الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
حَتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءآنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهُمْ وَلَا تَأكلوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ فَإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
صله الآية بما قبلها:
لما أمر الله تعالى في الآيات السابقة بحفظ أموال اليتامى ورعايتها وعدم ترك الأموال بأيدي السفهاء من اليتامى وغيرهم أتبع ذلك بالأمر باختبارهم ورد أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح ورشدوا (1).
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الخطاب لمن عهد إليهم أمر اليتامى من الأوصياء، ولمن تولى كفالتهم من الأولياء بأمر الوالي الشرعي، أو من أقاربهم أو من عامة الناس (2).
والإبتلاء: الاختبار، ويكون في الخير والشر، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (3).
والمعنى: اختبروا اليتامى وذلك عند البلوغ أو قبله بيسير وعند مقاربتهم للرشد وكونه ممكناً منهم، وذلك بالتعرف على حسن تصرف اليتيم في ماله وحفظه وإصلاحه له (4) كأن يعطى شيئًا من المال فينظر هل يحسن التصرف فيه، أو توكل إليه نفقة البيت وتدبيره، فينظر كيف تصرفه في ذلك، أو نحو ذلك (5).
قوله تعالى: {حَتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
(1) انظر «التفسير الكبير» 9/ 152.
(2)
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 326، «المحرر الوجيز» 4/ 22.
(3)
سورة الأنبياء، آية:35.
(4)
انظر «جامع البيان» 7/ 574، «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 319 - 320، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 34، «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
(5)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 34.
«حتى» : لابتداء الغاية (1).
أي: اختبروهم واستمروا في اختبارهم {حَتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهُمْ} .
قوله: {إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
إذا: ظرفية شرطية غير جازمة.
بلغوا النكاح: أي: بلغوا سن النكاح، وذلك بالاحتلام (2)، كما قال تعالى:{وَإذا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد احتلام» (4).
وذلك أنه بالاحتلام يبلغ مبلغ الرجال، وتجب عليه التكاليف، كما قال صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» (5)، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:«خذ من كل حالم ديناراً» (6)، أو بالإنزال يقظة (7)، أو ببلوغ خمسة عشر عاماً (8).
لما رواه عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما قال: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم
(1) انظر «الدر المصون» 2/ 311.
(2)
انظر «جامع البيان» 7/ 574 - 575، «معالم التنزيل» 1/ 394، «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 320، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 34، «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
(3)
سورة النور، آية:59.
(4)
سبق تخريجه ص6.
(5)
أخرجه أبو داود في الحدود 4403، والترمذي في الحدود1423وابن ماجه في الطلاق 2042 - من حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وصححه الألباني وأخرجه بعضهم من حديث عائشة وغيرها من الصحابه انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
(6)
أخرجه أبو داود في الزكاة 1576والترمذي في الزكاة 623 قال الترمذي: «هذا حديث حسن» وصححه الألباني.
(7)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 394 - 395، «التفسير الكبير» 9/ 153.
(8)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 394، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 320، «الجامع لأحكام القرآن5/ 35، «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني». قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير» (1). وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن البلوغ يعتبر ببلوغ خمس عشرة سنة (2).
وقال أبو حنيفة: يعتبر ببلوغ الجارية سبع عشرة سنة، وبلوغ الغلام ثمان عشرة سنة وروي عنه ببلوغ الغلام تسع عشرة سنة (3) وهو قول لمالك (4). أو بإنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهو يعتبر بالنسبة لأولاد المشركين بلوغاً بدليل ما رواه عطية القرظي قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي» (5) وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمراء الأجناد:«ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي» (6).
واختلف هل يعتبر بلوغاً بالنسبة لأولاد المسلمين على قولين (7) أظهرهما أنه يعتبر بلوغاً، وهو قول أحمد (8)، وإسحاق (9).
(1) أخرجه البخاري في الشهادات2664، ومسلم في الإمارة 1868، وأبو داود في الحدود4406، والنسائي في الطلاق 3431، والترمذي في الجهاد 1711، وابن ماجه في الحدود 2543، والبغوي في «تفسيره» 1/ 394، وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
(2)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 394، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 320، «المغني» 6/ 598، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 35، «تفسير ابن كثير» 2/ 187.
(3)
انظر «بدائع الصنائع» 7/ 172.
(4)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 35.
(5)
أخرجه أبو داود في الحدود 4404، والنسائي في الطلاق3430، وفي قطع يد السارق4981، والترمذي في السير 1584، وابن ماجه في الحدود2542، وأحمد 4/ 410، 5/ 311 - 312، والدارمي في السير2464 وقال الترمذي:«حسن صحيح» وقد صححه الألباني.
