المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما ينبغي إن يتنبه له - حاشية الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌ ما ينبغي إن يتنبه له

فيعلم الواجب والمحالا

كجائز في حقه تعالى (1)

(1) أي: يجب على كل مكلف أن يعرف ما يجب لله تعالى، ويأتي.

وقال المصنف: وهو ما لا يتصور في العقل عدمه كوجوده تعالى، ووجوب قدمه، ويعلم المحال وهو: ما لا يتصور في العقل وجوده كالشريك له تعالى. اهـ.

ووجوده تعالى، ووجوب قدمه، ونفي الشريك عنه معلوم بالضرورة من الشرع والعقل الفطرة، وقد أقر به المشركون قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] . وإنما الخلاف بينهم وبين الرسل في توحيد العبادة.

وقال المصنف كما يجب أن يعلم كل جائز في حقه - تعالى وتقدس -، وهو ما يصلح في نظر العقل وجوده وعدمه على السواء، كإرسال الرسل. اهـ. ولله في إرسالهم حكم ومصالح، وعواقب حميدة، وكون العقل أصلا يعتمد في المطالب الإلهية قدح في الشرع، وإنما العقل تابع مصدق للشرع، ودلالته مشروطة بعدم معارضة الشرع.

وتحت هذا البيت من الاحتمالات على أصول المتكلمين‌

‌ ما ينبغي إن يتنبه له

، كقول بعضهم: يجب أن يعلم أن ذات الرب وجوده أو غير وجوده، أو أنه الوجود المطلق، بشرط سلب كل ماهية عنه تعالى، أو أن لا ينعت بنعت، أو أنه علة تامة أزلية، فيلزم أن لا يحدث عنه حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة، كما هو قال ملاحدة الفلاسفة المعلوم البطلان.

فإن واجب الوجود تعالى هو الفعل لكل ما سواه، الذي لا يتوقف فعله على أمر آخر من غيره، بل نفسه هي المستلزمة لفعله، ليس علة تامة أزلية، بل لا بد أن يكون متصفا بأفعال اختيارية تقوم به، يحدث بها ما يحدث على مقتضى إرادته وحكمته.

ص: 15

وصار من عادة أهل العلم

أن يعتنوا بسبر ذا بالنظم (1)

لأنه يسهل للحفظ كما

يروق للسمع ويشفي من ظما (2)

فمن هنا نظمت لي عقيده

أرجوزة وجيزة مفيده (3)

(1) أي: صار من عادة القائمين بنشر العلوم أن يهتموا بتتبع مهمات مسائلها بالنظم، لسهولة حفظه، لأنه كلام متسق مقفى موزون، فيرسخ في الحافظة من غير مزيد مشقة، بخلاف النثر فإنه أصعب.

(2)

أي: لأن المنظوم يسهل، أي: يلين للحفظ والعلوق في الحافظة، كما أنه يحسن ويلذ للسمع، لكونه يتبسط له ويلتذ بسماعه، ويشفي، أي يبرئ من شدة عطش، واشتياق إلى معرفة أصول علم التوحيد، ومهمات مسائله.

(3)

أي: من أجل ما ذكر من فائدة النظم: ألف عقيدة على مذهب السلف أرجوزة من "الرجز" أحد بحور الشعر، وجيزة، أي: موجزة، والموجز من الكلام ما قل لفظه وكثر معناه، مفيدة: لمن تأملها، وصدق - رحمه - الله -، وإن كان أدخل فيها من آراء المتكلمين ما لعله لم يتفطن لها، مما سننبه عليه - إن شاء الله تعالى - ويقع كثيرا من غيره، يذكرون عبارات لم يتفطنوا لها ولو نهبوا لتنبهوا لذلك.

ص: 16

نظمتها في سلكها مقدمه (1)

وست أبواب كذاك خاتمه (2)

وسمتها بالدرة المضية (3)

في عقد أهل الفرقة المرضية (4)

على اعتقاد ذي السداد الحنبلي (5)

إمام أهل الحق ذي القدر العلي (6)

(1) أي: نظمت مسائلها، ومهماتها، في سلكها: بكسر السين، أي: خيطها: مقدمة: بفتح الدال، وتكسر، أي: طائفة قدمت أمامها.

