الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واعلم بأن الأمر والنهي معا
…
فرضا كفاية على من قد وعى (1)
وإن يكن ذا واحدًا تعينا
…
عليه لكن شرطه أن يأمنا (2)
(1) أي: واعلم أيها الطالب للعلم، بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر معاً، أي: كل واحد منهما منفرد، أو كلاهما، فرض كفاية، بالكتاب والسنة وإجماع السلف على جماعة المسلمين، يخاطب به الجميع، ويسقط بمن يقوم به، على من، أي: على أي إنسان قد وعى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وعلمه، لأنه لا صلاح للعباد في المعاش والمعاد إلا به.
ولأن جماع الدين، وجميع الولايات، أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله، هو الأمر بالمعروف؛ والنهي الذي بعثه به، هو النهي عن المنكر؛ وهو نعت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، في قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] . وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 114] .
(2)
أي: وإن يكن الذي علم بالمنكر، هو عارف بما ينكر واحداً،
أو كانوا عددًا لكن لا يحصل المقصود إلا بهم جميعًا، تعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار فرض عين عليه أو
عليهم للزومه عليه أو عليهم، ولعدم قيام غيره أو غيرهم
به؛ لكن شرط افتراضه على الجماعة، أو الواحد، سواء كان
الأمر والنهي فرض كفاية، أو فرض عين: القدرة على ذلك؛ فإن مناط الوجوب القدرة، فيجب على كل بحسبه، وأن يأمن على نفسه وأهله وماله، ولا يخالف سوطًا أو عصاً، ولا أذى، ولا فتنة تزيد على المنكر، هذا قول الجمهور، عملًا بما في بعض الأحاديث من رخصة السكوت عند المخالفة.
وفي الحديث: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق. والحزم: أن لا يبالي» ، لما ورد:«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» . وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] . قال بعض السلف، أي: يبيعها ببذلها في الجهاد، أو يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى يقتل طلبًا لمرضاة الله عز وجل.
فاصبر وزل باليد واللسان
…
لمنكر واحذر من النقصان (1)
(1) أي: فاصبر على الأذى، ممن تأمره وتنهاه، ولا تنتصر لنفسك، واعلم أن الأمر والنهي، هو أشق ما يحمله المكلف، وهو مقام الرسل، والصبر إن لم يستعمل لزم تعطيل الأمر، أو حصول فتنة، أو مفسدة بتركه.
وأزل المنكر باليد، وهو أعلى درجات الإنكار؛ وغيره باللسان حيث لم تستطع تغييره باليد، بأن تعظه باليد وتذكره بالله وأليم عقابه، وتوبخه وتعنفه، مع لين وإغلاظ بحسب ما يقتضيه الحال؛ لمنكر: متعلق بـ "زال".
واحذر من النزول عن أعلى المراتب، حيث قدرت على أن
تغير المنكر بيدك إلى الإنكار باللسان، إلا مع العجز عن ذلك؛
ثم إنه لا يسوغ لك العدول، عن التغيير باللسان إلى الإنكار
بالقلب، إلا مع عدم القدرة على الإنكار باللسان، إلى الإنكار بالقلب، وهو أضعف الإيمان. فاحذر من النقصان: أشار بذلك إلى حديث أبي سعيد: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
رواه مسلم وغيره، وفيه أيضًا:«من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
وفي الباب أحاديث كثيرة، وذكر بعض السلف: أنه لا بد في الآمر، أن يكون عليمًا فيما يأمر به، عليمًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه، صابرًا على ما ناله من الأذى، أي: وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
ومن نهى عما له قد ارتكب
…
فقد أتى بما به يقضى العجب (1)
(1) أي: وأي إنسان نهى الخلق عن الشيء الذي قد ارتكب، وخالف عمله قوله، من فعل المحظور، وترك المأمور، فقد أتى من قاله وحاله من العمل، الذي منه يقضي العقلاء وأهل العلم العجب؛ أي: يحكمون بالعجب، لإتيانه القبيح الذي ينهى عنه، وتركه الحسن الذي يأمر به.
وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] . وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] .
وفي الصحيحين: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في
النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» .
