الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في الكلام على الذنوب ومتعلقاتها
ويفسق المذنب بالكبيره (1)
…
كذا إذا أصر بالصغيره (2)
(1) أي: يفسق المسلم المكلف بإتيانه المعصية الكبيرة، وأصل الفسوق: الخروج عن الاستقامة والجور، وسمي الفاسق فاسقا لخروجه عن أمر الله، والمذنب هو المقترف للذنب، وهو الإثم، وكل إثم عدوان، والعدوان فعل ما نهى عنه، أو ترك ما أمر به.
والكبيرة: كل معصية فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو لعن، أو غضب، أو عذاب، ومن برئ منه الرسول صلى الله عليه وسلم أو قال: ليس منا.
(2)
أي: كما أن المسلم يفسق بإتيانه الكبيرة، كذلك يفسق إذا أصر على الصغيرة: يقال أصر على الشيء إذا لزمه وداوم عليه، ومن أتبعه بالاستغفار فليس بمصر وإن تكرر منه؛ وفي الحديث:«ما أصر من استغفر» . ومن أصر فإنه يفسق حتى بالصغيرة، لأن الإصرار يصير الصغيرة في حكم الكبيرة.
لا يخرج المرء من الإيمان
…
بموبقات الذنب والعصيان (1)
وواجب عليه أن يتوبا (2)
…
من كل ما جر عليه حوبا (3)
(1) أي: لا يخرج الإنسان من دائرة الإيمان بمهلكات الذنب والعصيان دون الشرك بالله، والكفر بأي نوع من أنواع المكفرات، فإن ذلك يخرجه من الدين، لا مطلق المعاصي والكبائر، ولا يسلب المرء اسم مطلق الإيمان بذلك، كما أنه لا يعطى اسمه المطلق، بل يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. والعصيان: ضد الطاعة، وهو يرادف الذنب والإثم، وسميت الكبيرة موبقة، لأنها سبب لإهلاك مرتكبها في الدنيا، بما يترتب عليها من العقاب وفي الآخرة من العذاب، وفي الحديث:«اجتنبوا السبع الموبقات» . وقال ابن عباس هن إلى السبعين أقرب منهن إلى السبع وفي رواية إلى السبعمائة
(2)
أي: واجب على المذنب وجوب لزوم لا بد منه أن يتوب، أي: يرجع عن الذنب بأن يقلع عنه، ويندم عليه، ويعزم على أن لا يعود إليه، وإن تعلق بآدمي بأن يرضيه
(3)
أي: من كل شيء جر على المذنب حوبا، أي: إثما، وذكر أن مراده ما جر عليه الهلاك والبلاء، واتفق العلماء: على أن التوبة واجبة من كل معصية على الفور، وأن من تاب توبة نصوحا تاب الله عليه، وبدل سيئاته حسنات، كما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقبل المولى بمحض الفضل
…
من غير عبد كافر منفصل
ما لم يتب من كفره بضده
…
فيرتجع عن شركه وصده (1)
ومن يمت لم يتب من الخطا
…
فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
…
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم (2)
(1) أي: ويقبل الله بخالص الفضل والكرم من كل عبد مذنب تاب إليه توبة نصوحا، غير كافر بالله ورسوله منفصل عن الدين، إما بردة، أو كفر أصلي فلا تقبل توبته من الذنوب، ما لم يتب من كفره فيشهد الشهادتين، ويتصف من بعد رجوعه عن الكفر، بضده - أي: الإسلام - فإن كان مرتدا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة فيرجع عن إنكار ذلك، ويقر ويذعن، وإن كان شركا، فلا يقبل منه، ما لم يرجع عن شركه الذي كان متصفا به وصده، أي: إعراضه عن الدين، وانقياده للشريعة.
