العادةِ التواطؤُ على الكذب أو وقوعُ الغلظ، والخبرُ لا تأتيه الآفةُ إلّا من كَذِبِ المخبر عمدًا أو من جهةِ خطئِه، فإذا كانت [العادة] العامة البشرية والعادة الخاصة المعروفة من حالِ سلفِ هذه الأمة وخَلَفِها تَمنَع التواطُؤَ والتشاعر

(1)

(1)

كذا في الأصل. ولعلها "التساعد".

ص: 36

على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار، وتمنع في العادةِ وقوعَ الغلطِ فيها، أفادت

(1)

العلمَ اليقيني بمُخْبَرِها.

وللناس بمخبر التواتر طريقان:

منهم من يقول: هو ضروري، فنحن نستدلُّ بحصولِ العلم الضروري على حصولِ التواتر الموجِبِ له، والأمر هنا كذلك، فإنه ما من عالمٍ بهذه الأحاديث وبطُرُقِها ونَقَلَتِها سَمِعَها كلَّها إلّا أفادَتْه علمًا ضروريًّا لا يُمكِنُه دفعُه عن نفسِه، أعظمَ من علمِ عمومِ الناسِ بِسخاء حاتم وشجاعةِ عنتر وعَدْلِ كِسرى وحَرْبِ البَسُوس ونحو ذلك من الأمور المتواترة عندهم من جهة المعنى. بل هذا عند أهلِ الحديث أبلغُ من العلمِ بمشهورِ مذاهبِ الأئمةِ عند أتباعِهم، كما يعلمُ أصحابُ أبي حنيفة أن مذهبه أن اللمس لا يَنقُض الوضوءَ، وأن المسلم يُقتَل بالذمّي، وأنه لا يُحلِّف المدَّعِين، وأنه يقول بالاستحسان في مواضع. ويعلم أصحابُ مالك أن مذهبه سدُّ الذرائع واتباعُ مذهب أهل المدينة ونحو ذلك. ويعلم أصحاب الشافعي أن مذهبه اتباعُ الخبر الصحيح وتقديمُه على القياسِ والعملِ، وأنه لا يُقتَل المسلمُ بالذمّي، وأنه أخذَ عن مالكٍ ونحوه. ويعلم أصحابُ أحمد أنه كان معظِّمًا لسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وللحديث في أصولِه وفروعِه، وأنه كان يقول بفقهِ أهلِ الحديث، ويُقدِّمه على القياس والعمل ونحو ذلك.

فتواتُر العملِ بما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثِه أعظمُ من تواترِ ما ذكرناه من أقوالِ المتبوعين عند أتباعهم، ومن سمعَ ما

(1)

في الأصل: "افادة".

ص: 37

سمعوه وتدبَّر ما تدبَّروه حصل له من العلم ما يَحصُل لهم. ولكن أكثر أهلِ الكلام وأتباعهم في غايةِ قلةِ المعرفةِ بالحديث، وتجدُ أفضلَهم لا يَعتقد أنه رُويَ في البابِ الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ، أو يَظُنُّ المرويَّ فيه حديثًا أو حديثين، كما تجدُه لأكابر شيوخ المعتزلةِ، مثل أبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية

(1)

إلّا حديثٌ واحدٌ، وهو حديث جرير

(2)

، ولا يَعلم أنّ فيها ما شاءَ الله من الأحاديث الثابتةِ المتلقَّاةِ بالقبول

(3)

، حتى إن البخاري ومسلمًا مع كونهما مختصرين قد رويا فيه عددًا جيدًا من ذلك، والبخاريُّ هو أكبرُ من مسلم، ومع هذا فقد سماه "الجامع المسند المختصر من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه". فإنكارُ هؤلاء لما عَلِمه أهل الوراثةِ النبوية مثلُ حكايةِ كثيرٍ من الفقهاء لمذاهب الأئمة المشهورين بخلافِ المتواترِ عند أصحابهم، وقد رأيتُ من ذلك عجائبَ حينَ رأيتُ في الكتب المشهورة عند الحنفية أن مالكًا يُبِيحُ نكاحَ المتعة، وقد عُلِمَ أن مذهبَ مالكٍ يمنع توقيتَ الطلاقِ لئلَّا يُشبِه المتعةَ.

