الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في أشراط الساعة
وعلاماتها
الدالة على اقترابها ومجيئها (1)
وما أتى في النص من أشراط (2)
…
...................................
(1) أشراطها: أماراتها، وعلاماتها، قال تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] .
وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] .
وقال عليه السلام: «بعثت أن والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والتي تليها» .
وأماراتها ثلاثة أقسام:
قسم ظهر وانقضى: كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووقعة الجمل، وصفين، ونحوهما، وملك بني أمية، والعبابسة، ونار الحجاز التي أضاءت منها أعناق الإبل ببصرى، وخروج الكذابين المدعين النبوة وكثرة المال والزلازل.
وقسم متوسط: ككون أسعد الناس بالدنيا: لكع بن لكع، وإماتة الصلاة، وإضاعة الأمانة والتباهي في المساجد، وأكل الربا، ونحو ذلك، كرفع العلم وكثرة الجهل، وكثرة الزنا وشرب الخمر، وقلة الرجال وكثرة النساء وتوسيد الأمور إلى غير أهلها، ولحوق حي من الأمور بالمشركين، وعبادة فئام من الأمة الأوثان وغير ذلك.
والقسم الثالث: العلامات العظام التي تعقبها الساعة: وهي المقصود بالنظم.
(2)
أي: وما ورد في النص القرآني، والحديث النبوي من أشراط الساعة يجب اعتقاده، والمراد يوم القيامة، سمي بالساعة لقربها، أو لأنها تأتي بغتة في ساعة.
..................................
…
فكله حق بلا شطاط (1)
منها الإمام الخاتم الفصيح
…
محمد المهدي والمسيح (2)
(1) أي: فكل الذي أتى في النص من أشراط الساعة حق واقع يقين، يجب اعتقاده بلا شطاط، أي: من غير طول وبعد.
(2)
أي: من أشراط الساعة، التي وردت بها الأخبار، ظهور الإمام المقتدى به، الخاتم للإمامة، فلا إمام بعده، الفصيح اللسان، لأنه من صميم العرب، أهل الفصاحة والبلاغة، والفصاحة: خلوص الكلام من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحة مفرداته، والفصاحة والبيان في المتكلم ملكة يقتدر معها على التعبير بالمقصود بلفظ فصيح.
ومحمد المهدي اسمه وأشهر أوصافه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه أسم أبي» .
وفي رواية: «لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما» ، وأخرجه الترمذي، وصححه بلفظ:«حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي» .
وأخرجه أبو داود وغيره، وتسميته محمد، أو محمد بن عبد الله، ووصفه بالمهدي، ورد في عدة أخبار، تدل على خروجه، وحكمه بالقسط والعدل، والله اعلم.
والمسيح هو عيسى ابن مريم عليه السلام، سمي مسيحا: لأنه
يمسح ذا العاهة فيبرأ، أو لمسحه في الأرض، ذهابه فيها، أو لكونه ممسوح القدمين، أو لحسن خلقه، والمسحة: الجمال، أو الصديق، خلقه الله من أنثى بلا ذكر ثم قال له: كن فكان بكن، بعثه الله إلى بني إسرائيل، وكان آخر أنبيائهم، وله حواريون وأنصار، ولما أجمع أولئك الملأ على قتله، رفعه الله إليه، كما قال تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء 158] .
وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وليس المراد الموت المعهود بل كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] . فإنه حي.
ونزوله ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] . وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان، وفي صحيح مسلم:«بينما الدجال كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث طرفه» .
وأجمع السلف: أنه ينزل، ويحكم بهذه الشريعة
المحمدية، وتنبت الأرض نبتها كعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، كما ثبت ذلك.
وأنه يقتل للدجال
…
بباب لد خل عن جدال (1)
(1) أي: وإن المسح عيسى ابن مريم يقتل الدجال بأمر الله وتأييده، وسمي دجالا لتمويهه على الناس، وتلبيسه، وسمي أيضا مسيحا، لأنه ممسوح العين قال عليه السلام:«إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» . وأمر بالتعوذ منه، قال:«وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» وقال: «إنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار» . وأخرجه مسلم، ولهما عنه صلى الله عليه وسلم:«إن الدجال يخرج، وإن معه ماء ونارا، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فإنه ماء عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارًا، فإنه ماء عذب طيب» .
