المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع - الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة - جـ ٢

[حياة بن محمد بن جبريل]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثالث: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة وموقفه من أهل الأهواء والبدع وأهل الذمة

- ‌الفصل الأول: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الأثار عن عمر في وجوب لزوم الجماعة

- ‌المبحث الثاني: الآثار الواردة عنه في اتباع الكتاب والسنة

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر في تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الحرص على لزوم السنة والذب عنها

- ‌المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الأمر بالتمسك بما عليه الفطرة

- ‌المبحث السادس: الآثار عن عمر في التمسك بأخبار الآحاد في العقيدة

- ‌المبحث السابع: الآثار عن عمر في الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين

- ‌الفصل الثاني: الآثار عن عمر في التحذير من الأهواء والبدع

- ‌الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع

- ‌الفصل الرابع: الآثار عن عمر في النهي عن الخصومات في الدين وحثه على الجدال بالتي هي أحسن

- ‌الفصل الخامس: موقفه من الخوارج

- ‌المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه

- ‌المبحث الثاني: الآثار عن عمر في مناظرة الخوارج

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الحكم على الخوارج

- ‌الفصل السادس: موقفه من الشيعة

- ‌الفصل السابع: موقفه من القدرية

- ‌المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك

- ‌المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الحكم على القدرية

- ‌الفصل الثامن: الآثار عن عمر في الرد على فرق مختلفة:

- ‌المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على المرجئة

- ‌المبحث الثاني: الآثار عن عمر في الرد على الجهمية

- ‌المبحث الثالث: موقف عمر بن عبد العزيز ممن يُزهّد في العلم الشرعي من الفرق الضالة

- ‌الفصل التاسع: موقفه من أهل الذمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع

‌الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع

.

تمهيد:

كان عمر على جانب من الذكاء والفطنة، وكان له فراسة قلما تخطئ وقد أثر عنه مواقف كثيرة في هذا المجال وقد ورد "اتقوا فراسة المؤمن"1، وقد شابه في هذا جده الأعلى عمر بن الخطاب رضي اله عنه وفيما يتعلق بأهل الأهواء والبدع وردت له بعض المواقف التي سنذكر أهمها فيما يلي:

246/1- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا عبد الله حدثنا بيان، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا بشر بن الحارث، قال: سمعت عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عمن حدثه قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما انتجى قوم في دينهم دون جماعتهم إلا كانوا على تأسيس ضلالة2.

1 سنن الترمذي 5/278-279 وضعفه الألباني. انظر ضعيف سنن الترمذي ص387.

2 الزهد وزوائده ص410، وقد تقدم بسند آخر.

ص: 653

247/2- وحدثنا عبد الله، حدثنا داود بن عمر، وحدثنا ابن المبارك، أخبرني الأوزاعي، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة1.

248/3- وحدثنا عبد الله حدثني حسين بن الجنيد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن عثمان، قال سمعت عمر بن عبد العزيز قال: " انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 23.

249/4- ابن عبد الحكم في رسالة عمر إلى الخوارج وفيها

وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه ونحن ندعوكم إليهما

"4.

250/5- ابن عبد الحكم قال: قال عمر: "

فمن كان سائلا عن الذي في نفسي. وعن بغيتي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإن الذي في نفسي وبغيتي

1 نفس المصدر ص408.

2 الآية 7 من سورة آل عمران.

3 الزهد وزوائد هـ ص412 وقد تقدم في الإيمان بالقرآن.

4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص80.

ص: 654

منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد1.

251/6- ابن عبد الحكم أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد رسالة وفيها

وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضائه فإنه قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 3.

252/7- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز:" سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا4.

1 المصدر السابق ص71.

2 الآية 118- 119 سورة هود.

3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص74، والقدر للفريابي ص70.

4 المصدر السابق ص40. وقد مر برقم 115.

ص: 655

253/8- ابن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز من جعله دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل1.

254/9- ابن عبد الحكم قال: وقال عثمان بن كثير بن دينار2، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله وفيها

وقد ذلت ألسنة كثير من الناس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 4.

التعليق:

يتبين من الآثار السابقة المأثورة عن عمر رحمه الله تعالى أن لأهل البدع والأهواء علامات عدة وسمات بينة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبينها صلى الله عليه وسلم في سنته، وحذر منها السلف الصالح رحمهم الله، وقد

1 ابن سعد في الطبقات 5/371. والفريابي في القدر ص218. وسيأتي برقم 256، و324.

