المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقها عند علماء الحديث هي عند غيرهم غير معلومة الصدق - جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية - الكتاب

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال

- ‌ الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه

- ‌ الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب

- ‌من لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه

- ‌أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى

- ‌ جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب

- ‌القسم الثالث: خبر الواحد العدل

- ‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

- ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

- ‌ كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه

- ‌ الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين:

- ‌ التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن

- ‌نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا

- ‌الجواب من وجوهٍ:

- ‌ الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له

- ‌ السابع(2): أن نقله عن ابن عباس "إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر" لا يدلُّ على مورد النزاع

- ‌جوابُه من وجوه:

- ‌الأمثال المضروبة في القرآن

- ‌ النكرة في سياق النفي تَعُمُّ

- ‌ إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم

- ‌ الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم

- ‌فصل في الكلام على حديث "خلق آدم على صورته

الفصل: ‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقها عند علماء الحديث هي عند غيرهم غير معلومة الصدق

السلف

(1)

: لو هَمَّ رجلٌ في السَّحَر أن يكذبَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأصبحَ [و] الناس يقولون: هذا كذّاب.

وفي ذلك من البسط ما لا يختص بهذا المكان، ولا يقف غرضُنا عليه، فإن عامة الأحاديث التي يُحتجُّ بها في موارد النزاع لا يخرج عن القسم الأول أو الثاني. وأحاديث الأصول الكبار التي بها يميز أهل السنة والجماعة هي من القسم الأول المتواتر لفظًا ومعنًى، وفي لفظها يخالف الخوارج والروافض والجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم.

فصل

‌الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه

من كل وجه، وهذا قد يكون عند شخصٍ وطائفةٍ دونَ شخصٍ وطائفةٍ، ف‌

‌كثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق

، بل يُظَنُّ بها الصدقُ، كما ذكره المعترض وذووه

(2)

.

فنقول على هذا التقدير: علينا أن نَقدِر الحديث قدرَه، فإذا غلبَ على الظنّ صدقُه اعتقدنا اعتقادًا راجحًا مضمونه، ولم نَجزِمْ به جَزْمَنا بالمتيقِّنِ صدقُه، كما نقول في أدلة الأحكام الظواهر والأقيسة. وخبر الواحد المجرد إذا لم يُفِدْنا إلّا غلبةَ الظنِّ اعتقدنا غلبةَ الظنِّ بها، وهذا هو الواجب، بل هذا في الأمور الخبرية أجود، لأنه لا يترتب على ذلك فسادٌ ولا مضرَّةٌ، إذ كنا لا نُوجب به عملًا ولا نُحرِّمُه، وإنما نظنُّ

(1)

هو عبد الله بن المبارك كما أخرج عنه ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 39.

(2)

في الأصل: "وذويه".

ص: 49

مضمونها.

ولهذا جوَّز العلماءُ أن تُروى الأحاديثُ في الوعد والوعيد إذا كانت ضعيفة، ولم يُعلَم صدقُها ولا كذبُها، ولا يثبتُ بها استحبابٌ، لكن يثبتُ بها ظنٌّ يُحرِّك القلبَ على فعلِ الخيراتِ أو تركِ المنكرات. فإن كان هذا فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، فكذلك فيما يتعلق بالإيمان بالله، إذا رُوِيَ خبرٌ في عظمةِ الله وبعض شؤونِه التي لم يُعلَم بهذا الخبر انتفاؤها ولا ثبوتُها، والخبر مما يَغلب على الظنّ صدقُه، اعتقدنا بموجبه، وظننَّا ذلك ظنًّا غالبًا، فإن كان صادقًا في نفسِ الأمر وإلّا فعظمةُ الله أكبرُ. كما أن حديث الوعد والوعيد الذي لم يُعلَم انتفاءُ مضمونِه، إن كان صادقًا وإلّا فثواب الله أعمُّ مما علمناه مفصَّلًا، إذ فيه ما لم يَخطُرْ على قلبِ بشر، فهذا هذا.

وهذا مما اتفق عليه سلفُ الأمة وأئمةُ الإسلام أن الخبر الصحيح مقبولٌ مصدَّقٌ به في جميع أبواب العلم، لا يُفرَّق بين المسائل العلمية والخبرية، ولا يُردُّ الخبرُ في بابٍ من الأبواب سواءً كانت أصولًا أو فروعًا بكونِه خبرَ واحدٍ، فإن هذا من محدثات أهل البدع المخالفة للسنة والجماعة.

فإن قيل: هذا بشرط أن لا يُعلَم بالعقل ولا بالشرع انتفاءُ مضمونِه.

قلنا: نعم، لا بدَّ من هذا الشرط، وإلّا فما قطَعْنا باستحالة مضمونه يستحيل أن يغلب على ظننا صدقُه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين. لكن دعوى المعترض قيامَ الأدلة العقلية القطعية على انتفاء مضمون الآيات والأخبار هو السؤال الآخر، فلهذا أخَّرنا الجواب إلى هناك. والواقع أنه ليس في الأخبار الصحيحة التي لا مُعارِضَ لها من جنسها ما يخالف

ص: 50

القرآنَ ولا العقلَ كما سنبيِّنُ ذلك.

فإن قيل: من الناس من يقول: هذه المسائل العلمية التي أُمِرنا أن نقول فيها بالعلم متى لم يكن الدليل عليها علميًّا قطعنا ببطلانِه، فلهذا يجب ردُّ كلِّ خبرٍ أو دليلٍ لا يُفيد علمًا في باب الخبر عن صفات الله، ومنهم من يطردُ ذلك في صفات المخلوقات كالأرضين والسماوات.

قلنا: لا ريبَ أن هذا الكلام قد يُطلِقُه كثيرٌ من أهل النظر، كالقاضي أبي بكر وابن عقيل والمازري ونحوهم، وقد أطلقه قبلهم كثيرٌ من متكلمة المعتزلة وغيرِهم، وقد أنكر ذلك عليهم كثيرٌ من أرباب النظر وقالوا: العلمُ بالعدم غيرُ عدمِ العلم، وعدمُ الدليل غيرُ دليل العدم، وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث وأهل الكلام.

وفصلُ الخطاب أن نقول: لا يخلو إما أن يكون الموضع ممَّا أوجبَ الله علينا فيه العلمَ، أو أوجبتْ مشيئتُه وسنّتُه فيه العلمَ، وإما أن لا يكون مما يجب فيه العلمُ لا شرعًا ولا كونًا.

فإن كان الأول مثل ما أوجبَ الله علينا أن نعلم أن لا إله إلا هو، وأن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا بُدَّ أن يَنصِبَ سببًا يُفيد هذا العلم، لئلا يكون موجبًا علينا ما لا نقدِرُ على تحصيله، وأن لا يكلِّفنا ما لا نُطيقه له إذا أردنا تحصيلَه. ففي مثل هذا إذا لم يكن الدليل موجبًا للعلم لم يكن صحيحًا. وكذلك ما اقتضَتْ مشيئتُه وسنتُه العلمَ به، مثل الأمور التي جرتْ سنتُه بتوفّر الهِمَم والدواعي على نَقْلها نقلًا شائعًا، فإذا لم يُنقَل فيُعلم انتفاؤها وكذِبُ الواحد المنفردِ بها.

وأما ما لم يجب فيه العلمُ لا وجوبًا دينيًّا ولا وجوبًا كونيًّا فلا يُعلَم

ص: 51

بطلانُ ما أفادَ فيه غلبة الظن، فإن اليقيَن له أسبابٌ، وللظن الغالب أسبابٌ، والتكذيبُ بما لم يُعلَم أنه كذبٌ مثل التصديق بما لا يُعلم أنه صدق، والنفيُ بلا علم بالنفي مثلُ الإثباتِ بلا علمٍ بالإثبات، وكلٌّ من هذين قولٌ بلا علمٍ. ومن نَفَى مضمونَ خبرٍ لم يُعلَم أنه كذبٌ فهو مثلُ من أثبتَ مضمونَ خبرٍ لم يُعلم أنه صدقٌ، والواجب على الإنسان فيما لم يقم فيه دليلُ أحدِ الطرفين أن يُسَرِّحَه إلى بقعة الإمكان الذهني، إلى أن يحصل فيه مرجِّحٌ أو مُوجِب، وإلّا يكون قد سكتَ عما لم يعلم، فهو نصف العلم. فرحمَ الله امرأً تكلَّم فغَنِمَ أو سكتَ فسَلِمَ

(1)

، ومن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمُتْ

(2)

، وإذا أخطأ العالم لا أدري أُصِيبتْ مقاتلُه

(3)

.

وإذا كان كذلك فنحن لم يجب علينا قطُّ أن نعلم جميع ما لله من معاني أسمائه، ولا أن نعلم جميع صفاتِه، ولا أن نعلم صفاتِ مخلوقاتِه، ولا مقاديرَ وعدِه ووعيدِه وصفات ذلك، ولا إحدى سُنَنِه، فإن سبب العلم بذلك [قد لا] يكون مشهورًا، ولا قام دليلٌ على نفي ما نعلمه من ذلك، فإذا جاءنا خبرٌ يغلِبُ على الظنّ صدقُه صدَّقناه في غالب الظن، وإن غلبَ على الظنّ كذِبُه كذَّبناه، وإن لم يُعلم واحدٌ منهما توقَّفنا فيه.

ويجوز لنا أن نرويه إذا لم نعلم أنه كذبٌ، لكن متى علمنا أنه كذِبٌ

(1)

كما في الحديث الذي أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(4938) عن أنس بن مالك.

(2)

أخرجه البخاري (6136، 6138) ومسلم (47) عن أبي هريرة.

(3)

رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/ 54 من قول ابن عباس وابن عجلان.

ص: 52

لم يَجُزْ روايتُه إلّا مع البيان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حدَّثَ عنّي بحديثٍ وهو يعلم أنه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذبين"، وهو في صحيح مسلم

(1)

.

وأما من قال من ظاهري أهل العلم: إنّ ما لم يَقُم على ثبوتِه من الصفاتِ دليلٌ فإنه يجب نفيُه = فإنه مبنيٌّ على هذا الأصل المتقدم، وقد بيّنا حكمَه.

وأما قولهم: هذا من المسائل العلمية، فلا نتكلم فيها بالظن = فهذا لفظٌ مشتركٌ، قد يُراد بالعلمية ما ليس تحتَها عملٌ، كما يقول بعضهم: العلوم النظرية والمسائل الخبرية والاعتقادية، وإذا كان المراد بها ذلك لم يجب أن يكون مقطوعًا بها. وقد يُرادُ بالعلمية ما العلمُ فيها واجبٌ أو واقعٌ، وهو ما يُرَدُّ فيها ما لم يُفِد العلم، ولهذا فصَّلنا ذلك إلى نوعين، والله أعلم.

