الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما بعد فإني جمعت في هذا الكتاب من طرف الأخبار، ورائق الأشعار، ومستحسن الجواب، ومضحكات المولدين والأعراب ونوادر الحكم والأمثال والآداب ما يستحسن ويستطرف، ويستملح ويستظرف من كل نادرة غريبة، أو نكتة عجيبة، أو حكاية بارعة، أو حكمة نافعة، أو قطعة شعر رائعة أو مخاطبة فائقة، مع ما يستفاد في ذلك من الوقوف على مناقب الملوك ومآثرها، ومحامدها ومفاخرها، ومكارم أخلاقها وشيمها، وشرف أنفسها وهممها، وجميل أفعالها وكريم محلها واحتمالها، وعدلها ووفائها، وبأسها وسخائها، وخوفها ورجائها، وحزمها واتقائها، وعزمها وإمضائها، وصفحها وإغضائها، وجدها واعتنائها، وسطوتها وحنانها، واستقباحها واستحسانها، وسيرها وعوائدها، وجوائزها وفوائدها، إلى غير ذلك من معرفة سنن م تقدم من الولاة والأمراء، والكتّاب والشعراء، والأئمة والخطباء، والمؤذنين والفقهاء، والوعاظ والحكماء، والأعراب والغرباء، والمجان والظرفاء، والمجنونين والعقلاء، والطفيليين والبخلاء، وحذاق الجواري والنساء، وأهل التصنع والرياء، والزهاد والأولياء، فأخذت في تبويبه وترتيبه، واجتهدت في تهذيبه وتقريبه، واعتنيت بتأليفه وجمعه، ورددت كل جنس إلى جنسه، وكل نوع على نوعه، وجعلت الشكل فيه مع شكله وضممت المثل إلى مثله، ليسهل النظر فيه على مطالعه، وتحصل الفائدة لقارئه وسامعه، فجاء بحمد الله سبحانه حسن الترتيب، بديع التهذيب، فهو روضه آداب، ومتعة أحداق وأسماع ألباب، فيه تسلية للنفوس وترويح للأرواح، واستجلاب للمسرات والأفراح، وراحة الخاطر، وأنس المجالس والمسامر، وتحفة القادم، وزاد المسافر، وسميته حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر، وجعلته ست حدائق:
الحديقة الأولى:
في المجاوبة البديهية والمخاطبة المرضية، وفيها ثلاثة أبواب:
الباب الأول في مسكت الجواب ومفحم الخطاب
، الباب الثاني في مستحسن الأجوبة التي هي عن ذكاء قائلها معربة، الباب الثالث في أبيات شعر وقعت جواباً، واستعملت خطاباً، الحديثة الثانية: في مداعبة يستجلب بها أبواب: الباب الأول في ترويح الأرواح بمستحسن المزاح، الباب الثاني في المضحكات المستحسنة، الخفيفة على الألسنة، الباب الثالث في المضحكات المستملحة، وإن كانت ألفاظها مستقبحة، الباب الرابع في نوادر أولي العقول والألباب، وحكايات المستخفين والمغفلين من المولدين والأعراب، وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في النوادر المستغربة، والنكت المستعذبة، الباب الثاني في أخبار الأعراب والمتنبئين ونوادر المجان والمستخفين، الباب الثالث في أخبار المغفلين وأهل البله، وما يحكى عن المجنونين، ومن لا عقل له. الحديقة الرابعة: في الوصايا والحكم وفيها باب واحد. الحديقة الخامسة: في أمثال العامة وحكمها، وفيها باب واحد. الحديقة السادسة: في الحكايات الغريبة، والأخبار العجيبة، وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في الحكايات المستطرفة والأخبار المستظرفة، الباب الثاني في مختار الحكايات والأخبار ذوات الأشعار، الباب الثالث في حكايات الأولياء والعباد، والصلحاء والزهاد، وعسى الله أن ينفع بهذا الباب وأهله، ويجعله كفارة للأبواب المتقدمة من قبله، إنه ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق.
الحديقة الأولى
في المجاوبة البديهية والمخاطبة المرضية وفيها ثلاثة أبواب:
الباب الأول في مسكت الجواب، ومفحم الخطاب
قال عقبة بن أبي معيط لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بضرب عنقه يوم بدر: من للصبية؟ قال: النار.