وفي صحيح مسلم قال: «مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: خطباء أمتك، الذين يقولون ما لا يفعلون» .
وقال الله عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] .
وقال بعض السلف: إذا أردت أن يقبل منك، فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له، المؤتمرين به؛ وإذا نهيت عن شيء فكن أول المنتهين عنه.
فلو بدا بنفسه فَذَادَهَا
…
عن غَيِّهَا لكان قد أفادَهَا (1)
(1) أي: فلو بدأ الآمر والناهي بنفسه، قبل أمره ونهيه لغيره، فمنعها وردها عن غيها، لكان ببدايته بإرشاده نفسه، وردها عما هي عليه، من ارتكاب المنهي، قد أفادها النجاة والسلامة؛ فإن المرشد اللبيب: يبدأ بالأهم فالأهم، والأقرب فالأقرب؛ ولا أهم ولا أقرب إلى العبد من نفسه؛ وما تقدم من كون الآمر مستقيم الحال، هو عين الكمال وأبلغ في تأثير أمره ونهيه.
وأما وجوب الأمر والنهي، فلا يسقط عن الذي لم يكن متصفًا بتلك الأوصاف، والنهي عن المنكر واجب، والانكفاف عن المحرم واجب، والإخلال بأحد الواجبين، لا يمنع وجوب فعل الآخر؛ ولو كان لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، إلا من ليس فيه شيء من ذلك، ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر، ولسقط الأمر والنهي ويود الشيطان أن لو كان ذلك.
الخاتمة
نسأل الله حسنها
مدارك العلوم في العيان (1)
…
محصورة في الحد والبرهان (2)
(1) مدارك: جمع مدرك الشيء أحاط به؛ ومراده: المدرك بالعقول، جمع عقل؛ وهو لغة: المنع؛ واصطلاحًا: ما يحصل به التمييز بين المعلومات، وهو صفة، وهو الذي يسمى عرضاً، وهو قائم بالنفس التي تعقل، متعلق بالقلب، وله اتصال بالدماغ، في العيان، أي: المشاهدة.
(2)
أي: مدارك العلوم محصورة في شيئين لا ثالث لهما، ومقصورة عليهما في الحد، يأتي الكلام عليه؛ والبرهان، وهو: الحجة والدليل، وهما الكتاب والسنة؛ وقال المصنف: والبرهان عند أهل الميزان، قياس مؤلف من مقدمات يقينية، لإنتاج يقينيات. اهـ.
وإذا كان القياس لا يفيد العلم، إلا بواسطة قضية كلية بإجماعهم، وامتنع أن يكون فيما ذكروه، من صورة القياس، ومادته، حصول علم
يقيني. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد علم بإجماعهم
وبالعقل: أن القياس المنطقي لا يفيد إلا بواسطة قضية كلية، والقضايا التي هي عند مواد البرهان وأصوله، ليس فيها قضية كلية
للأمور الموجودة، وليس فيها ما تعلم به القضية الكلية إلا
العقل المجرد، الذي يعقل المقدرات الذهنية، وإذا لم يكن في أصوله برهانهم علم بقضية عامة، للأمور الموجودة، لم يكن في قياسهم علم؛ ولذلك تناقضت أقيستهم في المطالب الإلهية، ولم يصلوا بها إلى يقين؛ وغلبت عليهم الحيرة، لما يرونه من فساد أدلتهم. وصورة القياس المذكورة، فطرية لا تحتاج إلى تعلم، وإن كان فيه صحيح ففيه ما هو باطل، والحق الذي فيه من تطويل الكلام، وتكثيره بلا فائدة، وسوء التعبير وغير ذلك؛ والنافع منه فطري لا يحتاج إليهم فيه، وما يحتاج إليهم فيه ليس فيه منفعة إلا معرفة اصطلاحهم.
ولا شك أن من حسن الظن بالمنطق والكلام وأهله، إن لم يكن له مادة من دين وعقل، يستفيد بها الحق الذي ينتفع به، وإلا أفسدوا عليه دينه وعقله؛ ومن نور الله بصيرته، علم الفرق بين الطريقة العقلية السمعية الشرعية الإيمانية، والطريقة القياسية المنطقية الكلامية.