(1)

أول حديث في مقدمته عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة مرفوعًا.

ص: 53

فصل

وأما السؤال الثاني - وهو قوله: ليست الأحاديث نصوصًا في ذلك، بل هي ظاهرةٌ قابلةٌ للتأويل - فهذا كلامٌ مجملٌ نُقابِلُه بجوابٍ مجملٍ، وهو أن نقول: كلُّ موضعٍ قطعنا بمضمونِه فالنصوص فيه قطعية، وما [لم] نَقطَعْ بمضمونه فقد تكون الدلالة فيه ظاهرةً وقد تكون قطعية، وما لم يتبيَّن لنا كونُها قطعيةً يكون الدليلُ في نفسِه موجبًا للقطع والاعتقادِ الراجح غير حصولِ العلم، وذلك أن الأدلة هي في نفسها على صفاتٍ تُفيدُ العلمَ باتفاقِ الناس، وأما إفادتُها فهل هو لصفاتٍ هي عليها أم بحسب الاتفاق؟ الجمهورُ على القول الآخر، وأما المؤثِّمةُ للمخطئ والمعتقدون أنّ من لا إثمَ عليه لم يُخطئْ - كابن الباقلاني ونحوه - فيقولون: ليس في الظنون تفاوتٌ ولا عليها أماراتٌ تقتضيها. وهذا غلطٌ عند جمهور الناس، بل للظنِّ أسبابٌ كما للعلم أسبابٌ.

وإذا كانت الأدلةُ هي في نفسها على صفاتٍ تقتضي ذلك فإن ذلك يختلف أيضًا باختلافِ قُوى الإدراك وباختلاف كمالِ النظر، فالحادُّ الذهنِ الصبورُ على استيفاءِ النظرِ يَحصُلُ له من العلم والظنّ بأنواع من الأدلة والأمارات ما لا يحصلُ لمن [لم] يَقْوَ قُوَّتَه ولم يَصبِرْ صَبْرَهُ. وما لم يكن قطعيًّا بل دلالتُه ظاهرة، ليس للإنسان أن يصرفَه عن ظاهرِه إلّا مع وجود المقتضِي لذلك، السالم عن المعارضِ المقاوِم، فالمقتضي مُثل قيامِ دليلٍ يبيِّن لنا مرادَ المتكلم من الأدلة الشرعية ونحوها، كالعامّ الذي بَيَّنَ معناه الخاص.

وكذلك لو فرضنا وجودَ دليل عقليّ قطعيّ يُعارِض ظاهر الأدلة الشرعية التي ليست قطعية لوجبَ تقديم القطعي على الظنّي، ولجزمْنا

ص: 54

بأن الرسول لم يُرِد بكلامه ما يَعلَمُ مثلُنا وأمثالُنا انتفاءَه، وعقولُنا أقلُّ من أن يقال: هي دون عقلِه.

بل لو حكى أحدٌ مسألةً في الطب أو النحو مما يُعلَم أن أبقراط وسيبويه لا يقولانها لبادرنا إلى التكذيب، مثل أن يحكي حاكٍ عن أبقراط أنه قال: طبائع الأجسام الأرضية خمسة، والبلغم أحسن من المِرَّة الصفراء، أو الدم أيبَسُ منها، أو هي أبردُ من المرة السوداء، فإنا نعلم أن أبقراط ونحوه لا يقولون هذا، فإما أن الناقلَ قد كذبَ عمدًا أو خطأً، أو يكون للعبارة معنًى غير الظاهر الباطل الذي لا يقوله ذلك الفاضل.

وكذلك لو نقل عن سيبويه أن الفاعل منصوبٌ، والمصدر مجرور، وخبر كان مرفوع، وخبر المبتدأ مجرور، ونحو هذا، لعلمنا أن هذا كذِبٌ على سيبويه عمدًا أو خطأً، أو يكون للعبارة معنًى يليق به أن يقوله. وكذلك لو نقلَ عن الأئمة أمورًا تنافي ما علمناه من أحوالهم علمنا أنه مكذوبٌ أو مصروفٌ.

فمن نقلَ عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ربه: "إنه خلَق نفسَه من عَرقِ الخيل"

(1)

، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجودًا بعينه نبيًّا قبلَ أن يُنبِّئَه الله، أو أن يُعطى من دعا بهذا الدعاء مِثلَ ثواب الأنبياء ونحو ذلك = علمنا أنه يكذِبُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. والكذبُ عليه كثير، قد صنَّف العلماء في بيان الأحاديث الموضوعة مصنَّفاتٍ، وميَّزوا الصدقَ من الكذب تمييزًا معلومًا عن أهلِه.

(1)

وضعه محمد بن شجاع الثلجي بإسناده إلى أبي هريرة مرفوعًا، كما ذكره ابن عدي في الكامل 6/ 291 والبيهقي في الأسماء والصفات 372.

ص: 55

ولكن هل في القرآن أو الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ظاهره ممتنع في العقل، ولم يتبيَّنْ ذلك بالأدلة الشرعية = هذا لا يُعلَم أنه واقعٌ أصلًا. فمن قال: إن هذا واقعٌ فليذكُرْه، فإنّا رأينا الذي يُدَّعّى فيه ذلك: إمّا أن يكون الحديث فيه موضوعًا، أو الدلالة فيه ليست ظاهرةً، أو أن ظاهرها الذي لم يُرَدْ قد بُيِّنَ بأدلة الشرع انتفاؤه. فإذا كان النصُّ ثابتًا والدلالةُ ظاهرةً وليس في بيانِ الله ورسولِه ودلالِته ما يُبيِّنُ انتفاءها ومرادَه بها، فإنا وجدنا ما يذكرونه من المعقول له هو في نفسه معارَضٌ بمعقولٍ أقوى منه، ووجدناه من المجهول لا من المعقول، بل وجدنا المعقول الصريح يدلُّ على بطلان المعارض للمنقول الصحيح. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب/ 4].

وهذه جملة يُبيِّنها التفصيلُ، إذ السؤال أيضًا مجملٌ، وقد فصَّلنا الجوابَ أكثر من تفصيل السؤال، وهذا يظهر بذكرِ فصلٍ جليلِ القدر عظيمٍ في تصديقِ المرسلين ورعاية حق المؤمنين.

وذلك أنه ما زال في الأمة قديمًا وحديثًا من يَظهرُ له من آيةٍ أو حديثٍ معنًى، ويَعتقد أن ذلك المعنى باطلٌ، إما لمعارضته لما يرى أنه علمه، أو لمجرد عقله للأمور الموجودة، أو لما يرى أنه علمه لما عقله من كتاب الله، فيحتاج عند ذلك إمّا إلى ردّ الخبر، وإما إلى تأويله وردّه بأن يقول: غلِطَ سمْعُ الراوي، أو لم يَفهم معناه، أو لم يحفظْ ما فهمه، أو أنه تعمد الكذب، فإن الخبر لا يأتيه البطلان إلّا من تعمد المخبر أو خطئه، وخطؤه إما في نفس ما سمعه من اللفظ، فقد يَغلَطُ السمعُ، وقد يسمع البعضَ دون البعض، وإما أنه لم يفهم المعنى ورواه بالمعنى الذي فهمه بلفظٍ آخر، أو باللفظ الأول مع قرائن تفيد غير المعنى الأول، أو

ص: 56

كان مع اللفظ الأول قرائن تركها، بحيث يكون اللفظ مشتركًا، والمتكلم أرادَ به معنى مع قرائنَ، والراوي فهمَ معنى آخر، وأخبرَ به مع قرائن تفيد ذلك المعنى، فالجمع بين المتفرق في الدلالة والفرق بين المجتمع فيها قد يُحيل المعنى.

ولهذا قال العلماء كأحمد وغيره في حديث الطويل إذا أراد الرجلُ أن يُفرّقَه ويروي بعضه، قالوا: لا يفعل ذلك فيما يرتبط المذكور منه بالمتروك ارتباطًا يُحِيل المعنى تفريقُه، وذلك أن المستمع للكلام لا يروي مجرَّد صوتٍ غير معلوم المعنى، بل يروي لفظًا له معنى، فإذا ضبط اللفظ الدالَّ على المعنى فقد يحفظ ذلك وقد ينساه، فلا تأتيه الآفةُ إلا من الغلط في العلم أولًا، أو من زوالِ العلم بعد حصولِه بالنسيان، وإلّا فمتى عَلِمَ ما سمع وحفِظَه لم يبقَ فيه إلّا أن يتعمد الكذب، فالذين يَروُون الخبر على اشتمال أمرٍ باطل تارةً يردُّونه ولا يقبلون أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وتارةً يُفسِّرونه ويتأوَّلونه بأمورٍ أخرى وإن خالف الظاهر.

فهذا القدر قد وقع من بعض الصحابة في مواضع، ومن التابعين أكثر، وكلَّما تأخر الزَّمانُ كان وقوعُه أكثر، لكن إذا تأمل العالم ما وقع من الصحابة والتابعين وجدَ الصواب والحق كان في الخبر الصحيح، وأن الذي غلَّط راويَه برأيه كان هو الغالط، وإن كان عظيمَ القدر مغفورًا غلطُه مثابًا على اجتهاده. فإذا كان هذا حال أكابر الصحابة والتابعين فكيف بمن يردُّ الأخبار بالتكذيب والتحريف من المتأخرين، أحسنُ أحوالِ المؤمن العالم منهم أن يكون هو الغالط في تغليطه لما رواه الثقات الأثباتُ عن ربّ السموات، ويكون هذا الغلطُ مغفورًا له لاجتهادِه، ويكون مُثابًا على ما فعله من حسن نيته وقصدِه وعلمه

ص: 57

وسعيه، أما أن يُرجَّح رأيه وتأويله على مقتضى النصوص فهذا ظلمٌ محرمٌ، وفيه ردُّ ما جاء به الرسولُ لأجل رأي غيره وتأويله.

ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يُخطئ الناس من جهة التأويل والقياس

(1)

. ولقد أحسنَ رضي الله عنه بهذه الكلمة الجامعة النافعة، فإني تدبَّرتُ عامَّةَ من ردَّ حديثًا صحيحًا بغير حديثٍ صحيحٍ يكون ناسخًا له برفع أو تفسيرًا أو مبينًا غلطَ راويهِ، فلم أجد الغلط إلّا من الرادِّ وإن كان قد تأوَّلَ لردِّه ظاهرَ القرآن، ويكون غلطُه من أحدِ وجهين: إما لأنه اعتقد ظاهرَ الحديث ما ليس ظاهره ثم ردَّه، ولا يكون ظاهر الحديث هو المعنى المردود. أو لأن ظاهره الذي اعتقده الظاهرَ حقٌّ، والدليل الذي يُعارِضُه ليست معارضتُه له حقًّا.

