المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة - الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة - جـ ٢

[حياة بن محمد بن جبريل]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثالث: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة وموقفه من أهل الأهواء والبدع وأهل الذمة

- ‌الفصل الأول: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الأثار عن عمر في وجوب لزوم الجماعة

- ‌المبحث الثاني: الآثار الواردة عنه في اتباع الكتاب والسنة

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر في تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الحرص على لزوم السنة والذب عنها

- ‌المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الأمر بالتمسك بما عليه الفطرة

- ‌المبحث السادس: الآثار عن عمر في التمسك بأخبار الآحاد في العقيدة

- ‌المبحث السابع: الآثار عن عمر في الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين

- ‌الفصل الثاني: الآثار عن عمر في التحذير من الأهواء والبدع

- ‌الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع

- ‌الفصل الرابع: الآثار عن عمر في النهي عن الخصومات في الدين وحثه على الجدال بالتي هي أحسن

- ‌الفصل الخامس: موقفه من الخوارج

- ‌المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه

- ‌المبحث الثاني: الآثار عن عمر في مناظرة الخوارج

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الحكم على الخوارج

- ‌الفصل السادس: موقفه من الشيعة

- ‌الفصل السابع: موقفه من القدرية

- ‌المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك

- ‌المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة

- ‌المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الحكم على القدرية

- ‌الفصل الثامن: الآثار عن عمر في الرد على فرق مختلفة:

- ‌المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على المرجئة

- ‌المبحث الثاني: الآثار عن عمر في الرد على الجهمية

- ‌المبحث الثالث: موقف عمر بن عبد العزيز ممن يُزهّد في العلم الشرعي من الفرق الضالة

- ‌الفصل التاسع: موقفه من أهل الذمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة

‌المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة

309/1- قال أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو حامد بن جبلة1، ثنا محمد ابن إسحاق السراج2، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام3، ثنا محمد بن بكر البرساني4، ثنا سليم بن نفيع القرشي5، عن خلف أبي الفضل القرشي6، عن كتاب عمر بن عبد العزيز إلى النفر الذين كتبوا إلي بما لم يكن لهم بحق في رد كتاب الله تعالى وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه

1 أبو حامد هو أحمد بن محمد عبد الله بن جبلة سمع منه أبو نعيم فأكثر وهو نيسابوري توفي عام 374هـ وقد سمع من السراج، وابن خزيمة وطبقتهم. انظر: التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة 1/157 ط. دار الحديث. وتاريخ الإسلام للذهبي 26/552.

2 والسراج هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي مولاهم ثقة ثبت توفي 313هـ انظر تاريخ بغداد 1/252.

3 أبو الأشعث هو أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي، ثقة توفي عام 253 هـ. تاريخ بغداد 5/162- 166.

4 هو محمد بكر البرساني البصري وثقه يحيى بن معين مات عام 203هـ. انظر تاريخ بغداد 2/92- 93.

5 سليم بن نفيع القرشي لم أجده بعد طول بحث.

6 خلف أبي الفضل القرشي قال الذهبي في المقتنى في سرد الكنى عنه: سليم بن نفيع انظر المقتنى 2/14.

ص: 771

السابق الذي لا حد له إلا إليه، وليس لشيء منه مخرج، وطعنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته.

أما بعد: فإنكم كتبتم إلي بما كنتم تسترون منه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من التكذيب بالقدر وقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وسيقبض العلم قبضا سريعا1، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعظ الناس -:"إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، قد تبينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، فمن رغب عن أنباء النبوة، وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى، ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى"2.

1 أخرج هذا الأثر اللالكائي عن الزهري: بلغنا عن رجال من أهل العلم انهم كانوا يقولون:

انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/106، رقم الأثر 136- و137 ورقم 15 ص62 منه.

2 ذكر هذا الأثر الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه تحت عنوان باب تعظيم السنن والحث على التمسك بها والتسليم لها والانقياد إليها وترك الاعتراض عنها بسنده عن الأوزاعي أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال:

انظر الفقيه والمتفقه 1/148 وانظر السنة لمحمد بن نصر المر وز ي ص31 فقد ذكر هذا الأثر معزوا إلى عمر بن عبد العزيز.

