المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي الكلام على الجنة والنار - حاشية الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌فصلفي الكلام على الجنة والنار

‌فصل

في الكلام على الجنة والنار

وكل إنسان وكل جنة

في دار نار أو نعيم جنة (1)

هما مصير الخلق من كل الورى (2)

...................................

(1) أي: وكل "إنسان " من بني آدم، وكل " جنة " بكسر الجيم، طائفة الجن، لا بد أن يكون في أحد الدارين، إما في دار نار، دار البوار، أجارنا الله منها، يقال: إنها دركات بعضها تحت بعض، أعلاها جهنم، فلظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، أو في دار نعيم مقيم، في جنة الخلد درجات بعضها أعلى من بعض؛ أعلاها الفردوس، وسقفها عرش الرحمن، نسأل الله من فضله، وكل واحدة من الجنة والنار، ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ويجب الإيمان بهما، واعتقاد وجودهما.

(2)

أي: الجنة والنار مصير الخلق، من الإنس والجن، لا بد لكل واحد منهم أن يصير، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، والملائكة في الجنة، وأهل الأعراف مصيرهم إلى الجنة، قال في الفروع: الجن مكلفون في الجملة إجماعًا، يدخل كافرهم النار إجماعًا، ويدخل مؤمنهم الجنة، وفاقًا لمالك والشافعي؛ قال تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف

المسلمين، في وجود الجن، وليس الجن كالإنس في الحد

والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به، وما نهوا عنه، مساويًا لما على

الإنس في الحد والحقيقة، لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف. بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء.

ص: 94

..................................

فالنار دار من تعدى وافترى (1)

ومن عصى بذنبه لم يخلد

وإن دخلها يا بوار المعتدي (2)

وجنة النعيم للأبرار (3)

...................................

(1) أي: فالنار التي هي دار الهوان، دار كل شخص من إنس وجن تعدى طوره فكفر بالله أو بأحد رسله، أو بكتاب من كتبه أو بشرع شرعه، وافترى فيما عبد من دون الله، فكل من كفر بالله كفرًا يخرج عن الملة، ولم يتب، فهو خالد مخلد في النار، بالإجماع.

(2)

أي: وكل عبد مؤمن بالله ورسوله -ولو مبتدعاً- لم يحكم الشرع بكفره، عصى ربه وتعدى حدوده بذنبه، ولو كان من أكبر الكبائر غير الشرك، كالقتل والزنا، ومات على الإسلام ولو لم يتب، لم يخلد في النار، وإن دخلها ليطهر من الأوزار، فإنه يخرج منها إما بشفاعة الشافعين، أو رحمة أرحم الراحمين؛ يا بوار، أي: يا هلاك المعتدي، إشارة إلى تقبيح ما ذهبت إليه المعتزلة، من القول بتخليد أهل الكبائر في النار.

(3)

للجنة عدة أسماء، باعتبار أوصافها، ومسماها واحد باعتبار الذات، والاسم العام (الجنة) ومن جملة تلك الأسماء (جنة النعيم) سميت بذلك لما اشتملت عليه من أنواع النعيم، واللذة والسرور، وقرة العيون؛ والأبرار جمع بر، أو بار - وتقدم - وهو كثير البر؛ والبر: اسم جامع للخير، قال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان: 8] .

وغيرها مما يخص الجنة بأهل البر، الذين هم أهل الإيمان والتقوى والعمل الخالص.

ص: 95

..................................

مصونة عن سائر الكفار (1)

واجزم بأن النار كالجنة

في وجودها وأنها لم تتلف (2)

(1) أي: جنة النعيم، محفوظة محمية عن جميع الكفار، فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة:«أمر بلالاً ينادي في الناس: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» . وفي لفظ: «مؤمنة» .

(2)

أي: واجزم، واعتقد، بأن النار وما فيها من أنواع العذاب، موجود الآن، كالجنة وما فيها من النعيم، فهما موجودتان، ولم يزل الصحابة والتابعون وسائر أهل السنة على اعتقاد ذلك، لما ثبت بالكتاب والسنة، وعلم بالضرورة من أخبار الرسل، وأنكرته طائفة من القدرية، والمعتزلة، فصار السلف يذكرون في عقائدهم: أن الجنة والنار مخلوقتان.

وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه: «أنه عليه السلام، رأى الجنة في صلاة الكسوف، حتى هم أن يتناول عنقودًا من عنبها، ورأى النار فلم ير منظرًا أفظع من ذلك» ، وفي قصة الإسراء:«دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك» .

واجزم أيضًا: أن النار لم تتلف، أي: لم تهلك وتبدل،

بل موجودة الآن، كالجنة وما فيها؛ وأبدية نعيم الجنة مما

علم بالاضطرار من الكتاب والسنة، وكذلك النار، وفي

الصحيحين: «يجاء بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» . وفيه عدة أحاديث.

وأجمع أهل السنة والجماعة على أن عذاب الكفار لا ينقطع، كما أن نعيم الجنة لا ينقطع، لما دل على ذلك من الكتاب والسنة.