وهذا - والله أعلمُ - من حفظِ الله لما بعثَ به نبيَّه من الحكمة التي هي سنته، فإنها من الذكر الذي أمر الله بذكره، حيث قال:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب/ 34]، وقد قال سبحانه وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر/ 9]. وسنته التي هي الحكمة منزَّلةٌ بنصّ القرآن، فإن كانت داخلةً في نفس الذكر كما تقدم، وإلّا كانت في معناه، فيكون حفظُها بما حفظ به الذكر. ولهذا يوجد من الآيات الخارقة للعادة في حفظ السنة ما يؤكِّد ذلك، كما أن الله تعالى حفظ القرآنَ حفظًا خرقَ به عادةَ حفظِ الكتب السالفة، وكما أن الله تعالى جعلَ إجماعَ هذه الأمة حجةً معصومةً، وذلك أنه لا نبيَّ بعد محمدٍ حتى يبيّن ما غُيِّر من دينه، وإنما العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء

(1)

ذكره المؤلف في قاعدة في الاستحسان 74 ومجموع الفتاوى 7/ 392 وبيَّن المراد منه.

ص: 58

الذين يحفظ الله بهم حُجَجه وبيناته.

ولهذا كان طائفة من علماء الأمة وفقهائها الكبار يتحدثون دائمًا أنه مَن قَدَر أن يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديثين صحيحين متعارضينِ فليأتِنا

(1)

، ولن يجد أحد إلى ذلك سبيلًا. وهذا القدر عامٌّ في الأحاديث الخبرية المتعلقة بالعقائد والأصول الخبرية، وفي الأحاديث العملية المتعلقة بالأعمال أصولها وفروعها، لا يُستثنَى من ذلك نوعٌ واحدٌ كما يفعلُ طوائف من أهل الكلام الذين سلك المعترضُ سبيلهم.

وأنا أذكر أمثلةً وقعتْ في زمن الصحابة لتكون عبرةً لما سواها، ويستفيد الإنسانُ بها إقرارَ الأحاديث الثابتة عند علماء الحديث، ويُوسع الاعتذارَ والاستغفارَ لمن تأوَّل واجتهدَ في طلب الحق وإن أخطأَه، بل يُعطِي حقَّه من المحبة والموالاة والتعظيم بحسب حسناتِه وإيمانِه.

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الميتَ يُعذَّب ببكاءِ أهلِه عليه، ومن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه". وهذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وخلق غير ذلك

(2)

، فطائفةٌ من السلف والخلف ردَّتْه، وطائفةٌ تأوَّلَتْه على غيرِ تأويلِه، وطائفةٌ أقرَّتْه على المعنى الذي أحالَهُ أولئك الذي هو ظاهره. وأسعدُ الناسِ به من فهمَ ظاهره وأقرَّهُ، ثم سكتَ عن الأمرين. وأكثر ما دخل الأمر من جهةِ اعتقادِ فهمِ ظاهرِه، فإنهم اعتقدوا أن الله تعالى يُعاقِب الميتَ على ذنب الحيّ، وظنُّوا أن العذاب لا يكون إلّا عقابًا، ثم رأوا أن الله لا يُعاقِب الإنسانَ بعملِ غيرِه، لأن ذلك

(1)

من ذلك ما أخرجه الخطيب البغدادي في الكفاية ص 432 عن الإمام ابن خزيمة.

(2)

سيأتي سياق أحاديثهم وتخريجها.

ص: 59

مع منافاتِه العدلَ عندهم فهو مخالفٌ لقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164، فاطر/ 18]. ثم تنوَّعوا ما بين ردّ وتأويلٍ، فردَّتْه طائفة منهم عائشة وابن عباس والشافعي في "مختلف الحديث"

(1)

وغيرهم، وقالت عائشة: إنكم لتُحدِّثونا عن غير كاذبين، ولكنّ السمع قد يُخطئ. وأقسمتْ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك، ثم روت حديثين وأحدهما معناه يوافق معنَى ذلك الحديث. ولهذا قال الشافعي في "مختلف الحديث" لما قال: ما قالتْه عائشةُ أشبهُ بكتابِ الله، لكن روايتها الأخرى هي الصحيحة.

قلت: فأما الحديث الأول ففي الصحيحين

(2)

عن ابن أبي مليكة قال: توفّيتْ لعثمانَ ابنةٌ بمكةَ، وجئنا لنشهدَها، وحضَرها ابن عمر وابن عباس، وإني لجالسٌ بينهما، أو قال: جلستُ إلى أحدهما، ثم جاءَ الآخر فجلسَ إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يُعذَّب ببكاء أهلِه". فقال ابن عباس: كان عمر يقول بعضَ ذلك، ثم حدَّثَ قال: صَدرتُ مع عمر من مكة حتى إذا كنّا بالبيداءِ إذا هو برَكْبٍ تحت ظلِّ سَمُرةٍ، فقال: اذهبْ فانظر من هؤلاء الركبُ، قال: فنظرتُ فإذا صُهيبٌ، فأخبرتُه، فقال: ادْعُه لي، فرجعتُ إلى صهيبٍ فقلت: ارْتحِلْ فالْحَقْ أميرَ المؤمنين. فلما أصيبَ عمرُ دخل صُهَيبٌ يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه! فقال عمر: يا صهيبُ أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يُعذَّب ببعضِ بكاءِ أهلِه عليه"؟! قال ابن عباس: فلما مات عمرُ ذكرتُ ذلك لعائشة،

(1)

ص 649.

(2)

البخاري (1286 - 1288) ومسلم (928، 927، 929).

ص: 60

فقالت: رحِمَ الله عمرَ، والله ما حدَّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليعذِّبُ المؤمنَ ببعض بكاءِ أهلِه عليه"، وقالت: حَسْبُكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . قال ابن عباس عند ذلكَ: والله هو أضحكَ وأبكى. قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر شيئًا.

والحديث الآخر الذي روتْه عائشةُ في الصحيحين

(1)

: عن عَمرةَ أنها سمعتْ عائشةَ زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم قالتْ: إنما مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على يهوديةٍ يبكي عليها أهلُها فقال: "إنهم يبكون

(2)

عليها وإنها لتُعذَّب في قبرِها".

ورواه أيضًا البخاري

(3)

عن أبي موسى الأشعري قال: لما أُصِيب عمرُ جعلَ صهيبٌ يقول: وا أخاه! فقال عمر: أما علمتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليُعذَّب ببكاء الحيِّ"؟

ورواه أيضًا البخاري

(4)

عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يُعذَّب في قبرِه بما نِيْحَ عليه".

وقد ذكره ابن عمر في حديث آخر، إما أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة، وإما أن يكون قد قاله لعلمِه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. ففي البخاري

(5)

عن سعيد بن الحارث عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه

(1)

البخاري (1289) ومسلم (932).

(2)

في الأصل: "إنكم تبكون".

(3)

رقم (1290).

(4)

رقم (1292).

(5)

رقم (1304).

ص: 61

فوجده في غاشيةِ أهلِه قال: "قد قَضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بُكَى النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْه، فقال:"ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدَمْع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن يُعذِّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يَرحَمُ، وإن الميتَ يُعذَّبُ ببكاءِ أهلِه عليه". وكان عمر يَضرِبُ فيه بالعصا ويَرمي بالحجارة ويَحثِيْ أو يَرمي بالتراب.

وقد أخبره به أيضًا المغيرةُ سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين

(1)

عن المغيرة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ كذبًا عليَّ ليس ككذِبٍ على أحدٍ، مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن نِيْحَ عليه يُعذَّب بما نِيْحَ عليه".

فهذا الحديث قَبِلَه أكابر الصحابة مثل عمر، وهو يُحدِّث به حين طُعِنَ، وقد دخل عليه المهاجرون والأنصار، وينهى صُهيبًا عن النياحة، ولا يُنكِرُ ذلك أحدٌ، وكذلك في حال إمرتِه يُعاقِبُ الحيَّ الذي يعذّب الميت بفعله. وتلقَّاه أكابرُ التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره، ولم يردُّوا لفظَه ولا معناه.

وأما الذين ردُّوه تغليطًا للراوي فهم الذين غَلِطُوا، يغفر الله لهم.

كيف وقد سمعه مع الفاروق المغيرةُ وغيره؟ كيف والسابقون الأولون لم يُنكِروه؟ ثم لو رواه بعض أكابر الصحابة لم يكن مردودًا لما ذكر، فإن أحد الحديثين اللذين روتْهما عائشةُ يُوافق معناه، وهو قوله:"إن الله ليزيد الكافرَ عذابًا ببكاءِ أهلِه عليه". وأم المؤمنين هي الثقة المأمونة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الصديقةُ بنت الصديق، وهي من أعلم الصحابة

(1)

البخاري (1291) ومسلم (933).

ص: 62

وأحفظهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حجةٌ في ذلك. والحديث الذي رَوتْه "إن الله يزيد الكافرَ عذابًا ببكاءِ أهلِه" يدلُّ على أن الكافر الميتَ يُعذَّب ببكاءِ أهلِه عليه، فلو كان ذلك من باب حَمْلِ الوِزر أو الظلم لم يَصحَّ في حقّ كافرٍ ولا مؤمنٍ. وأما إذا رأتْ رأيًا ورأى غيرُها رأيًا فالمردُّ إلى الله ورسولِه.

وهي لم تحتجَّ إلّا بقولِه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وهذه الآية لا تُخالف الحديثَ، فإن الميتَ لا يَحمِلُ من ذنب الحيِّ شيئًا، وهذا هو حملُ الوِزر وأن يُوضَع من ذنبِ المرء على غيرِه ليخفّف عنه، بل النائحُ يُعذَّبُ على نياحتِه، كما في الحديث الصحيح

(1)

: "إنّ النائحة إذا لم تَتُبْ قبلَ موتِها فإنها تُلبسُ يوم القيامةِ وتُقامُ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرَانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ".

وكذلك الاحتجاج بقوله: {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم/ 43]، وجهُه أن الله خالقُ الضحكِ والبكاءِ، وهو كائنٌ بغير اختيار المرءِ، فلا يُعذَّبُ على فعلِ الله الذي ليس من فعلِه، كما لا يُعذَّب على تمريضِه وتمويتِه. وهذه الحجة لا تُخالف الحديثَ أيضًا، فإنّ من الضحكِ والبكاءِ ما يأمر الله به ويَنهى عنه، ولهذا قال الله تعالى:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)} [النجم/ 59 - 60]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين/ 29]، فذمَّهم على ذلك. وقال:{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم/ 58]، وقال:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء/ 109]، فجعل ذلك من أعمالهم الصالحة. بل الفرح والحزن قد يدخل تحت الأمر والنهي استحبابًا أو إيجابًا، كقوله:

(1)

مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.

