الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} .
قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ} الوأو للاستئناف.
و «إن» شرطية.
«خفتم» فعل الشرط، وجوابه (فانكحوا).
والخوف هنا على بابه (1)، أي: أن غلب الظن ألا تقسطوا.
وقيل «خفتم» بمعنى علمتم، وأيقنتم (2)، كقوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} (3) أي: من علم من موصٍ حنفاً.
والصحيح أن الخوف هنا على معناه (4) فمتى وجد الخوف من عدم الإقساط مع اليتامى وجب العدول عنهن وترك نكاحهن إلى غيرهن، وإن لم يكن عدم الإقساط أمراً معلوماً متيقناً، لأن هذا في الغالب لا تتم معرفته إلا بعد الزواج بهن، أي: بعد العقد والدخول.
قوله: ألا تقسطوا. أي ألا تعدلوا، من «أقسط» الرباعي. بمعنى «عدل» (5) ومنه قوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (6). واسم الفاعل منه «مقسط» ومنه قوله
(1) قال الراغب الأصفةاني: «الخوف توقع مكروه عن أماره مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أماره مظنونة أو معلومة. ويضاد الخوف الأمن» «المفردات» مادة «خوف» .
(2)
انظر «مجاز القرآن» 1/ 114.
(3)
سورة البقرة، آية:182.
(4)
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 310، «المحرر الوجيز» 4/ 13، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 12.
(5)
انظر «معاني القرآن» للأخفش1/ 431، «جامع البيان» 7/ 541، «المفردات» مادة «قسط» ، «المحرر الوجيز» 4/ 13، «التفسير الكبير» 9/ 139، الجامع لحكام القرآن» 5/ 12.
(6)
سورة النساء، آية:135.
تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «المقسطون على منابر من نور» (2).
وأما الفعل الثلاثي «قسط» فمعناه: جار وظلم (3)، واسم الفاعل منه «قاسط» (4) ومنه قوله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (5).
و «اليتامى» جمع يتيم ويتيمه.
والمراد باليتامى هنا اليتامى من النساء (6)، كما قال تعالى:{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} (7).
أي: إن خفتم ألا تعدلوا مع التيمات إذا تزوجتموهن بعدم إعطائهن مثل غيرهن من المهور والنفقات، أو بالإمساك لهن لأجل مالهن من غير حاجه بكم لهن، ومن غير بذل حقوق الزوجية لهن (8)، أو بإجبارهن على الزواج منكموهن كارهات ونحو ذلك (9).
قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} .
الفاء واقعه في جواب الشرط، والجملة جواب الشرط المتقدم في قوله: {وَإِنْ
(1) سورة الحجرات، آية:9.
(2)
أخرجه مسلم في الإماره1827، والنسائي في أداء القضاء5379 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
انظر «معاني القرآن» للأخفش2/ 431، «جامع البيان» 7/ 541، «المفردات» مادة «قسط» ، «المحرر الوجيز» 4/ 13، «التفسير الكبير» 9/ 139، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 12.
(4)
انظر «صحيح البخاري مع الفتح» 13/ 537.
(5)
سورة الجن، آية:15.
(6)
حمل الطبري في تفسيره7/ 541: «اليتامى» هنا على ما يشمل ذكران اليتامى وإناثهم - والله أعلم - لشمل ذلك الأقوال التي قيلت في معنى الآية كما سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.
(7)
سورة النساء، آية:127.
(8)
كما دلت عليه روايتا سبب النزول.
(9)
كما كان تفعله أهل الجاهلية، واستر عليه يعض جهله الأعراب وجفاتهم يحجر الواحد منهم ابنة عمه في حياة عمه.
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة طلبية (1)، ولم يات الجواب بالنهي عن نكاح اليتيمات أو بالأمر بترك نكاحهن إذا خيف عدم الإقساط فيهن - وإنما جاء الأمر بنكاح ما طاب لهم من النساء إرشاداً لهم وتوجيهاً إلى البديل، وأن النساء غير اليتيمات كثير، وأن الأمر واسع ولم يضيق الله عليهم.
قال الحافظ ابن كثير (2) رحمه الله: «أي إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمه، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه (3)» .
فالمعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فاتركوهن وجوبًا، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن استحباباً، أو جوازًا (4).
