المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع في المضحكات المطولات - حدائق الأزاهر

[ابن عاصم الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌حدائق الأزاهر

- ‌لابن عاصم الغرناطي

- ‌حققه وقدم له أبو همام

- ‌عبد اللطيف عبد الحليم

- ‌الإهداء

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌ الحديقة الأولى:

- ‌ الباب الأول في مسكت الجواب ومفحم الخطاب

- ‌الباب الثاني

- ‌الباب الثالث

- ‌هنيئاً مريئاً، غير داء مخامر=لعزة من أعراضنا ما استحلت

- ‌الحديقة الثانية

- ‌الباب الأول في ترويح الأرواح بمستحسن المزاح

- ‌الباب الثاني في المضحكات الحسنة، الخفيفة على الألسنة

- ‌الباب الثالث في المضحكات الشعرية

- ‌الباب الرابع في المضحكات المطولات

- ‌الحديقة الثالثة

- ‌الباب الأول في النوادر المستغربة والنكت المستعذبة

- ‌الباب الثاني في أخبار الأعراب والمتنبئين ونوادر المجان والمستخفين

- ‌فصل في المتنبئين

- ‌الباب الثالث في أخبار المغفلين وأهل البله وما يحكى عن المجنونين، ومن لا عقل لهم

- ‌الحديقة الرابعة في الوصايا والحكم وفيها باب الواحد

- ‌الباب الأول

- ‌الحديقة الخامسة في أمثال العامة وحكمها وفيها باب واحد مرتب على حروف المعجم وفيه

- ‌ال‌‌فصلالأول

- ‌فصل

- ‌أشهر من الريحان في دار العرس

- ‌حرف الألف

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌حرف الباء

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌فصل

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزين

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف الظاء

- ‌حرف الكاف

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌حرف اللام

- ‌حرف الميم

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌حرف النون

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف العين

- ‌حرف الغين

- ‌حرف الفاء

- ‌حرف القاف

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الهاء

- ‌حرف الواو

- ‌حرف لام الألف

- ‌حرف الياء

- ‌الحديقة السادسة في الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة

- ‌الباب الأول في الحكايات المستطرفة والأخبار المستظرفة

- ‌الباب الثاني في الحكايات والأخبار ذوات الأشعار

- ‌الباب الثالث في حكايات الأولياء والصلحاء والزهاد، وما يرجع إلى ذلك

الفصل: ‌الباب الرابع في المضحكات المطولات

‌الباب الرابع في المضحكات المطولات

كان المأمون جالساً مع ندمائه ببغداد، مشرفاً على دجلة، وهم يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط، إلا ونقص من عقله، بمقدار ما طال من لحيته، وما رأيت قط عاقلاً طويل اللحية، فقال له بعض جلسائه: ولا يرد على أمير المؤمنين، قد يكون في طول اللحى أيضاً عقل، فبينما هم يتذاكرون في هذا، إذ أقبل رجل كثير اللحية، حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هذا رجل عاقل، وقال آخر: يجب أن يكون هذا قاضياً، فقال المأمون لبعض الخدم: علي بالرجل، فلم يلبث إلا وصعد إليه، ووقف بين يديه، فسلم، فأجاد السلام، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن النطق فقال له المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدونة، قال: والكنية؟ علويه، فضحك المأمون، وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟ فقال: أنا فقيه أجيد الشرع في المسائل، فقال له: نسألك عن مسألة، فقال له الرجل: سل عما بدا لك، فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترة شاة من رجل، فلما أخذها المشتري خرجت من استها بعرة، فقأت عين رجل، على من تجب دية العين؟ قال: فأطرق طويلاً ينظر بالأرض ثم قال: تجب على البائع دون المشتري؟ قال: إنها لما باعها لم يشترط أن في استها منجنيقاً، قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وضحك كل من حضر، وأنشأ المأمون يقول:

ما أحد طالت له لحية

فزادت اللحية في هيئته

إلا وما ينقص من عقله

أكثر مما زاد في لحيته

وكان المعتصم يأنس لعلي بن الجنيد الإسكافي، وكان عجيب الصورة والحديث، فقال المعتصم لابن حماد: اذهب إلى ابن الجنيد، وقل له: يتهيأ ليزاملني، فأتاه، فقال له: تهيأ لمزاملة أمير المؤمنين، فقال: وكيف أتهيأ؟ أهيئ رأساً غير رأسي، أشتري لحية غير لحيتي؟ فقال ابن حماد: شروطها الإمتاع بالحديث، والمذاكرة، وألا تبصق ولا تسعل، ولا تمتخط، ولا تتنحنح، وأن تتقدم في الركوب إشفاقاً عليه من الميل، وأن يتقدمك في النزول، فمتى لم يفعل المعادل هذا كان هو ومثقلة الرصاص التي تعدل بها القبة واحداً، فقال لابن حماد: اذهب، فقل له: ما يزاملك إلا من أمه زانية، فرجع إلى المعتصم وأعلمه، فضحك. وقال: علي به. فلما جاء قال: يا علي، أبعث إليك أن تزاملني، فلا تفعل؟ فقال: إن رسولك هذا الأرعن جاءني بشروط حسان السامي، وخالويه الحاكي، فقال لي: لا تبصق، ولا تعطس، وهذا لا أقدر عليه، فإن رضيت أن أزاملك فإذا جاءني الفسا والضراط فسوت وضرطت، وإلا فليس بيني وبينك عمل، فضحك المعتصم حتى استلقى، وقال: نعم، زاملني على هذه الشروط، فسار ساعة، وقال: يا أمير المؤمنين، قد حضر ذلك المسالح. قال: ذلك إليك، قال: يحضر ابن حماد، فأحضر فناوله كمه، وقال: أجد في كمي دبيب شيء، فانظره ما هو، فأدخل رأسه فشم رائحة الكنيف، فقال: لا أرى شيئاً، ولكني أعلم أن في جوف ثيابك كنيفاً، والضحك قد ذهب بالمعتصم كل مذهب، وابن الجنيد يخرج ريحاً متصلاً، ويقول لابن حماد: قلت: لا تتمخط، ولا تسعل، فسلحت عليك، ثم صاح: قد نضجت القدر، وأريد أن أسلح، فأخرج المعتصم رأسه من العمارية، وصاح: ويحك، يا غلام، الأرض الساعة؛ فإني أموت.

ولما خرجت الخيزران إلى الحج، تلقاها أبو دلامة، فصاح: الله، الله، في أمري، فسألته عن أمره، فقال: إني شيخ كبير، وأجرك في عظيم، تهبين لي جارية؛ تؤنسني وترفق بي، وتريحيني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، وأطالت كدي، وعاف جلدها جلدي، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها، فوعدته بها، فلما قدمت الخيزران من الحج، دخل أبو دلامة على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فرفع إليها رقعة، فدفعتها إلى الخيزران، وفيها:

أبلغني سيدتي، إن شئ

ت، يا أم عبيدة

أنها، أرشدها الله،

وإن كانت رشيدة

وعدتني قبل أن تخ

رج للحج وليدة

إنني شيخ كبير

ليس في بيتي قعيدة

غير عجفاء عجوز

ساقها مثل القديدة

وجهها أقبح من حو

ت طري في عصيدة

ما حياتي مع أنثى

مثل عرسي بحميدة

ص: 40

فضحكت، واستعادت: حوتاً في عصيدة، وهي تضحك، ثم قالت لجارية: خذي ما عندك، وامشي إليه، فلما بلغها الرسول منزله، لم يجده، فدفعها إلى امرأته، ودخل دلامة ابنه، وأمه تبكي، فسألها فأخبرته وقالت: إن أردت بري يوماً من الدهر فاليوم، قال لها: قولي ما شئت أفعل، قالت: تدخل إلى الجارية، وتعلمها أنك مالكها، فتطؤها، فتحرم عليه، وإلا شغلته فجفاني وجفاك، ففعل، وجاء أبو دلامة فسألها عنها، فقالت: هي في ذلك البيت، فدخل، ومد يده وذهب ليقبلها، فرأت شيخاً قبيح الوجه، فقالت: تنح عني، وإلا لطمتك لطمة أدق بها أنفك، فقال: أو بهذا أوصتك سيدتك؟ فقالت: إنها بعثتني إلى فتى، من صفته كذا وكذا، وقد نال مني حاجته، فعلم أنه وهي من دلامة وأمه، فخرج ولطمه ولببه، وحلف ألا يفارقه حتى يوصله إلى المهدي، فمضى على تلك الحالة، حتى دخل على المهدي، فقال له: ما لك؟ ويحك، فقال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمله أحد بأحد، ولا يرضيني إلا أن تقتله، وأخبره الخبر، فضحك منه، فقال: علي بالسيف والنطع، فقا دلامة: اسمع حجتي يا أمير المؤمنين كما سمعت حجته، قال: هات، قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً، هو ينكح أمي منذ أربعين سنة، فما غضبت ونكحت جاريته مرة واحدة، فغضب المهدي أشد من ضحكه الأول، وقال: دعها له، وأنا أعطيك خيراً منها، قال: على أن تخبئها لي بين السماء والأرض، فصرفهما، وحلف لدلامة: إن عاد ليقتله.

وأقبل دلامة إلى أبيه في محفل، فجلس بين يديه، وقال للجماعة: إن شيخي كما ترون قد كبرت سنه، ورق جلده، ورق عظمه، وبنا إلى حياته حاجة، ولا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه، ويبقي قوته، فيخالفني، وأسألكم أن تسألوه قضاء حاجة، فيها صلاح جسمه، فقالوا: حباً وكرامة، فأخذ أبو دلامة بألسنتهم، فقال وقولوا: للخبيث: ليقل ما يريد، فستعلمون أن لم يأت إلا ببلية، فقال: إنما يقتله كثرة النكاح، ولا يقطعه عنه إلا الخصا، فتعاونونني عليه حتى أخصيه، فضحكوا منه، ثم قالوا لأبيه: قد سمعت، فما عندك؟ قال: قد عرفتكم أنه لم يأت بخير، وقد جعلت أمه حكماً بيني وبينه، فدخلوا إليها وقصوا القصة عليها، فأقبلت على الجماعة، وقالت: إن ابني - أبقاه الله - قد نصح أباه وأبره، وأنا إلى بقاء أبيه، أحوج منه إليه، إلا أن هذا أمر لم تقع به تجربة عندنا، ولا جرت به عادة، وهو قد ادعى معرفة هذا، فليبدأن بنفسه، فإذا هو عوفي، ورأينا ذلك قد أبقى عليه أثراً محموداً، استعمله أبوه على علم، فجعل القوم يعجبون من اتفاقهم في الخبث.