(2)

أبواب: جمع باب، وهو في العرف: اسم لطائفة من العلم، يشتمل على فصول ومسائل غالبا، وكذلك يشتمل على خاتمة، وهي عاقبة الشيء وآخرته.

(3)

وسمتها من السمة، وهي العلامة، أي: سمى هذه العقيدة بالدرة، أي: اللؤلؤة، المضيئة: المنيرة، من الإضاءة، وأضاء، أي: استنارت، فصارت مضيئة.

(4)

أي: في اعتقاد الطائفة المرضي اعتقادها، المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

على اعتقاد: متعلق بنظمت، والاعتقاد مصدر اعتقد، وهو يطلق على التصديق مطلقا، وعلى ما يعتقد من أمور الدين، ذي السداد، أي: صاحب القصد في الدين، والاستقامة؛ إمام الأئمة، العالم الرباني، والصديق الثاني، إمامنا: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان البغدادي الحنبلي، نسبة إلى جده، ونسبت أتباعه إليه.

(6)

أي: قدوة أهل الحق الذين هم الفرقة الناجية، لاعتصامهم بالكتاب والسنة، ذا القدر، أي: صاحب القدر السامي، لكثرة فضائله، ومناقبه، وآثاره في الإسلام. قال الشافعي: ما خلفت ببغداد أتقى، ولا أورع، ولا أفقه، ولا أعلم من أحمد بن حنبل.

وقال إسحاق بن راهويه: هو حجة بين الله وبين خلقه.

وقال أحمد الدارمي: ما رأيت أحفظ لحديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقه معانيه من أبي عبد الله.

ص: 17

حبر الملا فرد العلي الرباني (1)

رب الحجى ماحي الدجى الشيباني (2)

فإنه إمام أهل الأثر (3)

فمن نحا منحاه فهو الأثري (4)

(1) حبر: بفتح الحاء وكسرها العالم، والملا: أشراف الناس ورؤساؤهم، فرد العلي، أي: واحد في الخصال السامية، الرباني العالم، العامل المعلم للعلم، مربي الناس بالتعليم.

(2)

رب، أي: صاحب الحجا، كامل العقل والفطنة، والمقدار العالي، الماحي بنور السنة ظلمة البدعة، ودجا الليل إذا أظلم، ودياجيه حنادسه الشيباني نسبة إلى شيبان بن ذهل، البطن المتسع المشهور، ولد سنة (164هـ) .

(3)

أي: فإن الإمام أحمد رضي الله عنه قدوة أصحاب الأثر، الذين يأخذون عقيدتهم من المأثور عن الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما ثبت عن الصحابة والتابعين.

(4)

أي: فمن قصد مقصده، ومذهبه، فهو الأثري المنسوب إلى العقيدة الأثرية والفرقة السلفية ويعرف بمذهب السلف وهو مذهب سلف الأمة، وجميع الأئمة المعتبرين والمتبعين، كالأئمة الأربعة، وغيرهم، وإنما نسب هذا المذهب لأحمد رحمه الله لأنه هو الذي قاوم أهل البدع، حتى نصر الله به دينه وأظهره.

قال ابن المديني: نصر الله هذا الدين برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد يوم المحنة وقال: اتخذت أحمد فيما بيني وبين الله.

وقال غير واحد من أئمة الدين: أحمد إمام أهل السنة.

وما أحسن ما قيل:

أضحى ابن حنبل حجة مبرورة

وبحب أحمد يعرف المتنسك

ولما انتصر رحمه الله للسنة، وقدم نفسه، وصبر على المحنة، صار هو علمها وإمامها، حتى انتسب إليه أبو الحسن والأشعري في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" وغيره، ورأى اتباعه المنهج الأحمد، وقال: قولنا وديننا التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث، وبما كان عليه الإمام، نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عن ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. انتهى كلام الأشعري.