ص: 63

{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد/ 23]. وقد ذمَّ الله الفرحَ بغير الحق، وأمرَ بالفرح بالإيمان، ونهى عن الحزن الذي يضرُّ، وذلك أصلُ الضحك والبكاء، فقال:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس/ 58]، وقال:{ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر/ 75]، وقال:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص/ 76]، وقال:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران/ 139]، وقال:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل/ 70]، وقال:{وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس/ 65]. فنهى عن الحزن الذي يضر، كالحزن على الكفار المكذِّبين، والحزن إذا غُلِبَ المسلمون أو خافوا من عدوّهم والحزن من قولهم، فإنّ هذا الموطن يُؤْمَر فيه بالثبات والقوة والقيام بالواجب من التبليغ والجهاد، والحزنُ يُضعِف عن هذا الواجب، وما أفضَى إلى تركِ واجبٍ نُهِيَ عنه، وكذلك ما يَشغَلُ عن المستحبّ لم يكن حسنًا.

وأما الحزن على الميت ونحوه فيُرخَّص منه في الحزن الذي لا معصيةَ فيه وفي الدمع، كما يُستحبُّ فيه رحمةُ الميت، إذ ليس في ذلك تركُ واجبٍ ولا تعدِّي حدٍّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يُؤاخِذ على دَمْع العينِ ولا حُزْنِ القلب"

(1)

، وهذا هو الذي لا يملِكُه العبدُ، بل يكون بغير اختياره على سببٍ غيرِ محرَّم، فلهذا لم يؤاخِذ الله عليه، كما قال:"ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"

(2)

. فالذي يخلقه الله وليس من مقدور العبدِ عفَا عنه، وهو

(1)

أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924) عن ابن عمر.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 238، 335) عن ابن عباس.

ص: 64

الذي يجب القول به من احتجاج ابن عباس، وهو قوله:"إن الله أضحك وأبكى"، فهذا هو من الله، وأما ما كان من اليد واللسان فذلك مما يأمر به الشيطانُ فيدخل تحتَ العقاب، وإن كان الله هو خالق كلِّ شيء. ولولا هذا لم تُعذّب نائحة، والنصوص كلُّها تخالف ذلك، كما تقدم في الحديث، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من لَطَمَ الخدود وشقَّ الجيوبَ ودَعا بدعوى الجاهلية"

(1)

. وقال أبو موسى: أنا بريءٌ ممن بَرِئ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَرِئَ من الصَّالقةِ والحالقةِ والشَّاقَّةِ

(2)

. وكلاهما في الصحيحين.

وقال الله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة/ 12]، وهي النياحة، كما جاءت مفسَّرةً، وهي ممّا أخذه النبي صلى الله عليه وسلم على النساء في البيعة، كما في الصحيح

(3)

عن أم عطيةَ قالت: أخذَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوحَ، فما وَفَتْ منا امرأةٌ غير خمسِ نسوةٍ.

ولهذا كانت النياحةُ محرمةً على القولِ الصحيح الذي عليه جماهيرُ العلماء، وهو المنصوصُ عن أحمد وغيرِه، وإن كان بعض أصحابه وبعض الناس جعلَ فيه تفصيلًا كالغناء عنده، فليس كذلك، بل جنس النياحة أعظم من جنس الغناء للنساء، ولهذا كان الضربُ بالدفّ في الجنازة منكرًا بلا ريبٍ، حتَّى نصَّ أحمد على وجوبِ إزالتِه في ذلك بتخريقٍ أو غيرِه، وإن كان النساء يُرخَّصُ لهنَّ في الضرب بالدفِّ في الأفراح، والنساء قد رُخِّصَ لهنَّ في الغناء في مواضع، ولم يُرخَّصْ في

(1)

أخرجه البخاري (1294، 1297) ومسلم (103) عن ابن مسعود.

(2)

أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104).

(3)

البخاري (1306) ومسلم (936).

ص: 65

النياحة قطُّ، بل السنن الصحيحة تنهى عن النياحة مطلقًا، والسلف فما كان ينوح في عهدهم النساءُ.

ولم يأمر الله تعالى بالجزع قطُّ ولا أثنى عليه، كما أمرَ بالفرح في مواطنَ وأثنى عليه، فالصوتان المنكران الأحمقانِ اللذان نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم: صوتُ لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوتُ لَطْمِ خُدودٍ وشَقِّ جيوبٍ ودُعاءٍ بدعوى الجاهلية

(1)

، أحدهما أنكر من الآخر.

نعم إذا كان البكاء رحمةً للمَبْكِيِّ عليه فهذا حسنٌ مستحبٌّ، كما في الصحيحين

(2)

عن أسامة بن زيد قال: أرسلتْ ابنةُ النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابنًا لي قُبِض فأْتِنا، فأرسلَ يُقرِئ السلامَ ويقول:"إنّ لله ما أخذَ وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمًّى، فلْتَصْبرْ ولْتحتسِبْ". فأرسلتْ إليه تُقسِم عليه لَيأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجالٌ، فرُفِعَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصبيُّ ونفسُه تتقَعْقَع كأنّها شَنٌّ، ففاضتْ عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال:"هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوبِ عبادِه، وإنما يَرحم الله من عبادِه الرُّحماءَ". وهذا يقتضي أن من لم يكن عنده رحمةٌ للمتوجِّعِ بنَزْعٍ أو مرضٍ أو فَقرٍ أو ظُلمٍ أو معصيةٍ أُصِيبَ بها ونحو ذلك، فإنه لا يرحم.

ولهذا جمعَ الله تعالى بين الصبر والرحمة في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد/ 17]، فذكر التواصي بالصبر وبالرحمة جميعًا، إذ المرحمة بلا صبرٍ يكون معها الجزعُ،

(1)

أخرجه الترمذي (1005) عن عبد الرحمن بن عوف. وقال: هذا حديث حسن.

(2)

البخاري (1284) ومسلم (923).

ص: 66

والصبر بلا مرحمة يكون معه القسوةُ. فهذه الرحمة حسنةٌ مأمورٌ بها، وإذا كان معها حزنٌ لم يكن به بأسٌ، وإن لم يُؤمرْ به، فقد قال يعقوب:{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف/ 84].

وفي البخاري

(1)

عن ثابت عن أنس قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سَيْفٍ القَيْنِ، وكان ظِئْرًا لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ فقبَّلَه وشَمَّه، ثم دخلنا بعد ذلك وإبراهيمُ يَجُودُ بنفسِه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفانِ، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟ ! فقال: "يا ابن عَوفٍ، إنها رحمةٌ". ثمَّ أتْبَعَها بأخرى، فقال:"إن العينَ تَدمَعُ والقلبَ يَحزَنُ، ولا نقول إلا ما يُرضي الربَّ، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون".

وفي هذا الحديث رُوي: يا رسولَ الله، أوَ لم تنهَ عن البكاء؟ فقال:"إنّما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرينِ" كما تقدم. ميَّز صلى الله عليه وسلم ما لا إثمَ فيه أو ما يُستحبُّ من الرحمة والحزن والدمع، وما يُنهَى عنه من النياحة برفع الصوتِ والنَّدبِ وما يتبَع ذلك مما ليس هذا موضعه، إذ الغرض بيان معنى الحديث، وأن ما في حجة ابن عباس من رَفْع

(2)

التكليف عما ليس مقدورًا للعبد لا هو ولا سببُه يخالف الحديث.

بل قد بيَّن صلى الله عليه وسلم الفرقَ بين النوعين، وما يُؤاخِذ الله عليه وما لم يؤاخذ، ولفظُ حديثِه:"إنه يُعذَّب ببكاء أهله" بالمدّ، أو "مَن نِيْحَ عليه

(1)

رقم (1303).

(2)

في الأصل: "ترفع".

ص: 67

يُعذَّب بما نِيْحَ عليه"، والمُعْوَلُ عليه يعذَّب، والنياحة والعويل والبكاء بالمدّ لا يكون إلّا مع الصوتِ الذي هو الصَّلق، فأما الدمع

(1)

فهو بُكًى بالقصر لا يمدّ، كما قال الشاعر

(2)

:

بَكَتْ عَيْني وحُقَّ لها بُكَاها

وما يُغنِي البكاءُ ولا العويلُ

فإن زيادة اللفظ لزيادة المعنى، والفُعَالُ من أمثلةِ الأصوات، كالرُّغاء والثُّغاء والدعاء والخُوار والجُؤار والنُّباح والصُّراخ، وكذلك الفَعِيْل كالضَّجيج والعَجِيج والهَرِيْر.

وأما القسم الثاني الذين تأوَّلوا الحديثَ، فهؤلاء من المتأخرين لا من الصحابة، فإن الصحابة عرفوا المقصودَ برواية بعضهم لبعضٍ، فلم يَستقمْ لهم التأويل، وهؤلاء جعلوا التعذيب على ذنبٍ يفعله الميّتُ، فبعضُهم جعله هو أمره بالنياحة، وقَصَر الحديثَ على هذا، كما يُذكَر عن المزني. وبعضُهم جعلَ ذلك إذا كانت النياحةُ عادتَهم ولم يَنْهَ عنها، فيُعذَّب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا أمثلُ التأويلات، وهو

(3)

تأويل البخاري صاحب الصحيح

(4)

وجدِّي أبي البركات

(5)

وغيرهما.

(1)

في الأصل: "الدفع".

(2)

البيت لحسان بن ثابت في جمهرة اللغة 1027 وليس في ديوانه، ولعبد لله بن رواحة في ديوانه 98 وتاج العروس (بكى)، ولكعب بن مالك في ديوانه 252 ولسان العرب (بكى). وانظر شرح شواهد شرح الشافية 66.

(3)

في الأصل: "هي".

(4)

قال في كتاب الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته

(5)

في الأصل: "أبو البركات".

ص: 68

وهذا أيضًا ضعيف، لأنه خلافُ مُقتضَى الحديث ومفهومِه، وخلافُ ما فهمَه الصحابة الذين رووه، وقَصْرٌ لهذا اللفظ العام على صُوَرٍ قليلةٍ، فإن النياحة لم تكن من عادة المسلمين بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت قليلةً.

وأيضًا فالأحياء الموجودون أحقُّ بالتعذيب على إنكارِ المنكر من الميت العاجز، ولا اختصاصَ لتعذيبه على ما لم يَنْهَ من النياحة، بل ما يتركونه من الواجبات ويفعلونه من المحرَّمات التي لم يأمر ولم يَنْهَ عنها أعظمُ من النياحة، فتخصيصها لهذا السبب بعيدٌ.