2 عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم أبو عمرو الحمصي ثقة عابد من التاسعة. تقريب ص383. مات سنة 209هـ.

3 الآية 105 من سورة المائدة.

4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص143، وأبو حفص الملَاّء 1/296.

ص: 656

حظي عمر بن عبد العزيز رحمه الله ببيان جملة من هذه العلامات، وهو من توفيق الله له فمن علامات أهل البدع التي أثرت عن عمر رحمه الله أنهم يحبون السرية بتعاليمهم والتخفي بها عن العامة، خوفا أن تنكشف تلك الأسرار، ولا يريدون إظهارها إلا في الوقت الذي يشاءون، إذ إنهم لو كانوا يعتقدون أنهم على صواب، لما تستروا عليها، وهذا طريق إلى التفريق بين كلمة المسلمين الذي هو إحدى سمات أهل البدع -وقد حذر عمر من هذا المسلك فقال: "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة، قال أحد العلماء المعاصرين: وكل أمر في الدين يسر به أصحابه من دون بقية المؤمنين، وبمعزل عن أهل العلم، والفقه في الدين فإنه ينتهي بأصحابه إلى الأهواء، من حيث لا يشعرون، والتاريخ شاهد بذلك. فإن البدع إنما ابتدأت همسا، وأحيانا بقصد الغيرة على الدين والنصح للإسلام ثم يؤول إلى العزلة عن الجماعة وتنافر القلوب، وغرس الغل على المخالفين، وهكذا يحدث الافتراق. كما يحصل في عصرنا هذا لدى بعض المنتسبين إلى الحركات الإسلامية المعاصرة هداهم الله وبصرنا وإياهم الحق1. ومن المعلوم أن الخروج عن الجماعة واستحداث الفرقة سمة من سمات أهل البدع. وقد حذرنا الله

1 الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام ص168-169، تأليف الدكتور ناصر عبد الكريم العقل ط. دار الرياض طبعة الثانية عام 1417هـ.

ص: 657

تبارك وتعالى من الفرقة، وأمرنا بلزوم الجماعة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ

} 1،وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا

} 2.

وأمر صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وحذر من الفرقة فقال: "

إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا فعليكم بسنتي

"3، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صفات الفرقة الناجية وهي التي خلا أصحابها من الافتراق، والاختلاف، وأن غيرها من الفرق الباقية، من فرق الاختلاف والتفرق، فقال: "وصفت الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم".

"وأما الفرق الأخرى، فإنهم أهل الشذوذ، والتفرق، والبدع، والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق

1 الآية 159 من سورة الأنعام.

2 الآية 103 من سورة آل عمران.

3 الحديث تقدم تخريجه 634.

ص: 658

مفارقة الكتاب والسنة، والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"1.

ومن علامات أهل البدع المأثورة عن عمر بن عبد العزيز اتباع المتشابه وهو مطية يركبها أهل البدع وذلك بتقليب الأدلة وتفسيرها بما يوافق هواهم مدعين أن تلك النصوص تؤيدهم فيما يذهبون إليه في باطلهم. وهو مسلك يخالف ما عليه أهل الحق في موقفهم من النصوص المتشابهة والمحكمة. قال عمر: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن أهل البدع يتصفون باتباع المتشابه في قوله: {

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} 2.

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ

1 الفتاوى 3/345-346.

2 الآية 7 من سورة آل عمران.

ص: 659

الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.

ومما أثر عن عمر بن عبد العزيز من سمات أهل البدع اتباع الهوى حيث قال: وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضائه فإنه قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .

واتباع الهوى من أبرز سمات أهل البدع. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 3.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك

1 الآية 7 من سورة آل عمران.

2 البخاري مع الفتح 8/209، رقم (4547) ، وقد تكلمنا عن معنى المحكم والمتشابه في مبحث الإيمان بالقرآن.

3 الآية 23 من سورة الجاثية.

ص: 660

الأهواء كما تجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"1.

فالهوى لازم لأهل البدع ولا ينفك عنهم بحال من الأحوال كما هو المشاهد والملموس عن كثب نسأل الله تعالى السلامة والثبات على الحق.