توفي الإمام أحمد رحمه الله ببغداد سنة (241هـ) وقيل: حزر من صلى عليه بثمانمائة ألف وستين ألفا، وأسلم لموته عشرون ألفا من اليهود والنصارى.

ص: 18

سقى ضريحا حله صوب الرضا

والعفو والغفران ما نجم أضا (1)

(1) أي: سقي قبرا سكنه غيث الرضا؟

رضوان الله رحمته، وبركته، صوب العفو، والصفح، والتجاوز عنه ما استنار كوكب في السماء.

ص: 19

وحله وسائر الأئمة

منازل الرضوان أعلى الجنة (1)

(1) أي: وأحل أحمد، وبقية علماء الأمة، وأعلام الأئمة من الأربعة المتبوعين، وغيرهم من أئمة الدين منازل الرضوان، من الرحيم المنان، أعلى الدرجات العالية من الجنان، والذين جاءوا من بعدهم بإحسان.

ص: 20

مقدمة (1)

اعلم هديت أنه جاء الخبر

عن النبي المقتفى خير البشر (2)

بأن ذي الأمة سوف تفترق

بضعًا وسبعين اعتقادًا والمحق

ما كان في نهج النبي المصطفى

وصحبه من غير زيغ وجفا (3)

(1) في ترجيح مذهب السلف، على سائر المذاهب، والفرقة الناجية على سائر الفرق.

(2)

بل جميع الخلق، وهديت جملة دعائية من الهداية، وهي: التوفيق والإرشاد؛ والمقتفى: المتبع، ومن أسمائه: المقفى، يعني آخر الأنبياء، فإذا قفي فلا نبي بعده.

(3)

أي: جاء الخبر بأن هذه الأمة ستفترق ثلاثة وسبعين فرقة وافتراقهم من أجل الاعتقاد وهذه الفرق كلها زائغة ضالة، منحرفة عن الصراط المستقيم إلا فرقة واحدة، وهي المحقة من جميع تلك الفرق، السالكة في اعتقادها منهج صفوة خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير انحراف، ولا تجاف، ولا ميل عن هديهم.

فإن الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل طائفة تضاف إلى

غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأئمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف أهل السنة، فإن الصواب معهم دائما، ومن وافقهم كان الصواب معه، ومن خالفهم فالصواب معهم دونه

في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول صلى الله عليه وسلم فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها، كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين يضافون إليه.

والأثر المشار إليه: ما رواه أهل السنن، وغيرهم:«ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بلفظ: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .

ص: 21

وليس هذا النص جزمًا يعتبر

في فرقة إلا على أهل الأثر (1)

(1) أي: وليس هذا الأثر المذكور يجزم به، ويستدل به، ويصدق على فرقة من الثلاث والسبعين، إلا على فرقة أهل الأثر، المتمسكين بالإسلام المحض، الخالص عن الشوب، أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء، ومن أعلام الهدى ومصابيح الدجى وفيهم الأبدال وفيهم أئمة الدين، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة» .

وما عداهم من سائر الفرق قد حكموا العقول، وخالفوا

المنقول، وأكبر أصول أهل البدع المعتزلة - يقولون: بالمنزلة

بين المنزلتين، ونفي الصفات، وغير ذلك، وهم ثنتان وعشرون

فرقة، والشيعة ومنهم: الغلاة، والإمامية والزيدية،

والخوارج: خرجوا على رضي الله عنه، والمرجئة، ويرون أنه

لا يضر مع الإيمان معصية، والنجارية، والجبرية، ويقولون: العبد مجبور على أفعاله والمشبهة: يشبهون الله بمخلوقاته، ويتشعب من كل فرقة فرق.

ص: 22

فأثبتوا النصوص بالتنزيه (1)

من غير تعطيل ولا تشبيه (2)

فكل ما جاء من الآيات

أو صح في الأخبار عن ثقات

(1) أي: أثبت الفرقة الناجية النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية في الصفات، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا الذي أجمع عليه السلف، وتمسكوا بالتنزيه لله تعالى عن العيوب والنقائص، ولكن تحت لفظة "التنزيه". عند أهل الكلام وإضرابهم من الإلحاد، وتعطيل الرب تعالى وعما يستحقه، ما يجب أن يتنبه له، كتنزيهه عن الأعراض، الذي هو جحد صفاته وأفعاله، كقول المصنف: كلامه قديم، ونحو ذلك.