وأيضًا فإن الناهي يَنهى فلا يُسمَع منه، وحَسْبُك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعتِه للنساء، ونَهْيه نسوةَ جعفر، كما في الصحيحين

(1)

عن عائشة قالت: لما جاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَعْيُ ابن حارثةَ وجعفرٍ وابنِ رواحة جلسَ يُعرَفُ فيه الحزنُ، وأنا أنظُر من صائرِ الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ نساءَ جعفرٍ، وذكر بكاءهنّ، فأمرَه أن ينهاهنَّ، فذهبَ ثمَّ أتاه الثانية، فذكر أنهنّ لم يُطِعْنَه، فقال:"انهَضْ". فأتاه الثالثةَ فقال: والله لقد غَلَبنَنا يا رسول الله، فزعَمتْ أنه قال:"فَاحْثُ في أفواههنَّ الترابَ"، فقلتُ: أرغمَ الله أنفَك، لم تَفعَلْ ما أمرَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم تَتْركْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العَنَاءِ.

ولهذا كان عمر بن الخطاب يَحثُو فِيْه الترابَ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. هذا مع قوله: دَعْهنَّ يبكينَ على [أبي] سليمانَ خالد بن الوليد ما لم يكن نَقعٌ أو لَقْلَقَةٌ

(2)

.

(1)

البخاري (1299، 1305، 4263) ومسلم (935).

(2)

علَّقه البخاري عن عمر في كتاب الجنائز: باب ما يُكره من النياحة على الميت. والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت.

ص: 69

وأيضًا فإن المُحْوِجَ لهم إلى هذا التأويل ظنُّهم ظاهرَ هذا الحديثِ عقوبةَ هذا بذنبِ هذا، وليس كذلك.

وأما الطائفة الثانية التي

(1)

اعتقدتْ هذا ظاهرَه فجوَّزتْ أنّ الله يُعاقِب الإنسانَ بعمل غيرِه، وهؤلاء يقولون: إنّ أطفالَ المشركين يدخلون النارَ مع آبائهم، وهذا قول طائفة من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب أحمد وغيرِه، ويقولون: إنَّ الله يَفعلُ ما يشاء ويحكم ما يريد، وإنه لا يُتصوَّر منه ظلمٌ أصلًا، فلا إشكالَ في الحديث أصلًا. ومن العجب أنه يَستشكلُه كثير ممن يقول بهذا الأصل، وإنما المخالف للقرآن أن تُحَطَّ سيئاتُ غيرِه بلا معاوضةٍ، وهذا ليس في الحديث.

والذي عليه أكابرُ الصحابة والتابعين هو الصواب، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يُعذَّب"، ولم يقل:"يُعاقَب". والعذاب أعمُّ من العقاب، قال صلى الله عليه وسلم:"السفرُ قطعةٌ من العذاب، يَمنَعُ أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضَى أحدُكم نَهْمتَه من سفرِه فليعجِّلْ بالرجوع إلى أهله"

(2)

. وقد قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص/ 41]، فالعذاب هو الآلام التي يُحدِثُها الله تعالى، تارةً يكون جزاءً على عملٍ فيكون عقابًا، وتارةً يكونُ تكفيرًا للسيئات، فإنه "ما يُصِيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا غمٍّ ولا أذًى إلّا كفَّر الله به من خطاياه". أخرجاهُ في الصحيحين

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

في الأصل: "الذين".

(2)

أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة.

(3)

البخاري (5641، 5642) ومسلم (2573) عن أبي سعيد وأبي هريرة.

ص: 70

فالعذاب الذي يُعذَّب به الميتُ في قبرِه من جنس الآلام التي تحصُلُ له في الدنيا، وقد يكون غيرَ ذلك، ولهذا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن

(1)

أنه قال لنسوة في جنازةٍ: "ارْجِعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤْذِينَ الميتَ". ولهذا في سنن أبي داود

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تُتبعَ الجنازةُ بصوتٍ أو نارٍ. وضربَ عمرُ بن الخطاب نائحةً، فقيل له: قد بَدا شَعرُها، فقال: إنه لا حُرمةَ لها، إنها تَنهَى عن الصبرِ وقد أمر الله به، وتأمرُ بالجزع وقد نهى الله عنه، وتَفتَنُ الحيَّ وتُؤذي الميتَ، وتبيعُ عَبرتَها وتبكي بشجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، ولكن تبكي على أخذِ دراهمِكم.

وهذا الألم والعذاب الذي يحصل للميت بالنياحة موجودٌ كما دلت عليه أحاديث، مثل حديث عبد الله بن رواحة الذي رواه البخاري في صحيحه

(3)

عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: أُغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي وا جَبَلاهُ وا كذا! تُعدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قُلتِ لي شيئًا إلا قيل لي: "أنت كذاك"؟ فلما مات لم تَبكِ عليه.

ومثلُ هذا عُرِف عن غير عبد الله بن رواحة، فإنه يُوجَدُ الميتُ يَشتكي من تألُّمِه ببكاء الحيّ عليه، ويُكشَف في المنام وغيرِه في ذلك للمؤمن أمور متعددة. وقد يحصلُ التأذي والألم للميت، وقد يتعذب الحيُّ بما يسمعه ويراه ويشمُّه من أحول غيرِه. فهذا أمرٌ موجود في الدنيا

(1)

أخرجه ابن ماجه (1578) عن علي بن أبي طالب، وفي إسناده إسماعيل بن سلمان، وهو ضعيف.

(2)

رقم (3171) عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف، انظر إرواء الغليل (742).

(3)

رقم (4267).

ص: 71

والآخرة.

ثم ذلك الألم الذي يحصل للميت في البرزخ إذا لم يكن له فيه ذنبٌ، من جنس الضَغْطة وانتهارِ منكرٍ ونكيرٍ ومن جنس أهوالِ القيامة، يُكفِّر الله به خطايا المؤمن ويكون من عقوبة الكافر، ولا ينقطع التكليف والعذاب إلّا بدخول دار الجزاء وهي الجنة، فأما البرزخ وعرصةُ القيامة فيكون فيها هذا كلُّه.

وأيضًا فمن عقوباتِ الذنوب ما يُصيب غيرَ المعاقبِ ويكون مصيبةً في حقّه، كما في الصحيحين

(1)

عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنزلَ الله بقومٍ عذابًا أصابَ العذابُ من كان فيهم، وبُعِثوا على نيَّاتهم". وفي الحديث الصحيح

(2)

: "يَغزُو هذا البيتَ جيشٌ، فبينما هم ببَيْداء من الأرض إذْ خُسِف بهم"، فقيل: يا رسولَ الله، فيهم المُكرَه، قال:"يُبعَثون على نياتهم". وكذلك الجدب ونحوه مما يُصيب غيرَ المذنبين.

وكذلك ما ثبت في الصحيح

(3)

من مناداة أهل القليب وقولِه عليه السلام لهم: "هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟ " وقول بعض الصحابة: يا رسولَ الله، أتدعو أقوامًا - أو قال: قومًا - قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمعَ لما أقولُ منهم". وما ثبت في الصحيح

(4)

من قول عائشة: "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنتُ أقول لهم حقٌّ"، وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا

(1)

البخاري (7108) ومسلم (2879).

(2)

أخرجه البخاري (2118) ومسلم (2884) عن عائشة.

(3)

البخاري (1370) ومسلم (932) عن ابن عمر.

(4)

البخاري (1371) ومسلم (932).

ص: 72

تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل/ 80].

وفى الصحيحين

(1)

عن عروة بن الزبير قال: ذُكِر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم "إن الميت يُعذَّب في قبرِه ببكاء أهلِه عليه"، فقالت: وهلَ، إنما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن السر ليُعذَّبُ بخطيئتِه أو بذنبِه وإن أهلَه ليبكون عليه الآن"، وذلك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على القليب يومَ بدرٍ وفيه قتلَى بدرٍ من المشركين، فقال لهم ما قال:"إنهم ليسمعون ما أقول"، وقد وهلَ، إنما قال:"إنهم ليعلمون الآن أن ما كنتُ أقول لهم حق"، ثم قرأت:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل/ 80]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر/ 22]، يقول: حين تبوَّأوا مقاعدهم من النار.

وفي لفظ البخاري

(2)

عن نافع أن ابن عمر أخبرهم اطَّلعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: "وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ "، فقيل له: تدعو أمواتًا! فقال: "ما أنتم بأسمعَ منهم، ولكن لا يُجيبون".

ومن المعلوم أن سَمْع الموتى قد ثبت بنصوص متواترة من حديث أنس وغيرِه، مثل قوله في الحديث المتفق عليه

(3)

: "إنه يسمعُ قَرْعَ نِعالهم حينَ يُولُّون عنه مُدبِرين"، وقوله في حديث ثابت:"ما من رجلٍ يَمرُّ بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه، إلّا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام"

(4)

، وقوله: "ما من رجلٍ يُسلِّم عليَّ إلَّا ردَّ الله

(1)

البخاري (3979) ومسلم (932).

(2)

رقم (1370).

(3)

البخاري (1338، 1374) ومسلم (2870) عن أنس.

(4)

أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار 1/ 234 عن ابن عباس. وصححه عبد الحق =

ص: 73

عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام"

(1)

. ومثل الأحاديث المتواترة في السلام على الموتى، وهذا باب واسع.

والحديث الذي روتْه يُؤيِّد ذلك، وهو "أنهم يعلمون"، فالذي يجوِّز أن يعلم يجوِّز أن يسمع كائنًا ما كان، فإن الموت ينافي العلمَ كما ينافي السمعَ والبصر، فلو كان مانعًا لكان مانعًا للجميع. ولهذا كان جماهير المسلمين على مقتضى الحديث.

فهذا ونحوه من المسائل الخبرية العلمية التي هي من جنس مسائل الاعتقاد والأصول العلمية، وأما في المسائل العملية فكثيرٌ أيضًا، مثل ما في الصحيحين

(2)

لما سُئِل ابنُ مسعودٍ عن تيمُّم الجنب فنَهى عنه، فذكَر له أبو موسى حديثَ عمّار، فقال: ألم تَرَ عمرَ لم يَقنَعْ به؟ وذكر له آية التيمم، فلم يجب بشيء غيرَ أنه قال: لو رخَّصنا لهم في هذا لأوشكَ أحدهم إذا وجدَ ألمَ البَرْدِ أن يتيمم.

ومعلومٌ أن حديث عمار مما لا يمكن ردُّه، وعمر رضي الله عنه لم يردَّه على عمار، ولكن نَسِيَه وقال لعمار: أُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيتَ. يَعني حدِّثْ به أنتَ. والآية لا يمكن تركُها بهذا القياس، وهو أن تيمم الجنبِ مستلزم للتيمم عند البرد، بل مثل هذا الذي يسميه الفقهاء مصلحةً مُهدَرةً.

ثم يقال: إن كان هذا القياس صحيحًا لزِمَ جوازُ التيمم عند خوف

= الإشبيلي في الأحكام الصغرى 1/ 345.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده 2/ 527 وأبو داود (2041) عن أبي هريرة. وهو حديث حسن.

