الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل احتفل المصريون بانتصارات "محمد علي
"؟ (1)
[يدعي الرافعي، أن المصريين كانوا يبتهجون بانتصارات جيش محمد علي في الحجاز:"ولما وصلت إلى مصر أنباء هذا الفتح قوبلت بابتهاج عظيم"(يقصد فتح الشقراء13/ 1/ 1818)، ويستشهد بالجبرتي! مع أن كل ما ورد في الجبرتي هو قوله:"حضر مبشر من ناحية الديار الحجازية يخبر بنصرة حصلت لإبراهيم باشا، وأنه استولى على بلدة تسمى الشقراء".
لاحِظ "تسمى" للتقليل من شأنها، وكيف يبتهج الناس بفتح بلدة لا يعرفونها، إلا أن الجبرتي يكمل:"وأن بين عسكر الأتراك والدرعية مسافة يومين" ما دَخْلُنا نحن بعسكر الأتراك؟! ثم يضيف: "فلما وصل هذا المبشر ضربوا بقدومه مدافع من أبراج القلعة"!
هذه هي رواية الجبرتي، مبشر جاء بنصر للأتراك، ومدافع من القلعة أطلقت! فأين المصريون من هذا كله؟!
ولكن الرافعي مُصر على توريط الجبرتي، فينسب إليه ما لم يقل، بل عكس ما قاله، فينقل وصف الجبرتي لاحتفالات الباشا بانتصاراته، وتجمع المصريين، وهذا التجمع سواء طوعًا أو كرهًا، ظاهرة اجتماعية مصرية، فهم لا يتركون جنازة ولا
(1) هذا الفصل من "السعوديون والحل الإسلامي" ص (162 - 165) بتصرف.
محملًا ولا جمعية تعاونية إلا وتجمعوا حولها .. أو "توت حاوي كمان لمه"(1)!
"خاصة إذا كان المنادي ينادي، والعسكر يخرجون الناس، والباشا يجري مناورات حربية- بَحَرية، تقوم فيها السفن والمراكب بتمثيل المعارك البحرية، والطبول تدق، والمزامير والنقرازانات في السفن، وطبلخانة (موسيقى) الباشا تضرب في كل وقت، والمدافع الكثيرة تضرب في ضحوة كل يوم وعصره وبعد العشاء، وتوقد المشاعل، وتعمل أصناف كل الحراقات والسواريخ والنفوط، وتتقابل القلاع المصنوعة على وجه الماء، ويرمون منها المدافع على هيئة المتحاربين".
فالباشا فاتح سيرك، أو عامل أراجوز .. والشعب يتفرج، وله فيها مآرب أخرى، ذكرها الجبرتي في أكثر من موضع عند حديثه عن تجمعات المصريين العابثة .. فهل هذا يبيح لمؤرخ أن يستنتج:"وهذا يدلك على عظم تقدير الشعب للانتصارات الحربية، وما تستثيره في النفوس من روح الفخر والعزة، ولا جرم أن الحفلات الحربية هي مظهر من مظاهر تقدم الشعوب، وتقديرها لمفاخرها القومية، وتكريم الفضائل والأخلاق الحربية، فالحفلات التي وصفها الجبرتي تنطوي على هذه المعاني السامية، وليس عجيبًا أن تحتفل مصر بفتح الدرعية، فإن فتحها هو أعظم انتصار نالته في أول حرب خارجية خاضت غمارها في تاريخها الحديث "؟!!
(1) يبدو أنها عبارة عامية مصرية ينادي بها الحاوي ليحشد حوله الجمهور.
نحن لا حاربنا، ولا انتصرنا، ولا ابتهجنا وها هو شاهد العصر، الشيخ الجبرتي يشهد أن معظم الزينة، كانت من صنع الإفرنج، الذين ابتهجوا لقهر الوهابية، سواء عن وعي بخطورة البعث الذي كانت تمثله، وللرفض الغريزي لكل حركة تنادي ببعث الإسلام، أو لأن جيوش الباشا كانت تفتح الجزيرة لتجارتهم، أو حتى لمجرد منافقة الباشا الذي نالوا في عهده الامتيازات، ما لم يسبق له مثيل.
فلنسمع ما قاله الجبرتي في وصف هذه الاحتفالات بعد ورود نبأ استيلاء إبراهيم باشا على الدرعية: "فأكثروا من ضرب المدافع من كل جهة، واستمر الضرب من العصر إلى المغرب، بحيث ضرب بالقلعة خاصة ألف مدفع، وصادف ذلك شنك أيام العيد، وعند ذلك أمر بعمل مهرجان وزينة، داخل المدينة، وخارجها، وتقيد لذلك أمين أفندي المعمار، وشرعوا في العمل وحضر كشاف النواحي والأقاليم بعساكرهم، ونودي با لزينة، وأولها الأربعاء، فشرع الناس في زينة الحوانيت، والخانات، وأبواب الدور ووقود القناديل والسهر وأظهروا الفرح والملاعيب، كل ذلك مع ما الناس فيه من ضيق الحال والكد في تحصيل أسباب المعايش، وعدم ما يسرجون به من الزيت والسيرج، والزيت الحار، وكذا السمن، فإنه شح وجوده، ولا يوجد منه إلا القليل عند بعض الزياتين، ولا يبيع الزيات زيادة عن الأوقية وكذلك اللحم لا يوجد منه إلا ما كان في غاية الرداءة من لحم النعاج الهزيل، وامتنع أيضاً وجود القمح بالساحل وعرصات الغلة، حتى الخبز امتنع وجوده بالأسواق، ولما أُنهي الأمر إلى مَن لهم ولاية الأمر، فأخرجوا من شون الباشا مقدارًا يُباع في الرقع، وقد أكلها السوس، ولا يباع منها أزيد من الكيلة أكثرها مسوس، وكذلك لما شكا الناس من عدم ما
يسرج به في القناديل، أطلقوا للزياتين مقدارًا من السيرج في كل يوم يباع في الناس لوقود الزينة، وفي كل يوم يطوف المنادي، ويكرر المناداة بالشوارع على الناس بالسهر والقود والزينة، وعدم غلق الحوانيت ليلًا نهارًا".
