الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجر على السفهاء في أموالهم
قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءآنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهُمْ وَلَا تَأكلوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ فَإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
صله الآيتين بما قبلهما:
لما بين الله عز وجل في الآيات السابقة وجوب حفظ أموال اليتامى والعدل بين النساء وإيتائهن مهورهن أتبع ذلك ببيان أنه لا يجوز ترك الأموال بأيدي السفهاء عامة من اليتامى والصبيان والنساء وغيرهم لعدم إدراكهم وجوه المصالح والمضار غالباً، ثم أتبع ذلك بالأمر برد المال إليهم إذا بلغوا وزال عنهم السفه (1).
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: {السُّفَهَاءَ أموالكُمُ} بهمزتين محققتين كما هو في الأصل، وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير بإسقاط الهمزة الأولى:(السفها أموالكم) وروي عن نافع تسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى، وروي عنه إبدال الهمزة الثانية ألفاً (2).
قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا} أي: ولا تعطوا، والخطاب للأولياء عامة.
قوله {السُّفَهَاءَ} : مفعول أول لـ «تؤتوا» والسفهاء: جمع سفيه، مأخوذ من السفه، وهي في الأصل الحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر إذا أمالته، قال الشاعر:
رويداً كما اهتزت رماح تسفهت
…
أعليها مر الرياح النواسم (1)
قالوا: والسفه خفة وطيش، ينشأ عنه سوء تصرف في الأقوال والأعمال والأموال.
قال الماوردي (2): «وأصل السفه خفة الحلم فلذلك وصف به الناقص العقل، ووصف به المفسد لماله لنقصان تدبيره، ووصف به الفاسق لنقصانه عند أهل الدين والعلم» .
والسفيه من لا يحسن التصرف. لقصور في عقله: إما لكونه مجنونًا، أو لكونه صغيراً، أو لكونه غير رشيد (3).
والسفه يكون في الدين، كما قال تعالى:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (4)، وقال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} (5)، وقال تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أولَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (6)، وقال تعالى عن الجن أنهم قالوا:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} (7).
ويكون في التصرف في الأموال وهو المراد في قوله هنا: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالكُمُ} بقرينه قوله (أموالكم).
قال الطبري (8): «والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق الحجر
(1) البيت لذي الرمة انظر ديوانه2/ 754.
(2)
في «النكت والعيون» 1/ 363وانظر «أحكام القرآن» للجصاص1/ 488 و «التفسير الكبير» 9/ 151.
(3)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 28.
(4)
سورة البقرة، آية:130.
(5)
سورة البقرة، آية:142.
(6)
سورة الأنعام، آية:140.
(7)
سورة الجن، آية:4.
(8)
في «جامع البيان» 7/ 565، وانظر «معالم التنزيل» 1/ 393، «التفسير الكبير» 9/ 151، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 28.
بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك».
ومن السفه صرف المال فيما يضر ولا ينفع: كآلات اللهو وشرب الخمر، والدخان ونحو ذلك مما لا فائدة فيه تعود على الإنسان، بل هو ضرر محض. قوله {أموالكُمُ} مفعول ثانٍ لـ «تؤتوا» .
والأموال جمع مال، وهو كل ما يتمول من أثمان وأعيان وغير ذلك، والخطاب للأولياء عامة.
والأموال هنا يحتمل أن المراد بها أموال اليتامى والسفهاء، لا أموال المخاطبين، وإنما أضيفت إلى المخاطبين بقوله {أموالكُمُ} ، لأنها تحت ولايتهم وتصرفهم، وللتنبيه على أنه يجب عليهم حفظها كما يجب عليهم حفظ أموالهم الخاصة بهم. وفي هذا توكيد على حفظ أموال هؤلاء السفهاء وتنميتها لهم.
ويحتمل أن المراد بالأموال أموال المخاطبين أنفسهم، نهوا أن يعطوها للسفهاء من أولادهم ونسائهم وغيرهم خشيه إتلافها وإفسادها.
والآية تشمل القولين (1).
قوله {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .
التي: اسم موصول في محل نصب صفة لـ «أموالكم» ، وما بعدها صلة الموصول.
جعل: بمعنى صير، تنصب مفعولين، الأول «ها» مقدرة التقدير: جعلها- يعني الأموال. والثاني «قيامًا» .
قوله: (لكم) الخطاب للأولياء؛ ويحتمل أن المراد به أصحاب الأموال أنفسهم، فالأموال قيام لهم ولأولادهم وأهليهم.
ويحتمل أن المراد به أولياء اليتامى والسفهاء، لأن الأموال قيام للناس جميعًا.