ص: 772

وإنكم ذكرتم أنه بلغكم أني أقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، فأنكرتم ذلك علي وقلتم: إنه ليس يكون ذلك من الله في علم حتى يكون ذاك من الخلق عملا، فكيف ذلك كما قلتم؟ والله تعالى يقول:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 1، يعني عائدين في الكفر، وقال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2، فزعمتم بجهلكم في قول الله تعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 3، أن المشيئة في أي ذلك أحببتم فعلتم من ضلالة أو هدى. والله تعالى يقول:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، فبمشيئة الله لهم شاءوا ولو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئا قولا ولا عملا، لأن الله لم يملك العباد ما بيده، ولم يفوض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدي الناس جميعا، فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعا فما ضل منهم إلا من كان في علم الله

1 الآية 15 من سورة الدخان.

2 الآية 28 من سورة الأنعام.

3 الآية 29 من سورة الكهف.

4 الآية 29 من سورة التكوير.

ص: 773

ضالا. وزعمتم بجهلكم أن علم الله ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي صدهم عما تركوه من طاعته ولكنه بزعمكم كما علم الله أنهم سيعملون بمعصيته كذلك علم أنهم سيستطيعون تركها فجعلتم علم الله لغوا، تقولون لو شاء العبد لعمل بطاعة الله وإن كان في علم الله أنه غير عامل بها، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم الله أنه غير تارك لها، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علما، وإن شئتم رددتموه وكان جهلا، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علما ليس في علم الله وقطعتم به علم الله عنكم، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضا وكان يقول: إن الله لم يجعل فضله ورحمته هملا بغير قسم منه ولا اختيار، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه1.

فأنتم تقرون في العلم بأمر وتنقضونه في آخر والله تعالى يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} 2، فالخلق

1 قول ابن عباس رضي الله عنهما أورده اللالكائي بسنده عن الزهري، عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها. انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/742 رقم الأثر 1224، وانظر: السنة لعبد الله 2/422.

2 الآية 255 من سورة البقرة.

ص: 774

صائرون إلى علم الله تعالى ونازلون عليه وليس بينه شيء هو كائن حجاب تحجبه عنه ولا يحول دونه إنه عليم حكيم.

وقلتم لو شاء الله لم يفرض بعمل بغير ما أخبر الله في كتابه عن قوم ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وأنه قال: {

سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1، فأخبر أنهم عاملون قبل أن يعملوا، وأخبر أنه معذبهم قبل أن يخلقوا. وتقولون أنتم: إنهم لو شاءوا خرجوا من علم الله في عذابه إلى ما لم يعلم من رحمته لهم، ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب الله برد، ولقد سمى الله تعالى رجالا من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييرا، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلا، فقال:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} 2.

ص: 775

فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحدا1 إبطال علمه في شيء من ذلك، فهو مسمى لهم بوحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو أن يشرك في خلقه أحدا، أو يدخل في رحمته من قد أخرجه منها أو يخرج منها من قد أدخله فيها، ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليما وعلى كل شيء شهيدا، قبل أن يخلق شيئا، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم، ولم يزد بعد أعمالهم، ولا بجوائحه2 التي قطع بها دابر ظلمهم ولا يملك إبليس هدي نفسه ولا ضلالة غيره، وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم الله في خلقه وإهمال عبادته وكتاب الله قائم ينقض بدعتكم وإفراط قذفكم، ولقد علمتم أن الله بعث رسوله والناس يومئذ أهل شرك فمن أراد الله له الهدى لم تَحُلْ ضلالته التي كان فيها دون إرادة الله له، ومن لم يرد الله له الهدى تركه في الكفر ضالا، فكانت ضلالته أولى به من هداه فزعمتم أن الله أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية وأن الله خلو من أن يكون يختص أحدا برحمته، ويحجز أحدا عن معصيته، وزعمتم أن الشيء الذي بقدر إنما هو عندكم اليسر والرخاء، والنعمة، وأخرجتم منه

1 هكذا في المخطوط والمطبوع، ولعله: أحدٌ.