وكثير من الناس قد يَطْرُقُ سَمْعَه هذه الأحاديثُ، ولا يجمعُها وطُرُقَها في قلبه، وإن كان من سامعي الحديث وكُتَّابِه، ومعلومٌ أن حصولَ العلم في القلب بموجب التواتر مثلُ حصولِ الشِّبَع والرّيِّ، وكلُّ واحدٍ من الأنباءِ يُفيد قدرًا من الاعتقاد، فإذا تعددت الأخبارُ وقوِيتْ أفادت العلمَ، إمّا للكثرة وإمّا للقوة وإمّا لمجموعهما.

(1)

في الأصل: "رؤية".

(2)

أخرجه البخاري (529، 547، 4570، 6997) ومسلم (633).

(3)

ذكر ابن القيم في حادي الأرواح (ص 593 - 685) ثمانية وعشرين حديثًا مع بيان طرقها والكلام عليها.

ص: 38

والعلم بموجب الخبر لا يكون بمجردِ سماعِ حروفِه، بل بفهمِ معناه مع سماع لفظِه، فإذا اجتمع في القلب المستمع للأخبار المروية [العلمُ] بطرقها والعلمُ بحالِ رُواتِها حصلَ له العلمُ الضروريُّ الذي لا يُمكِنُه دفعُه. ويَدُلُّ على ذلك أن جميع أئمة الحديث المعروفين المشهورين قاطعون

(1)

بمضمون هذه الأحاديث، شاهدون

(2)

على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، جازمون بأنَّ من كذَّبَ بمضمونِها فهو ضالٌّ أو كافرٌ، مع علمِ كلِّ أحدٍ بفرطِ علمِ القومِ ودينهم، وأنهم أعلم أهلِ الأرض علمًا بما يصدق ويكذب بأحوالِ المخبرين، وأنهم يجرّدون الروايةَ والخبر تجريدًا لا يفعله أحدٌ لا من المسلمين ولا من غير المسلمين فيما يأخذه بالنقل عن الأنبياء ولا عن غيرهم، والمرجع في العلم بخبر هذه الأخبار إلى ما يجده الإنسان في نفسه من العلم الضروري، ليس له إلّا ذلك، كما يرجع إلى ما يجده من العلوم الوجودية كاللذة والألم وما يحس، وكل من كان من العلماء بالحديث من الأولين والآخرين يجدُ ذلك ويَحلفُ عليه ويُباهِل عليه، ومن

(3)

يباهلنا باهلناه، فإن أتباع الأنبياء تباهل على ما جاءوا به، كما دعا الأنبياء إلى المباهلة على ما أتاهم من عند الله.

وقول القادح في النبوة: يجوز أن يكون الذي جاءه شيطان، ويجوز أن يكون [كاذبًا] عليه، مثلُ قول هؤلاء القادحين فيما أتاهم به ورثة الأنبياء: يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين، وكلُّ أحدٍ يعلم أن المتدينين بالحديث أصدق الطوائف وأعدلُها وأقلُّها كذبًا

(1)

في الأصل: "قاطعة".

(2)

في الأصل: "شاهدين".

(3)

هنا في الأصل كلمة غير واضحة.

ص: 39

وظلمًا، كما قال عبد الله بن المبارك: وجدتُ الدينَ لأهل الحديث والكلام للمعتزلة والكذبَ للرافضة والحِيَلَ لأهل الرأي، وذكر كلمة أخرى

(1)

.