وقال الفقيه أبو عمرو بن حكم: خرج رجلان من بلدهما من الضياعة والفقر، فلما وصلا إلى بلد آخر، وجدا بخارج تلك البلدة وادياً فيه أشجار كثيرة، فقطعا منها، وصنعا بيتاً في خارج البلدة، ونادى مناديهما: من أراد أن ينظر شيئاً ما رآه قط، فليأت الموضع الفلاني، فاجتمع الناس إليهما، وقعد أحدهما في داخل البيت، ووقف الآخر خارج البيت، وقال للناس: من أراد أن يرى عجباً يعطي درهماً ويدخل البيت، فتشوق الناس إلى ذلك، فدخل شخص، فرأى الرجل وبين يديه رجل حمار، فقال له: هذا في است من يقول لأحد ما رأى فخرج وهو يضحك، فقال له الناس: ما رأيت؟ قال: ادخلوا تروا ما رأيت ومضى، فلم يزل الناس يدخلون كذلك إلى آخرهم، واجتمعت له جملة كبيرة من دراهم.

ودخل أبو العيناء على عبيد الله، وبين يديه شطرنج يلعب به، مع بعض أولاده، فقال له عبيد الله: من أي الحزبين تريد أن تكون؟ قال: معك، فلم يكن بأسرع من أن قال: قد غلبنا، ولزمك من القمار عشرون رطلاً من الثلج، قال: احضره أيها الأمير، ولكن تأذن لي أن أمضي إلى داري أوصيهم بما أحتاج إليه، حتى يدرك الطعام، وأوافيك بالثلج، فقال: امض، ولا تتأخر، فركب حماره، ومضى لأبي العباس بن ثوابة، فقال له: الأمير يدعوك الساعة، فلبس ابن ثوابة ثيابه، وركب دابته وصار معه أبو العيناء، فما شعر عبيد الله إلا بأبي العيناء مع ابن ثوابة قد وافى، فسر بذلك، فقال أبو العيناء: كلفونا أربعين رطلاً من الثلج، وقد جئتك بثلج مذاب كله، فخذ منه ما شئت، فضحك عبيد الله حتى استلقى.

ص: 41

ودخل عبادة المغني دار المتوكل، فرأى فيها رطباً قد تساقطت، فجعل يلتقطها، فمد أحد أولاد المتوكل يده إلى است عبادة، وقال له: يا عبادة، من فتح لك هذه الثقبة؟ قال عبادة: الذي فتح لأمك ثقبتين، فشكاه إلى أبيه، فأمر أن يؤتى به فخرج عبادة فاراً بنفسه، فبينما هو يسير، إذ رأى غاراً فدخل فيه، وبنى عليه بحجارة، ودخل إلى قعره فإذا بأسد الفتح بن خاقان متصيداً، فمر بذلك الموضع، فسمع صوت الطنبور، في داخل الغار، فقال: اهدموه، فلما فتح خرج الأسد عليهم فاراً بنفسه، وعبادة من خلفه، فقال: ما هذا يا عبادة؟ قال: إن أمير المؤمنين جعلني هنا أعلم هذا الأسد ضرب الطنبور، وقد نفرتموه علي، وأنا أحشى عقوبته، ولا آمن أن يقتلني عليه، فقال الفتح: لا تخف، أنا أستوهب ذنبك، وأنسب الذنب في ذلك إلى نفسي، فرجع معه إلى المتوكل، فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، إني استوهبتك عبادة؛ فقد ضمنت له النجاة، وإن الذنب الذي أذنب، أنا أذنبته، قال: والله ما غرضي إلا أن أقتله؛ لأن ذنبه كبير، حمله عليه كثرة الدالة علينا، حتى تعرض لحرمنا، فقال الفتح: وكيف ذلك؟ فقال له: ما تقدم من قوله، فقال الفتح: العفو يا أمير المؤمنين، والله ما علمت بذلك، ولكن اتفق لي معه كذا وكذا، فضحك المتوكل عند ذلك، وأمر بإحضاره.