قوله (انكحوا) النكاح معناه لغة الضم والجمع، لأنه بعقد النكاح يكون اجتماع الزوج والزوجة، واجتماع الأصهار بعضهم إلى بعض، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
(1) يقترن جواب الشرط بالفاء في عدة مواضع قال الناظم:
اسمية طلبية وبجامد
…
وبما ولن وبقد وبالتنفيس
ذكره الخضري في حاشيته 2/ 123، والصبان في حاشيته 4/ 9.
(2)
في «تفسيره» 2/ 181.
(3)
ومن هذا ومثله يعلم أن الشرع إذا منع من شيء وحرمه لسبب من الأسباب فإنه يبيح ويحل أضعاف أضعافه، ولهذا فإن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} سورة البقرة، آية:29.
أي: أباحه لكم، لأن اللام في قوله «لكم» للإباحة.
فإذا انغلق باب، فتح الله ألف باب وكما قيل:
وإذا رأيت الرزق ضاق ببلدة
…
وخشيت فيها أن يضيق المذهب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا
…
طولًا وعرضًا شرقها والمغرب
وحاشا للشرع الحكيم، الذي وضع الله به عن هذه الأمة الآصار والأغلال أن يغلق الباب على المكلف، فيكون كما قال الحلاج في ديوانه ص 145:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
وصدق الله العظيم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج الآية (78).
(4)
سيأتي في الفوائد والأحكام زيادة بيان لهذا إن شاء الله.
خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} (1).
ويطلق على الوطء، وعلى التزوج (2)، وهو شرعاً: عقد الزوجية الصحيح.
قوله {مَا طَابَ لَكُم} «ما» موصولة، وإنما جاء التعبير بها وهي لغير العاقل أولغير العالم على الأصح (3)، لأنه أريد بها الوصف لأن اختيار الرجل للمرأة لما قام بها من صفات طيبة، والصفات ليست من فصيلة العقلاء،: انكحوا الطيبات من النساء.
قال الزجاج (4): «ما طاب» لم يقل «من طاب» والوجه في الآدميين أن يقال: «من» وفي الصفات لأسماء الأجناس أن يقال: «ما» فالمعنى فانكحوا الطيب الحلال .. لأنه ليس كل النساء طيباً».
وقيل: إن «ما» ليست على معناها، وإنما هي بمعنى «من» التي للعالم، لأنهما يتعاقبان، كما في قوله تعالى:{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أربع} (5) والذي يمشي على أربع ليس بعالم. وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} (6)(7).
فـ «ما» في قوله (وما بناها)(وما طحاها) بمعنى «من» ، أي: والسماء ومن بناها
(1) سورة الفرقان، آية:54.
(2)
انظر «اللسان» مادة «نكح» .
(3)
الأصح أن يقال «ما» لغير العاقل و «من» للعالم، كما قال ابن هشام، انظر «أوضح المسالك» 1/ 134 وانظر «ضياء السالك» 1/ 42. واختار بعض النحاه هذا، لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلم و «من» يستعمل في الدلاله عليه سبحانه في مثل قوله تعالى: {ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} سورة الملك الآيتان (16، 17) وصفات الله توقيفيه. كما أن «ما» جاءت للدلالة عليه سبحانه في عدة مواضع، وذلك على سبيل التبادل مع «من» كما في قوله تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} سورة الليل، الآية (3) أي والذي خلق الذكر والانثى. وانظر «دليل السالك» للفوزان 1/ 129.
(4)
في «معاني القرآن وإعرابه» 2/ 504، وانظر «الكاشف» 1/ 244، «المحرر الوجيز» 4/ 15، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 12، «مدارك التنزيل» 1/ 289.
(5)
سورة النور، آية:45.
(6)
سورة الشمس، الآيتان: 5 - 6.
(7)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 141، «فتح القدير» 1/ 420.
والأرض ومن طحاها، وهو الله سبحانه وتعالى العليم بكل شيء.
قالوا: وإنما قلنا بأن «ما» في قوله: (ما طاب)«بمعنى من» .
«لقوله» بعد ذلك «من النساء» مبيناً لمبهم، والنساء من فصيله العقلاء (1).
