الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الحكم على القدرية
310/1- مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك1، أنه قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت: رأيي أن تستتيبهم فإن قبلوا وإلا عرضتهم على السيف فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي. قال مالك: وذلك رأيي2.
311/2- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إسحاق بن موسى3، حدثنا أبو ضمرة أنيس بن عياض4، قال: حدثني أبو سهيل
1 هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي التميمي أبو سهيل المدني ثقة من الرابعة مات سنة 140هـ، ع. انظر التقريب ص558.
2 الإمام مالك في الموطأ 3/93 وانظر الآجري في الشريعة 1/437، وابن بطة في الإبانة 2/233، والفريابي في القدر ورقة ب/ 50، واللالكائي 2/686، وعبد الله في السنة 2/431، وابن أبي عاصم في السنة ص88، وصححه الشيخ الألباني.
3 هو إسحاق بن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي أبو موسى المدني قاضي نيسابور ثقة متقن مات سنة 244 من العاشرة م ت س ق. التقريب ص103.
4 أنيس بن عياض وقيل أنس بن عياض بن ضمرة أو عبد الرحمن الليثي أبو ضمرة المدني ثقة من الثامنة مات سنة مائتين وله تسعون عاما. ع تقريب ص115.
نافع بن مالك بن أبي عامر أنه قال: "قال لي عمر بن عبد العزيز من فيه إلى أذني: ما تقول في الذين يقولون: لا قدر؟ قلت: أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال عمر: ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة لكفت: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1،2.
312/3- الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إسحاق بن سيار النصيبي3، قال: حدثنا عبد الله بن صالح4، حدثني معاوية5-يعني
1 الآيات 161-163 من سورة الصافات.
2 الآجري في الشريعة 1/431، وعبد الله في السنة 2/431، وابن بطة في الإبانة 2/223، والفريابي في القدر ص180-181، وقال محقق الكتاب: إسناده صحيح.
3 إسحاق بن سيار بن محمد بن مسلم النصيبي أبو يعقوب كان صدوقا ثقة. الجرح والتعديل 2/223.
4 عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة من العاشرة مات سنة 222 وله 85 سنة. خت دت ق. التقريب ص308، وانظر الجرح والتعديل 5/86 وما بعدها.
5 معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي أبو عمرو وأبو عبد الرحمن قاضي الأندلس صدوق له أوهام من السابعة مات سنة 58 وقيل بعد السبعين ومائة. رم4. التقريب ص538، وانظر الجرح والتعديل 8/382.
ابن صالح، عن حكيم بن عمير1، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: "إن قوما ينكرون القدر شيئا فقال عمر: "بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا". فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين، لقد اتخذوه دينا يدعون إليه الناس ففزع لها عمر فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم سلاًّ، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار2.
313/4- الآجري في الشريعة في جواب عمر لعامله: "كتبت تسألني عن الحكم فيهم، فمن أتيت به منهم فأوجعه ضربا واستودعه الحبس، فإن تاب من رأيه السوء وإلا فاضرب عنقه"3.
314/5- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا ابن عرفة، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن حكيم بن عمر، قال: قال عمر
1 حكيم بن عمير بن الأحوص أبو الأحوص الحمصي صدوق يهم من الثالثة. د ق. التقريب ص177، وانظر الجرح والتعديل 3/206.
2 الآجري في الشريعة 1/440، وابن بطة في الإبانة 2/239، والفريابى في القدر ص53، وقال محقق كتاب الشريعة الأثر صحيح بالسند الذي يأتي بعده. انظر الشريعة 1/440.
3 الآجري في الشريعة 1/445، وهذه الزيادة مما انفرد به الآجري.
ابن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كَفُّوا وإلا سُلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا1.
315/6- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا إسماعيل، حدثني أبو محزوم، عن سيار، قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في أصحاب القدر: "فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين"2.