ثم لو ساوَينا بين أهل الحديث وبين أقلِّ الطوائف فمن المعلوم أن المناظرة إذا انتهتْ إلى العلم بالضرورة لم يكن لأحد الخصمين ردُّ ذلك على خَصْمِه، فإنه أعلمُ بنفسِه، إلّا أن يعلم كذبُ الخبر الذي يستدل به على انتفاء العلم به، مثل عِلْمِنا بكذب الرافضة في دعوى النصّ وكذبِ النصارى في دعوى صلب المسيح.

فإن كان المناظر لنا يقول: إنى أعلم كَذِبَ من قال إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أثبتَ هذه المعاني، أو إني أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتَ ذلك، سواء ادَّعى ذلك ضرورةً أو نظرًا، ونحن نقول: إنا عالمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتَ ذلك = كان بيننا وبينه ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل نجران من المباهلة. قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران/ 61]، فإنا قد جاءنا من جهة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نقول لمن حاجَّنا فيه من بعد ما جاءنا من العلم: تَعالَوا، فإن المحاجَّة التي هي المناظرة إذا انتهت إلى دعوى كل واحدٍ من المناظرين علمًا ما هو عليه، بدليل اختصَّ به أوعجزَ عنه أو ترك الاستدلال وأعرضَ عنه أو عجز عنه، أو علمًا ضروريًّا = لم يَفصِلْ بينهما إلا المباهلةُ أو انقيادُ من لم يُباهِلْ لمن بَاهَلَ، كما انقادَ النجرانيون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فإن

(1)

أخرجه الهروي في ذم الكلام 5/ 210 - 212. وذكره المؤلف في منهاج السنة 7/ 413.

ص: 40

المخاطِبَ لنا المكذِّب بما

(1)

جاءنا عن نبينا إمّا أن يُناظَرَ بالعلم والعدل، وإما أن يُباهَل، إن ادَّعى أن عنده من العلم ما لا يُمكِنه المناظرةُ به، فإن امتنعَ منهما فإما أن ينقاد، وإلّا فقد بانَ ظلمُه وكذبُه، واستحقَّ ما يستحقُّه الكاذبُ الظالمُ في هذا الباب.

وأما القسم الثاني - وهو طريق يقررُ إفادةَ التواتر للعلم بالنظر والاستدلال - فنقول: التواتر يُفيد العلم بكثرة العدد تارةً وبصفاتِ المخبرين أخرى، فإن الواحد والاثنين ممن عُلِمَ كمالُ عدلِه وضبطِه - كأبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر - يُفيد أخبارُهم من العلم ما لا يفيده خبرُ عددٍ ليسوا مثلَهم، وليعتبر كل واحدٍ ذلك بما يعلم منه ذلك، ولكن هذا إنما يوجد كثيرًا في أهل السنة والعدل، وأما أهل الأهواء فالكذب فيهم كثيرٌ

(2)

. وتارةً بحال المخبر عنه، وتارةً بقوة إدْراكِ المخبر وفطنتِه، فإن الذكاء وقوة الإدراك يحصل بهما من العلم ما لا يحصل لمن ليس له ذلك.

وإذا كان كذلك فالمخبرون بهذه الأخبار يتعين معرفةُ أحوالهم، ولهذا تجد حالَ من علمَ حالَ مالك بن أنس وابن عمر يعلمون من صدقِ روايتهم ما لا يحصل لهم من رواية شعبة وقتادة والثوري. وأما أهلُ الحديث فيعلمون أن الثوري كان أحفظ وأبعدَ عن الغلط من مالك، وأن مالكًا أكثر تنقيةً للشيوخ من الثوري، فالثوري يَروي عمن لا يروي عنه مالك، فشيوخ مالكٍ ثقاتٌ عنده بخلاف محدِّثي الثوري، فليس كلهم ثقةً عنده، وكان يسمع من الكلبي وينهى عن السماع منه ويقول: أنا أعلم

(1)

في الأصل: "لنا".

(2)

في الأصل: "كثيرا".