(2)

أي: من غير تعطيل للصفات الواردة في الكتاب والسنة، وهو نفي ما دلت عليه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ولا تشبيه لله تعالى بخلقه، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فرد تعالى على المشبهة بنفي المثل، ورد على المعطلة بقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. ولو عدل عن التشبيه إلى التمثيل لكان أولى، لأن الله نفاه بنص كتابه، ونفي التشبيه لم يرد في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يعنى بنفيه معنى صحيح، كما قد يعنى به معنى فاسد، فإن أهل الكلام قد جعلوا نفي بعض الصفات داخلا في نفي التشبيه وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.

ص: 23

من الأحاديث نمره كما

قد جاء فاسمع من نظامي واعلما (1)

(1) أي: فكل ما جاء عن الله في كتابه الكريم من الآيات القرآنية، أو صح مجيئه في الأخبار من الأحاديث الصحيحة، والآثار الصريحة بالأسانيد الثابتة عن الثقات وهم العدول الضابطون عند أهل الفن.

قال المصنف: مما يوهم تشبيها أو تمثيلا، فهو من المتشابه. اهـ.

ولم يقل أحد من السلف، ولا من الأئمة المتبوعين، لا أحمد ولا غيره، بإدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم معانيه، ولا جعلوها بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم بل هي عندهم معلومة المعاني مجهولة الكيف.

وقوله: نمره كما جاء، أي: عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فلا نحرف الكلم عن مواضعه، بل نجريه على ظاهره، ونقره على ما دل عليه من معناه، ونعتقد أن له معاني حقيقة، ونفسره ونبينه كما فسره السلف، أحمد وغيره، وبينوا معناه بما يخالف تأويل الجهمية وغيرهم.

ومن قال: تفسيره وبيان مراده لا يعلمه إلا الله، فقد خالف الصحابة والتابعين، والذين فسروا القرآن من أوله إلى آخره، ووصفوا الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله، من غير تحريف للكلم عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته.

والمصنف -عفا الله عنه- ذكر في شرحه: أن مذهب السلف

عدم الخوض في هذا وتفويض علمه إلى الله، وهذا من شر أقوال البدع، ولازمه: أنا نتلو آيات الصفات ولا نتدبرها، ولا

نفهم معانيها، بل إنه لا معنى لها

وقوله: واسمع أي: سماع تفهم من منطوق نظامه، ومفهومه، ومحترزاته، ومعلومه، واعلم ذلك علم تحقيق، وتحرير، وتدقيق، واعتقده فإنه نهج السلف، وما خالف مذهب السلف نبهنا عليه، وبينا مذهب السلف فيه.

ص: 24

ولا نرد ذاك بالعقول

بقول مفتر به جهول (1)

فعقدنا الإثبات يا خليلي

من غير تعطيل ولا تمثيل (2)

فكل من أول في الصفات

كذاته من غير ما إثبات (3)

(1) أي: لا نرد الوارد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بضروب التحريف، لأجل قول مفتر بذلك القول الباطل، الذي رد به الوارد من الكتاب والسنة، ومفتر من الفرية، وهي الكذب، وجهول صفة لمفتر، من صفات المبالغة.

(2)

أي: فالذي نعتقده معشر أتباع السلف، ونذهب إليه: الإثبات للأسماء والصفات كما جاء عن الله ورسوله، من غير تعطيل لها عن حقائقها، ولا تمثيل لها بصفات المخلوقين، فالممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والمثبت يعبد إلها واحدًا أحدًا فردا صمدا، هو الله لا إله إلا هو رب الأرض والسماء.

(3)

أي: عن الشارع، والتأويل عند السلف يراد به: ما يئول الأمر إليه، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، ويراد به عند بعض المتأخرين صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبا، وإما جوازا، فلو عدل عن لفظ أول إلى حرف، لكان أولى، ولأن التحريف جاء القرآن بذمه.