وقال قوم عند أصحاب النظر
…
حس وإخبار صحيح والنظر (1)
(1) وقال قوم منهم: بل مدارك العلم عند أصحاب النظر - أي: الفكر والتدقيق، والبحث والتحقيق عنده عفا الله عنه - وهم: النظار من المتكلمين والمنطقيين، وعلماء الأصول ثلاثة؛ أحدها: حس أي: ما يدرك بأحد الحواس الخمس؛ السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس.
والثاني: إخبار صحيح ثابت مطابق للواقع؛ والخبر الثابت نوعان: الأول: خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجب الإيمان به وتصديقه. والنوع الثاني: الخبر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب، كالعلم بالملوك الماضية.
والثالث: من مدارك العلم "النظر" أي: الفكر الذي يطلب به علم أو ظن، وهو عندهم التأمل والتفكر، والاعتبار بمعرفة الحق من الباطل، وهو فكرة القلب وتأمله؛ وقد يصيب الناظر وقد يخطئ وهذا النظر صحيح، إذا كان في حق ودليل؛ وغالب نظرهم في دليل مضل، يصير في القلب بذلك اعتقادًا فاسداً، وهو غالب شبهات أهل الباطل؛ والنظر المفيد للعلم: إنما هو في أدلة الكتاب والسنة؛ والطالب للعلم بالنظر لا يحصل له ذلك، إن لم ينظر في دليل شرعي، يفيده العلم بالمدلول عليه.
الحد وهو أصل كل علم (1)
…
...................................
(1) الحد في اللغة: المنع؛ وقوله: وهو أصل كل علم، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر؛ وقال المصنف: لأن من لا يحيط به علماً، لم ينتفع بما عنده، انتهى؛ وعلوم بني آدم خاصتهم وعامتهم، حاصلة بدونه، فبطل قوله؛ كيف وهو: إنما حدث من مبتدعة المتكلمة، والفلاسفة لما عربت الكتب اليونانية.
ولا يخلو تكلفهم له، إما في العلم فيتكلموا بغير علم، وإما في القول، فيتكلفون من بيانه ما هو حشو وعناء، وهذا من المنكر المذموم بالشرع والعقل، وأمر الله نبيه أن يقول:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وفي الصحيح: «من علم علمًا فليقل به ومن لم يعلم فليقل لا أعلم. وحرم الله في كتابه القول عليه بلا علم، وذم الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه» .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء كلامهم في الحد غالبه
من الكلام الكثير، الذي لا فائدة فيه وكثير منه باطل، وقول بغير علم وقول لخلاف الحق، ولا ريب في استغناء الأنبياء وأتباعهم، من العلماء والعامة عنه، ولم يعرف في القرون المفضلة؛ ولم يكن تكلفه من عاداتهم.
..................................
…
وصف محيط كاشف فافتهم (1)
وشرطه طرد وعكس وهو إن
…
أنبا عن الذوات فالتام استبن (2)
وإن يكن بالجنس ثم الخاصه
…
فذاك رسم فافهم المحاصه (3)
(1) أي: وصف محيط بموصوفه، كاشف مميز للمحدود عن غيره؛ فحد الشيء الذي ينطبق على جميع أفراده، هو المانع الجامع؛ فافتهم: أمر من الفهم وهو: إدراك معنى الكلام.
(2)
أي: وشرط كون الحد صحيحًا طرد، ومعناه التلازم بالثبوت؛ أي: كلما وجد الحد وجد المحدود؛ وعكس، أي: كلما وجد المحدود وجد الحد؛ ويلزم منه: أنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود؛ وقال شيخ الإسلام: الحد يجب طرده وعكسه. اهـ؛ وهو: أي الحد إن دل وكشف عن الذوات المحدودة، كما إذا قيل: ما الإنسان؟ قيل: حيوان ناطق، فهو الحقيقي التام، وهو الأصل عندهم؛ فاستبن، أي: اطلب البيان عن حقيقة الحد.
(3)
أي: وإن يكن الحد مركباً، من الجنس القريب، ثم الخاصة،
كحيوان ضاحك، في تعريف الإنسان، فذاك الجنس المركب: من
جنس قريب، وخاصة، رسم تام؛ فافهم المحاصة، أي: التقسيم
المذكور للحد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعامة حدودهم، هي
من هذا الباب، حشو لكلام كثير، يبينون به الأشياء، وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم.
فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان، وإتعاب الحيوان، لا توجب إلا العمى والضلال، وتفتح باب المراء والجدال، إذ كل منهم يورد على حد الآخر، من الأسئلة ما يفسد به، ويزعم سلامة حده منه؛ ولا يسلم لهم حد لشيء من الأشياء، إلا ما يدعيه بعضهم، وينازعه فيه آخرون؛ فإن كانت الأمور لا تتصور إلا بالحد، لزم أن لا يكون إلى الآن أحد عرف حد شيء من الأمور، ولم يبق أحد ينتظر صحته، لأن الذي يذكره يحتاج معرفته بغير حد، وهي متعددة، فلا يكون لبني آدم شيء من المعرفة، وهذه سفسطة، ومغالطة.
وكل معلوم بحس وحجا
…
فنكره جهل قبيح في الهجا (1)
(1) أي: وكل معلوم بحس من الحواس الخمس الظاهرة التي لا شك فيها فإنكاره قبيح جداً، إذ هو مجرد مكابرة، وكذا ما يدرك عندهم بحجا، وهو العقل، فإنكاره قبيح في الهجا، أي: في الشكل، والمثل، يقال: هذا على هجا هذا، أي: شكله؛ أي: قبيح في العادة المستمرة، ومردود عند أهل الكلام والمنطق.
وهم كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] . وأما أهل السنة والجماعة، فلا يردون إلا ما خالف الكتاب والسنة، والعقل المقبول عندهم: ما وافق الشرع؛ فإن النقل الصحيح الصريح، يوافقه العقل الصحيح.
فإن يقم بنفسه فجوهر
…
أو لا فذاك عرض مغتفر (1)
والجسم ما ألف من جزأين
…
فصاعدً فاترك حديث المين (2)
ومستحيل الذات غير ممكن
…
وضده ما جاز فاسمع زكني (3)
والضد والخلاف والنقيض
…
والمثل والغيران مستفيض (4)
(1) أي: فإن يقم ذلك الشيء بنفسه، أي بذاته، فلا يخلو: إما أن يكون مركبًا من جزأين فصاعداً، وهو الجسم، أولاً، فجوهر، وهو العين الذي لا يقبل الانقسام، أو لا يقوم بنفسه، فهو عرض مفتقر إلى محل يقوم به.
(2)
أي: والجسم هو ما ركب من جزأين فصاعداً، أي أكثر، أي: لا حد لأكثره، فاترك كلام المين، أي: الكذب.
(3)
أي: المستحيل لذاته غير ممكن ولا مقدور، وضد المستحيل الذي جاز وجوده وعدمه، وتقدم؛ فاسمع زكني: علمي وتفرسي في اختصار الكلام.
(4)
أي: والضد مع ضده، وهما ما امتنع اجتماعهما في محل واحد، في زمن واحد، كالسواد والبياض، والحركة والسكون؛ والخلافان يجتمعان، ويرتفعان، كالحركة والبياض، في الجسم الواحد؛ والنقيضان: لا يجتمعان، ولا يرتفعان، كالوجود والعدم، المضافين إلى معين واحد؛ والمثلان: ما قام أحدهما مقام الآخر كبياض وبياض؛ والغيران، هما المختلفان، وقيل: هما الموجودان اللذان يمكن أن يفارق أحدهما الآخر، بوجه مستفيض، استفاضة ظاهرة.
وكل هذا علمه محقق
…
فلم نطل به ولم ننمق (1)
والحمد لله على التوفيق
…
لمنهج الحق على التحقيق
مسلما لمقتضى الحديث
…
والنص في القديم والحديث (2)
(1) أي: وكل هذا المذكور، وأضعافه مما لم يذكره علمه مشهور محقق، فلم يطل بذكره؛ ولم ينمق، من التنميق وهو التحسين والتزيين؛ قال المصنف: إذ المقصود إنما هو ذكر أمهات مسائل العقائد السلفية.