وأخبر أن لبثه في الأرض: «أربعون يومًا: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم» ، وسئل: عن الصلاة في اليوم الذي كسنة؟ قال: «قدروا له» .
وقوله: بباب؛ متعلق بيقتل؛ أي: يقتل الدجال بباب لد، بوزن مد، بلدة مشهورة، بينها وبين رملة فلسطين فرسخ، إلى جهة الشمال، ينزل مع الفجر بدمشق، على المنارة البيضاء ويهرب أصحاب الدجال، فيدركه بباب لد فيقتله، خل، أي: اترك وتنح عند جدال في ذلك، فإنه أخبر به المعصوم صلى الله عليه وسلم فوجب اعتقاده.
وأمر يأجوج ومأجوج اثبت (1)
…
...................................
(1) أي: اعتقد خروج يأجوج ومأجوج، فإنه حق ثابت بالكتاب، والسنة وإجماع الأمة، سموا بذلك: لكثرتهم وشدتهم، وقيل: من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: اسمان أعجميان، وهم من ولد يافث بن نوح باتفاق النسابين قال تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96-97] وفي صحيح مسلم: «إن الله يوحي إلى عيسى ابن مريم، بعد قتله الدجال، إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقاتلهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون» .
وقد كفهم الله بردم ذي القرنين، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف97-98] فيخرجون، ويحرز عيسى عباد الله إلى الطور كما ثبت، «ويرغب عيسى وأصحابه
إلى الله فيرسل الله عليهم النغف، فيصبحون موتى ويخرج
المسلمون من مدائنهم وحصونهم، ويهبطون إلى الأرض، وقد
امتلأت بنتنهم، فيرغبون إلى الله، فيرسل الله مطرا فيغسل الأرض حتى يدعها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرك وردي بركتك، فبينا عيسى وأصحابه في ذلك العيش الرغد وقد هلك عودهم، إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» .
..................................
…
وأنه حق كهدم الكعبة (1)
وأن منها آية الدخان (2)
…
...................................
(1) أي: كما أن أمر يأجوج ومأجوج، حق ثابت وقوعه، ويجب اعتقاد وقوعه، فكذا يجب اعتقاد وقوع هدم الكعبة المعظمة، لما في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» .
وفيهما أيضا: «كأني به أسود أفحج يهدمها حجرا حجرا. الحديث، يتدوالها أصحابه بينهم حتى يطرحها في البحر» .
أخرج أحمد وغيره: «ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده» . والذي تقتضيه الحكمة -والله أعلم- أن هدم الكعبة بعد موت عيسى، وقبض المؤمنين، فبعد ذلك يخرج الحبشة، وعليهم ذو السويقتين، فيخربون مكة، ويهدمون الكعبة، ويرتفع القرآن.
(2)
أي: وإن من أشراط الساعة، التي ثبت بها الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بها آية، أي علامة، الدخان، قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . قال ابن عباس وغيره: هو دخان قبل قيام الساعة، يدخل في أسماع الكفار والمنافقين، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام.
وتقدم فيما رواه مسلم: «إنها لن تقوم الساعة، حتى تروا عشر آيات فذكر منها الدخان» ، ورواه الترمذي وغيره، وذكر أنه يمكث في الأرض أربعين يوما، وفي حديث حذيفة:«فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران، يخرج الدخان من فيه ومنخريه، وعينيه وأذنيه، ودبره» .
..................................
…
وأنه يذهب بالقرآن (1)
طلوع شمس الأفق من دبور (2)
…
...................................
(1) أي: ومن أشراط الساعة، التي يجب الإيمان بها، رفع القرآن العظيم، المنزل من لدن حكيم عليم، وتقدم قول السلف: منه بدأ وإليه يعود، يرفع من المصاحف والصدور، كما جاء في الأحاديث: إنه يسري به، حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في الصدور منه آية.