2 تصحيح من المخطوط وفي المطبوعة بحوائجه وهو خطأ. انظر: 5/348 الحلية، والجوائح: المصائب.\

ص: 776

الأعمال وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وأنكم الذين هديتم أنفسكم من دون الله. وأنكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من الله ولا إذن منه. فمن زعم ذلك فقد غلا في القول لأنه لو كان شيء لم يسبق في علم الله وقدره لكان لله في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون الله والله سبحانه وتعالى يقول:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1، وهم له قبل ذلك كارهون {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 2، وهم له قبل ذلك محبون، وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين ثم أخبر بما سبق لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 3، وقال تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} 4، فلولا علمه ما

1 الآية 7 من سورة الحجرات وذكر السيوطي في الإكليل في استنباط التنزيل أن ابن أبي حاتم ذكر هذه الآية بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه احتج بها في الرد على القدرية. انظر: الإكليل ص241 ط. دار الكتب العلمية الطبعة الثانية عام 1405هـ. وقد راجعت تفسير ابن أبي حاتم المطبوع فلم أجد ما ذكره السيوطي.

2 الآية 7 من سورة الحجرات.

3 الآية 29 من سورة الفتح.

4 الآية 2 من سورة الفتح.

ص: 777

غفرها الله له قبل أن يعملها، وفضلا سبق لهم من الله قبل أن يخلقوا ورضوانا عنهم قبل أن يؤمنوا، ثم أخبر بما هم عاملون آمنون قبل أن يعملوا وقال:{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} 1، فتقولون أنتم إنهم قد كانوا ملكوا رد ما أخبر الله عنهم أنهم عاملون، وأن إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله: فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولا، ولا يكون لوحي الله فيما اختار تصديقا، بل لله الحجة البالغة. وفي قوله تعالى:{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2، فسبق لهم العفو من الله فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم وقلتم: لو شاءوا خرجوا من علم الله في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا فمن زعم ذلك فقد غلا وكذب، ولقد ذكر الله بشرا كثيرا، وهم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} 3، وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ

1 الآية 29 من سورة الفتح.

2 الآية 68 من سورة الأنفال.

3 الآية 3 من سورة الجمعة.

ص: 778

سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} 1، فسبقت لهم الرحمة من الله قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا لهم، ولقد علم العالمون بالله أن الله لا يشاء أمرا فتَحُول مشيئة غيره دون بلاغ ما شاء. ولقد شاء لقوم الهدى فلم يُضِلّهم أحد. وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا وقال لموسى وهارون:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2، وموسى في سابق علمه أنه يكون لفرعون عدوا وحزنا فقال تعالى:{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 3، فتقولون أنتم لو شاء فرعون كان لموسى وليا وناصرا والله تعالى يقول:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 4، وقلتم لو شاء فرعون لامتنع من الغرق والله تعالى يقول:{إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} 5، مثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين، كما

1 الآية 10 من سورة الحشر.

2 الآية 43-44 من سورة طه.

3 الآية 6 من سورة القصص.

4 الآية 8 من سورة القصص.

5 الآية 24 من سورة الدخان.

ص: 779

قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 1، فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلى بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون مذموما مدحورا وصار إلى ذلك لما ابتلي به من السجود لآدم فتلقى آدم التوبة فرحم، وتلقى إبليس اللعنة فغوى ثم أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوما متوبا عليه وأهبط إبليس بنظرته مدحورا مذموما مسخوطا عليه، وقلتم أنتم أن إبليس وأولياءه من الجن قد كانوا ملكوا رد علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال:{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 2، حتى لا ينفذ علم إلا بعد مشيئتهم فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في رد علم الله؟؟؟ فإن الله عز وجل لم يشهدكم خلق أنفسكم فكيف يحيط جهلكم بعلمه، وعلم الله ليس بمقصر عن شيء هو كائن، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على رده، فلو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شيء إلى شيء هو كائن لكانت مواقعكم عنده، ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض من الفساد وسفك الدماء، فيها وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء. وما قالوا تخرصا

1 الآية 30 من سورة البقرة.

2 الآية 84- 85 من سورة ص.