وإدخال المصنف - عفا الله عنه - هذا ونحوه في عقائدهم، وهلة عظيمة، لم يذكره أحد من السلف، لا أحمد ولا غيره، ولا حكاه أحد المحققين في عقائدهم، وإنما هو طريقة المتكلمة، والمناطقة، الذين بنوا أصول دينهم على مقتضى عقولهم، وما خالفه من الكتاب والسنة أولوه وحرفوه.
وتقدم نقض ما بناه على أصولهم، من إنكار بعض الصفات الثابتة لله، وما أوجب اعتقاده بالعقل دون الشرع، وأهل السنة والجماعة مبنى عقائدهم على الكتاب والسنة، وهم أجل من أن يظن بهم الالتفات إلى تلك الطريقة، فضلًا عن أن يجعلوا مبنى أصول دينهم مجرد الأدلة العقلية، التي حقيقتها جهل وضلال وقدح في كمال الشرع.
(2)
الحمد هو: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم؛ والتوفيق: أن لا يكلك الله إلى نفسك؛ لمنهج الحق، متعلق بالتوفيق، أي: لطريق الحق الواضح، المطابق للشرع على التحقيق، وهو: إيقاع الأشياء في محالها، وردها على حقائقها.
مسلمًا: حال من معمول التوفيق؛ أي: الحمد لله على
توفيقي لمنهج الحق حال كوني مسلمًا؛ لمقتضى الحديث، أي: لما يقتضيه الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنص القرآني، وقدم الحديث، مراعاة للقافية؛ وفي نسخة: كالنص، فحينئذ النص هو المقدم؛ في القديم والحديث، يعني: أن هذا معتقده في أول أمره وآخره، وأن مبنى عقيدته على الكتاب والسنة وما عليه السلف.
لا أعتني بغير قول السلف
…
موافقًا أئمتي وسلفي (1)
ولست في قولي ذا مقلدا
…
إلى النبي المصطفى مبدي الهدى (2)
(1) لا أعتني: أي: لا أعول، ولا أقول بغير قول السلف الصالح، والرعيل الأول؛ موافقًا أئمتي من أهل الأثر، وسلفي في ذلك، من كل همام معتبر؛ ودخل على المصنف من مذهب أهل الكلام، ما لعله لم ينتبه له، مع أنه يقول: وخضت في علوم النظر والكلام، فرأيتها لا تشفي من سقام، ولا تروي من أوام، ولا تهدي من ضلال. اهـ. وكثير من متأخري الحنابلة - مع أنهم أسلم من غيرهم، من أتباع الأئمة، وأكثر موافقة للكتاب والسنة - دخل عليهم من مذاهب الأشاعرة وغيرهم، ما ظنوه من مذهب الإمام أحمد وليس كذلك.
(2)
أي: ولست في قولي بما أشرت إليه، من اقتفاء الأئمة والسلف الصالح مقلدًا لهم في اعتقادي، من غير نظر في الدليل، بل نظرت كما نظروا، فلست في اعتقادي مقلداً، إلا النبي المصطفى من سائر الخلق صلى الله عليه وسلم، مظهر الهدى بالدلائل الواضحة، ومرشد العالم.
صلى عليه الله ما قطر نزل
…
وما تعانى ذكره من الأزل (1)
وما انجلى بهديه الديجور
…
وراقت الأوقات والدهور (2)
وآله وصحبه أهل الوفا
…
معادن التقوى وينبوع الصفا (3)
وتابع وتابع للتابع
…
خير الورى حقا بنص الشارع (4)
(1) أي: و صلى الله عليه وسلم مدة دوام نزول الأمطار، وتداول الأعصار، و صلى الله عليه وسلم ما تعاني المعتنون ذكره، من الأزل في الأعصار الخالية، فإنه لم يخل زمان من ذكره، والتنويه بشرعه ومبعثه، إلى إبان رسالته. ورحمة الله مع الرضوان والبر والتكريم والإحسان.
(2)
أي: و صلى الله عليه وسلم ما انجلى، أي: ما زال وانكشف بهديه، المشرق، اللامع؛ الديجور أي: الظلمة، وما بهديه عليه الصلاة والسلام، راقت، أي: صفت الأوقات، وهو جمع وقت، وهو المقدار من الدهر؛ والدهور: جمع دهر، وهو الزمان الطويل، والأمد المدود.