(2)

البخاري (346) ومسلم (368).

ص: 74

التضرر بالبرد، وهذا اللازم حقٌّ، وقد سلك هذا طوائفُ من المفتين والمشايخ والأمراء وغيرهم. لكن من المعلوم أن الصواب الذي أُمِرْنا به اتباعُ النصوص، وأن لا نردَّها بما نراه من مصلحةٍ أو مفسدةٍ. ولهذا اتفقَ أئمة العلماء على تيمم الجنب لدلالة الكتاب والسنة على ذلك في عدة أحاديث، كحديث عمار وعمران بن حصين، وهما في الصحيحين

(1)

، وعمرو بن العاصي

(2)

وصاحب الشجَّة

(3)

، وهي أحاديث جيدة، ولم يَرَوا أن يتركوا ذلك لما يُخاف

(4)

من المفسدة، بل يُميَّز بين المأمور به والمنهي عنه.

ثم التيمم مشروع عند عدم الماء وعند خشية الضرر باستعماله كما في القرآن، فحديث عمار ونحوه للعادم، وحديث صاحب الشجَّة وعمرو للمتضرر بمرضٍ أو خوفِ مرض. فتأخير الصلاةِ مع الجنابة حتى يجد الماءَ قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديثٍ، وكذلك اغتسال المريض، وقد قال في صاحب الشجَّة:"قَتَلوه قتَلَهم الله، هلَّا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شِفاء العِيِّ السُّؤال".

ومع هذا فقد تأوَّل خلافَ ذلك من كان من أعيان الصحابة في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وأن الجنب لا يصلِّي، وأنه يغتسل مع ضرورة.

وكذلك كان أبو هريرة يُحدِّثُ بأحاديثَ فيُنكِرها بعضُهم، ثم

(1)

حديث عمار أخرجه البخاري (338) ومسلم (368)، وحديث عمران بن حصين أخرجه البخاري (344، 348) ومسلم (682).

(2)

أخرجه أبو داود (334، 335)، وهو حديث حسن.

(3)

أخرجه أبو داود (336) عن جابر بن عبد الله، وهو حديث حسن بشواهده.

(4)

في الأصل: "يخالف".

ص: 75

يَرجعون إلى الحق، مثل توقُّف ابن عمر عن قوله: إن المصلّي على الجنازة له قيراط، حتى سألوا عائشةَ فروَتْ ذلك أيضًا

(1)

. وكذلك حديث فاطمة بنت قيس

(2)

وحديث بَرْوَع بنت واشق

(3)

وأمثال ذلك كثيرة. ما علمنا أحدًا من الصحابة والتابعين مع فضلِ عقلهم وعلمهم وإيمانهم ردُّوا حديثًا صحيحًا وتأوَّلوه على خلاف مقتضاه، لمخالفة ظاهر القرآن في فهمهم أو لمخالفة المعقول أو القياس، إلّا كان الصوابُ مع الحديث ومَن اتبعَه، فكيف بمن بعدَهم؟! وهذا من معجزات الرسولِ وآياتِ حفظِ دينِه وشرعِه وسننِه.

وهذا خاصّة الصدّيق مع سائر الصحابة، فإنه لم يُعرَفْ له فتوى ولا كلامٌ يخالف شيئًا من الأحاديث، بل كمل فيه التصديق حيًّا وميّتًا. ولغيِره من التأويل والاجتهاد ما هو مُثابٌ فيه على حُسْنِه، ومغفورٌ له فيه خطؤه. بل كان الصديق يُبَيِّنُ لهم من معاني النصوص إذا اعتقدوا في ظاهرها ما لا يدلُّ عليه ورأى عدمَه، كما قال له عمر عامَ الحديبية

(4)

: ألم يُحدِّثْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا نأتي هذا البيت ونطوفُ به؟ قال: أقالَ لك إنك تأتيه هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتيهِ ومُطَّوِّفٌ به. وكان عمر لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أجابَه بهذا الجواب. وهو جوابٌ حقٌّ، فإن اللفظ مطلقٌ لم يُوقِّتْ زمنًا، فتخصيصُه بذلك العام كان في ظنّ المستمع، لما

(1)

أخرجه مسلم (945/ 55 و 56).

(2)

أخرجه مسلم (1480/ 41).

(3)

أخرجه أحمد (3/ 480، 4/ 280) وأبو داود (2115) والترمذي (1145) والنسائي (6/ 121، 122، 198) وابن ماجه (1891) من حديث معقل بن سنان الأشجعي. وهو حديث صحيح.

(4)

أخرجه البخاري (2731، 2732) ضمن الحديث الطويل في غزوة الحديبية.

ص: 76

رأى حركة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى البيت ظنّ أن الوعد ينجز بهم في ذلك العام، ولم يكن ذلك في ظاهر لفظ الوعد.

وكذلك لما قال له عمر

(1)

: كيف تُقاتلُ الناسَ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْت أن أقاتلَ الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالَهم إلّا بحقّها، وحسابُهم على الله تعالى"؟ فقال له أبو بكر: ألم يقلْ "إلا بحقّها؟ " فإن الزكاة من حقِّها، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يُؤدُّونها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرحَ صدرَ أبي بكرٍ للقتال، فعلمتُ أنه الحق.

وهذا المعنى الذي ذكره أبو بكر هو مصرَّحٌ به في الحديث الآخر الذي في الصحيحين

(2)

من رواية ابن عمر: "حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاة". فذاك الحديث إن جُعِل معارضًا لهذا فقد بيَّن به أبو بكر عدمَ المعارضة، وبيَّن أن الحجة فيه أيضًا بقوله "إلا بحقّها"، أي لا تَحِلُّ دماؤهم وأموالُهم إلّا بحقّها، أي لا تُباح لي بالباطلِ بل بحقِّها، والزكاة هي من الحق الذي أوجبه الله عليهم، فأنا أقاتلُهم على هذا الحق. ثمَّ بيَّن بأنهم لو تركوا من الحقّ شيئًا قليلًا لقاتلَهم عنه، فقال: والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها.

وكلا الحديثين حقٌّ، فإن الكافر المحارب إذا نطقَ بالشهادتين حَرُمَ

(1)

أخرجه البخاري (1399، 1400) ومسلم (20) عن أبي هريرة.

(2)

البخاري (25) ومسلم (22).

ص: 77

حينئذٍ قتالُه، ثم بعد ذلك إن أقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ وإلّا قُوتِلَ عليها، كما بيَّنه في الحديث الآخر. ثم بعد ذلك إن تركوا شيئًا من حقّها مثلَ أن يَستحلُّوا الربا أو يمتنعوا من تركِه أو نحو ذلك، كانوا قد حاربوا الله ورسولَه، وقُوتلوا أيضًا على ذلك. وإنما هي مراتب، فالكلمتان رأسُ الإسلام من الكلام، والصلاة والزكاة هما رأسُ العمل، فتارةً يُذكَر الأصل الذي هو الاعتقاد والكلام، وتارةً يُقْرَن به الأصل الآخر من العمل والاقتصاد، ثم يدرج سائر الدين الذي أمر الله تعالى بالقتال عليه في قوله "إلّا بحقّها"، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال/ 39]. فقوله: "عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلّا بحقّها" كقولِه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء/ 33]، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة/ 188].

ونظائرُ هذه المقامات للصدّيق كثيرة، يُفقِّهُهم فيما خفي عليهم أو ذَهِلوا عنه من معاني الكتاب والسنة، كتلاوة قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران/ 144] حين قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي روايته لهم أحاديثَ لم يعرفوها، كحديث دفن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

وغيره، وكجوابه لهم فيما يُشكل عليهم من معاني القرآن والحديث، وبيان أن ظاهره حق، وأن من ظنّ أن ظاهره ليس بحقّ فهو المخطئ في ذلك، وأنه لم يُوجَد له فتوى ولا أمرٌ ولا كلام يخالف شيئًا من النصوص كما

(1)

أخرجه الترمذي (1018) وأبو يعلى (45) من حديث عائشة، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وله طرق وشواهد يرتقي بها إلى الصحة، منها ما أخرجه ابن ماجه (1628) وأبو يعلى (22) من حديث ابن عباس عن أبي بكر.

ص: 78

وُجِد لغيره. ولهذا حكى غيرُ واحدٍ من العلماء إجماعَ أهل السنة والجماعة على أنه أعلم الصحابة، فهو أعلمهم وأشجعهم وأجودهم وأدْيَنهم باتفاق أهل المعرفة من المسلمين، وأعظمُ علمِه وإيمانِه التصديقُ بالنصوص النبوية خبرًا وأمرًا واتباعُها، وأنه لا يُعارضها بشيء من تأويلاتِه وأرائه.

وهذا وأكثر منه يُبيِّن لك أن المتبعين للحديث هم صدِّيقو هذه الأمة، والصِّديقون هم أفضلُ الخلق بعد الأنبياء، ومن كان منهم أعظمَ اتباعًا له كانَ أعظمهم تصديقًا. وأما الخارجون

(1)

عن السنة والجماعة فإمّا أن يكونوا

(2)

من جنس ذي الخُويْصِرة وأمثالِه من الخوارج، وإمّا أن يكونوا من جنس عبد الله بن أُبيّ وأمثالِه من المنافقين، وإمّا أن يكونوا من جنس مُسيلمة الكذاب وأتباعه المرتدّين الذين جعلوا مع الرسول نظيرًا له، وإمّا أن يكونوا من جنس مانعي الزكاة وأمثالهم ممن أقرَّ ببعض واجبات الدين وبعض ما جاء به الرسول دون بعضٍ. وهذا أمرٌ مطَّرِد لا يُخرَم، لا يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنتِه وجماعةِ المسلمين المقرين بالشهادتين إلّا وهو إمّا منافق، وإمّا مبتدع مارقٌ كالذين كانوا على عهده، وإمّا مرتدٌّ عن بعضِ دينِه، وإمّا جاعلٌ

(3)

معه نظيرًا له، وهما متلازمان، فإنّ من جعلَ معه نظيرًا له لا بدَّ أن يرتدَّ عن بعض دينِه، ومن ارتدَّ عن بعض دينِه فلا بدَّ وأن يُطيع في تركِ ذلك البعض لغيرِه.

وهؤلاء من المرتدين الذين قاتلهم الصدّيقُ والصحابةُ أجمعون،

(1)

في الأصل: "الخوارجون".

(2)

في الأصل: "كان".

(3)

في الأصل: "جاعلا".

ص: 79

والخوارج هم الحروريَّةُ الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبى طالب وأصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونصوصِه، لا بالاجتهادِ والرأي والتأويل. وأما المنافقون فإنهم وإن لم يُقاتَلُوا إذْ لم يُظهِروا إلّا الطاعةَ لله ورسولِه فهم في الآخرة في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار.

