الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: موقفه من الخوارج
المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه
…
تمهيد:
قبل الدخول في ذكر الآثار عن عمر بن عبد العزيز في موقفه من الخوارج، أرى أنه من المناسب تعريف الخوارج وذكر أهم فرقهم وما ورد في ذمهم من الأحاديث ثم بعد ذلك ذكر الآثار عن عمر إن شاء الله تعالى.
تعريف بالخوارج:
اختلف العلماء في تعريف الخوارج فعرفهم أبو الحسن الأشعري تعريفا خاصا حيث بين أن اسم الخارجي يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين وأن ذلك هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم. فقال رحمه الله: "والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب لما حكم"1
وأما الشهرستاني فعرفهم تعريفا عاما فاعتبر الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجا في أي زمان فقال: "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان"2.
1 مقالات الإسلاميين 1/207 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
2 الملل والنحل 1/114.
وقال الحافظ ابن حجر معرفا الخوارج: والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرأوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة1.
فالخوارج إذًا هم أولئك الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم ويلحق بهم كل من خرج على أئمة المسلمين الشرعيين، وكفرهم بالمعاصي. ولهم عدة ألقاب غير لقب الخوارج، كالحرورية، والشراة، والمارقة، والمحكمة، وهم يرضون بعض هذه الألقاب باعتبار ويرفضونها باعتبار آخر.
وأما بداية انتشارهم وظهورهم فقد كانت بعد حصول الاتفاق على التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما سنة سبع وثلاثين كما حكى ذلك الطبري2 وغيره من المؤرخين.
ومن أهم فرق الخوارج المحكمة الأولى الذين انفصلوا عن جيش علي رضي الله عنه وهم الذين أعلنوا شعار: لا حكم إلا لله. قال أبو الحسين الملطي واصفا ما بلغوا إليه من ظلم وإجرام، فأما الفرقة الأولى من الخوارج، فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم في الأسواق فيجتمع الناس في غفلة فينادون: لا حكم إلا لله، ويضعون سيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا
1 هدي الساري مقدمة البخاري مع الفتح ص459.
2 انظر الطبري تاريخ الأمم والملوك 5/57، وابن كثير البداية والنهاية 7/312.
يزالون يقتلون حتى يقتلوا. وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع حتى يقتل أو يقتل فكان الناس منهم على وجل وفتنة1.
ومن فرقهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق الحنفي. قال الأشعري: وهو أول من أحدث الخلاف بينهم2، ومن غرائب هذه الفرقة كونهم يرون قتل الأطفال لأن حكمهم حكم آبائهم بزعمهم متأولين قوله تعالى:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 3.
ومن فرقهم النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي ومن عقائدهم العذر بالجهل في الأحكام4، فمن استحل شيئا عن طريق الاجتهاد مما لعله محرم فمعذور5.
ومن فرق الخوارج فيما يذكره علماء الفرق الإباضية ولهم وجود وامتداد إلى الآن في عمان وزنجبار، وفي المغرب الإسلامي، ومن فرق الخوارج الصفرية، وهم أتباع عبد الله بن صفار التميمي على الأرجح.
1 التنبيه والرد على أهل الأهواء ص62.
2 مقالات الإسلاميين 1/168.
3 الآية 27 من سورة نوح.
4 مقالات الإسلاميين 1/174- 175.
5 المصدر السابق 1/174- 175.
هذه هي أهم فرق الخوارج. قال الأشعري: وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة، والإباضية، والصفرية، والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية، والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية1.
وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج المارقة وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل فمن هذه الأحاديث ما ورد في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم -أو حناجرهم- يمرقون من الدين مروق السهم من الرميَّة فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء"2.
وفي الصحيح أيضا عن سهل بن حنيف قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية"3.
1 المصدر السابق 1/183.
2 البخاري مع الفتح 12/283، برقم (6931) ، ومسلم بشرح النووي 3/134، رقم (1065) .
3 البخاري مع الفتح 12/290، برقم (6932) .
وروى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"1.