ص: 41

صدقه من كذبه. ويعلمون أن الزهري وقتادة ما كانا يَغلَطانِ، ويعلمون أن ابنَ مسعودٍ وابن عمر لا يُتَصوَّر أن يتعمدا الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أكثر أئمة أهل الحديث - مثل مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل - مَن عَلِمَ حالَهم يعلَمُ علمًا ضروريًّا أنهم لم يعتقدوا الكذبَ قطُّ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أن هؤلاء لم يَغلَطُوا إن غَلِطُوا إلّا في لفظةٍ أو لفظتينِ، ومنهم من يعلمون أنه لم يَغلَطْ في الحديث النبوي، فإن أحمد بن حنبل ما عُرِفَ أنه غَلِطَ فيه قطُّ، ولا الثوري ولا الزهري، وكذلك خلقٌ كثير غيرهم. والذين يعلمون أنهم قد يغلطون

(1)

- مثل حماد بن سلمة وجعفر بن محمد - يعلمون أن غلطهم إنما هو شيء يسيرٌ وفي مواضعَ يَعرِفونها.

وبالجملة يجب أن يُعلَم أن حِفظَ اللهِ تعالى لسنة نبيّه من جنس حفظِه لكتابة الذي لا يَرُوجُ فيه الغلطُ على صبيانِ المسلمين، وكذلك الحديث لا يروج فيه الباطلُ على علماء الحديث، مع أنا لا ندَّعي هذا في هذا المقام، فإن ذلك من خواصِّ أهل الحديث وخصائص الأمة، وإنما يكفينا هنا الاكتفاء بالعادة المشتركة بين بني آدم، فإن العلم بمخبر الأخبار يكون من الأسباب الأربعة التي تقدمت: الكثرة وحال المُخْبِر وحال المُخْبَر عنه وحال الأخبار أيضًا. ومن قال من المتكلمين ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أنْ لا اعتبارَ إلا بالعدد، وأنه إذا حصل [العلمُ] بخبر أربعةٍ لقوم عن أمرٍ وجبَ أن يَحصُل بخبرِ كلِّ أربعةٍ لكلِّ قومٍ في كلِّ قضيةٍ = فهذا قد عُرِفَ غلطُه، [و] قُرِّرَ غلطُه في مواضع.

(1)

في الأصل: "يغلطوا".

ص: 42

فبهذين الطريقين الضروري والنظري يحصُلُ العلمُ لأهل الحديث بمخبر هذه الأخبار المتواترة تواترًا لفظيًّا أو معنويًّا في الأمور العلمية في باب الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.

والقسم الثاني من الأخبار ما لم يَروِه إلّا الواحد العدلُ ونحوُه، ولم يتواتر لا لفظُه ولا معناهُ، ولكن تلقَّتْه الأمةُ بالقبول عملًا به أو تصديقًا له، كخبر أبي هريرة:"لا تُنكَحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها"

(1)

. فهذا يُفيد العلم اليقيني أيضًا عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين. أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولةٌ في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي

(2)

، ومثل الشيخ أبي حامد وأبي الطيب وأبي إسحاق

(3)

وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى

(4)

وأبي الخطاب

(5)

وابن الزاغوني وغيرهم، ومثل القاضي عبد الوهاب وغيره. وكذلك أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وغيرهما. وإنما نازعَ في ذلك طائفةٌ كابن الباقلَّاني، وتبعَه مثلُ أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وابن الجوزي ونحوهم

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (5109، 5110) ومسلم (1408).

(2)

في أصوله 1/ 321.

(3)

انظر شرح اللمع 2/ 303.

(4)

في العدة 3/ 889.

(5)

في التمهيد 3/ 36.

(6)

انظر فتح المغيث 1/ 59 وتدريب الراوي 1/ 143.