فهذا حالُ المحارب والمسالم من الخارجين عن شريعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعةِ المسلمين من المقرين بالشهادتين، فأما من لم يُقِرَّ بالشهادتين من المشركين وأهل الكتاب فأمرُه ظاهر، وإنما الغرضُ مَنْ قد يَشْمَله لفظ "مسلم"، لظهور إسلامِه بالشهادتين وإن كان الإيمان لم يدخل قلْبَه، أو كان في قلبه مرض، أو قد ارتَدَّ عن بعضه. فهذا هذا، والله أعلم.

وقد تبيَّن بذلك أن الأحاديث النبويّة من الصحاح مَن ردَّ منها شيئًا، وفهمَ من ظاهرِه معنًى يعتقد أنه مخالفٌ للقرآن أو للعقل، فمن نفسِه أُتِيَ وأن المقرِّرين للنصوص هم أرفعُ الخلق وأعلاهم طبقةً، إذ جمعوا المعرفةَ والفهمَ، فإن الصِّديق رضي الله عنه كان أعلمهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفهمهم لمعانٍ زائدةٍ من الخطاب، لا تُستفاد بمجرد اللغة والعلم باللسان، بل هي من الفهم الذي يُؤتيه الله عبدَه. كما في الصحيحين

(1)

عن أبي سعيد قال: خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنَّ عبدًا خيَّرَه الله بين الدنيا وبينَ ما عندَه، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله"، فبكَى أبو بكر وقال: بل نَفديك بأنفسِنا، فقلتُ في نفسي: ما يُبكِي هذا الشيخَ أن يكون الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختارَ ذلك العبدُ ما عند الله؟ فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك العبد، وكان أبو بكر أعلَمنا به، فقال: "يا أبا بكر، لا

(1)

البخاري (466) ومسلم (2382).

ص: 80

تَبكِ

(1)

، إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلًا لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته. لا يَبقَينَّ في المسجد خَوخَة باب إلَّا سُدَّ إلّا باب أبي بكر".

وكذلك رواه البخاري

(2)

عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه الذي ماتَ فيه عاصِبًا رأسَه بخِرقةٍ، فقعَد على المنبر، فحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال:"إنه ليس أحدٌ من الناس أمنَّ عليَّ في نفسِه ومالِه من أبي بكر بن أبي قُحافة، ولو كنتُ متخذًا من الناس خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن خُلَّةُ الإسلام أفضلُ. سُدُّوا عني كلَّ خوخةٍ في هذا المسجد غير خَوخَة أبي بكر".

وقد كان هذا الجنس من الاستشكال والمعارضة يُورَد على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فبيَّنَ عدمَ ورودِه، مثل ما في الصحيحين

(3)

عن عائشةَ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن نُوقِشَ الحسابَ عُذِّبَ"، قلتُ: يا رسولَ الله، أوَليسَ يقولُ الله تعالى في كتابه:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق/ 7 - 8]. فقال: "ذلك العرضُ".

ولا ريبَ أن حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعارِضُ هذه الآية، فإنما قال:"من نُوقِش الحسابَ عُذِّب"، والآيةُ إنما

(4)

فيها ذكر الحساب اليسير ليس فيها المناقشة، لكن لما أثبتَ القرآنُ حسابًا للسعيد ظنَّ المستمعُ أن ذلك من المناقشة في الحساب، وليس كذلك. فزادَه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا أن ذلك

(1)

في الأصل: "لا تبكن".

(2)

رقم (467).

(3)

البخاري (6536) ومسلم (2876).

(4)

في الأصل: "انها".

ص: 81

الحساب اليسير هو العرضُ، وهو أن تُعْرَض عليه أعمالُه ليَعلَمها ويَعلمَ رحمةَ الله له بالعفو عنه، كما في الصحيحين

(1)

عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يُلقِي كنَفَه على عبدِه المؤمن، ثمَّ يُقرِّره بذنوبه: فعلتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم يا ربِّ، فيقول: إني سَترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليومَ. وأما الكفّار والمنافقون فيُنادَى على رؤوس الخلائق:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود/ 18].

فحساب العرض والتعريف ليس هو المناقشة، وإنما المناقشة تكون عند الموازنة والمقابلة إذا وُزِنَتْ حسناتُه بسيئاتِه من غيرِ عفوٍ ولا مغفرةٍ.

ومثل هذا حديث حفصة

(2)

لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة"، فقالت: أليس الله تعالى يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم/ 72]. فبيَّنَ أن هذا الورود ليس هو من الدخول المنفيّ، إذ هو المرور على الصراط، فهو إما أن لا يُسمَّى دخولًا، وإما أن لا يدخل في مطلق دخول النار.

فإذا كانت الأحاديث الصحيحة الخبرية والطلبية في الأصول والفروع لا يُعلَم منها حديثٌ أصابَ من عارضه أو خالف ظاهره بغير حديثٍ آخر، فكيف يكون القرآن؟

وهذا هو سِرُّ المسألة

(3)

التي يستشكلها كثير من الناس من كلام

(1)

البخاري (2441) ومسلم (2768).

(2)

أخرجه مسلم (2496) عن أم مبشر الأنصارية.

(3)

في الأصل: "الملة".

ص: 82

الشافعي، وهو أن القرآن لا ينسخ السنة، وقد وافقه على ذلك أصحابُ أحمد في أحد القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأظهرهما في قوله، وإن كان كثير من أصحابه على الأخرى، حتى قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن القرآن لا يخصُّ عمومَ السنة، ولا يُبيِّن القرآنُ السنة. وهذا معنى ما يُروى عن غير واحدٍ من السلف أنهم قالوا: السنةُ تَقضِي على القرآن

(1)

، والقرآنُ لا يقضي على السنة. وسئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: لا أجترئ هذا اللفظ، ولكن السنة تُفسِّر القرآنَ وتُبيِّنُه وتدلُّ عليه وتُعبِّر عنه

(2)

. فعَدَل عن لفظ "تقضي عليه" لأنها تُشعِر المخاطبين في زمنه بأنها أعلى منه، إلى لفظ البيان والتفسير، وهذا هو الذي قصدَه أولئك.

وقولهم: "تقضي على" بمنزلة قول الفقهاء: تُرجِّح الخاصَّ على العامّ، وإن كان الخاصُّ دون العامّ في الحرمة. وكثيرٌ من أهل الكلام والفقهِ يُنكِرون هذا ويقولون: كيف لا يكون الدليل الأقوى ناسخًا ومخصِّصًا لما دونَه؟ ولم يفهموا مرادَ من قال ذلك من الأئمة، فإنهم قالوا: إذا سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنةً وجاء القرآن بنسخها، فلا بدَّ أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من طاعةِ كتاب الله ما يخالف السنة الأولى، فلا تكون السنةُ منسوخةً بالقرآن إلّا ومع القرآن سنةٌ توافقُه، وهذا حقٌّ.

وكذلك قال من قال: السنة هي المفسرة للقرآن المبيِّنة له، فكيف يكون القرآنُ مفسرًا لها مبينًا لها؟ ومقصودهم بهذا: الردّ على من يُعارض سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بما يظنُّه هو ناسخًا لها من آياتٍ في

(1)

انظر الكفاية للخطيب (ص 14) ومفتاح الجنة للسيوطي (ص 43).

(2)

الكفاية (ص 15).

ص: 83

القرآن. فقيل له: لو كانت منسوخةً لكان في السنة ما

(1)

يُبيِّن ذلك، كما قال يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير: حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ينسخُ بعضُه بعضًا كما ينسخ القرآن بعضُه بعضًا

(2)

. ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخُه إلَّا قرآنٌ، لا ينسخه مجرَّدُ السنة أيضًا، وإن كانت السنة مفسِّرةً له مبيِّنةً له بلا نزاع. وقد خالفهم في ذلك أكثر أهل الكلام وطوائفُ من الفقهاء، وهو الرواية الأخرى عن أحمد التي يختارها أكثر أصحابه.

وهذا النزاع في جواز ذلك، وأما الوقوع [فـ] لا أعلم إلى ساعتي هذه حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يجبُ تركُه إلّا لحديثٍ صحيح يعارضه ناسخًا ومفسِّرًا، لا أعلم ما يجبُ تركُه من الحديث الصحيح لمخالفة ظاهر القرآن أو العقل أو نصٍّ للقرآن إلّا أن يكون قد جاءَ حديثٌ آخر يخالفُه، كما قاله الشافعي رضي الله عنه، فإنه كان من أبصر الناس بأصولِ الفقه وأعلمهم بالجمع بين النصوص المتعارضة، وناسخِها ومنسوخها، ومجملها ومفسَّرِها، ولهذا تكلَّم على مختلف الحديث، وكان يُدعَى ببغداد ناصر الحديث، وصرَّح بما ذكرتُه.

فروى شيخُ الإسلام في كتاب ذم الكلام

(3)

عن الربيع قال: سُئل الشافعي بأيِّ شيء يَثبتُ الخبر؟ قال: إذا حدَّثَ الثقةُ عن الثقةِ حتى ينتهي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُترك له حديث إلّا حديث واحدٌ يخالفه حديث،

(1)

في الأصل: "بما".

(2)

أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص 16).

(3)

(2/ 175).

ص: 84

فيُذهَب

(1)

إلى أثبت الروايتين، أو يكون أحدهما منسوخًا، فيُعمَل بالناسخ. وإن تكافآ ذُهِبَ إلى أشبههما بكتاب الله وسنة نبيه فيما سواهما، وحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مستغنٍ بنفسِه، وإذا كان يُروى عمن دونه حديثٌ

(2)

يخالفُه لم ألتفت إليه، وحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أولى، ولو علم من روي عنه خلاف سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اتَّبعَها إن شاء الله.

وله وللإمام أحمد وغيرِهما من الأئمة من الكلام ما لا يَفهم غَورَه كثيرٌ من الناس، كما لأئمة السلف قبلَهم، فتجدُ من يُفتي بظاهرٍ من القولِ ممن أَلِفَ طريقةَ بعض المتأخرين واصطلاحهم، لا يَعرِف اصطلاحَهم ولا يَعرِفُ مقصدَهم ومغزاهم، بل فيه عجمةٌ عن اللفظ والمعنى جميعًا. ولهذا كان هؤلاء الأئمة الذين اشتهروا بالإمامة في الحديث - مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرِهم من أئمة الآثار - طريقتُهم أنهم لا يردُّون شيئًا من الحديث الصحيح، لا في المسائل الخبرية ولا الشرعية، لا في الأصول ولا في الفروع، لا يردُّونه لمخالفة ما يُظَنُّ في قياسٍ أو معقولٍ أو مجردِ ظاهرٍ من القرآن، كما بيَّنا

(3)

أنه لا يوجد حديث صحيح مستحقّ الردِّ بلا حديثٍ يُعارِضُه، لكن قد يُفارِق الرجلُ أصلَه أحيانًا على وجه الغلط.