ص: 96

فنسأل الله النعيم والنظر

لربنا من غير ما شين غبر (1)

فإنه ينظر بالأبصار

كما أتى في النص والأخبار (2)

(1) أي: فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم النعيم المقيم، في جنات النعيم، ونسأله النظر إلى وجهه الكريم، من غير سابقة عذاب، ولا مناقشة حساب.

(2)

أي: فإنه سبحانه يرى بالأبصار، في الدار الآخرة، باتفاق السلف، كما جاء في النص القرآني في قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23] . وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . وأعلاها النظر إلى وجهه الكريم، وقال:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] . وغيرها.

وكما أتى في الأخبار النبوية، ففي الصحيحين وغيرهما:«إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته» . وفيهما أيضًا: «قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: نعم، فهل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟» .

وقد بلغت أحاديث الرؤية حد التواتر، والإيمان بذلك من

أصول أهل السنة والجماعة، فيراه المؤمنون يوم القيامة عيانًا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، وكما

يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وهم في عرصات القيامة؛ ثم يرونه بعد دخول الجنة، كما يشاء تبارك وتعالى.

ص: 97

لأنه سبحانه لم يحجب

إلا عن الكافر والمكذب (1)

(1) أي: لأن الله سبحانه لم يحجب - بفتح الياء وكسر الجيم - ذاته المقدسة من رؤيته، إلا عن الكافر بالله، وعن المكذب برؤيته، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15-17] . فنؤمن بأن الله يرى يوم القيامة، ولا يحاط به، ولا يدرك، لا نشك في ذلك، ومن زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله، وكذب بالكتاب والسنة.

ص: 98

الباب الخامس

في ذكر النبوة وذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر بعض الأنبياء وفضلهم وفضل

أصحابه وأمته صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين وعظم وكرم أعيان البشر

ومن عظيم منة السلام

ولطفه بسائر الأنام

أن أرشد الخلق إلى الوصول

مبينًا للحق بالرسول (1)

(1) أي: ومن عظيم إحسان " السلام " والسلام: اسم من أسماء الله، لسلامته من النقص والعيب، فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته؛ ومن عظيم لطفه ورأفته بجميع الأنام، الخلق من الجن والإنس، وجميع ما على وجه الأرض: أن أرشد الخلق من الثقلين، إلى الوصول إلى معرفته تعالى، وعبادته وحده، والقيام بما شرعه، الذي ثمرته الفوز بالسلامة الأبدية، والنعيم المقيم، والنظر إلى وجهه الكريم.

مبينًا: أي: مظهرًا، وموضحًا لمنهج الحق، بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإرسال الرسل أمر ضروري للعباد، لا غناء لهم عنه في معاشهم ومعادهم، وحاجتهم إليه فوق حاجتهم إلى الطعام والشراب، فهم روح العالم وحياته، وهم حجة الله على عباده، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] . {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] . ويجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، وتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع على ألسنتهم.

ص: 99

وشرط من أكرم بالنبوة

حرية ذكورة كقوة (1)

ولا تنال رتبة النبوة

بالكسب والتهذيب والفتوة (2)

(1) أي: وشرط كل إنسان أكرم بالنبوة، من النبأ، أي: الخبر، لأنه يخبر عن الله، أو النبوة، وهو الارتفاع، لارتفاع رتبته، حرية خبر المبتدأ، لأن الرق وصف لا يليق بمقام النبوة؛ ذكورة؛ لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] فأثبتها للرجال دون النساء، لاقتضاء الرسالة الاشتهار بالدعوة؛ كقوة أي: كما يعتبر فيمن أكرمه الله بالنبوة، أن يكون قويا بأعباء ما حمل من ثقل النبوة، والقوة عند الضعف.

والله سبحانه وتعالى، أعلم حيث يجعل رسالته أصلًا وميراثًا، فليس كل أحد أهلًا ولا صالحًا لتحمل رسالته، بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله أعلم بهذه المحال منكم، ولكن جرت عادة الله في إرسال الرسل: أنه لم يبعث نبيًّا ولا رسولًا، إلا رجلًا حرا قويا، في أشرف منسب أمته، حسن الخلق والخلق، ليسهل عليه تحمل الخلق من أشرف أفراد النوع الإنساني، من كمال العقل، والذكاء، والفطنة وقوة الرأي، قال تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] .

(2)

أي: ولم تعط منزلة النبوة بالكسب والاجتهاد، وتكلف أنواع

العبادة، ولا بالتهذيب: تنقية البدن، وتصفية الأخلاق،

والاتصاف بالفضائل؛ ولا بالفتوة وكرم النفس، وتخليصها من الأوصاف المذمومة، إلى الأوصاف الممدوحة.

ص: 100

لكنها فضل من المولى الأجل

لمن يشا من خلقه إلى الأجل (1)

ولم تزل فيما مضى الأنباء

من فضله تأتي لمن يشاء

حتى أتى بالخاتم الذي ختم

به وأعلانًا على كل الأمم (2)

(1) أي: لكن النبوة وكذا الرسالة فضل من الله المولى الأجل سبحانه وتعالى، يؤتيه لمن يشاء، أي يكرم بالنبوة من خلقه من اصطفاه لها {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فلا يبلغها أحد بعلمه، ولا يستحقها بكسبه، ولا ينالها عن استعداد ولايته.