ومن علامات أهل البدع الواردة عن عمر سمة معارضة السنة بالقرآن وهذه صفة من صفات الخوارج وغيرهم من أهل البدع، والأهواء فيبين عمر رحمه الله تعالى معرضا بهؤلاء بأن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده يعتبر الأخذ به اعتصاما بكتاب الله وأنه لا يسوغ لأحد تبديل تلك السنن أو تغييرها أو النظر في أمر خالفها. ولا شك أن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته فهو مثل ما حرمه الله في كتابه قال عليه السلام: "ليوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا

1 رواه أبو داود بهذااللفظ4 /198 وأحمد في المسند4 /102 وروى ابن ماجة جزءا منه2 / 1321 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/127. الكلب: الذي يكلب بلحوم الناس، يأخذه شبه جنون فإذا عقر إنسانا كلب، فيقال رجل كلب، ورجال كلبي انظر معجم مقاييس اللغة 5/133.

ص: 661

فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مثل ما حرم الله"1.

فالزعم بأن الاكتفاء بالقرآن هو المطلوب من المسلم سمة تميز بها أهل الأهواء والبدع من الخوارج ومن شايعهم في القديم والحديث: ومن علامات أهل البدع التي نوه بها عمر بن عبد العزيز الخصومات في الدين لتأييد الباطل والجدل العقيم الذي لا فائدة من ورائه ترجى. فحذر عمر من هذه الخصلة وبين أنها سمة من سمات أهل البدع فقال: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل وفي روية أكثر الشك وكأني به رحمه الله تعالى يحذر جهمًا رأس الجهمية فيما وقع فيه، ذكر الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية أنه بلغه أن جهما عدو الله كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناسا من المشركين يقال السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك. قال: لا. قالوا:

1 الحديث رواه أبو داود 5/160-12، وابن ماجة في المقدمة 1/9-10، وأحمد 2/367، و4/131-132، و6/8، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/339.

ص: 662

فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة. قال: لا. قالوا: فوجدت له حسا. قال: لا. فوجدت له مجسا. قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا في بعض خلقه تكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة من الأبصار.

فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال: ألست تزعم أن فيك روحا. قال: نعم. فقال: هل رأيت روحك. قال: لا. قال: فسمعت كلامه. قال: لا. قال: فوجدت له حسا. قال: لا. قال: فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 3، فبنى أصل كلامه على هذه الآيات

1 الآية 11 من سورة الشورى.

2 الآية 3 من سورة الأنعام.

3 الآية 103 من سورة الأنعام.

ص: 663

وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً وكان من المشبهة. فأضل بكلامه بشرا كثيرا

"1.

وما وقع جهم فيما وقع فيه إلا بسبب الخصومة فيما لا علم له به فضل وأضل والخصومات في الدين، وفي القرآن، مذمومة في الجملة. وقد تجوز بشروط ستذكر فيما يأتي وقد حذر السلف الصالح من الخصومات، قال معاوية بن قرة وكان أبوه ممن أتى النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال2.

قال رجل للحكم ابن عتيبة ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات3. ومن هنا فإنه يجب على المسلم أن لا يسترسل في النظر في شبهات أهل الأهواء ومجادلاتهم لئلا يعلق بذهنه شيء من ذلك، وقد كان السلف يحذرون من مجالسة أصحاب البدع، ولا يكلمونهم بل ولا يردون السلام عليهم خصوصا من عرف منهم بعناده واستكباره عن الحق، وهذا هو الطريق الأسلم لأن ما تحرره أصحاب الشبهات إنما هو

1 الرد على الجهمية للإمام احمد ص102-104 تحقيق عبد الرحمن عميرة ط.

2 المصدر نفسه ص69.

3 المصدر نفسه ص69.

ص: 664

رجم بالغيب، وتجاوز لحدود العقل، والله يقول:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1.

ومن سمات أهل البدع الواردة عن عمر التأويل الفاسد لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق أهواءهم، ولا شك أن التأويل مسلك خطير ركبه الباطنية والمتصوفة، والزنادقة، وأهل الكلام، وهو موروث عن اليهود حيث أمروا بأن يقولوا حطة فقالوا حنطة. والتأويل الفاسد هو الذي أفسد الدين، والدنيا وهو الذي ركبه اليهود والنصارى، وحرفوا به نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله، أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد2.

1 الآية 36 من سورة الإسراء.

2 انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/208- 209.

ص: 665