ص: 780

إلا بتعليم الحكيم لهم، فظن ذلك منهم وقد أنطقهم به فأنكرتم أن الله أزاغ قوما قبل أن يزيغوا وأضل قوما قبل أن يضلوا وهذا فيما لا يشك فيه المؤمنون بالله أن الله قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم، وبرهم من فاجرهم، وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافرا أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمنا والله تعالى يقول:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1، فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبدا إلا بإذن الله ثم آخرون اتخذوا من بعد الهدى عجلا جسداً فضلوا به فعفى عنهم، لعلهم يشكرون فصاروا من أمة قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ثم ضلت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا فصاروا في علمه إلى صيحة واحدة فإذا هم خامدون، فنفذوا إلى ما سبق لهم أن صالحا رسولهم وأن الناقة فتنة لهم وأنه مميتهم كفارا فعقروها، وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة ابتلي فعصى فلم يرحم، وابتلى آدم فعصى فرحم، وهم آدم بالخطيئة فنسي، وهم يوسف بالخطيئة فعصم، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تغني شيئا فيما كان من ذلك حتى لا

1 الآية 122 من سورة الأنعام.

ص: 781

يكون؟ أو تغني فيما لم يكن حتى يكون؟ فتعرف لكم بذلك حجة، بل الله أعز مما تصفون وأقدر وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وإنما علمه بزعمكم حافظ وأن المشيئة في الأعمال إليكم إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة ثم جعلتم بجهلكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به أهل السنة وهو مصدق للكتاب المنزل أنه من ذنب مضاه1، ذنبا خبيثا في قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عمر:"رأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه؟ أم شيء نأتنفه" فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء قد فرغ منه"2. فطعنتم بالتكذيب له، وتعليم من الله في علمه إذ قلتم إن كنا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر، والجبر3 عندكم الحيف، فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفا وقد جاء الخبر: "إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يده فكتب

1 لم يتبين لي المعنى ولعله يعني "مضى منه وانتهى".

2 الحديث رواه ابن وهب في كتاب القدر له وصححه المحقق للكتاب انظر ص111 القدر لابن وهب تحقيق الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن العثيم ط. دار السلطان للنشر والتوزيع واللالكائي 4/600، وعبد الرزاق في المصنف 11/111، والترمذي بلفظ آخر 3/196.

3 الجبر: قد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل في إطلاق هذه اللفظة فأجاد فأفاد 1/66-72 فارجع إليه فإنه مفيد.

ص: 782

أهل الجنة وما هم عاملون وكتب أهل النار وما هم عاملون"1، وقال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا آراءكم على دينكم فوالذي نفسي بيده لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهل بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا2.

ثم أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حق على تأويل باطل تدعون الناس إلى رد علم الله فقلتم الحسنة من الله والسيئة من أنفسنا، وقال أئمتكم وهم أهل السنة: الحسنة من الله في علم قد سبق، والسيئة من أنفسنا في علم قد سبق، فقلتم لا يكون ذلك حتى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيئات من أنفسنا، وهذا رد للكتاب منكم ونقض للدين، وقد قال ابن عباس حين نجم القول بالقدر هذا أول شرك هذه الأمة، والله ما ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا3. فأنتم تزعمون بجهلكم أن من كان في علم الله ضالا

1 الحديث أو الأثر رواه ابن وهب في كتاب القدر عن أبي قلابة بلفظ مقارب. انظر القدر لابن وهب ص82. ورواه عبد الله بن الإمام في السنة 2/423 بنفس اللفظ الموجود هنا والآجري في الشريعة ص200.

2 الأثر رواه البخاري مع الفتح 6/281 برقم (3181) .

3 الأثر رواه اللالكائي 4/691.

ص: 783

فاهتدى فهو بما ملك من ذلك حتى كان في هداه ما لم يكن الله علمه فيه، وأن من شرح صدره للإسلام فهو بما فوض إليه قبل أن يشرحه الله له، وأنه إن كان مؤمنا فكفر فهو مما شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة الله في إيمانه بل أشهد أنه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها وأن من عمل سيئة فبغير حجة كانت له فيها وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأن لو أراد الله أن يهدي الناس جميعا لنفذ أمره فيمن ضل حتى يكون مهتديا، فقلتم بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنات إليكم وتفويض السيئات ألقي عنكم سابق علمه في أعمالكم، وجعل مشيئته تبعا لمشيئتكم، ويحكم فوالله ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوة حتى نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، فهل رأيتموه أمضى مشيئته لمن كان في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف إلى الإسلام كرها بموضع علمه بذلك فيه أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلهم العذاب فآمنوا وقبل منهم ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم وقال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} 1، أي

1 الآية 84- 85 من سورة غافر.