ففي هذه الأحاديث الثلاثة وغيرها مما لم نذكره ذم واضح لفرقة الخوارج فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم طائفة مارقة وأنهم يبالغون في الصلاة وقراءة القرآن لكنهم لا يقومون بحقوق الإسلام بل يمرقون منه وأنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عند ما يقرؤون القرآن يظنونه لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم وهو عليهم2.
هذا وكان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مواقف مشهورة وأقوال مأثورة في التعامل مع الخوارج ومناظرتهم ودحض شبههم بالحجة وآرائهم بالدليل وإيضاح الحق لهم بدليله حبا منه للسنة واتباعا للسلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
1 البخاري مع الفتح 12/283، (6930) .
2 انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة للدكتور ناصر بن علي الشيخ 3/1181، ط. مكتبة الرشد الرياض الطبعة الثانية عام 1415هـ.
المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه
265/1- ابن عبد البر قال: حدثنا نعيم، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير، حدثنا هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج: إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحدا، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا، وإن كان رأيهم القتال فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة1.
266/2- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله
…
ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا2.
267/3- ابن عبد الحكم أيضا قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج رسالة وفيها
…
أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم
1 ابن عبد البر في التمهيد 23/336، وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75 مع بعض الاختلاف في اللفظ، وابن الجوزي سيرة عمر ص99، وقد تقدم.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 115.
عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة فإنه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1، فهذا النصح إن أحببتم وإن تستغشوني فقديما ما استغش الناصحون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته2.
التعليق:
يتبين من الآثار السابقة منهج عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج، فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، وإنما كتب إليهم وحذرهم من الخروج عن الجماعة الذين هم أهل الحق وقد أمر الله تبارك وتعالى بالاجتماع ونهى عن التفرق وأمر بلزوم الجماعة ونهى عن الخروج عنها وجعل إجماع هذه الأمة حجة فإذا اجتمعوا على أمير وجب طاعته وحرم الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية ولم يظهر كفرا بواحا، وحذر نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الأئمة وأمر بطاعتهم في المنشط والمكره في غير معصية الله تعالى. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآى من أميره شيئا يكرهه
1 الآية 83 من سورة القصص.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75، وابن الجوزي سيرة عمر ص99-100 باختلاف ألفاظ.
فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية"1.
وقد نهى السلف الصالح عن الخروج على أئمة الجور فقد سئل الحسن البصري عن قتال الحجاج بعد أن ذكروا له ظلمه وسفكه للدماء وأخذه للأموال. فقال: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين2.
وخطب في الناس قائلا: "ياأيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع"3.
والآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز هنا تبين منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارج الذين هم من أوائل الفرق ظهورا في الإسلام فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، ولم يرسل عليهم الحملة تلو الحملة. وإنما عاملهم معاملة أتاحت لهم الفرصة في الرجوع إلى الحق مستنا بسنن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في معاملة
1 البخاري مع الفتح 13/121، برقم (7143) .
2 ابن سعد الطبقات 7/120.
3 المصدر السابق 7/121.
الخوارج حين خرجوا عليه. وهذا التصرف من عمر رحمه الله تعالى هو ما تدل عليه الأحاديث الصحيحة روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"1.
قال النووي في الحديث الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدراً2، وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حمل علينا السلاح فليس منا"3.
قال الحافظ ابن حجر: "في الحديث دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتله وقتاله
…
والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما"4.
1 صحيح مسلم بشرح النووي 4/550، رقم (1852) .
2 المصدر السابق 5/550.
3 البخاري مع الفتح 13/23، برقم (7070) .
4 انظر البخاري مع الفتح 13/24.
إذا فتصرف عمر رحمه الله إزاء الخوارج تصرف بالحق مستنده النصوص الصحيحة وأعمال سلف الأمة وبعد أن حذر الخوارج من الخروج عليه اتبع خطوة أخرى وهي طلب المناظرة والمحاججة حتى لا يضيع فرصة لحقن دماء المسلمين وهذا هو مضمون المبحث التالي إن شاء الله تعالى