(6)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 35.
(7)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 395، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 320، «الجامع الحكام القرآن» 5/ 35.
(8)
انظر «المغني» 6/ 597.
(9)
انظر «سنن الترمذي» 4/ 146.
قال الحافظ ابن كثير (1): «واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهي الشعرة، هل تدل على البلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين الصبيان المسلمين، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغاً في حقهم، لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه فلا يعالجها، والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع، لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد» ثم ذكر حديث عطية القرظي الذي تقدم. ومن علامات البلوغ عند النساء زياده ما تقدم: الحيض، والحبل (2).
فهذه خمس علامات منها ثلاث مشتركة بين الذكور والإناث، وهي الاحتلام، والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن حول الفرج واثنتان مختصتان بالنساء، وهما الحيض والحبل (3).
قوله تعالى: {فَإِنْ ءآنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهُمْ} الخطاب للأوصياء والأولياء على أموال السفهاء من اليتامى وغيرهم.
الفاء رابطة لجواب الشرط «إذا» وهي حرف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، و «إن» شرطية و «آنستم» فعل الشرط، وجوابه «فادفعوا إليهم أموالهم» .
وهذا الشرط وجوابه جواب الشرط في قوله: {إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
ومعنى (آنستم): أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله تعالى {ءآنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} (4)، أي أبصر ورأى (5).
(منهم رشداً) أي: من اليتامى. والرشد: حسن التصرف، ضد السفه، وهو في كل شيء بحسبه، فالرشد في الدين صلاح المرء في دينه بأداء ما أوجب الله واجتناب
(1) في «تفسيره» 2/ 187.
(2)
انظر «معالم التنزيل» 1/ 395، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 35،» المغني» 6/ 597.
(3)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 153.
(4)
سورة القصص، آية:29.
(5)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 153، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 63، «البحر المحيط» 3/ 152.
ما نهى الله عنه.
قال تعالى: {أولَائِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (1).
وقال تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2). والرشد في الولاية أن يكون الولي يحسن التصرف فيما ولي عليه، سواء كانت ولاية عامة على أمر من أمور المسلمين، أو ولاية خاصة كالولاية على اليتيم والسفيه، وكولاية النكاح على من تحت يده من الإناث.
والرشد في المال: حسن التصرف فيه، وهو المراد بقوله هنا {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً} أي تصرفاً صحيحاً في أموالهم (3).
ونكر «رشداً» لأن المراد به «رشداً» بعينه أي مطلق الرشد (4)، لا الرشد المطلق من جمع هذا كله، فأصلح دينه وماله، وأحسن التصرف فيمن تحت ولايته، وأحسن تعامله مع الناس وغير ذلك.
وبهذا تجتمع الأقوال التي حكيت عن السلف في معنى الرشد، فمن قائل: هو الصلاح في العقل. ومن قائل: هو الصلاح في الدين، ومن قائل: هو الصلاح في العقل والدين. ومن قائل: هو الصلاح في العقل والمال، ومن قائل: هو الصلاح في الدين والمال، ومن قائل: هو الصلاح في المال (5).
(1) سورة الحجرات، آية:7.
(2)
سورة البقرة، آية:186.
(3)
انظر «جامع البيان» 7/ 577 - 578، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 11، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 322 - 323، «المحرر الوجيز» 4/ 23، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 37، «تفسير ابن كثير» 2/ 188.
(4)
انظر «الكشاف» 1/ 247 - 248، «التفسير الكبير» 9/ 154.
(5)
انظر «جامع البيان» 7/ 577 - 578، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج2/ 11، «أحكام القرآن» لابن العربي1/ 322_323، «المحرر الوجيز» 4/ 23، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 37، «تفسير ابن كثير» 2/ 188.
جواب الشرط لقوله {فَإِنْ آنَسْتُم} واقترن بالفاء لأنه جملة طلبية.
أي: أعطوا أيها الأوصياء والأولياء اليتامى أموالهم ولا تحبسوها عنهم (1)، وبادروا بإيصالها إليهم إبرء للذمة، ولا تكلفوهم البحث عنها أو طلبها، ولا تماطلوا في ردها إليهم، ولهذا عبر بقوله {فَادْفَعُوا} .
قوله تعالى: {وَلَا تَأكلوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا} .
قوله: {وَلَا تَأكلوهَا} : الواو عاطفة.
و «لا» ناهية، «تأكلوها» مجزوم بها، وعلامه جزمه حذف النون إذ الأصل «تأكلونها» .