ص: 784

علم الله الذي قد خلا في خلقه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وذلك كان موقفهم عنده أن يهلكوا بغير قبول، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان، والخير والشر، بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء في طغيانهم يعمهون، كذلك قال إبراهيم عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 1، وقال عليه السلام:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 2 أي أن الإيمان والإسلام بيدك وأن عبادة من عبد الأصنام بيدك فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكا بأيديكم دون مشيئة الله عز وجل.

وقلتم في القتل إنه بغير أجل، وقد سماه الله لكم في كتابه فقال ليحيى:{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} 3، فلم يمت يحيى إلا بالقتل وهو موت كما مات من قتل منهم شهيدا أو قتل عمدا أو قتل خطأ كمن مات بمرض أو فجأة، كل ذلك موت بأجل توفاه، ورزق استكمله وأثر بلغه، ومضجع برز إليه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

1 الآية 35 من سورة إبراهيم.

2 الآية 128 من سورة البقرة.

3 الآية 15 من سورة مريم.

ص: 785

كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 1، ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته ولا موضع قدم إلا وطأته، ولا مثقال حبة من رزق إلا استكملته، ولا مضجع بحيث كان إلا برزت إليه، يصدق ذلك قول الله عز وجل:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} 2، فأخبر الله سبحانه بعذابهم بالقتل في الدنيا، والآخرة بالنار، وهم أحياء بمكة. وتقولون أنتم أنهم قد كانوا ملكوا رد علم الله في العذابين اللذين أخبر الله ورسوله أنهما نازلان بهم وقال تعالى:{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْي} 3، يعني القتل يوم بدر {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} 4، فانظروا إلى ما أرداكم فيه رأيكم، وكتابا سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بنى الإسلام على ثلاثة أعمال، الجهاد ماض منذ يوم بعث الله رسوله إلى يوم القيامة فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجال لا

1 الآية 145 من سورة آل عمران.

2 الآية 12 من سورة آل عمران.

3 الآية 9 من سورة الحج.

4 الآية 9 من سورة الحج.

ص: 786

ينقض ذلك جور جائر، ولا عدل من عدل"1، والثانية: أهل التوحيد لا تكفروهم ولا تشهدوا عليهم بشرك، والثالثة: المقادير كلها خيرها وشرها من قدر الله فنقضتم من الإسلام جهاده، ونقضتم شهادتكم على أمتكم بالكفر، وبرئتم منهم ببدعتكم، وكذبتم بالمقادير كلها والآجال والأعمال والأرزاق، فما بقيت في أيديكم خصلة ينبني الإسلام عليها إلا نقضتموها وخرجتم منها2.

التعليق:

إن هذه الرسالة المروية عن عمر تُفَصّل الرد على القدرية الذين كتبوا إليه برد علم الله السابق والتكذيب بأقداره النافذة وقد بين رحمه الله تعالى ضلال القدرية في فهم علم الله السابق وفي فهم الهداية والإضلال، وفي أفعال العباد، وفي فهم المشيئة وهي بلا شك رسالة بليغة وافية بالمقصود يظهر منها منهج السلف الصالح في بيان الحق بدليله مع الاعتماد على الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح وهي دليل على ما أعطاه الله لعمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى من قوة البيان، والصدع بالحق، والإصابة

1 الحديث، رواه أبو داود في سننه في باب دوام الجهاد وصححه الألباني. انظر سنن أبي داود 2/471.

2 أبو نعيم في الحلية 5/346- 353، وابن الجوزي سيرة عمر 88- 89، وهذه الرسالة رواها أبو نعيم من تاريخ السراج وهو مفقود.

ص: 787

في القول، وهذه الرسالة وإن كان سندها إلى عمر بن عبد العزيز لا يصل إلى درجة الصحة لكن معناها صحيح ثابت وهى رسالة مشهورة عنه ذكرها عنه غير واحد من أهل العلم ومنهم أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي قال في كتابه أصول الدين:

"ومن أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز وله رسالة بليغة في الرد على القدرية"1.

