الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الشيخ محمد رشيد رضا من الوهابية
(1)
لم يعرف الشيخ "رشيد" عن دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" في الشام إلا ما يعرفه عامة الناس آنذاك، وما تتناقله الألسن من الكذب والافتراء على دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب"، ولم يعرف الشيخ "رشيد" حقيقة هذه الدعوة إلا بعد قدومه مصر، واطلاعِه على تاريخ الجبرتي، ولقد وصلت دعوة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" إلى مصر عن طريق أولاده وأحفاده الذين أتى بهم واليها "محمد علي" ومعهم علمُهم وكتبهم، لقد قدم إلى مصر عدد كبير من أسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودرس بعضهم في الأزهر، وكانوا طلقاء يمشون بين الناس، ولهذا السبب، ولأنهم دَرَسوا في الأزهر، ودرَّسوا، وصنفوا، انتشرف هذه الدعوة بمصر، وعُرفت.
لقد بقى "عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب"(2) تلميذ الجبرتي مدة ثمان سنوات في مصر قبل عودته إلى وطنه في سنة (1241 هـ)، وبقي ابنه "عبد اللطيف" ثلاثين عامًا في الأزهر.
(1) انظر: "منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة" ص (192،191).
(2)
كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ممن نفوا إلى مصر بعد سقوط الدرعية، فالتفت إلى الطلب والتعلم والتعليم، والاستفادة والإفادة، إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة، وهو صاحب كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"اهـ من "المختار المصون"(3/ 1609).
ومن هذا يتضح أن دعوة الشيخ محمد وصلت مصرَ مبكرًا، وهناك عرفها الشيخ رشيد على حقيقتها، فماذا عرف عنها؟
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
"كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة (دحلان) هذا وأمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولاسيما تواريخ الإفرنج، الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها، وصرَّحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا تجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى"(1).
وقال رحمه الله أيضًا- في حق الوهابية:
(ونحن كنا نصدق هذه الإشاعات التي أشاعتها السياسة التركية عنهم ..
وقد طبعت كتبهم وكتب أنصارهم في عصرنا، فلا عذر لأحد في تصديق الحشوية
(1) مقدمة "صيانة الإنسان" ص (8).
والمبتدعة وأهل الأهواء منهم، وقد ذكرت هذه الإشاعات مرة بمجلس الأستاذ الأكبر الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر في إدارة المعاهد الدينية، فاستحضرت لهم نسخًا من كتاب "الهدية السنية"، فراجعها الشيخ الأكبر، وعنده طائفة من أشهر علماء الأزهر، فاعترفوا بأن ما فيها هو عين مذهب أهل السنة والجماعة) اهـ (1).
يقول الشيخ رشيد: "لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين
…
ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة
…
" (2).
وقال الأمير شكيب أرسلان (3):
(1)"صيانة الإنسان" هامش ص (510، 511).
(2)
"نفس المرجع" ص (40) ط. دار التوحيد للتراث 1428 هـ.
(3)
ولد "شكيب أرسلان" في بلدة الشويفات من مقاطعة "الشوف" التي تبعد من بيروت قرابة عشرة أميال، ومعنى "شكيب" بالفارسية: الصابر، ومعنى "أرسلان" بالفارسية والتركية: الأسد. وهو من طائفة "الدروز" اللبنانية وهم إسماعيلية فاطمية لا حَظَّ لهم في الإسلام، وقد ذكر الشيخ الشرباصي أن الأمير شكيبًا كان سنيًّا، وإن انتسب سياسيًّا أو إداريًّا إلى الدروز، وأنه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كان يتعبد على طريقة السنين، فهو يصلي، ويصوم، ويحج كما يفعل المسلمون، قال:(وقد أكدت لي زوجته هذه الحقيقة وقالت: إن الدروز يحرمون الزواج من سنية، ولكن زوجي تزوجني وأنا سنية مسلمة وقد تسبب هذا الوضع في متاعب لشكيب، فمن الدروز من لا يرونه درزيًّا كاملًا، ومن السنيين من لا يرونه سنيًّا كاملًا، فضاع جانب من حقه بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ من "شكيب أرسلان" للشيخ أحمد الشرباصي، ص (51، 52)، ومعلوم أن الدروز لا يقبلون أحدًا في دينهم، ولا يسمحون لأحد بالخروج منه، انظر:"الموسوعة الميسرة" ص (255).
وقد وصفه بعض مترجميه بأنه "كان متدينًا محافظًا على الصلاة، وكان محبًّا للعلم، حريصًا على القراءة والاطلاع، وكانت حياته كلها كتابة أو قراءة أو حديث أو رحلة.
وقف حياته للدعوة إلى الوحدة العربية، وكان مناهضًا للاستعمار، حريصًا على نهضة الأمة.
