الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الآثار عن عمر في النهي عن الخصومات في الدين وحثه على الجدال بالتي هي أحسن
.
تمهيد:
الجدال والمراء، والخصومة كلمات مترادفة1، ومن علماء اللغة من يرى أن الخصومة أعم من الجدال والمراء2.
والجدل محركة اللدد في الخصومة: والقدرة عليها3.
قال ابن فارس: "جدل" الجيم والدال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة، ومراجعة الكلام"4.
والجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل، من آكد الواجبات قام به الأنبياء، والمرسلون. وقد ورد لفظ الجدال وما تصرف منه في القرآن "29مرة" وبلفظ "الحجة" وما تصرف منها "27" مرة وبلفظ "السلطان""33" مرة، وبلفظ "البرهان""8" مرات كما يوجد في السنة القولية والفعلية،
1 انظر النهاية في غريب الحديث 1/248.
2 انظر: القاموس المحيط ص1424- 1425.
3 المصدر السابق ص1261.
4 معجم مقاييس اللغة 1/433.
والتقريرية في عامة أبواب التوحيد، والشريعة، وقائع كثيرة يرد بها النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس حقا1، وقد يذم الجدال إذا كان عن جهل أو كان لرد الحق أو لنصرة الباطل، أو كان فيما نهى الله ورسوله عنه، كالجدال في المتشابه أو الحق بعد ما تبين، وقد كان السلف الصالح يمنعون من الجدال المذموم ويقومون بالجدال بالتي هي أحسن وهذا ما أثر عن عمر بن عبد العزيز حيث منع كما سيأتي من الجدال المذموم. وناظر وجادل بالتي هي أحسن، وهاكم تلك الآثار الواردة عنه في ذلك.
256/1- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حماد ابن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"2.
1 انظر: الرد على المخالف ص25-26 للشيخ الدكتور بكر أبو زيد ضمن مجلد الردود ط. دار العاصمة ط. الأولى 1414هـ.
2 ابن أبي الدنيا كتاب الصمت وآداب اللسان ص116، وأخرج الأثر ابن سعد في الطبقات 5/371، وأحمد في الزهد ص302، واللالكائي في السنة 1/144، والدارمي في السنن 1/91، والفريابي في القدر ورقة أ/64.
وقال محقق كتاب الصمت رجاله ثقات الحاشية ص116.
257/2- ابن أبي الدنيا أيضا قال: حدثني علي بن الحسين عن إبراهيم بن مهدي، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا سمعت المراء فأقصر1.
258/3- ابن الجوزي قال: حدثنا بشر بن عبد الله بن بشار أن عمر ابن عبد العزيز قال: "احذروا المراء فإنه لا تؤمن فتنة ولا تفهم حكمته"2.
259/4- عبد الرزاق قال: وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز قال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب، والطمع3.
260/5- ابن عبد الحكم قال: وقال ميمون بن مهران: سألني عمر ابن عبد العزيز على فريضة فأجبته فيها فضرب على فخذي ثم قال: ويحك يا ميمون بن مهران، إني وجدت لقيا الرجال تلقيحا لألبابهم4.
1 كتاب الصمت وآداب اللسان ص101، وقال محقق الكتاب رجال الأثر موثقون. انظر ص101.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص293، وانظر أبو نعيم في الحلية 5/325، وبشر بن عبد الله بن يسار كما في التقريب صدوق، كان من حرس عمر بن عبد العزيز. انظر التقريب ص123.
3 عبد الرزاق في المصنف 11/126، وابن الجوزي سيرة عمر ص291.
4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص109- 110، وابن الجوزي ص295، و296، وأبو نعيم في الحلية 5/340، وابن أبي الدنيا رسالة العقل وفضله ص24، ط. مؤسسة الكتب الثقافية تحقيق يسرى عبد الغني عبد الله.