(2)
أي: ومن علامات الساعة، الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، طلوع الشمس من المغرب، فقوله: من دبور، أي: من جهة دبر الكعبة، ومنه سميت الريح التي مهبها من جهة المغرب دبوراً، قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] . أجمع المفسرون: أنها طلوع الشمس من مغربها، وفي الصحيحين:«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمع، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» .
وأخرج مسلم وغيره: «أتدرون أين تذهب الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت» - إلى قوله -: «فتصبح طالعة من مغربها بعدما يؤذن لها» .
..................................
…
كذات أجياد على المشهور (1)
(1) أي: ومن علامات الساعة، الثابتة بالكتاب، والسنة والإجماع، خروج الدابة، صاحبة "أجياد" شعب بمكة مشهور، سمي بذلك لما قيل: إنه موضع خيل تبع، أو لمجيء الخيل الجياد منه إلى إسماعيل، قال المصنف في إضافتها إلى "أجياد" على القول المشهور، لما روي عن أبي هريرة مرفوعا:«تخرج دابة الأرض من أجياد وروي خروجها من غيره، قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل 82] » .
وعن حذيفة مرفوعا: «دابة الأرض طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، لا يفوتها هارب.
وأخرج أحمد، والترمذي وابن ماجه:«تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان، وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» .
ولأحمد: «فتسم الناس على خراطيمهم» .
وآخر الأخبار حشر النار
…
كما أتى في محكم الأخبار (1)
فكلها صحت بها الأخبار
…
وسطرت آثارها الاخيار (2)
(1) أي: آخر العلامات العظام، الثابتة بالشرع، حشر الناس للناس من المشرق إلى المغرب، ومن اليمن إلى الشام، كما أتى مصرحا به في محكم الأخبار وصحيح الآثار، ففي صحيح مسلم:«لن تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات فعدها ثم قال: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» .
وفي رواية: «نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس» ، قال شعبة: وأحسبه قال: «تنزل معهم إذا نزلوا، وتقيل معهم حيث قالوا» ورواه مسلم، وأهل السنن، وله طرق.
* تتمة: خرج مسلم في صحيحه، وغيره:«تجئ بعد موت عيسى ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، فيبقى شرار الناس، في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقولون: ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور» .
وأخرج مسلم أيضا، وغيره «فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» .
(2)
أي: فكل أشراط الساعة المذكورة، صححت بها الأخبار، عن
المختار صلى الله عليه وسلم وكلها سطرت آثارها الأخيار، وآثار: مفعول سطرت، وأصل السطر الصنف من الشيء، والجمع أسطر وسطور. والأخيار: اسم فاعل ضد الأشرار، والمراد هنا: علماء الأمة، من التابعين وتابعيهم، وأئمة السلف، وروي من حديث أبي هريرة:«خير أمتي علماؤها» وقال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
فصل
في أمر المعاد
واجزم بأمر البعث والنشور
…
والحشر جزما بعد نفخ الصور (1)
(1) أي: واجزم جزم إيقان واعتقاد، بالبعث بعد الموت، وبالنشور من القبور والحشر لفصل القضاء، جزما: مصدر مؤكد، وذلك كله واقع بعد النفخ في الصور والمراد نفخة البعث.
ومعاد الأبدان متفق عليه، بين المسلمين، واليهود، والنصارى، وسائر أهل الملل قال تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]
وقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] ، وقال عليه السلام للعاص بن وائل وقد جاءه بعظم حائل، ففته بيده، فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعدما أرم؟ قال: نعم يبعثه الله ثم يميتك ثم يحيك ثم يدخلك نار جهنم.
والنشور، يرادف البعث في المعنى، يقال: نشر الميت، وأنشره
أحياه، وأما الحشر، فهو في اللغة: الجمع تقول حشرت
الناس إذا جمعتهم، والمراد: جمع أجزاء الإنسان بعد تفرقها، ثم إحياء الأبدان بعد موتها، فيبعث الله جميع العباد، ويعيدهم بعد موتهم ويسوقهم إلى محشرهم، لفصل القضاء، بالكتاب، والسنة والإجماع.