وكان محمد بن جعفر بخيلاً، فجلس يوماً مع ندمائه، فقال بعضهم: ما في الأرض أمشى مني، فقال ابن جعفر: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة أنفس، وهل يحمل الرجلين إلا البطن، فقال آخر: أنا والله لا أقدر أن أمشي، فقال له: وكيف تستطيع المشي، وأنت تحمل في بطنك ما يثقل ثلاثين رجلاً، وهل ينطلق مشي الإنسان إلا بخفته، فقال الآخر: أما أنا فما نمت البارحة من وجع ضرس، فقال: وكيف لا تشتكي، وأي ضرس يصبر على الدق والطحن مثل ضرسك؟ فقال آخر: ما اشتكيت قط ضرسي، وما تخلخل من موضعه، فقال له: ذلك من كثرة المضغ؟ فإنه يشد الأسنان، ويقوي اللثة، وقال آخر: ما أظن أحداً أكثر شرباً للماء مني، وما أروى منه، فقال: لابد للبطن من الماء حتى يبله ويرويه، وأما أنت والله لو شربت الفرات ما استكثرته لك؛ لما أرى من كثرة أكلك، فقال آخر: وأنا لا أشرب ماء، فقال: لكثرة ما تأكل؛ لأن البطن إذا امتلأ لم يحتج لشيء، فقال آخر: والله ما أنام من الليل إلا قليلاً، فقال له: وكيف تدعك التخمة تنام؟ أتدري أن من أكل كثيراً وشرب غزيراً لا يكون ليله كله إلا يسحل ويبول؟ فقال آخر: أما أنا فإني أنام الليل كله، قال: أمارة على الشبع؛ لأن الطعام إذا كثر في البطن يسكن البدن والأعضاء، ويملأ العروق، فيسترخي منه كل شيء، وقال آخر: أصبحت لا أشتهي شيئاً، فقال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً؛ فإن القليل على غير شهوة أضر من الكثير على شهوة، وإياك من الأكل الكثير؛ فإنه يتخم، وأكثر ما يكون الموت من التخمة، فعليكم بالإقلال من الطعام والشراب في كل الأزمان.

وكان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدماً في شأنه، فسار الكوفي إلى البصرة، فلما قدم عليها قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح، جئتك من الكوفة؛ لما بلغني خبرك، فرحب به، وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل، فأتى جباناً فقال له: أعندك جبن؟ قال: عندي جبن كأنه سمن، فقال في نفسه: لم لا أشتري سمناً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى من يبيع السمن، فقال له: أعندك سمن؟ قال: عندي سمن كأنه زيت، فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتاً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى زيات، وقال: أعندك زيت؟ فقال: عندي زيت صاف كأنه الماء، فقال في نفسه: لم لا آخذ ماء حين يضرب به المثل؟ فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدمها للضيف مع كسيرات يابسة، وعرفه كيف جرى له، فقال الكوفي: أنا أشهد أنك بالإصلاح أحق من أهل الكوفة.

ص: 42

وحكى المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت أمها: دعني أسأل عنك، فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحي، فدل على شيخ منهم، كان يحسن المحض في الأمر، فأتاه وسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به، قالت له: كيف لسانه؟ فقال: مدره قومه وخطيبهم، قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار، حامي الذمار، قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال قومه وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ: ما أحسن - والله - سلم، ما دار ولا بار، ثم جلس فقال: ما أحسن - والله - ما جلس ما دنا ولا نأى، وذهب الفتى ليتحوط، فأخرج ريحاً فقال: ما أحسن - والله - ما أغنها، وما أطنها، ولا بربرها، ولا فرفرها، ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن - والله - ما نهض، ما أبطأ ولا أسرع، فقالت المرأة: حسبك بهذا، وجه إليك من يرده، فوالله، لو سلح في ثيابه لزوجناه.

