الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الآثار عن عمر في التحذير من الأهواء والبدع
.
تمهيد:
البدعة لغة: بدع الشي يبدعه بدعا، وابتدأه: أنشأه وبدأه، وبدع الركية: استنبطها وأحدثها. وركي بديع: حديثه الحفر.
والبدع: الشيء الذي يكون أوّلاً، وفي التنزيل:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 1 أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل.
والبدعة: الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال2.
إذا: فالبدعة لغة تطلق على الأمر المخترع على غير مثال سابق، وأما تعريف البدعة اصطلاحا: فهي: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه3.
والبدع على قسمين:
1 الآية 9 من سورة الأحقاف.
2 لسان العرب 1/341-342 وانظر معجم مقاييس اللغة 1/209- 210.
3 الاعتصام 1/36.
القسم الأول: بدعة حقيقية وهي ما استحدث في الدين أصلا ووصفا وذلك كالطواف حول القبور، وإسراجها ونحو ذلك.
القسم الثاني: بدعة إضافية وهي ما استحدث في الدين بوصفه دون أصله وذلك كالذكر الجماعي بصوت واحد فإن أصل مشروعية الذكر جاء الشرع بها ولكنه على هذه الصفة لم يرد شرعا1.
والبدع بنوعيها مذمومة شرعا قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" 3 وقد حذر صلى الله عليه وسلم من البدع لخطرها على الدين فقال: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"4.
وأوضح أن المبتدع مغير للدين محروم من الشرب من حوضه فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول: ربي أصحابي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"5.
1 انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص360.
2 مسلم 4/379 رقم 1718.
3 الحديث أخرجه الترمذي 5/44، وأبو داود 5/13-15، والدارمي 1/44-45، وأحمد 4/126- 127.
4 سنن الترمذي 5/44 وقال حسن صحيح.
5 البخاري مع الفتح 11/463 رقم 6575.
والبدعة ناقضة لركنية المتابعة في العمل لكونها مخالفة للسنة النبوية المطهرة، فيكون العمل الذي فقد هذا الشرط مردودا على صاحبه كما تكمن خطورة الابتداع في كونه استدراكا على الشريعة وافتياتا عليها ومخالفة صريحة لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حث أمته على التمسك بسنته وحذرهم من الإحداث والابتداع في الدين.
ومن خطورة الابتداع في الدين أيضا كونه اتباعا للهوى ومعاندة للشرع فلذا نرى السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من اتباع الهوى لأنه يجر إلى البدع1 هذا وقد أثرت عن عمر بن عبد العزيز آثار في النهي عن اتباع الهوى والابتداع في الدين. والتحذير من اتباع أهل الأهواء، فمن ذلك ما رواه:
234/1- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا ابن المبارك، أخبرني الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة2.
1 انظر: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص63 تأليف د. إبراهيم البريكان ط. دار السنة الخبر عام 1415هـ.
2 الزهد وزوائده ص408،وقد سبق تخريجه برقم207.
وداود بن عمرو ثقة انظر تقريب التهذيب ص199.
235/2- ابن سعد قال: حدثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن جعفر بن برقان قال: إن عمر بن عبد العزيز قال لرجل، وسأله عن الأهواء فقال: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب، والأعرابي واله عما سوى ذلك1.
236/3- البلاذري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: أمت كل بدعة وأحي كل سنة من سنن الإسلام وشريعة من شرائعه ولا تأخذنك في الله لومة لائم2.
237/4- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز:
…
فمن كان سائلا عن الذي في نفسي، وعن بغيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذي في نفسي وبغيتي منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله، وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد
…
"3.
238/5- الآجري قال: وحدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، قال: نا أبو موسى محمد بن المثنى قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، قال: حدثني شيخ، قال مؤمل: زعموا
1 ابن سعد الطبقات 5/374،، وقد تقدم تخريجه برقم 225.
2 البلاذرى كتاب جمل من أنساب الأشراف8 /156.
3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص71.
أنه أبو رجاء الخراساني أن عدي بن أرطأة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن قبلنا قوما يقولون: لا قدر فاكتب إلى برأيك
…
فكتب عمر: أما بعد: "
…
فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعده مما قد جرت سنته، وكفوا مؤنته،
…
"1.
239/6- ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز قال: "
…
والله لولا أن أنعش سنة، أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقا"2.
240/7- عبد الرزاق الصنعاني قال: أخبرنا معمر بن راشد أن عمر ابن عبد العزيز قال: قد أفلح من عصم من الهوى، والغضب، والطمع3.
241/8- الإمام الشافعي قال: سمعت عبد الله بن مؤمل المخزومي يحدث عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عمر بن عبد العزيز قال: لم
1 الآجرى في الشريعة 1/443- 444، وأبو نعيم في الحلية 5/338، وسنن أبي داود 4/202- 203، وقد تقدم في الإيمان بالقدر بسند آخر.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42،وأبو نعيم في الحلية 5/297، والفسوي المعرفة والتاريخ 1/574، وابن سعد في الطبقات 5/343، وابن الجوزي سيرة عمر ص72. وابن عساكر تاريخ دمشق 45/199.