(2)
أي: وأي امرئ مذنب يدركه الموت وهو مصر على ذنوبه لم يتب من الخطأ الذي ارتكبه لم تحكم عليه بالكفر بارتكابه الذنوب، كما زعمت الخوارج، ونقول: الذي يئول إليه مفوض وموكول لصاحب الكرم والجود، فإنه سبحانه وتعالى: إن شاء عفا وتجاوز عنه، وعامله بفضله، وإن شاء عامله بالعدل، وانتقم منه، ولا يخلد في النار إلا من مات على الشرك، وإن شاء أعطى وأجزل، وأعظم له النعم، وللذنوب أسباب أيضا تسقط العقوبة غير التوبة، منها الحسنات الماحية، والعقوبات والمصائب، وغير ذلك.
فصل
في ذكر من قيل بعدم قبول إسلامه
من طوائف أهل العناد والزندقة والإلحاد
وقيل في الدروز والزنادقه
…
وسائر الطوائف المنافقه (1)
وكل داع لابتداع يقتل (2)
…
...................................
(1) أي: وقيل في طوائف الدروز من الحمزاوية أتباع حمزة اللباد، المدعو عندهم بهادي المستجيبين، والبرذعي، والدرزي، وغيرهم من الحاكميين، القائلين بإلهية الحاكم العبيدي؛ إسماعيلية من القرامطة النصيرية، أشد كفرا من الغالية، والزنادقة جمع زنديق فارسي معرب من يبطن الكفر، ويظهر الإسلام، أو يقول بالنور والظلمة؛ أو لا يؤمن بالربوبية، واسم المنافق يتناوله.
وسائر، أي: بقية الطوائف جمع طائفة، أي الجماعة المنافقة، من النفاق، وهو: إبطان الكفر، وإظهار الإيمان، كمبتدع الرفض، والتجهم، الجميع كفار يقتلون ولا يستتابون، وإن أتوا بالشهادتين وبقية شرائع الإسلام، واختار شيخ الإسلام وغيره قبول توبتهم لقوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]
(2)
أي: وكل داع لابتداع مكفر من بدع الضلال يقتل، لعدم قبول
توبته ظاهرا، وقل أن يوفق للتوبة، لأن الاعتقاد الفاسد يدعوه إلى
أن لا ينظر إلى خلافه، فلا يعرف الحق. وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية: قد بين الله أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين هم أعظم من أئمة البدع، وظاهر مذهب أحمد مع سائر أئمة المسلمين: أنها تقبل توبة الداعية.
..................................
…
كمن تكرر نكثه لا يقبل (1)
لأنه لم يبد من إيمانه
…
إلا الذي أذاع من لسانه (2)
كملحد وساحر وساحره (3)
…
وهم على نياتهم في الآخره (4)
(1) أي: كمن تكرر نقضه للإسلام، بأن تكررت ردته لا يقبل منه الإسلام، لظاهر قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] واختار شيخ الإسلام وجمع: قبولها، لأن التائب راجع عن الكفر.
(2)
أي: لأنه لم يبد، أي: يظهر للعيان من إيمانه الذي زعم أنه دخل به الإسلام إلا الذي أظهر ونشر قبل توبته من لسانه، مع عدم اعتقاده للإسلام، فلم يزد على ما كان يقوله، ويأتي به ويذيعه في حال كفره، فلا يكون لما قاله حكم، لأن الظاهر من حاله: أنه إنما يستدفع عنه القتل بإظهار التوبة إذا بدا منه ما يؤاخذ به.
(3)
الإلحاد: الميل، والعدول عن الشيء، والملاحدة: الذين يسبون الله، أو أحدا من أنبيائه، وكذلك من ذكر الله، أو رسوله بسوء، وكساحر وساحرة ممن يكفر بسحره، لحديث جندب:«حد الساحر ضربة بالسيف» وكتب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة.