315/7- ابن الجوزي قال: حدثنا يوسف بن أسباط، عن سفيان الثوري، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة -وكان عامله في البصرة-: "أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاستتب القدرية مما دخلوا فيه فإن تابوا فخل سبيلهم وإلا فانفهم من ديار المسلمين"3.
317/8- ابن سعد: قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل نافع بن مالك، قال: تلا عمر بن عبد
1 ابن بطة في الإبانة 2/234، والفريابى في القدر ورقة أ/53، والآجري في الشريعة 440، وقال محقق الشريعة: أثر حكيم بن عمر صحيح بما بعده.
2 عبد الله في السنة 2/430، وانظر ابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686، وابن الجوزي سيرة عمر ص85.
3 ابن الجوزي سيرة عمر ص85، وانظر عبد الله في السنة 2/430، وابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686.
العزيز: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1. فقال لي يا أبا سهيل ما تركت هذه الآية للقدرية حجة، الرأي فيهم ما هو؟ قال: قلت: "أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال: ذاك الرأي ذاك الرأي"2.
318/9- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي محمد بن يوسف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن خلف، قال: نا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن أبي جعفر، عن محمد بن كعب أو غيره أن عمر بن عبد العزيز قيل له:"إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا". فقال: "يا غيلان: ما تقول في القدر فتعوذ، ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
…
} حتى قرأ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 3. قال: فقال عمر: القول فيه
1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات.
2 ابن سعد في الطبقات 5/384. والفريابى في القدر ص180. قال محقق كتاب القدر: إسناد الأثر حسن. وابن الجوزي سيرة عمر ص85، وانظر عبد الله في السنة 2/430، وابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686.
3 سورة الإنسان الآيات 1-3.
طويل عريض، ما تقول في العلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن. قال: أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك"1.
التعليق:
الحكم على أهل الأهواء والبدع يتوقف على البدعة التي ارتكبوها فإن كانت بدعة مكفرة يكفر صاحبها إذا استوفى جميع الشروط، وعدمت الموانع، وإن كانت بدعة مفسقة يفسق صاحبها ويعزر بحبس أو نفي حتى يموت من هواه الخبيث، والآثار التي نقلت عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث توضح الحكم على القدرية الذين كانوا ينكرون علم الله السابق لخلقه كما تبين ذلك فيما سبق. وقد سلك عمر رحمه الله تعالى في الحكم على هؤلاء المبتدعة طريق الحق الذي تدل عليه النصوص الصحيحة وما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم.
ففي الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"2. قال النووي: فأما قوله: "والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي
1 ابن بطة في الإبانة 2/236-237.
2 البخاري مع الفتح 12/201، برقم (6878) ومسلم 4/316، برقم (1676) .
ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي، أو غيرهما. وكذا الخوارج1.
وقد جاءت نصوص كثيرة تخص القدرية بالذم والتهديد والتخويف. فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا مكذب بقدر ولا مدمن خمر"2.
وروى ابن أبي عاصم في السنة وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى إن مرضوا فلا تعودوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم"3.
1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 4/318.
2 كتاب السنة لابن أبي عاصم ص141 والحديث حسنه الألباني وأخرجه أحمد 6/441.
3 كتاب السنة لابن أبي عاصم ص144، والحديث حسنه الشيخ الألباني. انظر ظلال الجنة في تخريج السنة في حاشية السنة ص144 للشيخ الألباني ط. المكتب الإسلامي عام 1413هـ.
وعن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: الاستسقاء بالأنواء، وحيف السلطان، والتكذيب بالقدر"1.