261/6- ابن عبد الحكم أيضا قال: بعث عمر بن عبد العزيز محمد ابن الزبير الحنظلي1 إلى شوذب الحروري2، وأصحابه حين خرجوا بالجزيرة3، قال: فكتب معنا إليهم كتابا، فأتيناهم فأبلغناهم رسالته وكتابه، فبعثوا معنا رجلين منهم أحدهما من بني شيبان والآخر في حبشية، وهو أشد الرجلين حجة ولسانا. فقدمنا بهما إلى عمر بن عبد العزيز وهو بخناصره فصعدنا إليه في غرفة فيها ابنه عبد الملك وكاتبه مزاحم، فأعلمناه مكانهما فقال: ابحثوهما إن لا يكون معهما حديدة، ثم أدخلوهما ففعلنا، فلما دخلا، قالا: السلام عليكم ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ فقال الذي في حبشية: والله ما نقمنا عليك في سيرتك فإنك لتجرى العدل والإحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قال: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك
1 محمد بن الزبير الحنظلي البصري متروك من السادسة. مدس، تقريب التهذيب ص478.
2 شوذب هو بسطام اليشكري خرج سنة 100هـ في ثمانين رجلا. انظر تاريخ ابن الأثير 4/115.
3 الجزيرة: هي التي بين دجلة والفرات، وتشتمل على ديار بكر ومضر. انظر معجم البلدان 2/134.
وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال، فابرأ منهم والعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق. قال: فتكلم عمر عند ذلك فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغه علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبابكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تقولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلى. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء، وسبي الذراري، وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمان أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا آمنا، ولم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله ابن وهب الراسبي1 استعرضوا الناس فقتلوهم، وعرضوا لعبد الله بن
1 عبد الله بن وهب الراسبي أحد رؤساء الخوارج.
خباب1 صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حيا من العرب يقال لهم بنوا قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء، والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الأقط وهي تفور بهم قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحد أم اثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبابكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة وأهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج، والأموال. ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن أهل فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم إنكم قوم جهال. أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم ويأمن
1 عبد الله بن خباب كان عاملا لعلي رضي الله عنه حليف بني زهرة. يقال: له رؤية. كان ثقة من كبار التابعين قتله الحرورية سنة 38هـ. تقريب التهذيب ص301.
عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قالا: ما نحن كذلك. قال: بلى، تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الذي في حبشية: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني برئ ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم1.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص112- 115، وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر فقد رواه بسندين له وقال محقق الكتاب حاكما على السندين بأنهما لا بأس بهما 2/965-967.
وقد أخرج الأثر أيضا المسعودي في مروج الذهب 2/175- 178، وابن الجوزي ص 98-99، وأبو حفص الملَاّء 2/500-503. وابن عبد ربه في العقد الفريد 2/339-395، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4/155-156.
262/7- ابن عبد الحكم قال: ودخل رجلان من الخوارج على عمر ابن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، فقال وعليكما السلام يا إنسانان. قالا: طاعة الله أحق ما اتبعت. قال: من جهل ذلك ضل. قالا: الأموال لا تكون دولة بين الأغنياء. قال: قد حرموها. قالا: مال الله يقسم على أهله. قال: الله بين في كتابه تفصيل ذلك. قالا: تقام الصلاة لوقتها. قال: هو من حقها. قالا: إقامة الصفوف في الصلوات. قال: هو من تمام السنة. قالا: إنما بعثنا إليك. قال: بلغا ولا تهابا. قالا: ضع الحق بين الناس. قال: الله أمر به قبلكما. قالا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق إن لم تبتغوا بها باطلا. قالا: ائتمن الأمناء. قال: هم أعواني. قالا: احذر الخيانة. قال: السارق محذور، قالا: فالخمر ولحم الخنزير. قال: أهل الشرك أحق به. قالا: فمن دخل في الإسلام فقد أمن. قال: لولا الإسلام ما أمنا. قالا: أهل عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقتهم. قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 1، قالا: خرب الكنائس.
1 الآية 286 من سورة البقرة.