وكذلك أصول سائر الأئمة وجميع السلف على أن الأخبار الصحيحة مقبولة في جميع أبواب العلم الخبرية والعملية الأصول والفروع، لم يكن في السلف ولا في الأئمة مَن يردُّ الخبر في بابٍ من

(1)

في الأصل: "فذهب".

(2)

في الأصل: "حديثا".

(3)

في الأصل: "بيناه".

ص: 85

أبواب العلم بأنه خبر واحد، ولم ينشأ ذلك إلّا من أهل البدع.

ولهذا ما زال علماء السنة يقبلون الخبر الصحيح، ويبينون اتفاقَ الأخبار المتعارضة عند بعض الناس، ووضعَ كلِّ حديثٍ موضعَه، وأن الأحاديث كما جاءت لا تُردُّ بتكذيب ولا بتحريف. ولم يكن في أئمة المسلمين من يقول: هذا خبر واحد في المسائل العلمية فلا يُقبَل، أو هذا خبر واحد مخالف للعقل فلا يُقبَل، ومن قال شيئًا من هذا عدُّوه من أهل البدع، لكونِه يعارض السنة الصحيحة بما لم يجئ عن الرسول، وكلامُ الرسول لا يُعارضُه إلّا كلامُ الرسول.

لكن قد كان بعضهم يُعارِض الخبرَ المنفردَ إما بظاهرٍ من القرآن وإمّا بما يعتقده من الإجماع ونحو ذلك من الأدلة الشرعية، فهذا قد كان يقع من بعض السلف، كقولِ عمر: لا نَدَعُ كتابَ ربِّنا وسنةَ نبينا لقولِ امرأةٍ لا ندري هل حفظتْ أو نسيتْ

(1)

. وقولِ مروان: فنأخذُ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس

(2)

. وما ذُكِر عن عائشة في مواضعَ من ردِّ بعضِ الحديث بظاهرٍ من القرآن. وكذلك ما يُوجد في مذهب أهل المدينة من تقديم العمل الذي يجعلونه إجماعًا على الخبر، ويستدلون بذلك على نسخِه.

فهذا ونحوه قد كان يقع من بعضهم، وما علمتُ أنه وقع من ذلك شيء إلّا والصواب خلافُه، كما تقدم التنبيهُ عليه. ولهذا قال الإمام أحمد: إذا ورد الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو سنةٌ يجب اتباعُها، ولا

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (12027).

(2)

أخرجه مسلم (1480/ 41).

ص: 86

يُلتَفت إلى غيِره من قياسٍ أو عملٍ. وكان هو وغيره من الأئمة يجعلون من أكابر أهل البدع من يردُّ الأخبار الصحاح في الأمور الخبرية أو العملية في أصول أو فروع. ولهذا كان الشافعي يقول دائمًا: إذا صحَّ الحديثُ فاضربوا بقولي الحائط

(1)

. وكان يُقدِّم الخبر الصحيح على كلِّ ما يُدَّعَى من هذه المعارضات.

وهذا القدر إنما استقام لأئمة الحديث لأنهم أعرفُ به وبصحيحه، فعندهم من اليقين بصحتِه ما ليس عند غيرهم ممن لم يَعلَم منه ما علموه، وقد علموا من ضعف المعارض ما لم يعلمه غيرهم. ولهذا تجد غيرَهم يذكر أحاديث مستفيضةً متلقاةً بالقبول وأحاديثَ ضعيفةً أو موضوعةً، والجميع عنده من جنس واحدٍ، وهو خبر واحد، فيقبل هذا الجنس الذي فيه الحقُّ والباطل مطلقًا إذا وافق بعض أصولِه، ويخالفه إذا خالفَ بعض أصولِه، وهؤلاء لا يُدْعَون من أهلِ الحديث، بل هذا

(2)

من فعل أهل الأهواء والبدع، كما قال وكيع بن الجراح: مَن طلبَ الحديثَ كما جاءَ فهو صاحبُ سنةٍ، ومن طلبه ليُقوِّيَ به رأيَه فهو صاحبُ بدعةٍ

(3)

. ويُروى عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي أو أحدهما قال: أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلّا ما لهم

(4)

.

وهذا حقٌّ، فإن الذي يقبل من الحديث ما وافقَ رأيه وهواه بمنزلة

(1)

انظر نحوه عنه في صحيح ابن حبان (5/ 497) والمجموع للنووي (1/ 63) وإعلام الموقعين (2/ 361).

(2)

في الأصل: "بل المردد على هذا".

(3)

أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين (ص 125 - 121).

(4)

أخرجه الهروي في ذم الكلام (2/ 270، 4/ 249) عن وكيع.

ص: 87

الذين {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور/ 47 - 52]، وبمنزلة {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الآية [المائدة/ 41 - 42].

ولهذا كان طائفة من أهل الحديث لا يُحدِّثون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الأهواء، لأنهم لا يقبلونه على وجهه، بل يقبلون منه ما وافق آراءهم وأهواءهم، لموافقته لآرائهم وأهوائهم لا لكونه في نفسه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيصيرون بمنزلة أهل الكتاب والمنافقين الذين يقولون:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} . وهؤلاء قد خيَّر الشارع عليه السلام بين الحكم بينهم وتركه، وقد يكون الترك أصلح، كما قد يكون الحكم أصلح.

وهذا حال جميع أهل الأهواء في الحديث، وهو حال كثير منهم في القرآن في المواضع التي يزعمون أنها لا تُقبل إلا بعقلهم، مثل مسائل

ص: 88

التوحيد والصفات والقدر ونحو ذلك مما يقع فيه خلائقُ من المتكلمة والمتصوفة، لا يرون أن يحتجوا بالقرآن للاعتماد بل للاعتضاد، ولهذا يقبلون الآيات الموافقة لظنونهم وأهوائهم التي يسمونها معقولات، ويجعلون الآيات المخالفة لهم من المتشابهات التي لا يجوز اتباعُها، ولهذا كان السلف يسمونهم أهلَ الأهواء.

وهو موجود أيضًا في غالب الخلق من العلماء والأمراء ومن دخل فيهم من المشايخ والملوك ونحوهم في كثير من أمور الدين القولية والعملية، وإن كانت مما يَسُوغ فيه الاجتهادُ. فإن من اعتقد قولًا أو عملًا وصار لا يُحِبُّ من نصوص الكتاب والسنة وأدلة الحق إلّا ما وافق هواه في ذلك القول والعمل، ويُبغِض الحقَّ الذي يخالفه، فهو صاحبُ هوى. وكذلك لو علم أن قوله وعمله أصحُّ، ولم يُعطِ منازِعَه ما يَستحقُّ من الحق، بل زادَ في ذمِّه على ما شرعَه الله ورسوله، كان صاحبَ هوى. وهذا هو أصل التفرق بن أهل الأرض قديمًا وحديثًا، فإن اتباع الهوى بعد ظهور الحق بَغْيٌ، قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة/ 4 - 5]. وهذه آية عظيمة في سورة عظيمة أمر الله رسوله أن يخص أبيًّا بتبليغها له وقراءتها عليه، ليستمعها ويتلقَّنها [و] هو مختص من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة"، قال: أَوَ سُمِّيتُ؟ قال: نعم، فبكى أبيٌّ

(1)

. فأخبر بتفرقهم وبما أُمِروا به بعد قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة/ 1 - 3].

(1)

أخرجه البخاري (3809) ومسلم (799) عن أنس.

ص: 89

وينبغي أن يتدبر المؤمن قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، فإن الله أخبر أنه لم يأمر إلّا بهذا، وأن هذا هو دين القيمة، وهكذا في جميع الرسل، حتى إن خاتم الرسل أخبر أنه أُمِرَ بقتال الناس على هذا، فقال في الحديث المتفق عليه في الصحيحين

(1)

: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، وفي رواية:"حتى يعبدوا الله وحدَه". هذا تحقيق قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة/ 193]. ولهذا قال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف/ 45]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء/ 25]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل/ 36]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات/ 56]. فأخبر سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته، وأرسل جميع الرسل تأمرُ بعبادته وحده، وبذلك وُصِفَ المؤمنون الذين ظُلِمُوا، كقول مؤمن آل فرعون:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر/ 28]، وقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج/ 40].

وأمرَ خاتم الرسل مع دعوتِه جميعَ الناس إلى ذلك أن يُقاتلَ جميعَ الناس على ذلك، وأباحَ له ممن امتنع عن عبادة الله وحده أن يَسترِقَّه ويَستعبدَه ويَستَفيءَ ماله، فإن الله إنما خلقه لعبادته، وجعل المال عونًا

(1)

البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر.

ص: 90

على عبادته وطاعته، فإذا امتنع من عبادة ربه أباحَ أن يَفِيءَ المال إلى عباده المؤمنين الذين يعبدونه وحدَه، فإنهم

(1)

المستحقون لذلك في دينه الذي هو عبادته وحده، وأن يسترقُّوا تلك الأنفس، فإنَّ خدمتها لمن يعبد الله خيرٌ من معاندتها لهم.

فسبب الرقِّ الكفرُ

(2)

، وهو من العقوبات، والعقوبات لا تسقُطُ بمجرد التوبة بعد القدرة. ولهذا كان المحارب إذا أسلم قبل القدرة عليه

(3)

عُصِمَ دَمُه وما هو في سلطانه من ولدِه الصغار وماله، [و] كان حرًّا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسير العقيلي لما قال: إني مسلم: "أما إنك لو قُلتها وأنت تملكُ أمرك أفلحتَ كلَّ الفلاح"

(4)

. وإذا أسلم بعد القدرة عليه عُصِمَ دمُه فقط، لأن الإسلام هو المطلوب بالقتال، ولهذا من كانت ردَّتُه مجردةً فأسلم بعد القدرة عليه عُصِمَ أيضًا دمُه، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله من عقوبة الكفر.

ولهذا لما كان الله تعالى إنما خلق [الخلقَ] لعبادته وحدَهُ لا شريك له، وبذلك بَعَث رُسُلَه وأنزل كُتُبَه، كان الخروج عن ذلك بالكلية - وهو الشرك - غيرَ مغفورٍ، كما قد بُيِّن في غير هذا الموضع، و [من] كان معه مثقال ذرَّةٍ من إيمان يخرجُ من النار.

والعبادة أصلُها عبادة القلب، وهي غاية الذلِّ بغاية الحبِّ، وذلك إنما يكون بشعورٍ في القلب وعلمٍ وإحساس وبإرادةٍ وقصدٍ واختيار،

(1)

في الأصل: "فانتم".

(2)

في الأصل: "فسبب الرق سببه الكفر".

(3)

في الأصل: "على".

(4)

أخرجه مسلم (1641) عن عمران بن حصين.

ص: 91