(4)
أي: والزنادقة والدروز والمنافقة ونحوهم يبعثون على
نياتهم في الدار الآخرة، فمن صدق في توبته قبلت باطنا، ونفعه ذلك في الآخرة واختار شيخ الإسلام وجمهور الأمة قبول الإسلام والتوبة من كل من ذكر، ولأن الزندقة ونحوها نوع كفر، فجاز أن تقبل توبتهم، كسائر أنواع الكفر، فإذا بان لنا في الظاهر حسن طريقته وتوبته، وجب قبولها.
واختلفوا في قبول توبة من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر أبو المظفر، والقاضي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم: أن المشهور من مذهب مالك وأحمد عدم قبول توبته في الدنيا، وهو المشهور من قول السلف، وجمهور العلماء، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، ووجهه شيخ الإسلام في الصارم، وذكر: أن مذهب أبى حنيفة والشافعي قبولها مطلقا، وهو رواية عن مالك وأحمد، وقول طوائف من السلف، ووجهوا: أن سبه ليس بأعظم من سب الله عز وجل، ولم ينعقد الإجماع على قتله حدا فالله أعلم.
وقال الشيخ: والإمام إذا رأى قتل الزنديق لسعيه في الأرض بالفساد، ساغ له ذلك.
قلت وإن دلت دلائل الهدى
…
كما جرى للعيلبوني اهتدى (1)
(1) أي: قال المصنف رحمه الله وإن دلت من الشخص التائب دلائل الهدى، وقرائن الأحوال، كما جرى للرجل الصالح " العيلبوني " نسبة إلى بلدة " عيلبون من أعمال صفد، ارتحل إلى مصر، وأخذ عن علمائها، ثم ذهب إلى الشام وكان درزيا ثم تاب، ورجع عن كفره وإلحاده، وحسنت حاله، وأقبل على الإسلام، ورفض ما كان عليه من الكفر، فمن ظهرت منه قرائن الأحوال واتباع الهدى -كما جرى لهذا الرجل الصالح - فقد اهتدى.
فإنه أذاع من أسرارهم
…
ما كان فيه الهتك عن أستارهم (1)
وكان للدين القويم ناصرًا
…
فصار منا باطنًا وظاهرًا (2)
فكل زنديق وكل مارق
…
وجاحد وملحد منافق
إذا استبان نصحه للدين
…
فإنه يقبل عن يقين (3)
(1) أي: فإن العيلبوني نشر من أسرار الدروز، وفضحهم، وأظهر ما هم عليه من الكفر، مما لا يجوز عند أحد من سائر أهل الملل، وأذاع شيئا كثيرا كان فيه الهتك - أي: الكشف - عن أستارهم التي كانوا يكتمونها، ويستترون بإظهارهم الإسلام تقية مع عكوفهم على الكفر، ومن اعتقادهم: أن كل ما حرمته الشريعة فهو مباح، وألف كتابا في الرد عليهم، وكان شاعرا أديبا، وقال قصيدة نونية في الرد على الدروز نحوا من ثلاثمائة بيت، وتوفي بعكا سنة (1085هـ)
(2)
أي: وكان العيلبوني - وكذا كل من نحا منحاه للدين القويم، والهدى المستقيم - ناصرا باتباعه والعكوف عليه، وذم من خالفه، فصار منا معشر المسلمين أهل السنة والجماعة باطنا وظاهرا، مسلما مقبول الإسلام في الباطن والظاهر.
(3)
أي: فالذي نختاره وندين الله به: أن كل زنديق لا يتدين بدين، أو يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وكل مارق من أهل البدع والضلالات، وكل جاحد من درزي ودهري، وفيلسوف ومعطل، وعابد وثن، وكل ملحد في آيات الله، ومنكر للشرائع، وكافر بالله ورسوله،
إذا تاب مما هو عليه من الكفر والإلحاد والضلال، وظهر صحة
إيمانه ونصحه للدين القويم، فإنه تقبل منه التوبة، والرجوع
إلى الله الذي يقبل التوبة عن عباده، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 160] وقال فيمن قال: إن الله ثالث ثلاثة: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] واليقين ضد الشك.