قال: هي من صلاح رعيتي. قالا: ذكرنا بالقرآن. قال: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} 1، قالا: تردنا على دواب البريد. قال: لا هو من مال الله لا نطيبه لكما. قالا: فليس معنا نفقة. قال: أنتما إذن إبنا سبيل علي نفقتكما2.
263/8- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا محمد بن سلمة، أنبانا خصيف، قال: قال عمر رضي الله عنه لغيلان: ألست تقر بالعلم؟ قال: بلى. قال: فما تريد مع أن الله عز وجل يقول: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 3.
264/9- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد يعني ابن سلمة، حدثنا أبو جعفر الخطمي، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك ياغيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم
1 الآية 281 من سورة البقرة.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص147 ولم أجد هذه المناظرة في مصدر آخر.
3 عبد الله في السنة 2/428- 429، وسيأتي تخريجه والآيات 160-161-162- من سورة الصافات.
أقل. قال: ما تقول في العلم؟ قال: قد نفذ العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت ويحك ياغيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت. وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر. ثم قال: تقرأ ياسين قال: نعم. قال: إقرأ يس والقرآن الحكيم: فقرأ يس والقرآن الحكيم إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 2، قال: قال عمر رحمه الله: قل: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني
1 الآيات من 1-7 من سورة يس.
2 الآيتان 8-9 من سورة يس.
3 الآيتان 9-10 من سورة يس.
لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً قال: اذهب. فلما تولى قال: اللهم إن كان كاذبا فيما قال فأذقه حر السلاح
…
1.
التعليق:
يتبين من الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا الفصل نهيه عن المراء العقيم، وحثه وقيامه بالجدال بالتي هي أحسن. وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة وهو ما فهمه السلف الصالح من النصوص، فالجدال والمراء في حد ذاته قد يكون بحق، وقد يكون بغير حق، وقد يكون مرغبا فيه، وقد يكون منهيا عنه.
فمن الأدلة على جواز الجدال بالحق قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2، وقوله عز وجل:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 3.
ومن الأدلة على الجدال الممنوع قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} 4.
1 عبد الله في السنة 2/429، والآجري في الشريعة 1/438-439 وقال محقق كتاب الشريعة إسناده حسن.
2 الآية 46 من سورة العنكبوت.
3 الآية 125 من سورة النحل.
4 الآية 4 من سورة غافر.
وعلى هذه النصوص النيرة تنزل الآثار الواردة عن عمر في منع الجدال والخصومة والقيام به، والحث عليه، فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحق وكان جدالا بغير علم كان مذموما منهيا عنه1.
قال ابن عبد البر بعد ذكره مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج: "هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال، وهو القائل: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل، فلما اضطر وعرف الفلج في قوله ورجى أن يهدي الله به لزمه البيان وجادل وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله2.
وعلى ضوء ما تقرر ذكره تحمل النصوص العامة في الكتاب والسنة وأقوال السلف في النهي عن الجدال مثل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} 3.
وقال عز وجل: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 4.
1 انظر الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص235، والنووي على صحيح مسلم 6/167.
2 جامع بيان العلم وفضله 2/967.
3 سورة غافر آية 4.
4 سورة الشورى آية 35.
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"1. وفي صحيح الجامع قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"2.
ومن أقوال السلف قول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: "أدركنا الناس وهم على الجملة يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون"3.
وعن الإمام أحمد قال: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال في الدين4.
فظهر من خلال ما سبق ذم الجدال والخصومات بوجه عام، إلا أنه مخصوص وليس على عمومه على الإطلاق، لأن الأمر قد جاء بإباحة
1 البخاري مع الفتح 8/88، رقم (4523) ، ومسلم 6/167، برقم (2668) .
2 الحديث رواه الترمذى 5/379 وقال هذا حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 5/252 وابن ماجة في المقدمة 1/19 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 1477، و5509.