ص: 43

وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح

(1)

القولَ الأول وصححه، ولكنه لم يعرف مذاهبَ الناس فيه ليتقوى بها، وإنما قاله بموجب الحجة. وظنَّ من اعترضَ عليه من المشايخ

(2)

الذين فيهم علمٌ ودين وليس لهم بهذا الباب خبرةٌ تامةٌ، لكنهم يرجعون إلى ما يجدونه في مختصر أبي عمرو بن الحاجب ونحوه من مختصر أبي الحسن الآمدي والمحصَّل ونحوهِ من كلام أبي عبد الله الرازي وأمثالِه، ظنُّوا أن الذي قاله الشيخ أبو عمرو في جمهور أحاديث الصحيحين قولٌ انفردَ به عن الجمهور، وليس كذلك، بل عامَّةُ أئمة الفقهاء وكثيرٌ من المتكلمين أو أكثرُهم وجميعُ علماء أهلِ الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو. وليس كلُّ من وجدَ العلم قدرَ على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلمُ شيءٌ، وبيانه شيء آخر، والمناظرةُ عنه وإقامةُ دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفِه شيء رابعٌ.

والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقًا وعملًا إجماعٌ منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة

(3)

، كما لو اجتمعتْ على عمومٍ أو أمرٍ أو مطلقٍ أو اسم حقيقةٍ أو على موجب قياس، بل كما لو اجتمعتْ على تركِ ظاهرٍ من القول، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان ذلك لو جرَّدَ الواحدُ إليه نظره لم يأمن على الخطأ، فإن العصمة ثبتتْ بالهيئة الاجتماعية، كما أن خبر التواتر كلٌّ من المخبرين يُجوِّز العقلُ

(1)

في علوم الحديث 24.

(2)

منهم النووي في الإرشاد 1/ 133، والعز بن عبد السلام كما في التقييد والإيضاح 28 والنكت لابن حجر 1/ 371.

(3)

كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي (2167) عن ابن عمر، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.

ص: 44

عليه أن يكون كاذبًا أو مخطئًا، ولا يجوز ذلك إذا تواتر، فالأمة في روايتها ورأيها ورؤياها أيضًا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أرى رؤياكم قد تواطأتْ على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحرِّيَهَا فليتحرَّها في السبع الأواخر"

(1)

. فجعل تواطؤَ

(2)

الرؤيا دليلًا على صحتها.

والواحد في الرواة قد يجوز عليه الغلط، وكذلك الواحد في رأيه وفي رؤياه وكشفه، فإن المفردات في هذا الباب تكون ظنونًا بشروطها، فإذا قويتْ تكون علومًا، وإذا ضَعُفتْ تكون أوهامًا وخيالاتٍ فاسدة.

وأيضًا فلا يجوز أن تكون في نفس الأمر كذبًا على الله ورسولِه، وليس في الأمة من يُنكِره، إذ هو خلاف ما وصفه الله.

فإن قيل: أما الجزم بصدقه فلا يمكن منهم إلا مجازفةً، وأما العمل به فهو الواجب عليهمُ [و] إن لم يكن صحيحًا في الباطن. وهذا سؤال ابن الباقلاني.

قلنا: أما الجزم بصدقه فلِجَزْمِهم بالأحكام التي يستندون فيها إلى ظاهرٍ أو قياسٍ، كجزمهم بمعاني الآيات والأخبار، وذلك أنه قد يَحتفُّ به عندهم من القرائن ما يُوجب العلمَ، إذ القرائن المجردة قد تُفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفَّ بالخبر. والمنازعُ بنى هذا على أصلِه الواهي أن العلم بمخبر الأخبار لا يحصل إلّا من جهة العدد، فلزِمَه أن يقول: ما دونَ العددِ لا يُفيد أصلًا. وهذا غلطٌ خالفَه فيه حُذَّاقُ أتباعِه.

وأما العمل به فنقول: لو جاز أن يكون في الباطن كذبًا، وقد وجبَ

(1)

أخرجه البخاري (1158، 2015، 6991) ومسلم (1165) عن عبد الله بن عمر.

(2)

في الأصل: "تواطي".

ص: 45