ومن زعم أنها مكتسبة فهو زنديق، مخالف للكتاب والسنة فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين إلى الأجل، أي: أن النبوة فضل من الله، يمن بها على من يشاء، وكان ذلك ممتدا من آدم، إلى أن بعث الله خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم.

(2)

أي: ولم تزل الأنباء، في الزمن الذي مضى من الأزمان، من فضل الله ولطفه، تأتي بإبلاغ الشرائع، وإيضاح السبل لمن يشاء من الأمم الماضية، والقرون الخالية، فلم تخل الأرض من داع يدعو إلى الله، من لدن آدم، إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به النبيين والمرسلين، وأكمل به الدين، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وفي الصحيحين عنه قال: «وأنا خاتم النبيين» . فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.

وأعلانا، أي: معشر أمة هذا النبي الكريم، على كل الأمم

الماضية، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .

أي: عدلًا خيارًا، وجعل علماءهم، كأنبياء بني إسرائيل، يحفظون ما أتى به هذا النبي الكريم، ويبلغونه أمته، تقوم بهم حجة الله على خلقه؛ وفي الصحيحين:«لا يزال أناس من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» . يعني: بالحجة واللسان، والسيف والسنان.

ولمسلم، وغيره:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» . وفي الصحيحين: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» . وفيهما أيضًا: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ فكبرنا، ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» .

وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته وهم أسبق الأمم خروجًا من الأرض، وإلى ظل العرش، وإلى القضاء، والجواز على الصراط، وعنه صلى الله عليه وسلم:«أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله» . صححه أحمد وغيره.

ص: 101

فصل

في بعض خصائص النبي الكريم والرسول السيد العظيم نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم التي اختصه الحق بها - جل شأنه - من دون سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -

وخصه بذاك كالمقام

وبعثه لسائر الأنام

ومعجز القرآن كالمعراج

حقًّا بلا مين ولا اعوجاج (1)

(1) أي: خصه دون سائر الأنبياء، بكونه ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي بعده، لقوله:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .

فلا تبتدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعده، ونزول عيسى عليه السلام لا ينافي ذلك، فإنه لا يتعبد إلا بشريعته، فهو خليفة له صلى الله عليه وسلم، وحاكم من حكامه.

والثانية: ما خصه الله به من المقام المحمود، وهو الشفاعة العظمى، في أهل الموقف، ليقضى بينهم.

والثالث: ما خصه الله به ببعثته نبيا ورسولًا لجميع الأنام من الثقلين، قال تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .

والرابعة: ما خصه الله به من معجزة القرآن، الذي أذعن له الثقلان، واعترف بالعجز عن الإتيان بأقصر سورة منه أهل الفصاحة والبلاغة والبيان. والخامسة: المعراج إلى سدرة المنتهى.

قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ

الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] . ثم عرج به إلى السماء حتى دنا من الجبار جل جلاله، فكان قاب قوسين أو أدنى.

حقا: أي: حتمًا بلا كذب ولا ريب؛ ولا اعوجاج، أي: غير مستقيم، بل أسرى ببدنه صلى الله عليه وسلم وروحه جميعًا، يقظة لا منامًا، باتفاق جمهور أهل السنة، لما دل عليه الكتاب والسنة. وفي الصحيحين، وغيرهما:«بينا أنا نائم في الحطيم -أو قال: في الحجر- إذ أتاني آت، فجعل يقول لصاحبه: شق ما بين هذه على هذه، من ثغر نحره إلى شعرته، فاستخرج قلبي، فأتيت بطست من ذهب، مملوءًا إيمانًا وحكمة، فغسل قلبي، ثم حشى» . وفي لفظ: «فأفرغه في صدره، وملأه علمًا وحلمًا، ويقينًا وإسلامًا، ثم أطبقه، ثم أتى بدابة دون البغل، وفوق الحمار، وهو البراق يقطع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه. ولما أراد العروج إلى السماء، بعد وصوله إلى بيت المقدس، أتى بالمعراج يشبه السلم» .

وصحت الأحاديث أنه نصب له، فارتقى فيه إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وثبت له صلى الله عليه وسلم من الخصائص غير هذه، كقوله:«أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة وغير ذلك، واقتصر المؤلف على بعض المهم، لأنها أفردت بالتأليف» .

ص: 103

فكم حباه ربه وفضله

وخصه سبحانه وخوله (1)

(1) أي: فكم حباه الله، أي: أعطاه من مكرمة، وكم فضله على

غيره، بمزية من المزايا التي لا تحصى، وكم خصه بخصوصية؛ وخوله، بمعنى: أعطاه؛ والمعنى: أن الله سبحانه خص نبيه بخصائص كثيرة، ومزايا جليلة، حتى عدها بعض متأخري الحفاظ إلى ثلاثمائة، وقال بعضهم: الحق عدم حصرها.

ص: 104