وقال ابن الجوزي واصفا هذه الرسالة التي نحن بصدد التعليق عليها "وهذه رسالة مروية عن عمر بن عبد العزيز في الأول، وجدت أكثر كلماتها لم تضبطها النقلة على الصحة، فانتقيت منها كلمات صالحة"2، ثم ذكر جزءا مما أورده أبو نعيم3 رحمه الله تعالى.

وكذلك ذكرها الدكتور محمود الطحان من المعاصرين ضمن الرسائل التي وردبها الخطيب البغدادي مدينة دمشق حين خرج إليها في بحثه

1 انظر: كتاب أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ص307 ط. دار المدينة للطباعة والنشر بيروت عن طبعة مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط. الأولى عام 1346هـ 1927م.

2 ابن الجوزي سيرة عمر ص88.

3 انظر ابن الجوزي سيرة عمر ص88- 89. وقد تقدم إثبات كلامه في الإيمان بالقدر.

ص: 788

"الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث" برقم (142) وهو ضمن مجموعة تحت رقم (18) موجودة بالمكتبة الظاهرية1.

ثم إن أكثر المسائل الموجودة في هذه الرسالة قد جاءت عن عمر بطرق مسندة صحيحة مما يعضدها ويقويها ويوثقها، وتُفَصل هذه الرسالة الرد على القدرية في نفيهم علم الله السابق حيث بين عمر رحمه الله تعالى في مقدمة الرسالة أن هؤلاء المكذبين بالقدر لا يعذرون بجهلهم بذلك لأن عمر بن الخطاب يقول: إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، قد تبينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر2، ثم ذكر بعد المقدمة نص السؤال الذي وجهته إليه القدرية في نفي علم الله السابق، وهو أن عمر كما بلغهم يقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، فأنكروا ذلك عليه وقالوا لا يعلم الله أعمال العباد إلا بعد وقوعها، فرد عليهم عمر بأن الله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون مستدلا بآيات من القرآن الكريم وتحتوي الرسالة كذلك على بيان عمر ضلال القدرية في فهم

1 انظر: الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث ص288 ط. دار القرآن الكريم ط. الأولى 1401هـ تأليف د. محمود الطحان.

2 انظر حول مسألة العذر بالجهل رسالة "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه" تأليف عبد الرزاق بن طاهر بن أحمد معاش ط. دار الوطن ط"1" عام 1417هـ.

ص: 789

المشيئة حيث توهموا بأن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله تعالى فرد عليهم بأن مشيئة العباد تابعة لمشيئة الله بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1.

وقد رد على هؤلاء القدرية في جوانب متعددة تتعلق بضلالهم في فهم علم الله تعالى حيث جعلوا علم الله لغوا لأنهم جعلوا أنفسهم هي الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وجعلوا نعمة الله الدينية على المؤمن والكافر سواء، وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين، وليس بيد الله هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2، وأن علمه تعالى لا يتعلق بهداية ضال ولا إضلال مهتد3.

وقد أكثر رحمه الله تعالى في الرد على المكذبين بالقدر بآيات كثيرة ولوضوح هذه الرسالة وبلاغتها وسلاسة أسلوبها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وقوة ما فيها من الحجج المقنعة في الرد على المكذبين بعلم الله السابق وصفت واشتهرت بأنها رسالة بليغة في الرد على القدرية، وقد اشتملت على إيضاح مسائل كثيرة لها صلة بالانحراف في باب القدر،

1 الآية 29 من سورة التكوير.

2 الآية رقم 6 من سورة الفاتحة.

3 انظر مجموع الفتاوى 8/444.

ص: 790

كنفي الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى وأزلية الأسماء الحسنى وعلم الله بأهل الجنة وأهل النار واستخراج ذرية آدم من ظهره قبل خلقهم وتقسيمهم إلى قسمين قسم إلى الجنة وقسم إلى النار، وكتابة ذلك كله. كما بين فيها ردهم ونفيهم للأحاديث الصحيحة إذا لم توافق مذهبهم وتأويلهم إياها تأويلا باطلا.

وبين عمر كذلك ضلال القدرية في فهم الاستطاعة حيث جعلوا الاستطاعة قبل الفعل وهي صالحة للضدين عندهم، ولا تقارن الفعل أبدا. ومن المهم إيضاح الصحيح من مسألة الاستطاعة لصلتها بمحتويات الرسالة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "

وفصل الخطاب، أن الاستطاعة جاءت في كتاب الله على نوعين:

1-

الاستطاعة المشترطة للفعل، وهي مناط الأمر والنهي كقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 2، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ

1 الآية 97 من سورة آل عمران.