وذكر الأكل خاصة - وإن كان الانتفاع بأموال اليتامى بأي وجه منهياً عنه -لأن الأكل أهم أوجه الانتفاع، ومن أجله يجمع المال وهو كسوة الباطن التي لا حياة بدونها.
قوله: {إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا} .
إسرافاً وبداراً: منصوبان على الحال، أي مسرفين ومبادرين.
أو على المفعول المطلق.
أو على أنهما صفتان لمصدر محذوف، التقدير: أكل إسراف وبدار (2).
والإسراف: مجاوز الحد (3).
قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (4).
وهو في كل شيء بحسبه.
(1) انظر «جامع البيان» 7/ 578.
(2)
وقيل منصوبان على المفعول لأجله: أي لأجل الإسراف والمبادرة وهو إن كان جيداً بالنسبة ل «بدارا» من حيث المعنى فهو ضعيف بالنسبة ل «إسرافاً» من حيث المعنى، لأن الولي لا يأكل من أجل الإسراف، بل يأكل مسرفاً. انظر «البيان في غريب إعراب القرآن» 1/ 243، «الدار المصون» 2/ 312، «فتح القدير» 1/ 427.
(3)
انظر «جامع البيان» 7/ 579، «أحكام القرآن لابن العربي 1/ 323، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 40.
(4)
سورة البقرة، آية:229.
فالإسراف في المعاصي: تعدي حدود الله بارتكاب ما نهى الله عنه قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (1) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} (2).
والإسراف في أكل المال: مجاوزة الحد في تبديده واستنزافه في المباحات أو في المعاصي (3).
والمراد هنا الإسراف في أكل المال لقوله {وَلَا تَأكلوهَا} .
وضده البخل والتقتير كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (4)(5).
وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (6)، وقال تعالى:{كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أَثْمَرَ وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (7).
قوله {وَبِدَارا} .
أي: مبادرة ومسارعة واستعجالاً.
قوله: {أَن يَكْبَرُوا} .
و «أن» حرف مصدري ونصب، يكبروا: منصوب بها وعلامة نصبه حذف النون. و «أن» والفعل «يكبروا» في تأويل مصدر في محل نصب مفعول «بدارا» (8) والتقدير: بدار كبرهم، أي تبادرون كبرهم، لأنهم إذا كبروا في الغالب وبلغوا زال عنهم
(1) سورة الزمر، آية:53.
(2)
سورةطه، آية:127.
(3)
انظر «النهاية» و «اللسان» مادة «سرف» .
(4)
سورة الفرقان، آية:67.
(5)
وقد يطلق الإسراف على مجاوزة الحد في البخل والتقتير، انظر «جامع البيان» 7/ 579.
(6)
سورة الأعراف، آية:31.
(7)
سورة الأنعام، آية:141.
(8)
انظر «معاني القرآن» للفراء1/ 257، «جامع البيان» 7/ 581، «إملاء ما من به الرحمن» 1/ 168.
السفه، فزالت الولاية عليهم، ووجب رد أموالهم إليهم.
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الواو استئنافية، و «من» شرطية «كان» فعل الشرط، وجوابه (فليستعفف) واقترن الجواب بالفاءلأنه جملة طلبية.
أي: ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على السفهاء من اليتامى وغيرهم غنيًّا. أي عنده من المال ما يكفيه ولا يحتاج إلى مال من تحت ولايته.
فليستعفف: اللام لام الأمر، واستعف عن الشيء بمعنى كفّ عنه وتركه واستغنى عنه (1).
واستعفّ: أبلغ من عفّ (2) لأن زيادة المبنى تدل - غالباً (3) - على زيادة المعنى.
أي: ومن كان عنده ما يكفيه من المال فليكف عن مال اليتيم وليستغن عنه.
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ} معطوف على ما قبله، مشتمل على شرط وجوابه.
وبين قوله: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وقوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ} مقابلة بديعة بين قوله {غنيًّا} و {فقيراً} وبين قوله {فَلْيَسْتَعْفِفْ} وقوله {فَلْيَأكل} .
أي: ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على السفهاء من اليتامى وغيرهم فقيراً، أي: معدماً ليس عنه شيء، أو عنده شيء يسير لا يكفي لحاجته (4)؛ مأخوذ من فقار الظهر، كأنه انقطعت فقار ظهره فلم يستطع الاعتماد على حاله (5).
(1) انظر «جامع البيان» 7/ 581، «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 324، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 41، «تفسير ابن كثير» 2/ 188.