وسمع بعض الملوك أن ملك الروم المجاور له عزم على أن يدخل أرضه ويحصر بعض بلاده، فأراد أن يبعث إليه رسولاً، يطلب منه الصلح، فشاور وزراءه، ونبهاء فرسانه فيمن يبعث إليه، فأشار عليه كل واحد منهم برجل من كبار خدامه، ونبهاء فرسانه، وسكت منهم واحد، فقال له الملك: لم سكت؟ قال: لا أرى أن ترسل واحداً ممن ذكروا، قال: فمن ترى أن ترسل؟ فقال له: فلان، وذكر له رجلاً غير وجيه، ولا مشهور بنباهة ولا بفصاحة، فقال له الملك: أتهزأ بي في مثل هذا؟ وظهر عليه الغضب، فقال له: معاذ الله يا مولاي، ولكنك تريد أن تبعث إليه من نرجو رجوعه، مقضي الحاجة، قال: وذلك مرادي، قال: وإني فكرت ونظرت فلم أجد غير ذلك الرجل؛ لأنك وجهته في كذا فأنجح، وفي كذا فقضيت حاجته، وما ذلك إلا بنجحته، لا بفصاحته، ولا نباهته ولا شجاعته، فقال له: صدقت، وأمر أن يوجه عنه، فجاءه، وأمر أن يدفع إليه كل ما يحتاج إليه في السفر، فدفع إليه، وخرج، فسمع ملك الروم أن يأتيه رسول، فقال لخدامه: إن هذا الرسول الذي هو يأتي من أكبر من عند المسلمين، فإذا وصل فأدخلوه قبل إنزاله، فإن فهم عني ما أقوله له أنزلته، وقضيت حاجته، وإن لم يفهم عني، لم أنزله، ورددته غير مقضي الحاجة، فلما وصل أدخل عليه، فلما سمع عليه أشار إليه ملك الروم بأصبعه الواحد إلى السماء، فأشار ذلك الرجل بأصبعه إلى السماء والأرض، فأشار النصراني بأصبعه قبالة وجه الرجل، فأشار الرجل بأصبعين قبالة وجه النصراني، فأخرج النصراني زيتونة من تحت بساطه، وأشار بها إلى الرجل، فأخرج الرجل بيضة من تحته وأشار بها إليه، فطابت نفس النصراني وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سأله: فيم جاء؟ فأخبره، فقضى حاجته وصرفه، فقيل للنصراني: ما قلت له حتى فخمك، وقضيت حاجته؟ فقال: ما رأيت أفهم منه ولا أحذق، أشرت له بأصبعي إلى السماء، أقول له: الله واحد في السماء، فأشار لي بأصبعه إلى السماء وإلى الأرض يقول لي: هو في السماء وفي الأرض، ثم أشرت له بأصبعي قبالته أقول له: جميع ما ترى من الناس إنما أصلهم واحد وهو آدم، فأشار إلي بأصبعين يقول لي: أصلهم آدم وحواء، ثم أخرجت له زيتونة أقول له: انظر، ما أغرب حال هذه، فأخرج هو بيضة، وقال: حال هذه أغرب من تلك؛ لأنه يخرج منها حيوان، فهي أعجب، فلذلك قضيت حاجته، فقيل بعد ذلك للرجل: ما الذي قال لك النصراني حين أشار إليك وفهمته؟ قال: والله، ما رأيت أثقل روحاً، ولا أجهل من ذلك النصراني ساعة وصولي إليه، يقول لي: آخذك في طرف أصبعي وأرفعك هكذا، فقلت له: أنا أرفعك بأصبعي هكذا، وأنزلك في الأرض هكذا، فقال لي: أخرج عينك بأصبعي هكذا، فقلت له: أنا أخرج عينيك الاثنتين بأصبعي هذين، فقال: ليس معي ما أعطيك إلا هذه الزيتونة، بقيت من غدائي، قلت له: يا محروم، وأنا أخير منك، فإني بقي لي من غدائي هذه البيضة، ودفعتها له، ففزع مني وقضى حاجتي.

ص: 43

وكان بالكوفة رجل مشهور بالبرد. فسمع أن بالبصرة رجلاً آخر أبرد منه، فقال: لابد أن أختبره، حتى أرى من أبرد منا، فأخذ كراريس من الكاغد كثيرة، وصنع منها سفراً كبيراً وسفره وكتب فيه: سلام عليكم، وفرق الحروف في بعض الأوراق وترك سائرها بياضاً، ودفعه لميار، وقال: تدفعه بالبصرة لفلان، وتطلب منه الجواب، فأخذه الميار، وذهب إلى البصرة، وسأل عن الرجل، فدل عليه، فأتاه، ودفع إليه السفر وقال له: أريد جواب ما فيه، قال: نعم، غداً إن شاء الله، ثم فتحه فوجد أوراقه بيضاً، فجعل يحول الأوراق، فوجد السين ثم اللام حتى كمل سلام عليكم، ولم يجد غير ذلك، ففكر في نفسه، فعلم أن ذلك من فعل بارد مثله يرى أن يقيسه فذهب إلى نجار، وقال له: اعمل لي تابوتاً كبيراً، فعمله له، فلما عاد الميار يطلب الجواب، قال له: تأتي غداً، وتأخذ هذا التابوت وتحمله للذي لك الكتاب وتقول له: هذا جوابك، وهذا مفتاح التابوت تدفعه له، ثم دفع أجرته، وقال: إني أسافر الليلة، فإذا كان غداً فأت إلى هنا، وخذ التابوت، فيه ما يحتاج من المأكول والمشروب، وغلقه، وإذا بالميار قد جاء، فأخذ التابوت وذهب، فلما وصل إلى الكوفة أتى الرجل الذي دفع له الكتاب: فقال: هذا التابوت جواب كتابك، ثم دفع له المفتاح ففتحه، فخرج منه الرجل، وقال وعليكم السلام ورحمة الله، فقال له: أشهد أنك أبرد مني ومن جميع الناس.

وحكى أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكانت له قينتان يقال لإحداهما: رشأ وللأخرى جؤذر، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك، لا يكاد يفارق مجالس المتظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال له المضحك: أصلحك الله، أنت في لذتك، ولا لذة لي، قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذاً؛ فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر، فلما شربه المضحك، تحركت عليه بطنه، وتناوم عنه الهاشمي، وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر، واضطر إلى البراز، قال: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحض، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

رحضت فؤادي فخليتني

أهيم من الحب في كل واد

فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيتين، وأهل مكة يسمونه المخارج، فقال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

خرجت بها من بطن مكة، بعد ما

أقام المنادي بالعشاء فأعتما

فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم تفهما علي، أظنهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذهب؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

ذهبت من الهجران في كل مذهب

ولم يك حقاً كل هذا التجنب

فغنتاه الصوت، فقال في نفسه: لم تفهما عني، ما أظنهما إلا مدينتين، وأهل المدينة يسمونه: بيت الخلاء، فقلت لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