3 ابن بطة: الإبانة الكبرى 2/529 تحقيق رضا نعسان معطى ط. دار الراية.
4 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 1/176.
بعض صور المجادلة والثناء عليها، وعلى أهلها في بعض النصوص من الكتاب والسنة وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز كما تقدم من نقل بعض الآثار عنه فمن نصوص القرآن التي تأمر بالجدال بالتي هي أحسن قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1.
وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى عن بعض صور محاجة إبراهيم عليه السلام ومناظرته لقومه على سبيل التقرير له والثناء عليه بها كما في قوله جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 2.
وورد في القرآن الكريم ذكر محاجة إبراهيم لأبيه وقومه كما في سورة الأنبياء3، ومحاجة موسى عليه السلام لفرعون كما في سورة الشعراء4، وغيرها، والآيات في قصص مناظرات أنبياء الله لأقوامهم ومحاجاتهم لهم
1 سورة النحل آية 125.
2 الآية 158 من سورة البقرة.
3 انظر الآيات 52-56، و63- 67 من سورة الأنبياء.
4 انظر الآيات 23-30 من سورة الشعراء.
كثيرة. وفي السنة حديث محاجاة موسى لآدم الثابت في الصحيحين1 وقد وقعت المناظرات بين السلف أنفسهم في كثير من المسائل والأحكام كمناظرة علي وابن عباس للخوارج، ومناظرة الأوزاعي قدريا طلب المناظرة2، ومناظرة الإمام أحمد للجهمية3.
والذي يتلخص من كلام أهل العلم في الفرق بين الجدال المأمور به والمنهي عنه أن الجدال المأمور به هو الذي يقصد به إثبات الحق أو دفع الباطل أو للتعليم والاستيضاح فيما يشكل على الإنسان من المسائل.
وأما الجدال المذموم فهي ما كانت لرد الحق أو لنصرة الباطل أو كانت فيما نهى الله ورسوله عن المجادلة فيه، كالمجادلة في المتشابه وفي الحق بعد ما تبين أو كانت لحظ النفس كإظهار العلم والفطنة والذكاء مراءاة للناس وطلبا لثنائهم أو لغير ذلك من المقاصد المذمومة كالعناد والتعصب للرأي4.
1 البخاري مع الفتح 11/505 رقم 6614.
2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/794-795.
3 انظر الرد على الجهمية والزنادقة ص114-129.
4 انظر: موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع 2/603 تأليف الدكتور إبراهيم الرحيلي.
والمهم أن الآثار المنقولة عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن المراء والجدال والأخرى التي تفيد إباحته بل تصرح بجوازه وقيامه بمناظرة الخوارج والقدرية وغيرهم إنما هي في ضوء ما صرحت به نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله تعالى. فقد كان عمر حاكما عالما عاملا بما علم فجمع بين النصوص وتوسط في الأمور كلها ومنع من الخصومات في الدين إذا كان ذلك يؤدي إلى نصرة الباطل وإظهاره في صورة تحببه إلى النفوس والقلوب وجادل بالعلم على بصيرة من أمره فلم يترك لمبطل سبيلا ولا لمؤوّل طريقا فجمع بين الحسنيين، وقد تبين من خلال الآثار المنقولة عنه أن الجدال والمراء ليس مذموما على الإطلاق، وإنما الممنوع منه ما تقدم بيانه، والمحمود منه ما قام به هو من مجادلة الخوارج وغيرهم كالشيعة والقدرية.
وقد بين علماء السلف في مؤلفاتهم في القديم والحديث هذه المسألة واستوفوا الحجج ووجهوا ما استشكل من الأدلة مثل ما قام به ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله 1، والخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه2، وشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة والفتاوى وغيرها. ومن المعاصرين الشيخ الدكتور بكر أبو زيد في كتابه "الرد على
1 في باب إتيان المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة 2/953-974.
2 في باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة وإبطاله ص230-235.
المخالف"، والدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في كتابه "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" وغيرهم كثير