3 عبد الرزاق في المصنف 11/126،وابن كثير البداية والنهاية5./236.
يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا1.
242/9- الخطيب البغدادي قال: أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البهلول التنوخي حدثني أبي حدثنا أبو الحسن المثنى بن جامع، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا فرج بن فضالة، عن كليب بن ميمون، عن ميمون بن مهران، قال: أوصاني عمر بن عبد العزيز فقال: يا ميمون لا تخل بامرأة لا تحل لك وإن أقرأتها القرآن، ولا تتبع السلطان وإن رأيت أنك تأمره بمعروف وتنهاه عن منكر، ولا تجالس ذا هوى فيلقي في نفسك شيئا يسخط الله به عليك2.
1 الإمام الشافعي في السنن له 2/52 تحقيق الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر، ط. دار القبلة للثقافة جدة عام 1409هـ قال: والأثر أسنده ابن ماجة 1/21، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال المحقق إسناده ضعيف، وله شاهد عن عروة بن الزبير، أما سند الشافعي ففيه شيخه مؤمل ضعيف، لكن الأثر بإسناده وشاهده يتقوى. انظر حاشية السنن للشافعي 2/52، وقد ذكر هذا الأثر أيضا السيوطي في صون المنطق والكلام ص37، عن عمر بن عبد العزيز به.
2 الخطيب البغدادي تاريخ بغداد 13/173، وانظر ابن الجوزي سيرة عمر ص259وفي الأثر فرج بن فضالة التنوخي ضعيف. انظر تقريب التهذيب ص444.
التعليق:
يظهر من الآثار السابقة المأثورة عن عمر النهي عن اتباع الهوى والابتداع في الدين وهو ما جاءت النصوص الصحيحة وأقوال السلف بالنهي عنه قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} 1.
وقال عز وجل مبينا أن اتباع الهوى ضد اتباع النص فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 2.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"3.
ومن أقوال السلف ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة4.
وعن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله5.
1 سورة الشورى آية:15.
2 سورة القصص آية 50.
3 صحيح مسلم 2/592.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/214.
5 المصدر السابق 1/123.
فهذه النصوص من الكتاب والسنة وأئمة السلف تحذرنا من اتباع الهوى والابتداع في الدين، ويظهر فيما سبق من الآثار المنقولة عن عمر ابن عبد العزيز رحمه الله الحرص الشديد في رد البدع والأهواء المضلة، فالتناجي في أمور الدين خارج جماعة المسلمين سمة من سمات أهل البدع ولله در عمر فقد وُفِّق في هذه الجملة المأثورة التي تعد كأنها من الإلهام. "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"
وهذه السمة سمة بارزة لأهل الأهواء والبدع في كل الأزمان والأوقات، وكما علم أن الأهواء المضلة مردودة بالكتاب والسنة فقد بين عمر رحمه الله تعالى أنها مردودة بالفطر السليمة التي لم تدنس بأفكار المنحرفين فقد أجاب من سأله عن شيء من الأهواء بقوله "عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سوى ذلك".
هذا ولأصحاب الديانات الأخرى كاليهود، والنصارى، وغيرهم، ممن بدلوا دينهم، وحرفوا كتبهم أراء فاسدة متأصلة في نفوسهم، ولهؤلاء يد في ترويج البدع والأهواء، والآراء الباطلة التي ورثوها عن آبائهم فوُجِد في كثير منهم بعد دخولهم في الإسلام واندماجهم في المسلمين، آراء ضارة على الإسلام والمسلمين فكان عمر رحمه الله يحذر من ذلك بقوله:
لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا" وهذا صحيح فإن ابن سبأ يهودي وهو رأس الروافض وهو السبب في خروج الخوارج كما أن كثيرا من زعماء الفرق الضالة كالجهمية، والمعتزلة، والمرجئة من أبناء الديانات الأخرى المندمجين في المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات الإسلامية. وهذه الآثار المروية عن عمر يظهر منها أن عمر قد أدى ما عليه من النصيحة لدين الله بهذه العبارات الرائعة التي يحذر فيها من اتباع الهوى وإحداث البدع التي أساس كل الشرور، والخروج عن الدين الصحيح ولقد أكثر العلماء فيما كتبوه محذرين عن البدع ومضارها الكثيرة على الفرد والمجتمع، مثل ما كتبه الملطي في كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، وابن وضاح القرطبي في كتابه كتاب فيه ما جاء في البدع، وكتاب الحوادث والبدع للطرطوشي وكتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامه، والاعتصام للشاطبي، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي وفي عصرنا وجدت مؤلفات عدة ورسائل جامعية عالجت موضوع البدعة وأحكامها1.
1 مثل: البدعة وأحكامها للدكتور سعيد بن ناصر، وموقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي. وتنبيه أولى الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لشيخنا الدكتور صالح بن سعد السحيمي حفظه الله.