الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ثمارهم تعرفونهم
ولئن كانت مراتب الشخصيات التاريخية الفذة تحدَّدُ -ضمن ما تحدد- بالبصمة التي طَبَعَتْها في تاريخ البشرية، وبالآثار التي تركتها في الدنيا، فإن ابن عبد الوهاب بهذا المقياس يتقدم على كثيرين ممن أُعْطُوا هذه المنزلة.
قال الشيخ عثمان بن بشر النجدي -رحمه الله تعالى- في ترجمته للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-:
(وأما محمد فهو شيخ الإسلام والحبر الهمام، الذي عمت بركة علمه الأنام، فنصر السنة، وعظمت به من الله المنة، بعدما كان الإسلام غريبًا، فقام بهذا الدين، ولم يكن في البلاد إلا اسمه، وانتشر في الآفاق، فكل امرئ أخذ منه حظه وقسمته.
ونشرت راية الجهاد بعد أن كانت فتنًا وقتالًا، وعرف التوحيدَ الصغيرُ والكبيرُ بعد أن كان لا يعرفه إلا الخواص، واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها ومعاني قراءتها، وتعلمها الصغير والكبير، والقارئ والأمي بعد أن كان لا يعرفه إلا الخصائص، وانتفع بعلمه أهل الآفاق، لأنهم يسألون عما يأمر به وينهى عنه فيقال لهم: يأمر بأمر التوحيد، وينهى عن المنكر. ويقال لهم: إن أهل نجد يمقتونكم بذلك فانتهى أناس كثير من أهل الآفاق بسبب ما سمعوا من أوامره ونواهيه، وهَدَمَ المسلمون ببركة علمه جميع القباب والمشاهد التي بنيت على القبور وغيرها من جميع المواضع الشركية في أقاصي الأقطار من الحرمين واليمن وتهامة وعمان والإحساء ونجد وغير ذلك، حتى لا تجد في جميع من شملته ولاية
المسلمين الشرك الأصغر فضلاً عن غيره، حاشا الرياء الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "إنه أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل"(1).
وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين عن معرفة الأصول: وهي معرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، وما ورد عليها من أدلة من القرآن، ومعرفة محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته، وأول ما دعا إليه: وهي لا إله إلا الله، ومعرفة معناها، والبعث بعد الموت وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها وفروض الوضوء ونواقضه، وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة وغير ذلك.
وبالجملة فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر. ولو بسطت القول فيها لا تسع الأسفار، ولكن هذه قطرة من بحر فضائله على وجه الاختصار. وكفى بفضله شرفًا ما حصل بسببه من إزالة البدع، واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع، وتجديد الدين بعد دروسه، وقطع أصول الشرك بعد غروسه.
كان -رحمه الله تعالى- هو الذي يجهز الجيوش، ويبعث السرايا، ويكاتب
(1) أخرجه الحاكم (2/ 290)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 368) بأطول من هذا، وصحح الألباني الشطر المذكور هنا بمعناه بشواهده، انظر:"السلسلة الضعيفة"(8/ 229) رقم (3755).
أهل البلدان ويكاتبونه، فلم يزل مجاهدًا حتى أذعن أهل نجد وتابعوا، وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوا، فعمرت نجد بعد خرابها، وصلحت بعد فسادها، ونال الفخرَ والملكَ من آواه، وصاروا ملوكًا بعد الذل والقتال. وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه الله يظهره على أعداه، ويجعله مالكًا لمن عاداه) اهـ (1).
وفتش في مشارق الأرض ومغاربها عن المنصفين من أهل الإسلام، بل من غيرهم، تجدهم مُجْمِعين على أن دعوة الشيخ كانت دعوة تجديدية خالصة أعادت فهم الإسلام كما كان في خير القرون، وتجدهم يشيدون بآثارها المباركة التي امتدت لتشمل الصحوة الإسلامية المباركة في العالم الإسلامي اليوم.
…
(1)"المختار المصون من أعلام القرون"(3/ 1909، 1910) نقلاً عن: "عنوان المجد في تاريخ نجد" ..