ومما يؤكد سنيته: علاقاته الوثيقة بعلماء أهل السنة:
- فقد صنف كتاب "السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة"، وفيه النص المثبت أعلاه، وسياقه يدل على منافحته عن الوهابية.
ورشيد رضا هو الذي لقبه بأمير البيان.
- وقال العالم الرحالة الداعية السلفي الجليل الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (ت 1407 هـ = 1987م): "وكُنيتي أبو شكيب، لأني سميت أول مولود لي شكيبًا، على اسم صديقي الأمير شكيب أرسلان"اهـ من "تتمة الأعلام"(2/ 55)، كما وصفه بـ "المجاهد العظيم أمير البيان"، ورثاه بقصيدة من ستة وعشرين بيتًا، انظر:"الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة" له ص (112).
- وقال "شكيب أرسلان" في تقديمه لكتاب "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث": " .. وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية، التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، أن لا تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي، الذي قسم الله له من اكتناه أسرار الشرع، ما لم يقسمه إلا لكبار الأئمة، وأحبار الأمة" اهـ. من "مقدمة قواعد التحديث" ص (10).
وقد أثبت هذه العبارة في مفتتح جميع أجزاء "تفسير القاسمي" المسمَّى "محاسن التأويل" الشيخ =
تصدى رشيد رضا للدعاية المناوئة لعلماء نجد، وعندما انتشرت الأراجيف ضدهم بعد افتتاح الطائف وزع ألوفًا من رسالة "الهدية السنية والتحفة النجدية"، -وهي تضم خمس رسائل-.
ونشر مقالات في الدفاع عنهم، والرد على خصومهم، وقد قال له شيخ الأزهر أمام ملأ من العلماء:"جزاك الله خيرًا بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر الوهابية"(1).
إنه لا يسع منصفًا -مهما اختلف مع الشيخ رشيد رضا (2) - إلا أن يقر بأنه "أبو السلفية" في مصر، وأن له في عنق السلفيين -شاءوا أم أبوا، شكروا له أو
= محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.
- وممن رثاه الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله بقصيدة مطلعها:
سلام عليك أبا غالب
…
أميرَ البيان أميرَ القلم
- وقال الشيخ سليمان الظاهر: "إن الأمير شكيبًا كان المسلم الحقيقي الذي عرف أن الإسلام عقيدة وعمل، وأنه دين إنساني عام، لا دين شعوبية وقبلية وعصبية وإقليمية، ولا دين أجناس وألوان"اهـ.
وانظر: "الأمير شكيب أرسلان" لسامي الدهان ص (62 - 101)، "المعاصرون، لمحمد كرد علي (167 - 248)، و"الأمير شكيب أرسلان" د. سعود الموسى، و"الأعلام" للزركلي (3/ 173 - 175).
(1)
انظر: "السيد رشيد رضا"، أو "إخاء أربعين سنة" لشكيب أرسلان، ص (366).
(2)
فإن هناك -بلا ريب- تحفظًا شديدًا من بعض آراء "رشيد رضا" التي تابع فيها شيخه "محمد عبده"، ومن أفضل من تتبعها بالنقد والتمحيص مع الإنصاف والعدل الأخ/ تامر متولي في أطروحته:"منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة"، طبعة دار ماجد عسري، جُدَّة- (1425 هـ- 2004 م)، وانظر:"حياة الألباني وآثاره " للشيباني (1/ 401 - 405).
جحدوا- مِنّةً وفضلًا، وآية ذلك دوره الرائد في نشر التراث السلفي، ومنافحته عن عقيدة السلف، ورموزها ممثلة في شيخي الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وذلك من خلال مجلته "المنار"(1).
لقد بدأ رشيد رضا الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1320 هـ (1903 م)، ففي تلك السنة أقيمت بمصر احتفالات بمناسبة مرور مائة عام على مُلك أسرة "محمد علي" على مصر، وزُيِّنَتَ المساجد والجوامع بالأنوار، فهاجم رشيد ذلك العمل، وقال:"إن المساجد بيوت الله، ولا يصح أن تُزَين للاحتفال بذكرى الملوك والأمراء المستبدين"، ثم تطرق إلى مساوئ سياسة "محمد علي"، ومنها قتاله للوهابيين وقضاؤه عليهم، وهم الذين نهضوا بالإصلاح الديني في جزيرة العرب مهدِ الإسلام ومعقله" (2) اهـ
وقال أيضًا رحمه الله:
"هذه نُبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع: مقاومة الدولة العثمانية
(1) انظر: مقدمة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ لكتاب "المختار من مجلة المنار" ص (8،7).
(2)
"تاريخ الأستاذ الإمام"(1/ 583).