وأما النفخ في الصور، فإذا أطلق فالمراد به: نفخة البعث والنشور، وينفخ فيه ثلاث نفخات.
نفخة الفزع: وهي التي يتغير بها العالم، قال تعالى:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] . أي رجوع ومرد وقال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] . سميت نفخة الفزع، لما يقع من هول تلك النفخة.
والنفخة الثانية: نفخة الصعق، وفيها هلاك كل شيء، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] . وفسر الصعق بالموت، وهو متناول حتى الملائكة، والاستثناء متناول لمن في الجنة، من الحور العين وغيرهم.
والثالثة: نفخة البعث والنشور، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] . وقال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] .
وأخرج ابن جرير والبيهقي وغيرهما، من حديث أبي هريرة، «قلت: وما الصور؟ قال: قرن عظيم، إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى الفزع والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين.
كذا وقوف الخلق للحساب (1)
…
والصحف والميزان للثواب (2)
(1) أي: كما يجب الجزم بالبعث والنشور يجب الجزم بقيام الخلق، من الإنس، والجن والدواب، والطير، وغيرهم، لرب العالمين، قال تعالى:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] . وفي ذلك الموقف أهوال عظيمة، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وهو حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين، حفاة عراة غرلًا، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، ينزل فيه الرب لفصل القضاء، يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية. هذا العرض للحساب، ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93] . {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] . ويدخل الله الجنة أقوامًا بغير حساب، كما في الصحيحين:«هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وذكر أنهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» .
(2)
أي: ويجب الجزم بأخذ الصحف -جمع صحيفة- وهي صحف الأعمال، قال تعالى:{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] . {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] . فنشر الصحف وأخذها باليمين، أو الشمال، يجب الإيمان به، لثبوته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وقدم الحساب عليه للقافية، أو تقديمًا للمقاصد على الوسائل.
وقوله: والميزان؛ أي يجب الجزم بالميزان، لأجل ثواب الأعمال الصالحة، وغب السيئات الفاضحة، فنؤمن بأن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع، وأن له كفتين بهما صحائف الأعمال، وقد بلغت أحاديثه حد التواتر.
وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
قال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102-103] . فيحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة؛ وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم ويقررون بها، ويجزون عليها.
كذا الصراط ثم حوض المصطفى
…
فيا هنا لمن به نال الشفا (1)
(1) وكذا يجب الجزم بثبوت الصراط، وهو في اللغة: الطريق الواضح؛ وفي الشرع: جسر منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين
الجنة والنار، ويرده الأولون والآخرون، فيمرون عليه على قدر
أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق،
ومنهم من يمر كالطير، وكأجاود الخيل والركاب، تجري بهم أعمالهم، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف ويلقى في
جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة فإذا عبروا وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول
الجنة.
وقوله: ثم حوض المصطفى: أي: اجزم بثبوت حوضه صلى الله عليه وسلم فهو حق ثابت بإجماع أهل الحق، متواتر عنه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين:«حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبدًا» .
وفي الصحيحين: «إن قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء» . فيا هنا لشخص نال الشفاء بالشراب من ذلك الحوض.
وقال المصنف أي: أيها الشراب السائغ الهني الآتي بلا مشقة، أقبل على شخص، بسبب الشرب منه، نال الشفاء من ظمأ ذلك اليوم، والشفاء هو الدواء.
عنه يذاد المفتري كما ورد (1)
…
...................................
(1) أي: عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم وعن الشراب منه؛ يذاد، أي: يطرد المفتري، من الفرية، الكاذب على الله ورسوله، من المحدثين في الدين كما ورد، ففي صحيح مسلم:«ليردن على الحوض أقوام، فيختلجون دوني، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
وفي الصحيحين: «أنا فرطكم على الحوض، من ورد
شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداًَ، وليردن علي أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا، لمن بدل بعدي» . وفيهما أيضًا:«إني على الحوض أنظر من يرد علي منكم، ويؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي» . وفي رواية: «فأقول: أصحابي فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، فوالله ما برحوا يرجعون على أعقابهم» .