ولفظ التأويل في الصفات له عدة معان، منها ما هو صحيحه منقول عن بعض السلف، فلا يجوز إطلاق نفيه: ويعني بعض المبتدعة بنفي التأويل: أنه لا معنى لها حقيقة، أو أنه لا يفهم منها، ما أراد الله بما وصف به نفسه، فلم يجز إطلاق نفيه.

ص: 25

فقد تعدى واستطال واجترى (1)

وخاض في بحر الهلاك وافترى (2)

ألم تر اختلاف أصحاب النظر

فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر (3)

(1) أي: فقد اجترأ على الله، فيما لم يأذن به، ولا رسوله، واستطال على السلف، فكأنه استدرك عليهم ما يزعم أنهم أغفلوه واجترأ من الجرأة أي: تسلط عليهم وافتات حده وتعدى طوره.

(2)

أي: اقتحم، ورمى بنفسه في بحر يذهب بدينه، ويئول به إلى الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، وافترى على الله الكذب بتحريفه الكلم عن مواضعه، وقد انهمك في ذلك كثير من الخلف، وزعموا أن طريقتهم أعلم، وطريقة السلف أسلم، وحاشا لله، بل طريقة السلف هي: الأسلم، والأعلم، والأحكم.

(3)

أي: ألم تر اختلاف المتكلمة؟ ورد بعضهم على بعض في النظر، الذي يزعم كل منهم أنه العلم الحق، وحسن ما نهجه، وذهب إليه أصحاب الأثر، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التابعون لهم، الذين هم العمدة في هذا الباب، وغيره.

ص: 26

فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى

وصحبه فاقنع بهذا وكفى (1)

(1) أي: فإن أصحاب الأثر قد اقتدوا فيما اعتقدوه بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتدوا من بعده بصحبه الذين صحبوه، فاقنع أي: ارض بهذا البيان المسند إلى الكتاب والسنة، والصحابة، والتابعين، وكفى بهؤلاء مستندا والسلامة فيما نحوه، وأصلوه، لا فيما زخرفه المحرفون.

ص: 27

الباب الأول

في معرفة الله تعالى وما يتعلق بذلك

من تعداد الصفات التي يثبتها المتكلمون كالسلف

وأسمائه تعالى وكلامه وغير ذلك

أول واجب على العبيد

معرفة الإله بالتسديد (1)

(1) الواجب: ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، ووجب: لزم وثبت، والعبيد: جمع عبد، وأشرف اسم، وأتمه للمؤمن وصفه بالعبودية لله وحده، والإله: هو المألوه المستحق للعبادة، بالتسديد أي: التقويم الصائب.

وقال المصنف: يعني: بالنظر في الوجود والموجود. اهـ.

والذي يجب على العبد معرفة الله عز وجل، وما يجب له على عبيده، من توحيده وطاعته، بالسمع بواسطة الرسل، الذين أرسلهم الله إلى عباده، ليبلغوهم دينه الذي شرعه، لا بالتخليط في صفات الله بالعقل.

قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] . وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25] .

وقال: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 52] . ففرض على عباده العلم بذلك.

وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك،

والنظر المفيد للعلم هو ما كان فيه دليل هاد، والدليل

الهادي على العموم والإطلاق هو كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وغالب نظر أهل الكلام في دليل مضل، قال تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]

ومثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله مما جاءت به الرسل، من غير أن يفتقروا إلى النظر في الوجود، والموجود، وفي دلائل العقول، وتقديم الدليل العقلي على السمعي، لازمه تكذيب الرسول فيجب تقديم السمعي بالضرورة، واتفاق العقلاء

ص: 29

بأنه واحد لا نظير له

ولا شبه ولا وزير (1)

(1) أي: بأنه سبحانه واحد في ذاته في صفاته، وفرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لا نظير له، ولا ند له، ولا مثل له ولا شبه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا شريك له في ملكه ولا وزير له، ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه باتفاق جميع النبوات، والوزير هو الذي يحمل ثقل الملك، ويعينه برأيه؛ وهو سبحانه الغني بذاته عن كل ما سواه.