وقال الفراء (2): قوله (ماطاب) ولم يقل «من طاب» ، وذلك لأنه ذهب إلى الفعل» وبنحو من هذا قال الطبري حيث قال (3): معناه: انكحوا نكاحًا طيبًا .. فالمعنيُّ بقوله (ما طاب) الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهن، فلذلك قيل «ما» ولم يقل «من» . والصحيح القول الأول «ما» هنا على معناها لغير العاقل، لأنه أريد بذلك الوصف.
وليست في هذا الموضع (4)، بمعنى «من» ولا بمعنى «الفعل» .
قوله (طاب): قرأ حمزة «طاب» بالإمالة (5).
قوله: (من النساء): «من» بيانية (6)، فيها بيان للاسم الموصول «ما» و (من النساء) متعلق بقوله (ما طاب لكم) والتقدير: انكحوا ما يطيب لكم من النساء.
أو متعلق بقوله (فانكحوا)، أي: انكحوا من النساء ما طاب لكم.
والنساء والنسوه: جمع لا واحد له من لفظه، ولكن يقال: امرأة (7).
والمعنى: فانكحوا ما طابت به نفوسكم ورغيتم فيه مما أحل الله لكم (8). من
(1) انظر «معالم التنزيل» 1/ 391، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 12.
(2)
في «معاني القرآن» 1/ 253 - 254.
(3)
في «تفسيره» 7/ 542، وانظر «مشكل إعراب القرآن» 1/ 189.
(4)
لأنها قد تأتي بمعنى «من» لكن في غير هذا الموضع.
(5)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 15.
(6)
انظر «البحر المحيط» 3/ 162.
(7)
انظر «اللسان» مادة «نسا» «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 15.
(8)
انظر «جامع البيان» 7/ 542، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 4 - 5، «معالم التنزيل» 1/ 391، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 15.
ذوات الصفات الطيبه من النساء، كالدين والخلق والجمال ونحو ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (1).
قوله تعالى: {مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
هذه الألفاظ نكرات (2) في محل نصب على الحال من النساء. أي حال كونهن مثنى وثلاث ورباع (3)، وهي ممنوعة من الصرف لعلتين (4) الوصفيه، لأنها بمعنى الوصف للنساء، أي: نساء مثنى وثلاث ورباع.
والعلة الثانية العدل. ف «مثنى» معدولة من: اثنتين: و «ثلاث» معدولة من ثلاث و «رباع» معدولة من أربع (5).
وهذه الألفاظ مما يستوى فيه المذكر والمؤنث.
فمن المؤنث هذه الآية، ومن المذكر قوله تعالى:{أولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فالجناح مذكر (6).
(1) سيأتي تخريجه ص 35.
(2)
انظر «معنى القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 5، «المحرر الوجيز» 4/ 15.وقال الطبرى7/ 543:«اسم للعدد معرفة ولو كان نكره لدخلته الألف واللام وأضيف: وهو لا تدخله الألف واللام ولا يضاف» .
(3)
انظر «إملاء ما من به الرحمن» للعكبري 1/ 166.
وقيل هي في موضع نصب على الحال من فاعل «طاب» أو من مرجعه «ما» انظر مشكل إعراب القرآن» 1/ 189 «المحرر الوجيز» 4/ 15، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 15 - 16، «البحر المحيط» 3/ 163.
(4)
انظر «جامع البيان» 7/ 543، «معالم التنزيل1/ 391، «المحرر الوجيز» 4/ 15، «الجامع لأحكام القران وإعرابه» للزجاج 2/ 5.
(5)
انظر مشكل إعراب القرآن» 1/ 189، «البيان في غريب إعراب القران» 1/ 241.
(6)
انظر «جامع البيان» 6/ 543.
وهي تدل على تكرار العدد مما عدلت منه بلا حصر، أي: إلى غاية المعدود (1).
فيقال: جاء الرجال مثنى أي: اثنين اثنين، وجاءت النساء مثنى، أي: اثنتين اثنتين-وهكذا «ثلاث» و «رباع» .
وقوله (مثنى وثلاث ورباع) أسلوب تنويع وتقسيم.