خلى علي أخو الأحزان إذ ظعنا

من بطن مكة، ألتسهيد والحزنا

قال: فغنتاه، قال:(إنا لله وإنا إليه راجعون) ، ما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: أين بيت الحش؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

أوحش الخبران فالربع منها

فمناها، فالمنزل المعمور

فاندفعتا تغنيانه، فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: أين الكنيف؟ فقالت إحداهما: نعس سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل، قالت: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

تكنفني الهوى طفلا

فشيبني، وما اكتهلا

قال: فغلبته بطنه، وعلم أن ذلك منهما ازدراء عليه، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال لهما: كذبتما يا زانيتين، أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه وسلح عليهما، وانتبه الهاشمي، فقال: سبحان الله، أتسلح عن وطائي؟ قال: الذي خرج مني أعز علي منه؛ إن هاتين الزانيتين حسبتاني أني أسأل عن الحش لإخراج الريح، فأعلمتهما ما هو.

ص: 44

وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً، ما سمعه أحد مني قط، وهو أمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً، قلت:(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)، قال لي: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه، قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت، قال: بينما أنا بسوق الإبل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي، وهي تسكته، فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرجت من فيها كسر درهم، فدفعته إلى الصبي فسكت، فإذا وجه رقيق كأنه دري، وإذا شكل رطب ولسان طويل، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني، قلت: إن شرطي الحلال، قالت: ارجع، ومن يريدك على الحرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت في زقاق العطارين، فصعدت درجة، وقالت: اصعد، فصعدت، فقالت: أنا متزوجة، وزوجي رجل من بني مخزوم ولكن عندي جارية، عليها وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصغر سليم، قلت: وما أصغر سليم؟ قالت: بدينار واحد في يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة، وتزويجها صحيحاً، قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت، قال: وصفقت بيديها إلى جارتها، فاستجابت لها، فقالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك، وبحياتي عليك لا تمسي طيباً؛ فحسبنا بدلالك وعطرك فإذا جارية قد أقبلت من أجمل ما يرى، فسلمت وقعدت كالخجلة، فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين، قالت: حياه الله، وقرب داره، قالت: وقد بذل لك من الصداق ديناراً، قالت: أما أخبرته شرطي؟ قالت: لا، والله يا بنية، لقد نسيت، ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شرطي؟ قلت: لا، قالت: أقول لك بحضرتها، وما أظنها تكرهه، هي والله، أفتك من عمرو بن معدي كرب، وأشجع من ربيعة بن مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر، ويغلب عليها السكر، فإذا بلغت تلك الحال، ففيها مطمع، فقلت: ما أهون هذا وأسهله، قالت الجارية: وتركت شيئاً آخر، قالت: نعم، والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وترى مجرداً مقبلاً ومدبراً، قلت: وهذا أيضاً أفعله، قالت: هلم دينارك، فدفعته إليها قالت: فصفقت بيديها مرة أخرى، فأجابتها امرأة، فقالت لها: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة، فإذا بشيخين نبيلين، قد أقبلا، فصعدا، فقصت عليهما القصة، فخطب أحدهما، وأجاز الآخر، وأقررت بالتزويج، وأقرت المرأة، ودعوا بالبركة، ثم نهضنا، فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المثونة فأخرجت ديناراً آخر، ودفعته إليها، وقلت: هذا لطيبك، قالت: لست ممن يمسي طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت، قلت: فاجعلوه لغدائنا اليوم، قالت: أما هذا فنعم، فنهضت الجارية، فأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت فتغدينا، ثم جاءت بوسادة وقضيت وقعدت، ودعت بنبيذ فأعدته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع قط مثله، وإني ألفت بيوت القيان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أخر سروراً وطرباً، فجعلت أروم أن تدنو مني، فتأبى، إلى أن تغنت بشعر لم أعرفه، وهو:

راموا يصيدون الظباء وإني

لأرى تصيدها علي حراما

أعزر علي بأن أروع مثلها

أو أن يذقن على يدي حماما

فقلت: جعلت فداك، من يغني هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج، وابن عائشة، فلما نعى إلينا النهار نفسه، وجاء المغرب، تغنت بصوت لم أعرف معناه؛ للشقاء الذي كتب علي، فقالت:

كأني بالمجرد قد علته

نهال القوم أو خشب البراري

ص: 45

قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به، قالت: أنا أول من تغنى به، قلت: فإنما هو بيت مفرد لا صاحب له، قالت: معه بيت آخر، ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به، قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب، فقمت وصليت، وما أدري كم صليت عجلة وشوق فلما سلمت قلت: أتأذنين لي - جعلت فداك - في الدنو منك، قالت: تجرد، وأشارت إلى ثيابها، كأنها تريد أن تتجرد، فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها، فتجردت، وقمت بين يديها، فقالت: امضي إلى آخر البيت وأقبل حتى أراك مقبلاً ومدبراً، وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى آخر البيت، فخطرت عليه، وإذا خرق إلى السوق تحته، فإذا أنا فيه، قد وقعت في السوق قائماً متجرداً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما، وكمنا لي ناحية، فلما هبطت عليهما، نهضا إلي، فقطعا نعالهما على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت - والله - يا أبا محمد، حتى نسيت اسمي، فبينما أن أضرب بنعال مخصوفة، وأيد شديدة، إذا صوت من فوق البيت يغني:

ولو علم المجرد ما أردنا

لحاذرنا المجرد في الصحارى

فقلت في نفسي: هذا - والله - وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا، وانصرفنا، جعلت طريقي على ذلك الموضع، فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب، قلت: لعنها الله، ولعن الذي هي منه.