قال المصنف - عفا الله عنه -: واحد لا يتجزأ، ولا ينقسم. اهـ.

ويقول أهل الكلام أيضًا: ولا يتعدد، ولا يتركب، ولا يتبعض، وغير ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة، وإن كان يراد بها معنى صحيح مما هو معروف في لغة العرب، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يجوز عليه أن يتفرق، ولا ينقسم ولا يتركب، وغير ذلك مما يتنزه عنه سبحانه.

بل هو واحد صمد بجميع معاني الصمدانية، فيستحيل

عليه ما يناقض صمديته باتفاق النبوات، ولكن أهل الكلام يدرجون في هذا ونحوه نفي علوه، ومباينته لمخلوقاته، كقولهم: لو كان موصوفا بالصفات من العلم، والقدرة وغيرهما، مباينا للمخلوقات، لكان مركبا من ذات وصفات وغير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس هذا مرادهم -يعني: أنه لا يتجزأ، ولا ينقسم- وإنما مرادهم: أنه لا يشهد، ولا يرى منه شيء دون شيء، ولا يعلم منه شيء دون شيء أو يرى عباده منه شيئا دون شيء، بحيث إنه إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء، فإن ذلك عندهم غير ممكن. ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم، ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون، هذا هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمون ذلك نفي التجسيم، إذ كل من ثبت له ذلك كان جسما مركبا عندهم، والباري منزه عندهم عن هذه المعاني.

ويلزم الذين ذكروه بنفي الانقسام أن لا يكون شيء قط من المخلوقات، يقال: إنه واحد إلا الجوهر الفرد، وإذا قيل: الواحد هو الشيء فلا يكون قد خلق شيئا، فاسم الواحد قد جعلوا لله فيه شريكا من الموجودات، وهو: الجوهر الفرد.

ص: 30

صفاته كذاته قديمه (1)

...................................

(1) أي: صفاته الذاتية، والفعلية، والخبرية، كذاته، يحتذى القول فيها القول في الذات، فكما أنا نثبت له ذاتا حقيقة، لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات حقيقة تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه صفات المخلوقين، وإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية.

وقوله: قديمة؛ فيه إجمال، وفي شرحه: إذ لو كانت حادثة لاحتاجت إلى محدث انتهى.

فعندهم ما ثم إلا قديم، أو مخلوق، فما كان قديمًا فإنه لازم لذاته، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، وما كان محدثا فهو المخلوق المنفصل عنه، فلا يقوم عندهم بذات الله فعل، ولا كلام، ولا إرادة ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته، وليس هذا من عقيدة السلف، ولا من دين الإسلام في شيء بل مذهب السلف: أن الله قديم بجميع صفاته، لم يزل ولا يزال متكلما متى شاء، وفاعلا متى شاء، ولم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته، فكلام الله، وقدرته، وإرادته، وغضبه، ورضاه، وغير ذلك قديمة النوع، حادثة الآحاد كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وشهدت به العقول الصحيحة، والفطر السليمة، والحس، والمشاهدة.

ص: 31

..................................

أسماؤه ثابتة عظيمه (1)

لكنها في الحق توقيفيه (2)

...................................

(1) ثابتة بالنص، والإجماع، والعقل، معظمة، موصوفة بأنها حسنى، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وهي أسماء ونعوت دالة على صفات كماله

(2)

أي: لكن أسماء الله الحسنى في القول المعتمد عند أهل الحق

توقيفية بنص الشرع وورود السمع بها، واتفقوا على جواز إطلاق ما ورد به كتاب الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 32

..................................

لنا بذا أدلة وفيه (1)

له الحياة والكلام والبصر

سمع إرادة وعلم واقتدر (2)

(1) أي: فلنا -معشر أهل السنة- باعتبار ثبوت التوقيف في أسماء الله من الشارع أدلة عالية تفي بالمقصود، لأن ما لم يثبت منها لم يؤذن فيه، وأجمعوا أنه تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن القيم: ما يطلق عليه تعالى في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق في باب الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيا، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه.