وقال معاوية بن أبي سفيان لرجل من سبأ أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: (ربنا باعد بين أسفارنا) أما كان اجتماع الشمل خيراً لهم؟ فقال اليماني: قومك أحمق منهم حيث قالوا: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) أفلا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له.
وقال معاوية أيضاً لابن عباس رضي الله عنه: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال له ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
ودخل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بن مروان فلم يوسع له أحد في المجلس، ولم ير لنفسه موضعاً يجلس فيه، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد إلا وله من مجلسك موضع فقال له هشام: اجلس حيث انتهى بك المجلس لا أم لك أنت الذي نازعتك نفسك الخلافة، وأنت ابن أمة. فقال له زيد يا أمير المؤمنين إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل عليه السلام أمة فلم يمنعه ذلك من أن يبعثه الله نبياً، وأخرج من صلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان إسحاق أمه سارة حرة، وقد مسخ الله بعض ولده قردة وخنازير.
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أنا خير لك من أخيك، فقال: إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لك من أخي، وأخي خير لنفسه منك.
وقال له يوماً آخر: أين ترى عمك أبا لهب؟ فقال: في النار مفترشاً عمتك حمالة الحطب، وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس.
وقال ابن حازم يوماً لكاتبة يضحك منه: أين تريد يا هامان؟ قال: أبني لك صرحاً.
وقال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنى يا أبا فراس؟ قال: مذ ماتت العجوز أمك.
وقال يهودي حين قتل عثمان رحمه الله، وقعت الفتنة: إنما عهدكم بنبيكم منذ كذا، وقد فتنتم، فقال له رجل من المهاجرين: يا عدو الله، ما جفت أقدامكم من جوار البحر حتى قلتم لموسى:(اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) .
ورمى الحجاج حجراً بين يدي أعرابي، وقال له: أخبرني أذكر هو أم أنثى؟ فقال له الأعرابي: ارفع لي ذنبه وأخبرك.
وقال رجل لامرأته: وكان قبيحاً: إني أتمنى أن أرى إبليس، قالت له: أنا أريكه، قال: وكيف ذلك، فأخرجت له مرآة، وقالت له: انظر إلى وجهك.
وقال محمد بن داود يوماً لابن سريج، وقد أكثر عليه في السؤال: أبلغي ريقي، فقال له ابن سريج: قد أبلغتك دجلة والفرات.
وقال أمير لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فوالله إن ما أوعدك الله به على تركه أعظم مما توعدتني به.
وقال مولى لبني هاشم: رأيت ذا الرمة، وقد عارضه رجل فقال له، يهزأ به: يا أعرابي، أتشهد بما لم تره؟ قال: نعم، قال: بماذا؟ قال: أشهد أن أباك نكح أمك.
وكان للفضل بن سهل وصيفة ظريفة، كثيرة الملح والنوادر وكانت ساقية، وكان أبو نواس يولع بها ويمازحها، فقال لها يوماً: إني أحبك وتبغضينني فلم ذلك؟ فقالت له: لأن وجهك والحرام لا يجتمعان.
ويروى أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان، فحدد النظر إليها، وقال يا بثينة: ما رأى فيك جميل حين قال فيك ما قال؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ما رأى فيك الناس حين ولوك الخلافة، فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء، كان يخفيها، وما ترك لها من حاجة إلا قضاها يومئذ.
وحكى حماد الراوية قال: أخبرني خالد بن كلثوم، قال: أخبرني رجل من بني أسد أنه أدرك مياً، وكان أعور، قال: رأيتها في نسوة من قومها، فقلت: أيتكن مي؟ فقال النسوة: ما كنا نرى أنها تخفى على أحد، هذه هي، قلت: والله ما أدري ما كان لعجب ذا الرمة منك؟ وما أراك كما كان يصفك، فتنفست، وقالت: يرحم الله غيلان، إنه كان ينظر إلي بعينين، وأنت تنظر إلي بعين واحدة.
وكان بسجستان رجل يقال له بدر بن المناقر، وكان أبوه طلب في سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي الشاعر، وجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: إن أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في است أبيه.
