الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: الآثار عن عمر في الرد على فرق مختلفة:
المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على المرجئة
تمهيد في تعريف المرجئة لغة واصطلاحاً:
الإرجاء يطلق على عدة معان منها: الأمل، والناحية، والتأخير، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال ابن فارس: رجى: الراء والجيم والحرف المعتل أصلان متباينان يدل أحدهما على الأمل، والآخر على ناحية الشيء1.
فالأول: الرجاء، وهو الأمل، يقال: رجوت الأمر أرجوه، رجاءً2.
وأما الثاني: فهو الرجا مقصور، الناحية من البئر، وكل ناحية رجا. قال تعالى:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} 3. وأما المهموز فإنه يدل على التأخير، يقال: أرجأت الشيء: أخرته
…
ومنه سميت المرجئة4، هذا في اللغة. وأما تعريف الإرجاء في الاصطلاح فقد اختلف العلماء في ذلك نوجز كلامهم فيما يلي:
1-
الإرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي -أي بمعنى التأخير والإمهال، وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله منزلة ثانية بالنسبة
1 معجم مقاييس اللغة 2/494.
2 المصدر السابق 2/494.
3 الآية 17 من سورة الحاقة.
4 انظر معجم مقاييس اللغة 2/495.
للإيمان، لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الأعمال على سبيل المجاز - لو سلمنا بوجوده - بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، وقد يطلق وصف الإرجاء على القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
ويشمل جميع من أخر العمل عن النية والتصديق1.
2-
وذهب آخرون إلى أن الإرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضى عليه بحكم ما2.
3-
وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة3، ولا شك أن هذا الترتيب هو الصواب كما سبق بيانه - أو إرجاء أمر علي وعثمان إلى الله تعالى حيث لا يشهدون عليهما بإيمان، ولا غيره".
"والواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان أنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا
1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني ص137، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص57، والفرق بين الفرق ص151.
2 الملل والنحل ص137.
3 المصدر السابق ص137.
تنفع مع الكفر طاعة هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد بل هو المقصود بالإرجاء"1.
هذا وقد جاءت عن عمر بن عبد العزيز آثار خاصة تدل على زيادة الإيمان وإدخال الأعمال فيه. والمرجئة لا يرون هذا فهذه الآثار تعتبر ردا عليهم، لاسيما وأن أهل العلم قد ذكروا هذه الآثار في معرض ردودهم على المرجئة. كما وردعنه - رحمه الله تعالى - التحذير عن البدع كلها ولا بدعة أظهر من بدعة الإرجاء. وهاهي الآثار الواردة عنه في هذا المبحث.
319/1- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: "إن للإسلام حدودا وشرائع، وسننا فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فإن أَعِش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص2.
1 انظر: فرق معاصرة لشيخنا الدكتور غالب بن علي العواجي 2/747، وانظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص57، والفرق بين الفرق ص151.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 180.
320/2- محمد بن نصر المر وزي قال: حدثنا أبو حفص الباهلي، ثنا شريح بن النعمان ثنا المعافى، ثنا الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا عذ ر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى1.
321/3- ابن سعد قال: أخبرنا سعيد بن عارم عن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: "فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرا2.
التعليق:
يتبين من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان حريصا على رد البدع كلها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يضحي بأعضائه كلها، وقد بين في تلك الآثار القول الصحيح في الإيمان وأنه يشمل العبادات كلها. وأولى عناية خاصة بشعبه، ووعد بأنه إن عاش فسيحمل رعيته عليها، ففي هذا المأثور عنه بيان للقول الصحيح في الإيمان كما أن فيه الرد على بدعة الإرجاء، لأن إحقاق الحق إبطال للباطل، وهذا المأثور عنه هو الحق الثابت عنه في مسألة الإيمان.
1 محمد بن نصر المروزي في السنة31 ط مؤسسة الكتب الثقافية ط الأولى عام1408 هـ.
2 ابن سعد في الطبقات5/343وقدتقدم تخريجه برقم223.
وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلا إليه عون بن عبد الله وموسى بن أبى كثير وعمر بن حمزة وفى بعض المراجع عمر بن ذر فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شئ منه1 فهذا لا يثبت عنه لما يلي:
- لأن ابن سعد رواه بدون سند فهو إذا منقطع.
- ولأنه استعمل فيه صيغة التمريض " زعموا".
- وأيضا إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته متهمون بالإرجاء.
هذا وعلى فرض تسليم تلك الرواية فقد ثبت في كتب التراجم أن عون بن عبد الله قد تاب عن الإرجاء. وقد روى ذلك اللالكائي بسنده عن نوفل الهذلي عن أبيه قال: "كان عون بن عبد الله بن مسعود من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئا ثم رجع فأنشد يقول:
لأول ما نفارق غير شك
…
نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من أهل جور
…
وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال
…
وقد حرمت دماء المؤمنينا2
1 ابن سعد الطبقات 6 /339 والذهبي: سير أعلام النبلاء 5 /104.
2 اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 5/1077 وابن عساكر47/65.
فثبت أن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قد رجع عن القول بالإرجاء ولعل قوله بالإرجاء كان قبل اتصاله بعمر رحمه الله تعالى اتصالا وثيقا وكونه من المقربين عنده.
وأما "عمر بن حمزة "- وعند الذهبي في السير - "عمر بن ذر القاص" فقد كان ثقة بليغا إلا أنه كان يرى الإرجاء وكان لين القول فيه.1.
وأما "موسى بن أبي كثير الوشاء أبو الصباح الكوفي" ،فهو صدوق لكن ذكر في ترجمته أنه يروي عن المشاهير المناكير فلما كثر ذلك بطل الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات، ولا ريب أن الادعاء السابق في كون عمر بن عبد العزيز قد وافقهم في الإرجاء ولم يخالفهم في شيء من ذلك، مما خالف فيه الثقات فيبطل الاحتجاج بتلك الدعوى. قال يحيى بن معين: كان موسى بن أبى كثير مرجئا.2.
فظهر بما تقدم أن عون بن عبد الله قد رجع عن الإرجاء. وأن عمر بن ذر كان إرجاؤه خفيفا، وقد كان في بدء الأمر يراد به بعض إطلاقاته، وأما موسى بن أبي كثير فلا يسلم له زعمه، ولا شك أن عمر رحمه الله من السلف الصالح، والمرجئة بخلاف هذا الوصف بعد أن خرجوا عن الحق. هم ومن سار على طريقتهم في مفهوم الإيمان مثل المعتزلة،
1 ابن عساكر19 /45.
2 الذهبي: ميزان الاعتدال4/218.
والخوارج الذين يرون أن العمل جزء لا يتجزأ من حقيقة الإيمان بحيث إذا ذهب بعضه ذهب كله. وقد تقدم ذكر بعض الردود على هذه الرواية الموجودة عند ابن سعد في مبحث زيادة الإيمان ونقصانه بما أغنى عن إعادته هنا.