(2)

الحياة: صفة ذاتية قديمة أزلية ثابتة بالنص والإجماع، وليست كحياة المخلوق، والكلام صفة له سبحانه ثابتة باتفاق الرسل، قائمة بذاته وليس ككلام المخلوقين ويتكلم ويكلم متى شاء، بلا كيف، باتفاق أهل السنة، وله سبحانه بصر يبصر به جميع المبصرات، وسمع يسمع به جميع المسموعات، كما أخبر به في كتابه واتفقت عليه النبوات.

وله سبحانه إرادة حقيقية بالنص والإجماع، والإرادة إرادتان: إرادة كونية قدرية: وترادفها المشيئة، فما شاء كان من جميع الحوادث، وما لم يشأ لم يكن. وإرادة شرعية دينية: وهي المتضمنة للمحبة والرضا، كقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، والأولى كقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]

وبين الإرادتين عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة القدرية في حق العاصي.

وله سبحانه علم بكل شيء، كما قال:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] . وله سبحانه اقتدار على كل شيء قدير بقدرة عامة شاملة بإجماع المسلمين، كما أخبر أنه على كل شيء قدير، فما قدره وعلمه أنه سيكون، هو شيء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئا في الخارج، ويقدر سبحانه على ما لا يفعله، كما قال:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] والقدرة هي القدرة على الفعل.

والفعل نوعان: لازم ومتعد، فالاستواء، والإتيان، والنزول أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول، بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والإحياء، والإماتة والهدى، والنصر، ونحو ذلك يتعدى إلى مفعول. وهذه الصفات السبع المذكورة في البيت يثبتها أهل الكلام من الأشعرية وأضرابهم وينفون ما سواها، والجهمية والمعتزلة ينفونها مطلقا، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله جميع ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم -

ص: 33

قدرته تعلقت بممكن

كذا إرادة فعي واستبن (1)

(1) أي: تعلقت قدرة الله عز وجل بكل ممكن، وهو ما ليس بواجب الوجود، ولا مستحيل الوقوع، قال تعالى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] وكل ممكن مندرج في هذا بل ليس شيء خارجا عن قدرته ومشيئته.

وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد معدوما موجودا، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه - تعالى وتقدس ـ، وكذا الإرادة، أي: وكذا مثل القدرة الإرادة في التعلق بالممكنات، إلا أن القدرة أعم، فإن الإرادة لا تتعلق إلا ببعض الممكنات وهو ما أريد وجوده.

وهي إرادتان: إرادة تتعلق بالأمر، وهي الإرادة الشرعية الدينية، المستلزمة للمحبة والرضا، وإرادة تتعلق بالخلق، وهي الإرادة القدرية الكونية، وهي المشيئة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقوله: فعي، من وعاه يعيه، حفظه وجمعه أي: اجمع حواشي هذا الكلام، واستبن، أي: اطلب البيان من مظانه.

ص: 34

والعلم والكلام قد تعلقا

بكل شيء يا خليلي مطلقًا (1)

(1) أي: قد تعلق علم الله عز وجل بكل شيء، بالواجب، والمستحيل، والجائز، والموجود، والمعدوم، فهو سبحانه: يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فهو أعم الصفات تعلقا بمتعلقه، وأوسعها، وأما تعلق الكلام بكل شيء، فالمنصوص في أصول أهل السنة أن الله لم يزل متكلما متى شاء، وكلم، ويكلم، وكلامه لا ينفد، كما أخبر به في كتابه.

وذكر شيخ الإسلام عموم تعلق العلم، والقدرة، وقال:

بخلاف الإرادة، والكلام، فإنه لا عموم لهما، لأنه سبحانه

لا يتكلم بكل شيء ولا يريد إلا ما سبق علمه به، ولا يريد كل

شيء، بخلاف العلم والقدرة، فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، يا خليلي، أي: يا صديقي ومحبي، والخلة: أعلى

مراتب المحبة ولهذا اختص بها الخليلان: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام، مطلقا أي: عن التقييد بشيء.

ص: 35