فليجتر الرافعي مجد الفخار والعزة، أما شعب مصر، فكان في شغل عن الاحتفال بفتح الدرعية، بأكل القمح السوس، واستجداء زيت الباشا لتشعل به القناديل، تلبية لتعليمات المنادي، وإذا كان الرافعي يده في ماء الأمجاد التاريخية، فإن الجبرتي ومعاصريه كانوا في نار الواقع، لذلك يقول الجبرتي:"وقد ذهب في هاتين الملعبتين (احتفالات الفخر والعزة .. إلخ يسميها الجبرتي "ملاعب") من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر، وأهل الاستحقاق يتظلمون من القشل والتفليس، مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء وانعدام الأدهان وخصوصًا السمن والسيرج والشحم، فلا يوجد من ذلك الشيء اليسير إلا بغاية المشقة، ويكون على حانوت بعض السمن شدة الزحام والصياح".
فلا جرم أن تكون هذه الحفلات الحربية سببًا في زيادة شقاء وتعاسة وضيق المصريين، ويضيف الجبرتي عن هذه الملاعيب:"غالب هذه الأعمال من صناعة الإفرنج والنصارى الأرمن بمصر القديمة وبولاق والإفرنج". ثم يعود فيؤكد ذلك وكأنه يرد على شبهات الرافعي بعد مائة عام: "والذي تولى الاعتناء بذلك طائفة الإفرنج". "وكانت معظمها حيث مساكن الإفرنج والأرمن فإنهم تفننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السيرج".
احتفل الأرمن والإفرنج، وابتهج الباشا، وثارت في نفس الرافعي، روح العزة والفخار، أما المصريون: فلا حاربوا ولا ابتهجوا .. بل حارب إبراهيم باشا
الذي لم يكن قد أتقن الحديث بالعربية بعد، وبجنود الأرناؤوط والدلاة، ومرتزقة من شتى الأجناس إلا أبناء مصر، وبخبراء من الإفرنج، فالذي وضع خطط حصار الدرعية، وأشرف على تنفيذها، هو المسيو فيسيير، الضابط الفرنسي الذي سافر مع إبراهيم مع طاقم من الخبراء الأجانب، أو كما يقول الرافعي فرِحًا شاكرًا: إن إبراهيم كان يتميز بصدق نظره، لأنه كان "أول من استعان بخبرة الأوروبيين في الحروب، فاصطحب معه في الحرب الوهابية طائفة من الإفرنج منهم الضابط الفرنسي فيسيير أحد ضباط أركان الحرب، وهذا أمر لم يكن مألوفًا، ولا سائغًا، بين قواد الشرق في ذلك العهد، ولكن إبراهيم باشا بذكائه وحصافته، عرف أن الأمم الشرقية لا تنهض إلا إذا اقتبست خبرة علماء أوروبا وقوادها" ..
أي نهضة؟! وأنت تقول إن الوهابية كانت تهدد الدولة العثمانية إذ تنازعها السلطة والسيادة، "وتتهددها بإنشاء دولة عربية قد تنتزع منها الخلافة".
هل تحطيم هذه المحاولة، وإزالة هذا "التهديد"(إنشاء دولة عربية تنتزع الخلافة) بمعونة الفرنجة تعتبره نهوضًا للأمم الشرقية؟!
على آية حال، إن الرافعي لم يكن سيء النية، ولكنه فاسد التفكير، وأمانته قد فرضت عليه الشهادة للوهابيين بأنهم:"دافعوا دفاع الأبطال عن الرس، بالرغم من قتالهم جيشًا مسلحًا بالبنادق الحديثة، ولم يكن عندهم إلا البنادق من الطراز العتيق الذي يطلق بالفتيلة، ومع ذلك صدوا هجمات الجيش "المصري" (تعبنا من تفنيد ذلك الزعم) ثلاث مرات، وكبدوه خسائر جسيمة، وبلغ عدد قتلاه مدة الحصار 2400 جندي. على حين لم يقتل من الوهابين سوى 160 مقاتلًا".
وفي الدرعية ورغم خطط الضابط الفرنسي، يشهد الرافعي، أن الوهابيين:"دافعوا عنها دفاع الأبطال، واشترك نساؤهم في القتال، فكان دفاعهم مجيدًا".
وهو (الرافعي) يشهد أن أموال "محمد علي" لعبت الدور الأساسي في النصر، إذ اشترت البدو:"ومن الأسباب التي أدت إلى اضمحلال قوة الوهابية، ضعف عبد الله بن سعود، والأموال التي بذلها طوسون، وإبراهيم ومحمد علي واشتروا بها ذمم البدو".
فلنترك الرافعي غارقَّاً في البحث عن قشة مجد كاذب لجيش وهمي، لم يولد بعد، وهو لا يحتاج لتلفيق أمجاد، فحروبه في المورة والشام تكفيه فخرًا. ولنعد للشعب المصري الذي عاش حروب محمد علي في الجزيرة العربية، ودفع ثمنها غاليًا من ماله وحرياته ورزقه .. هل كان متعاطفًا مع هذه الحرب، معاديًا لخصوم الباشا؟!
كل الوقائع التي أثبتها المؤرخون المعاصرون، تؤكد العكس) اهـ.
***