أي: انكحوا على اثنتين اثنتين، وعلى ثلاث ثلاث، وعلى أربع أربع، وفيه معنى التخيير (2) أي: منكم من ينكح اثنتين ومنكم من ينكح ثلاث، ومنكم من ينكح أربعًا. قال تعالى في وصف الملائكة:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (3) أي منهم له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة (4).
وقد زعم بعضهم (5) أن المعنى: انكحوا اثنتين وثلاثًا وأربعاً، أي: تسعاً؛ مجموع اثنتين وثلاث وأربع تسع، وأباحوا الجمع بين تسع زوجات. استدلالًا بالآية. قالوا: لأن الواو للجمع (6).
وهذا ليس بصحيح من حيث اللغة العربية التي نزل بها القرآن
(1) انظر «الصحاح» للجوهري مادة «ثنى، ثلث، ربع» «مشكل إعراب القرآن» 1/ 189، «المحرر الوجيز» 4/ 15، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 18.
(2)
انظر المعجم الوجيز» 1/ 391.
(3)
سورة فاطر، آية:1.
(4)
انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 182 قال ابن كثير بعد هذا: «ولا ينفى ما عدا ذلك بالنسبة للملائكة لدلالة الدليل عليه» يشير رحمه الله إلى ما ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح» أخرجه البخاري في التفسير4856، ومسلم في الايمان174 والترمذي في التفسير3277 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(5)
وهم الرافضة وبعض الظاهرية.
(6)
بل ذهب بعضم إلى جواز الجمع بين ثمان عشرة زوجة، بناء على أن معنى «مثنى» اثنتين اثنتين أي أربع «وثلاث» ثلاث ثلاث، أي ست، و «رباع» أربع أربع، أي: ثمان. فأربع وست وثمان: ثمان عشرة، بل قال بعضهم بجواز التعدد بلا حد. انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 16 - 18 «البحر المحيط» 3/ 163.
الكريم (1)، لأن الخطاب في قوله (فانكحوا) للجماعة، وليس لمفرد، وقوله (مثنى وثلاث ورباع) موزع ومفرق على الجماعة، فيكون المعنى: ينكح بعضكم مثنى، أي على اثنتين اثنتين، وينكح بعضكم ثلاث، أي على ثلاث ثلاث، وينكح بعضكم رباع، أي على أربع أربع (2). وقد جيء بصيغة العدل للدلالة على هذا المعنى، ولئلا يتوهم جواز الجمع بين هذه الأعداد (3).
ولو قال قائل خذ اثنين وثلاثه وأربعة بدل أن يقول: خذ تسعة، لعد هذا في منتهى الضعف عند العرب وأئمة اللغة، فكيف يحمل على هذا الكلام الله تعالى في هذه الآية (4).
وقد جاء العطف بالواو بدل «أو» لئلا يتوهم أنه لا يجوز إلا أحد هذه الأعداد (5).
ولم تذكر الواحدة في هذا المقام، بل قال سبحانه:(مثنى وثلاث ورباع) لأن المقام مقام إقناع وامتنان وتوسعه وتخيير للمخاطبين، - حيث منعوا من نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل معهن-في أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن من حيث الكيفيه، وهن ذوات الصفات الطيبة؛ ومن حيث الكمية من اثنتين إلى أربع (6).
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .
الفاء عاطفة.
«إن» شرطية.
خفتم: فعل الشرط.
ألا تعدلوا: «ألا» مكونة من «أن» و «لا» .
(1) كما أن القول بإباحة تسع زرجات باطل بدلالة السنة وإجماع الأمة، كما سيأتي في الأحكام.
(2)
انظر «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 6، «التفسير الكبير» 9/ 141، 143.
(3)
انظر «الكشاف» 1/ 24 قال البغوي «أو التخيير» انظر «معالم التنزيل» 1/ 391.
(4)
انظر «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 6.
(5)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 143، الجامع لأحكام القرآن» 5/ 17، «البحر المحيط» 3/ 126.
(6)
انظر كلام شيخنا محمد العثيمين على هذه الآية في دروس التفسير.
قوله (فواحدةً) قرأ العشرة عدا أبي جعفر بالنصب «فواحدةً» على أن هذا جواب الشرط، والتقدير: فانكحوا واحدة. واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة طلبية.
وقرأ أبو جعفر: «فواحدةٌ» بالرفع، أي فواحدة تكفي، أو تقنع (1) واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية.