(1) انظر «جامع البيان» 7/ 563 - 574، «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 318 - 319، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 29، «تفسير ابن كثير» 2/ 186 - 187، «فتح القدير» 1/ 425.
قوله (قياماً) قرأ نافع المدني وابن عامر الدمشقي: «قيماً» بغير ألف، وقرأ بقيه العشرة:«قياماً» بالألف (1).
وهي على القراءتين منصوبة مفعول ثانٍ لجعل (2)، وقيل على المصدرية (3)، وقيل على الحال (4).
ومعنى القراءتين واحد، فالأموال جعلها الله قياماً وقيماً، بمعنى أنها تقوم بها مصالح العباد الدينية والدنيوية، فالمال قوام الحياة والمعاش، وبه تقوم الأبدان وبقيام الأبدان يوحد الله ويعبد ويحصل للكون العمران (5). كما قال تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (6) لأنه بسبب الكعبة وحرمة الحرم والإحرام حصل الأمن، وبحصول الأمن تقوم أمور الناس الدينية والنيوية وتصلح أحوالهم، وبهذا صارت قياماً للناس.
قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} الرزق بمعنى العطاء أي أعطوهم منها طعاماً وشراباً وسكناً وفراشاً ومركباً وغير ذلك مما يعطى لغيرهم حسب العرف.
قوله (واكسوهم): الكسوة ما يكسى به البدن من ثوب وقميص وسراويلات وإزار ورداء ونحو ذلك، مما يحتاجونه كسوة لأبدانهم حسب العرف.
والضمير في قوله {وَارْزُقُوهُمْ} وفي {وَاكْسُوهُمْ} كما سبق، يحتمل أن يكون
(1) انظر «معاني القرآن» للفراء1/ 256، «جامع البيان» 7/ 569، «المبسوط» ص 153، «الكشف عن وجوه القراءات السبع» 1/ 376، «التبصرة» ص472، «العنوان» ص83، «تلخيص العبارات» ص81، «الإقناع» 2/ 627، «النشر» 2/ 247.
(2)
انظر «الدار المصون» 2/ 310.
(3)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 31.
(4)
انظر «معاني القرآن» للفراء 1/ 256، «جامع البيان» 7/ 569 - 571، «معالم التنزيل» 1/ 393، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 31، «تفسير ابن كثير» 2/ 186.
(5)
وقيل «قيماً» جمع قيمة أي قيمة للأشياء. انظر «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج 2/ 10، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 31. وهو راجع للأول، فبكونها قيمة للأشياء كانت قياماً للناس تقوم بها مصالحهم الدينية والدنيوية.
(6)
سورة المائدة، آية:97.
لأولاد المخاطبين وأهليهم، ويحتمل أن يكون يكون لمن تحت ولا يتهم من السفهاء من اليتامى وغيرهم ممن ليسوا من أولادهم (1).
وقال في هذا الموضع «فيها» ولم يقل «منها» إشارة إلى أنه ينبغي للأولياء أن ينمُّوا أموال السفهاء، كما ينمُّوا أموالهم، وأن تكون النفقة عليهم من ربح الأموال لا من أصولها، فيكون الرزق فيها لا منها.
قال الزمخشري (2): «أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح، لا من صلب المال، فلا يأكلها الإنفاق» .
قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} .
قولًا: مفعول مطلق، وبينه وبين «قولوا» جناس اشتقاق.
أي قولو لمن تحت ولايتكم قولًا طيباً جميلًا لا غلظة فيه، مما يعرف ولا ينكره الشرع، مما يكون فيه خير وعدة جميلة وتطييب لخواطرهم (3) كأن يقول الولي لمن تحت ولايته من اليتامى ونحوهم: المال لكم وسنحفظه لكم، ونعمل فيه لصالحكم، ثم نرده إليكم، ويقول لمن تحت ولايته من أولاده وأهله: المال لنا ولكم، وسينتقل بعدنا إليكم، ونحو هذا.
وما أحسن هذا بأن يجمع الولي بين الإحسانين: الإحسان الفعلي بإعطائهم وكسوتهم والإحسان القولي بالقول الطيب.
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله (4): «وهذه الآية انتظمت الإحسان إلى العائلة، ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق» .
(1) انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 319، «المحرر الوجيز» 4/ 21.
(2)
في «الكشاف» 1/ 247وانظر «التفسير الكبير» 9/ 152.
(3)
انظر «جامع البيان» 7/ 572 - 573، «معالم التنزيل» 1/ 393، «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 319، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 33.
(4)
في «تفسيره» 2/ 117.