وحكى أبو سويد عن أبي العتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينما أنا ذات يوم بباب الكرخ، وأنا سائر، وقد استولى الفكر على قلبي في أبيات شعر نطق بها اللسان، فقلت:

دموع عيني لها انبساط

ونوم عيني له انقباض

فإذا بجارية رائعة الجمال، فائقة الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف، لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:

كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة

في كل جارحة منها لها قمر

وكانت تسمع قولي، فقالت:

هذا قليل لمن دعته

بلحظها الأعين المراض

فأجبتها، فقلت:

فهل لمولاي عطف قلب

أو للذي في الحشا انقراض

فأجابتني فقالت:

إن كنت تبغي الوداد منا

فالود مني ديننا قراض

قال دعبل، فما أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق، فحار - والله - البصر - وذهل اللب، وجل الخطب، وتجلجل اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار، ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني علمي، وذكرت قول بشار:

لا يمنعنك من محذرة

قول تغلظه، وإن جرحا

عسر النساء إلى مياسرة

والصعب يمكن بعدما جمحا

هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه، واليأس منه، فكيف لمن وعد قبل المسألة وبذل قبل الطلب، فقلت مسمعاً لها:

أترى زمان يسرنا بتلاق

ويضم مشتاقاً إلى مشتاق؟

فقالت مجيبة لي في أسرع من نفسي:

ما للزمان يقال فيه، وإنما

أنت الزمان فسرنا بتلاق

ص: 46

قال دعبل: فلاحظتها، فتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما بي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فصرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج فقلت: أحمل لك الخير، معي وجه تقل له الدنيا بما فيها، قد حصل مع ضيقة وعسر، فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك إليه، ايت بها، فلما أتيت ودخلت قال: والله، ما أملك غير هذا المنديل، ففلت: هو البغية، فناولنيه، وقال: خذاه، لا بارك الله فيه، فأخذته وبعته بدينار عين وكسر، فاشترين لحماً وخبزاً ونبيذاً، وصرت إليهما، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور، فقال: ما صنعت؟ فأخبرته، فقال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس، مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ فارجع لتمام ما بدأت، قال: فخرجت، فاضطربت في ذلك حتى رجعت به، فألقيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت، فلم أر لهما خبراً، ولا شيئاً مما أتيت به أثراً، فسقط في يدي، وقلت: أرى صاحب الشرطة أخذهما؟ فبقيت متلهفاً حائراً، أرجم الظن، وأجيل الفكر سائر يومي، فلما أمسيت قلت: يا نفسي، أفلا أدور الدار؛ لعل الطلب يوقعني على أثر، ففعلت، فوقفت على سرداب، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجون إليه، فأكلا وشربا وتنعما، فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: يا مسلم، ويحك، فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً، فكان من إجابته لي أن غنى بصوت يقول فيه:

بت في درعها، وبات رقيبي

جنب القلب، طاهر الأطراف

قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما، فلم يجيباني، وبت بليلة، يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً، حتى إذا أصبحت، ولم آكل، خرج إلي مسلم، فجعلت ألومه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي، وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ فقلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير، فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله، فقالت: أما حق قيادته فتعرك أذنه، وأما حق فضوله فتصفع قفاه، فاستقبلني فعرك أذني وصفع قفاي، فقلت: ما هذا؟ قال: جرى الحكم عليك بما جرى من العدل والإنصاف.

وحكى أبو بكر الوراق قال: حدثني الحسن بن هانئ قال: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد بني فزارة، وذلك في أول أيام الربيع نزلنا بإزاء باديتهم، إذا روض أريض، ونبت عريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنظرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسفت غمامها، وتدانى ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر:

دان مسف، فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالراح

همت برذاذ ثم بطش ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت، وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، ورياضاً مونقة، ونوافح من ريحها عبقه، فسرحت طرفي، واقعاً منها بأحسن منظر، واستنشقت من رياحها أطيب من المسلك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت لواحظها فتوراً، وملئت سحراً؛ فقلت لصاحبي: استنطقها، فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ فقلت: استسقها، فاستسقيناها ماء، قالت: نعم ونعما عين، وإن نزلتم فعلى الرحب والسعة، ثم نهضت تتهادى، كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني - والله - حسنها، وما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، وقلت: وصاحبي أيضاً عطشان، فأخذت الإناء وذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:

إذا بارك الله في ملبس

فلا بارك الله في البرقع

يريك عيون المها غرة

ويكشف عن منظر أشنع

قال وسمعت كلامي، فأتت، وقد نزعت البرقع، ولبست خماراً أسود وهي تقول:

أر حي ركبي معشر قد أراهما

أطالا، ولما يعرفا مبتغاهما

هما استسقيا ماء على غير ظمأة

ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما

ص: 47

فشبهت كلامها بعقد در، وهي سلكه، فانتثر، بنغمة عذبة رخيمة لو خوطب بها صم الصلاب لانجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فلم أتمالك أن خررت ساجداً، وأطلت، من غير تسبيح، فقلت: ارفع غير مأجور، لا تذم بعدها برقعاً، فلربما انكشف عما يمنع الكرى، ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا قضاء وطر، إلا الحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل المكذوب، فبقيت - والله - معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق الصواب، فالتفت إلى صاحبي فقال، لمار رأى هلعي، كالمسلي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة، ولا تدري ما تحته، أما سمعت قول ذي الرمة:

على وجه مي مسحة من ملاحة

وتحت الثياب الشين لو كان باديا

فقالت: أما ما ذهبت إليه، لا أبا لك، فلا، والله؛ لأني بقول الشاعر أشبه:

منعمة حوراء، يجري وشاحها،

على كشح مرتج الروادف أهضم

خزاعية الأطراف، مرية الحشا

فزارية العينين، طائية الفم

لها بشر صاف، وعين مريضة

وأحسن إيماء بأحسن معصم

من قول الأخرق، ثم رفعت ثياباً، حتى بلغت بها نحرها، وجاوزت منكبيها، فإذا فضة قد شيبت بماء الذهب، تهتز على مثل قضيب نقا، وصدر عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقده لانعقد، منطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، وفخذان لفاوان، وساقان تخرسان الخلاخل، وقدمان كأنهما لسانان ثم قالت: أشين ما ترى؟ لا أبالك، قلت: لا، والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقرب من الموت الصراح، فيطبق على الضريح، ويتركني جسداً بغير روح، قال: ثم خرجت عجوز من الخباء، وقالت: امض لشأنك؛ فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدي، قالت: دعيه، فإنه مثل قول غيلان:

فلا تعبن يوماً محياً مبرقعاً

فربتما أشجاك ما أنت عائب

فنحن كذلك، حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب داخل، وأنا أقول:

يا حسرتي مما يحن فؤادي

أزف الرحيل بغربتي وبعادي

ص: 48

فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، مررنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه، وإذا هي تتهادى بين خمس، ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن، وهن يجتلين من حسن ذلك النبات، فلما رأيننا وقفن، فقلنا لهن: السلام عليكم، فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى، قلن لها: أو تعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة، ما تركت حرفاً، قلن لها: ويحك، ما زودته شيئاً يتعلل به؟ قالت: نعم، زودته لحداً ضامراً، وموتاً حاضراً، فانبرت لها أنضرهن خداً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن طرفاً، وأبرعهن شكلاً، فقالت: والله ما أحسنت بدءاً، ولا أجملت عوداً، ولقد أسأت في الرد؛ إذا لم تكافيه في الود، فما عليك لو أسعفته في رغبته، أو أنصفته في مودته، وإن المكان لخال وما معك من ينم عليك، فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً، أو تشركيني في حلوه ومره، قالت لها:(تلك إذا قسمة ضيزى)، قالت أخرى منهن: لقد أطلتن الخطاب من غير فائدة فسلن الرجل عن نفسه وقصته وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه، فقلن: حياك الله، وأنعم بك عيناً، من تكون، وممن أنت، وإلى من قصدت؟ قلت: أما الاسم، فالحسن بن هانئ من اليمن، ثم من سعد العشيرة، وأحد شعراء السلطان الأعظم، ومن يدني مجلسه، ويتقي لسانه، ويرهب جانبه، وأما قصدي، فلتبريد غلة، وإطفاء لوعة، قد أحرقت الكبد وأذابته، قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كريم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك، وتنال بغيتك، ثم أقبلت عليهن فقالت: ما لواحدة منكن عن مثله مرغب، فتعالين نشترك فيه، ونقترع عليه، فمن واقعتها القرعة منا تكن بادئة، فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزاراً على باب غار يجاورهن، وأدخلت فيه، وأبطأن عني، وجعلت أتشوق لدخول إحداهن علي، إذا دخل علي أسود كأنه سارية، بيده شي كالهرارة، ثم صحت بصاحبي، وكان قريباً، فجاء إلي وخلصني منه بعد عسر، فخرجنا من العار، وإذا هن يتضاحكن، ويتهادين إلى الخيمة، فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار، فدعونه، ووسوسن إليه شيئاً: فدخل عليك، قالت: أتراه كان يفعل؟ قال: أتراك في شك من هذا؟ وانصرفت وأنا أختزي. قال أبو بكر مالك أبعدك الله، لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل، حتى ضاق به صدري؛ فرأيتك موضعاً له، فبحقي عليك، لا تذعه، قال: فما فهمت به حتى مات.

ص: 49