وهذه النصوص الصحيحة التي تقدمت وغيرها تدل على أن المكذبين بالقدر على خطر عظيم. وهناك نصوص كثيرة يذكرها علماء الفرق في ذم القدرية بخصوصهم، وبيان الحكم عليهم، إلا أنها نصوص لم تسلم من القدح فلو صحت لكانت كافية في الحكم عليهم، ولضعفها وكلام العلماء حولها لا أرى التطويل بذكرها هنا. وقد صرحت الأحاديث التي تقدمت بذم القدرية حيث صرحت بأنهم لا يدخلون الجنة وأنهم مجوس هذه الأمة لا يسلم عليهم ولا يعاد مرضاهم ولا يصلى على موتاهم وقد خاف صلى الله عليه وسلم من هذه البدعة وحذر منها حيث قال: "أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث:
…
" ومنها: "والتكذيب بالقدر" ولما كانت بدعة القدرية من أبين البدع إلا أن مدارك الناس تختلف في فهم أحكام الله تعالى وللإعذار إلى القدرية وغيرهم حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يسأل غيره في الحكم فيهم - وعمر بلا شك من مجتهدي العلماء - ولكن حبا في الإعذار سأل نافع بن مالك عم الإمام مالك بن أنس فأفتاه بأن
1 السنة لابن أبي عاصم ص142، والحديث صححه الألباني. انظر ظلال الجنة ص142.
يستتيبهم فإن تابوا وإلا أقيم عليهم الحد. كما كتب إلى عماله بأن يسيروا على هذا المنهج حيث أمرهم بأن يبينوا للقدرية خطأهم برفق حتى يرجعوا كما نوَّع العقوبات التي أمر بإنزالها عليهم إذا لم يتوبوا بعد البيان، فأمر بسل ألسنتهم من أقفيتهم، أو نفيهم من ديار المسلمين، وبين عمر أن إنكار القدر ضلال وجهل عظيم لأنه لو لم تكن إلا هذه الآية -يشير بها إلى آية سورة الصافات- لكفت ثم قرأ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1. كما استتاب غيلان عدة مرات كما مر في مبحث مناظرته للقدرية -وكان منهجه في استتابه غيلان سؤاله عن علم الله، وكان غيلان يجيب بإثبات علم الله وقد بيَّن عمر لغيلان أنه لولا إقراره بالعلم لضرب عنقه كما بين له أن الإقرار بالعلم إقرار بلازمه وهو مشيئة الله لأعمال العباد كلها وخلقه لها، وأن إنكار علم الله كفر، يدخل من قال به في عداد المرتدين كما أمر عمر بضرب المكذبين بالقدر وحبسهم وقد حبس غيلان عدة أيام ثم أدخله عليه كما سبق، وهذه العقوبات التي حكم بها عمر على المكذبين بالقدر. بعد إقامة الحجة عليهم كما هو واضح، هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معاملة أئمة المسلمين للمبتدعة والحكم عليهم
1 الآيات 161-163 من سورة الصافات.
"العقوبة قبل الحجة ليست مشروعة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، ولهذا قال الفقهاء إن الإمام يراسل المبتدعة فإن ذكروا شبهة بينها، وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل عليّ ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب"2.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن القدرية الذين ينكرون علم الله السابق كفار، فقال في بيان ذلك، "وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها: فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار. وهذا العلم والكتاب: هو القدر الذي ينكره غالية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار كفرهم الأئمة كالشافعي، وأحمد وغيرهما3.
1 الآية 15 من سورة الإسراء.
2 مجموع الفتاوى 30/240.
3 مجموع الفتاوى 2/152.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "ولم يكفر أحمد الخوارج والقدرية إذا أقروا بالعلم وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة، لكن حُكِي عنه في تكفيرهم روايتان1.
وقال ابن رجب: "وقد قال كثير من أئمة السلف ناظِروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء. وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام"2.
وقد بين العلماء أن القدرية النفاة لعلم الله السابق قد انقرضوا لشدة ما أنكر عليهم السلف وأفتوا بقتلهم إن لم يرجعوا ونتيجة لهذا الإنكار الشديد من جانب السلف، ولقباحة ورداءة هذا المعتقد أيضا تراجع تراجعا سريعا، حتى لم يعد له وجود، وأيضا لا يخفى ما يترتب على هذا
1 مجموع الفتاوى 7/507.
2 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص30- 31.