2 الآية 16 من سورة التغابن.

ص: 791

الْمُؤْمِنَاتِ} 1. وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} 2، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين} 3، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"4.

فإن الاستطاعة في هذه النصوص لو كانت لا توجد إلا مع الفعل لوجب ألا يجب الحج إلا على من حج، ولا يجب صيام شهرين إلا على من صام، ولا القيام في الصلاة إلا على من قام، وكان المعنى: على الذين يصومون الشهر طعام مسكين، والآية إنما أنزلت لما كانوا مخيرين بين الصيام، والإطعام في شهر رمضان5.

2-

الاستطاعة التي يكون معها الفعل، قد يقال هي المقترنة بالفعل الموجبة له - وهي النوع الثاني- وقد ذكروا فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ

1 الآية 35 من سورة النساء.

2 الآية 4 من سورة المجادلة.

3 الآية 184 من سورة البقرة.

4 الحديث رواه البخاري 2/587، برقم 1117.

5 مجموع الفتاوى 8/290.

ص: 792

أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 1، وقوله تعالى:{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 2. ونحو ذلك قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 3.

فإن الاستطاعة المنفية هنا -سواء كان نفيها خبرا أو ابتداء- ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي والوعد والوعيد، والحمد، والذم، والثواب والعقاب، ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون، موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية هنا ليست المشروطة في الأمر والنهي المذكورة في قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4.

فاعتقدت القدرية أن الاستطاعة المشترطة للفعل تكفي في حصول الفعل، وأن العبد يحدث مشيئته وهو مستغن عن الله حين الفعل فأخطأوا

1 الآية 101 من سورة الكهف.

2 الآية 20 من سورة هود.

3 الآيتان 8-9 من سورة يس.

4 مجموع الفتاوى 8/291، والآية 16 من سورة التغابن.

ص: 793

خطأً قبيحا، فإن العبد له مشيئة وهي تابعة لمشيئة الله تعالى كما ذكر الله في عدة مواضع من كتابه. قال تعالى:{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، وقوله عز وجل:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} 2، وقوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. والواقع أن الخطأ في هذه المسألة ناشئ عن عدم التفريق بين الاستطاعتين فالاستطاعة المشترطة للفعل هي الاستطاعة الشرعية وهي التي عليها مناط الأمر والنهي، والثواب، والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عرف الناس4.

أما الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له فهي الاستطاعة الكونية، وهي التي عليها مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل5، فعدم تفريقهم بين هاتين الاستطاعتين أوقعهم فيما وقعوا فيه فجعلوا الاستطاعة

1 الآيتان 55- 56 من سورة المدثر.

2 الآيتان 29-30 من سورة الإنسان.

3 الآيتان 28- 29 من سورة التكوير.

4 انظر مجموع الفتاوى 8/372- 373.

5 انظر: مجموع الفتاوى 8/373.

ص: 794

قبل الفعل وجعلوها صالحة للضدين، ولا تقارن الفعل أبدا1. وبين عمر كذلك ضلال القدرية في فهم الآجال والأرزاق حيث قالوا إن المقتول لم يمت بأجله، وأن الله تعالى وقت لهم الأرزاق والآجال لوقت معلوم فمن قتل قتيلا فقد أعجله عن أجله ورزقه لغير أجله، وبقي له من الرزق ما لم يستوفه ولم يستكمله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا2. فرد عليهم عمر بقوله: " وقلتم في القتل إنه بغير أجل، وقد سماه لكم في كتابه فقال ليحيى:{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} 3، فلم يمت يحيى إلا بالقتل وهو موت كما مات من قتل منهم شهيدا، أو قتل عمدا، أو قتل خطأً كمن مات بمرض أو فجأة كل ذلك بأجل توفاه، ورزق استكمله، وأثر بلغه، ومضجع برز إليه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 4، ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته، ولا موضع قدم

1 انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص186.

2 انظر المصدر السابق ص186.

3 الآية 15 من سورة مريم.

4 الآية 145 من سورة آل عمران.

ص: 795