والمعنى: وإن خفتم، أي: ظننتم عدم العدل مع الزوجات إذا تعددن فيما يجب لهن عليكم من حقوق النكاح في القسم والنفقة والعشرة ونحو ذلك مما يدخل تحت الاستطاعة. فاكتفوا بنكاح واحدة (2) ..
قوله تعالى: {أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3)«أو» عاطفه جملة على جملة، وهي بمعنى الواو، والتقدير: فانكحوا واحدة واستمتعوا بما ملكت أيمانكم (4).
قوله: (ما ملكت ايمانكم) أي: ما ملكتموه من السراري والإماء بملك الرقبة والمنافع. والإيمان جمع يمين، وأسند الملك إليها لأنها المختصة بالمحاسن، بها يأخذ المؤمن كتابه، كما قال عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} (5) وهي المنفقة قال صلى الله عليه وسلم: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (6).
والمعنى: واستمتعوا بوطء ما ملكتموه من السرارى والاماء، حيث لا يجب القسم بينهن (6). وليس المعنى: أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من الإماء، لأنه يحرم على الرجل
(1) انظر «المبسوط» ص153، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 20، «النشر» 2/ 247.
(2)
انظر «أحكام القران» للجصاص2/ 70، «بحر العلوم» 1/ 332، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 20، «تفسير ابن كثير» 2/ 184.
(3)
انظر «تحفه الودود» ص19 - 20، «فتح القدير» 1/ 421.
(4)
سورة الانشقاق، آية:7.
(5)
أخرجه البخاري في الأذان660، ومسلم في الزكاة1031، والنسائي في آداب القضاه538، والترمذي في الزهد2391من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وانظر «المحرر الوجيز» 4/ 16 - 17، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 20.
(6)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 392، «المحرر الوجيز» 4/ 16، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 20.
أن يتزوج أمته، لأنها لا تحل له بعقد ملك اليمين، وهو أقوى من عقد النكاح (1)، ولا يرد العقد الأضعف على العقد الأقوى بخلاف العكس، فإن العقد الأقوى يرد على العقد الأضعف، فلو تزوج الرجل أمه (2) ثم اشتراها انفسخ نكاحها، وحلت له بملك اليمين، فملك رقبتها ومنافعها، بينما لا يملك بعقد الزواج سوى منفعة البضع.
وقيل: المعنى: التخيير بين نكاح واحدة حرة أو تركها والاكتفاء بالاستمتاع بملك اليمين (3). وهذا ضعيف لأن الرغبة عن نكاح الحرة إلى الاستمتاع بملك اليمين أمر غير محمود شرعاً.
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} .
قوله: (ذلك) الإشارة إلى مضمون الجملتين السابقتين.
وهما ترك نكاح اليتامى عند خوف عدم الإقساط فيهن ونكاح غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع، والاكتفاء بنكاح واحدة والاستمتاع بملك اليمين عند خوف عدم العدل مع الزوجات إذا تعددن.
أدنى: أقرب (4).
ألا تعولوا: أي: أن لا تعولوا، والجملة من أن وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض والتقدير: ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا (5).
والعول لغه الميل، يقال: عال الميزان، إذا مال (6)، وعال السهم عن الهدف إذا مال (7).
(1) انظر «مجموع الفتاوى» 32/ 181، «زاد المعاد» 5/ 130.
(2)
لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة إلا إذا لم يجد الطول إلى نكاح امرأة حرة وخاف على نفسه العنت كما قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية (25) من سورة النساء.
(3)
انظر «جامع البيان» 7/ 540 - 541، 547 - 548.
(4)
انظر «معنى القرآن وإعرابه» 2/ 7.
(5)
انظر «المحرر الوجيز» 4/ 17.
(6)
انظر «الكشاف» 1/ 245، «لسان العرب» مادة «عول» .
(7)
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 315، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 20.
قال أبو طالب (1):
بميزان القسط لا يغلُّ شعيرة
…
له شاهد من نفسه غير عائل
أي غير مائل.
ويقال: عال الحاكم: إذا مال وجار وظلم (2).