(3)
أي: وصلى الله على آله أقاربه وأصحابه؛ والصحابة جمع صاحب من اجتمع به مؤمنًا ومات على ذلك؛ أصحاب الوفاء بما أمروا به، معادن التقوى، وأجدر خلق الله بإقامتها فيهم بعد نبيه، وينبوع الصفا، الينبوع: عين الماء، والصفاء ضد الكدر، فهم ينبوع كل خالص من الكدر.
(4)
أي: وصلى الله وسلم على تابع لهم بإحسان، وتابع للتابع على نهج الاستقامة؛ خير الورى، أي: أفضل هذه الأمة حقا، بنص الشارع صلى الله عليه وسلم قال:«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» .
ورحمة الله مع الرضوان
…
والبر والتكريم والإحسان
تهدى مع التبجيل والإنعام
…
مني لمثوى عصمة الإسلام (1)
أئمة الدين هداة الأمة
…
أهل التقى من سائر الأئمة (2)
لا سيما أحمد والنعمان
…
ومالك محمد الصنوان (3)
(1) أي: ورحمة الله تعالى، مع الرضوان من الله؛ والبر بالكسر: الإحسان، والتكريم لهم من فضله وكرمه؛ والإحسان إليهم منه جزاء لإحسانهم الأعمال، تهدى، أي: هذه الأمور؛ مع التبجيل، أي: التعظيم، والإنعام من الملك العلام، مني أسأل الله، أن يفعل ذلك بمنه وكرمه.
لمثوى، لمنزل ومقام، عصمة أهل الإسلام، من البدع والآراء والإلحاد؛ والعصمة: المنعة؛ وعصمة هذا الدين بعد الصحابة والتابعين، بأئمة أهل هذا الدين، هداة الأمة الدالين لهم على نهج الرسول، والكاشفين لهم عن معاني الكتاب والسنة.
(2)
أي: جميع أئمة الدين، المقتدى بأقوالهم وأفعالهم، من كل عالم همام، كالأئمة الأربعة والسفيانين، والحمادين، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وابن المبارك، والليث، وربيعة، وابن جريج، وغيرهم؛ فإنهم سلفية، ولهم في السنة التصانيف النافعة؛ وكابن خزيمة، والدارمي، وكشيخ الإسلام ابن تيمية، فارس المعقول والمنقول، ومصنفاته في ذلك مشهورة مقبولة، لم يسبق إلى مثلها، مؤيدة بالبراهين يغترف من بحره، وغيره من السواقي.
(3)
لا سيما: كلمة مبنية، لدخول ما بعدها فيما قبلها بالأولى، فما
نسب لمن قبلها من الثناء والدعاء، فمن بعدها أولى؛ أي: فالأولى بما أهداه من الدعاء: الإمام أحمد بن حنبل، إمامنا رضي الله عنه، الشهير العلم المنير؛ قال إمام الحرمين: غسل وجه السنة من غبار البدعة، وكشف الغمة عن عقيدة الأمة، وتقدمت ترجمته.
والإمام المعظم: أبو حنيفة، النعمان بن ثابت الكوفي التابعي، رأى أنس بن مالك، وأبا الطفيل، وروى عن حماد وعاصم، وقتادة وغيرهم؛ وعنه: وكيع، وعبد الرزاق، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، قال مكي بن إبراهيم: أعلم أهل زمانه، وما رأيت في الكوفيين أورع منه؛ وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وأثنى عليه الأئمة الكبار؛ ولد سنة ثمانين، ومات سنة مائة وخمسين.
والإمام أبو عبد الله: مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، المدني، إمام دار الهجرة، روى عن جماعة من التابعين: نافع، وابن المنكدر، وحميد الطويل، وغيرهم، وعنه: الشافعي، والأوزاعي، ويحيى، وخلق؛ قال أحمد: مالك أثبت في كل شيء؛ وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر؛ مات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وهو ابن تسعين سنة، ودفن بالبقيع.