ومر نصر بن سيار بأبي الهندي، وهو يتمايل سكراً، فقال له نصر: أفسدت شرفك بإدمانك الخمر، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن والي خرسان.
ومر الفرزدق بماء، وبه نسوة يغسلن ثيابهن، قال: فضرطت بغلته فضحكن منه، فقال لهن الفرزدق: ولم تضحكن؟ والله ما حملتني قط أنثى إلا فعلت كفعلها، فقالت له امرأة منهن: أترى التي حملتك تسعة أشهر كيف كان ضراطها؟ فخجل وانصرف.
ونازع بشاراً رجل في اليمانية والمضرية، وأذن المؤذن فقال له بشار: من الذي يؤذن باسمه مع اسم الله تعالى أمن مضر هو أو من سبأ؟ فسكت الرجل.
وقدم رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك على عقبيك؟ قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه، فسكت عبد الملك، وعلم أن قوله كان خطأ.
ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أجرك رسنك وسلطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم، أو هو يهوي فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه في النار حيث شئت.
ودخل شريك القاضي على المهدي، فقال له الربيع: خنت مال الله، ومال أمير المؤمنين، فقال له شريك: لو كان ذلك لأتاك سهمك.
وقال العبثي، لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو والي العراق، وأتى به مغلولاً مقيداً، فقال له أيها الأمير: إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على قبلك، فأنشدك الله أن تستن في سنة يستن بها فيك من بعدك، فأمر به إلى السجن، فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا تحت الأرض حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً، وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه من هشام بن عبد الملك فوهبه له، فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده إبراهيم، فقال له خالد: أبقت إباق العبد، فقال له: حين نمت نومة الأمة.
وتكلم ربيعة يوماً فأكثر، وإلى جانبه أعرابي، فالتفت إليه وقال: ما تعدون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام، وإيجاز الصواب، قال: بما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم فكأنه ألقمه حجراً.
وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سودك قومك، وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً؟ قال: بخلاف ما فيك يا ابن أخي؟ قال وما ذاك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك، فخجل الرجل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: كذبت، لو كنت كذلك لم تقله.
وقال أبو حنيفة للأعمش - وأتاه عائداً في مرضه -: لولا أن أثقل عليك يا أبا محمد لعدتك في كل يوم مرتين، فقال له الأعمش: والله يا ابن أخي، إنك لتثقل علي وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين؟ ووقف عيينة بن حصين بباب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: استأذنوا لي على أمير المؤمنين، وقولوا له: هذا ابن الأخيار بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: أنت ابن الأخيار؟ قال: نعم، قال: بل أنت ابن الأشرار. وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وقال أبو ضمرة: قدم غيلان بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال: أنت الذي تزعم أن الله أحب أن يعصى؟ قال ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرهاً، فكأنما ألقمه حجراً.
وتكلم إياس بن معاوية مع بعض القدرية فقال: دخولك فيما ليس لك ظلم منك، قال: نعم، قال: فإن الأمر كله لله فلا تدع أن لك شيئاً منه.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما تقول في القدر؟ فقال له علي: أما أني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لأكفرت، وإن قلت: نعم، فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له علي: أخبرني عنك أخلقك الله كما شاء، أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: أفخلقك الله لما شاء أو لما شئت؟ قال: لما شاء، قال: فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال بما شاء، قال: قم فلا مشية لك، فسكت الرجل، ولم يجد جواباً.
ودخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال لثمامة بن أشرس: كلمه، فقال له ما مذهبك؟ قال: أقول إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك الناس منها على قدر عقولهم، ولا حق في الحقيقة، فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوء في وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي هذا في مجلسك؟ قال له ثمامة: وما فعلت بك، قال: لطمتني، قال: ولعلي إنما دهنتك بالبان، ثم أنشأ يقول:
فعساك حين قعدت قمت
…
وحين جئت إلى الذهاب
وعساك تأكل من قفاك
…
وأنت تحسبه كباب
فسكت الرجل، وضحك من حضر.
ولقي أبو العيناء رجلاً من إخوانه في السحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال له: أراك تشاركني في الفعل، وتنفرد دوني بالتعجب.