قال الشاعر (3):
قالو تبعنا رسول الله واطَّرحوا
…
قول الرسول وعالوا الموازين
أي: جاروا، والمعنى: ذلك أي ترك نكاح اليتيمات، وترك تعداد الزوجات إذا خيف عدم العدل معهن أقرب ألا تميلوا وتجوروا في القسم، هذا قول عامة السلف وجمهور العلماء (4).
وقيل: معنى: (ألا تعولوا): ألا تكثر عيالكم فتفتقروا.
قال بهذا بعض أهل العلم منهم االشافعي رحمه الله (5) وبعض أهل اللغة (6) أخذاً من قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (7)، أي: وإن خفتم فقراً (فسوف يغنيكم الله من فضله). كما قال الشاعر (8):
(1) انظر «جامع البيان» 7/ 550، «السيرة النبوية» لابن هشام1/ 296.
(2)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 144، «مدارك التنزيل» 1/ 290.
(3)
انظر «اللسان» مادة «عول» ، «الصحاح» مادة «عول» ، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 12.
(4)
انظر «معاني القرآن» للفراء1/ 255، «جامع البيان7/ 548 - 552، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 7، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 314 - 315، «المحرر الوجيز» 4/ 17، «الجامع لأحكام القران» 5/ 20، «مجموع الفتاوى» لابن تيميه32/ 70 «تحفه الودود» ص 19، 20، «بدائع التفسير» 2/ 7، «تفسير ابن كثير» 2/ 185.
(5)
انظر «أحكام القرآن» للهراسي 1/ 313 «معالم التنزيل» 1/ 392، «المحرر الوجيز» 4/ 14، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 21 - 22، «تفسير ابن كثير» 2/ 184.
(6)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 21 - 22.
(7)
سورة التوبة، آية:28.
(8)
البيت لأحيحة بن الحلاج الأوسي. انظر «معاني القرآن» للفراء1/ 255، «جامع البيان» 7/ 549، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 21، «تفسير ابن كثير» 2/ 184 «اللسان» مادة «عيل» ، «البحر المحيط» 3/ 509.
وإن الموت يأخذ كل حي
…
بلا شك وإن أمشى وعالا
أي: وان كثرت ماشيته وعياله.
وهذا القول ضعيف من وجوه ثلاثة: الأول نت حيث اللغة، لأنه لو أراد كثرة الأولاد والافتقار لقال: تعيلوا. الثاني: من حيث المعنى، لأن كثرة العيال وكثرة النفقة تحصل بالتسري، كما تحصل بالزوجات (1). الثالث: من حيث منافاة هذا القول لمقصود الشرع، لأن الشرع أمر بتكثير النسل، قال صلى الله عليه وسلم:«تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3): «وظن طائفة من العلماء أن المراد ألا تكثر عيالكم. وغلّط أكثر العلماء من قال ذلك لفظاً ومعنى، أما اللفظ: فلأنه يقال عال يعول إذا جار، وعال يعيل إذا افتقر، وأعال يعيل إذا كثر عياله. وهو سبحانه قال (تعولوا) ولم يقل: تعيلوا. وأما المعنى: فإن كثره النفقة والعيال يحصل بالتسري، كما يحصل بالزوجات ..» .
قال ابن القيم رحمه الله (4)«يتعين القول الأول من وجوه» ، وذكر رحمه الله عشرة أوجه في هذا: منها أنه المعروف في اللغة، الذي لا يكاد يعرف سواه، ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي، وسائر أهل اللغة على خلافه، ومنها أن الأحاديث الواردة في استحباب تزوج الودود الولود، وأنه صلى الله عليه وسلم يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة ترد هذا التفسير، ومنها أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون
(1) انظر «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 7، «الكشاف» 1/ 245 «تفسير ابن كثير» 2/ 184.
(2)
سيأتي تخرجه ص49.
(3)
في «مجموع الفتاوى» 32/ 70 - 71 وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 315.
(4)
في «تحفه الودود» ص19 - 20، وانظر «بدائع التفسير» 2/ 8 - 10، وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 315 وقد ذكر الرازي مجمل الوجوه الثلاثة التي ذكرها أهل العلم لتضعيف قول الشافعي، وأجاب عنها بما لا طائل تحته. انظر «التفسير الكبير» 9/ 144 - 146.