والإمام أبو عبد الله: محمد بن إدريس بن العباس بن
عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف الشافعي؛ الصنوان، أي: القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث:«فإن عم الرجل صنو أبيه» . وفي رواية: "صنوي" يريد أن أصل العباس، وأصله واحد، فإن الشافعي يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عبد مناف؛ ولد سنة خمسين ومائة بغزة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وروى عن محمد بن علي، وابن أسامة، وسعيد بن سالم، وسفيان، ومالك وغيرهم.
واجتمع فيه من العلوم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين، ما لم يجتمع في غيره، قال أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن؛ روى عنه ابنه محمد، وأحمد، وأبو ثور، والقاسم بن سلام، وحرملة، والحسن بن محمد، والربيع، وخلق، توفي سنة أربع ومائتين.
من لازم لكل أرباب العمل
…
تقليد حبر منهم فاسمع تخل (1)
(1) أي: الذي هو لازم لا انفكاك عنه، ولا مندوحة لكل مكلف من أصحاب العمل الصالح، ممن ليس في أهلية الاجتهاد المطلق، تقليد حبر منهم، أي: من الأئمة الأربعة المتقدم ذكرهم، المضبوطة أقولهم، المدونة مذاهبهم في كل مصر وعصر، فاسمع نظامي، وما أشرت إليه تخل، أي: تظن، وتعلم ذلك حقًا؛ واحترز بقوله لكل أرباب العمل، عن التقليد في أصول الدين وأركانه، وما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يجب على العامي أن يلتزم
مذهبًا بعينه، كما أنه ليس له أن يقلد في كل مسألة من يوافق
غرضه، وليس له أن يقلد في المسألة الواحدة إذا كان الحق له من
غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإذا اعتقد وجوب شيء أو تحريمه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله، وقال: التمذهب بمذهب، بحيث يأخذ برخصه وعزائمه، طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع، وتوقف في جوازه، فضلًا عن وجوبه، وقال: إن خالفه لقوة الدليل، أو زيادة علم، أو تقى، فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته؛ وقال: بل يجب في هذا الحال، وأنه نص أحمد. اهـ.
والواجب على كل مسلم، إذا بلغه الدليل، من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعمل به وإن خالفه من خالفه؛ وأجمع العلماء: على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.
ومن نحا لسبلهم من الورى
…
ما دارت الأفلاك أو نجم سرى (1)
هدية مني لأرباب السلف
…
مجانبا للخوض من أهل الخلف (2)
(1) أي: ورحمة الله مع الإحسان، والعفو والغفران، تهدى لمن نحا، أي قصد لسبلهم، جمع سبيل، وهو الطريق الواضح، من سائر الورى، أي: الخلق؛ ما دارت الأفلاك، جمع فلك، سميت بذلك لاستدارتها، من قولهم: تفلك ثدي الجارية، إذا استدار؛ أو نجم سرى، أي: وتهدى لهم الرحمة، ولمتبوعيهم، مدة دوام سرى النجوم.
(2)
أي: ذكر أنه لما نظمها بسؤال بعض أصحابه النجديين، وأنها
على ما نحاه السلف، قال: هذه العقيدة، هدية مهداة مني
بعون الله، لأرباب، أي: أصحاب طريقة السلف، وعقيدة أهل
الأثر، حال كونه مجانباًً في نظمه، للخوض في صرف الآيات، والأحاديث، والآثار إلى غير محاملها، مما هو دأب المحرفين من الخلف، المخالفين لمذهب السلف.
خذها هديت واقتف نظامي
…
تفز بما أملت والسلام (1)
(1) أي: خذ هذه العقيدة، هديت أيها السلفي في اعتقادك، واقتف، أي: اتبع نظامي في هذه العقيدة، التي هي بأمهات مسائل عقائد السلف، وفيه: فإنك إن فعلت تفز، أي: تظفر بما أملت من نيل الفلاح، وتظفر أيضًا: بالسلام، أي: الأمان من التخليط في اعتقادك.
قلت: وتأمل ما نبهت عليه، مما خالف فيه المصنف مذهب السلف، وما أودعته من البراهين، تسلك سبيل السلف الصالحين، على بصيرة ويقين؛ والله الموفق لا إله غيره، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله على محمد، وآله وصحبه،
وسلم تسليم كثيرًا