(2)
انظر «الكاشف» 1/ 249، «مدارك التنزيل» 1/ 292.
(3)
أي: ليس ذلك مطرداً فمثلاً: «ثمر» أقل حروفاً من «ثمرة» وهو أكثر منها معنا، لأنه جمع وهي مفرده، ومثله شجر وشجرة، وبقر وبقرة، وهكذا.
(4)
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 324، «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 41، «تفسير ابن كثير2/ 188، وانظر «اللسان» مادة «فقر» .
(5)
انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس 2/ 442 - 446.
قال الراعي يمدح عبد الملك بن مروان ويشكو إليه سعاته:
أما الفقير الذي كانت حلوبته
…
وفق العيال فلم يترك له سبد (1)
فليأكل: اللام لام الأمر، وهو للإباحة، لأنه أمر بعد حظر، فبعد أن نهى عن أكل أموال اليتامى قال:{وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ} والأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، أو يعود لما كان عليه الحال قبل النهي وهو الإباحة هنا كقوله تعالى:{وَإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (2) فالأمر بالاصطياد هنا للإباحة، لأنه جاء بعد الحظر في قوله قبل هذا {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمُ} (3).
بالمعروف: أي: فليأكل أكلاً بالمعروف.
والمعروف ما جرى به العرف أن يأكل الولي الفقير من مال السفيه أكل مثله من الفقراء، سواء كان المولَّى عليه غنيًّا أو فقيراً.
قالت عائشة رضي الله عنها: «نزلت هذه الآية في والي اليتيم {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه» (4).
قوله تعالى: {فَإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} .
الفاء: عاطفة.
وإذا: ظرفية شرطية غار جازمة.
«دفعتم» فعل الشرط.
أي: إذا أعطيتم أيها الوصياء، أو الأولياء من تحت ولايتكم من اليتامى وغيرهم أموالهم ورددتموها إليهم بدون ممانعة منكم أو مماطلة، وبدون تكليفهم
(1)«اللسان» مادة «فقر» .
(2)
سورة المائدة، آية:2.
(3)
سورة المائدة، آية:1.
(4)
أخرجه البخاري في التفسير4575، ومسلم في التفسير3019، وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 188 - 189. وقيل المعنى {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكل بِالْمَعْرُوفِ} أي يأكل من ماله هو بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وقيل ينفق على اليتيم بقدر فقره، وعلى اليتيم الغني بقدر غناه، وهذان قولان مردودان. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1/ 324 - 325، «تفسير ابن كثير» 2/ 190.
المطالبة بها (فأشهدوا عليهم).
وقال: {فَإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهُمْ} بالإطناب ولم يقل (فإذا دفعتموها إليهم) مع أنه قال قبل هذا (فادفعوا إليهم أموالهم) والغرض من هذا كله تأكيد وجوب حفظ أموال اليتامى، ودفعها إليهم كامله سالمة.
قوله: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة طلبية.
أي: فأشهدوا عليهم أي على أنكم دفعتم ورددتم أموالهم إليهم، لئلا يقع منهم جحود أو إنكار لما قبضوه (1)، وإزاله للتهمة (2)، وتفادياً للخلاف، وتحصيناً للأموال وضبطاً للأمور (3).
قوله تعالى: {وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا} .
كفى: تأتي متعدية كما في قوله تعالى: {وَكَفى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (4)، وتأتي لازمة، وعلامة لزومها جر فاعلها بالباء الزائدة (5) إعراباً لتحسين اللفظ كما في هذه الآية، والأصل: كفى الله حسيباً.
ومعنى {وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: ما أعظم كفاية الله في محاسبته لعباده، فهو جل وعلا يكفي عن كل أحد، وهي بمعنى حسب: أي حسب هؤلاء وجميع الخلق، ويكفيهم أن الله حسيب عليهم.
حسيباً: تمييز، أو حال (6).
(1) انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190.
(2)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 44.
(3)
وقيل الإشهاد على النفقة ورد القرض، كما ذكره القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 44 وغيره، وهذا ضعيف لا يدل على سياق الآية، بل السياق يدل على أن المراد الإشهاد على دفع أموالهم كما هو ظاهر الآية وأيضاً فإن الإشهاد علي النفقة فيه مشقة
، إذ لا يمكن للوصي أو الولي أن يشهد على كل نفقة ينفقها على اليتيم من غداء أو عشاء وغير ذلك.
(4)
سورة الأحزاب، آية:25.
(5)
انظر «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 45.
(6)
انظر «التفسير الكبير» 9/ 157، «الجدول في إعراب القرآن» 1/ 353.