..................................
…
ومن نحا نحو السلامه لم يرد (1)
فكن مطيعاًًً واقف أهل الطاعة
…
في الحوض والكوثر والشفاعه (2)
(1) أي: وأي شخص قصد طريق السلامة، ونهج الحق، وسلم من البدع، يرد عليه صلى الله عليه وسلم الحوض، لا يرد عن الشرب منه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مما مر وغيره.
(2)
أي: فكن أيها الناظر للنظم، مطيعًا لما جاءت به الأخبار واقف أي: اتبع أهل الطاعة، من فرقة أهل السنة والجماعة، وفي إثبات الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة وإثبات الكوثر وهو نهر في الجنة، أو هو الخير الكثير، ومنه النهر. وفي صحيح مسلم في الكوثر، قال:«هو نهر أعطانيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة» .
وفي صحيح البخاري: «بينا أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت ما هذا يا جبرائيل؟ قال هذا الكوثر الذي
أعطاك ربك» . وللترمذي وصححه «سئل: ما الكوثر؟ قال:
ذاك نهر أعطانيه الله -يعني: في الجنة- أشد بياضًا من اللبن،
وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر» . وقد تواترت الأحاديث من طرق تفيد القطع بنهر الكوثر، وكذلك أحاديث الحوض.
وفي صحيح مسلم، في صفة الحوض: أنه يشخب فيه ميزابان من السماء، من نهر الكوثر. وصرح بعض أئمة السلف، أن الذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الكوثر: أنه نهر عظيم في الجنة والواردة في الحوض: أنه حوض عظيم، في عرصات القيامة، يمد من شراب الجنة، من نهر الكوثر.
وقال القرطبي: الكوثر: حوضان؛ أحدهما في الموقف قبل الصراط؛ والثاني: في الجنة؛ وكلاهما يسمى كوثرًا، والله أعلم.
وقوله: والشفاعة؛ أي: واتبع أهل السنة في إثبات الشفاعة.
وهي لغة: الوسيلة والطلب.
وعرفًا: سؤال الخير للغير؛ مشتقة من الشفع ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له.
فإنها ثابتة للمصطفى
…
كغيره من كل أرباب الوفا (1)
من علم كالرسل والأبرار (2)
…
...................................
(1) أي فإن الشفاعة العظمى، وغيرها من سائر الشفاعات، الآتي ذكرها، ثابتة بالنقل الصحيح المتواتر للمصطفى صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لغيره، من كل أصحاب الوفاء بامتثال الأوامر، والانتهاء عن الزواجر.
(2)
أي: الشفاعة ثابتة لأرباب الوفاء، من عالم عامل بعلمه، معلم
لغيره؛ وهم الربانيون، وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، فكما نفعوا الناس
في الدنيا بالتعليم، كذلك ينفعونهم بالشفاعة عند الله، كالرسل، جمع رسول، وهو: من أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه؛ وكذا الأنبياء، وهؤلاء هم خواص الخلق عند الله، والأبرار، وهم الأتقياء الأخيار.
فيجب أن يعتقد: أن غير النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الرسل، والأنبياء، والملائكة، والصحابة والعلماء، والشهداء، والصالحين، والصديقين، والأولياء، والأفراط، وغيرهم يشفعون عند الله بإذنه، لمن رضي قوله وعمله، كما ثبتت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه المسلمون.
..................................
…
سوى التي خصت بذي الأنوار (1)
(1) أي: سوى الشفاعات التي خصت بصاحب الأنوار محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يشاركه فيها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا صديق، ولا شهيد، ولا غيرهم.
الشفاعة الأولى: يشفع في أهل الموقف، حتى يقضى بينهم، بعد أن تتراجع الأنبياء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، الشفاعة، حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، وهذا هو المقام المحمود، الذي يحمده فيه الأولون والآخرون.
والشفاعة الثانية: يشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة؛ وهاتان الشفاعتان، خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها؛ ويخرج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.