الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: موقفه من القدرية
المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك
…
تمهيد:
مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون.
وهم متفقون على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده، ووعيده، الذي نطق به
الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله بل لله الحجة البالغة على عباده.
وهم متفقون أيضا على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله1. فليست مشيئتهم مستقلة بل مقيدة بمشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا تشَاؤُونَ إلَاّ أَن يَّشَاءَ اللهُ} .
وقد انحرف عن هذا المذهب السليم والمعتقد الصحيح القدرية والجبرية، وقد عاصر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى القدرية الغلاة فسلك معهم منهج الكتاب والسنة فناظرهم وكتب إليهم مبينا لهم المذهب الصحيح بتأن وروية، واستدلال بآي الكتاب العزيز فجاءت الآثار الواردة عنه نبراسا مضيئا لمن يريد اتباع السلف الصالح، وهذه الآثار الواردة عنه تعتبر مناظرة وردا على القدرية بأصنافها2، وعلى الجبرية كذلك.
والمكذبون بالقدر يعتمدون على شبه واهية، وبعضهم لم يعلم الحقيقة من خبث هذا المذهب الفاسد، وقد كان بدايتهم منذ عهد أواخر
1 انظر مجموع الفتاوى 8/449- 450، و458- 459.
2 قسم شيخ الإسلام ابن تيمية القدرية إلى ثلاثة أصناف: أ- قدرية إبليسية، ب- قدرية مشركة، ج- قدرية مجوسية. انظر التدمرية ص91.
الصحابة رضي الله عنهم، فتبرأ منهم ابن عمر وغيره من الصحابة، وقد امتد بقاؤهم إلى عهد عمر بن عبد العزيز وكانوا بداية المعتزلة ومن أشهر هؤلاء المكذبين بالقدر غيلان بن مسلم الدمشقي كان أصله قبطيا فأسلم أجداده وكانوا من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه1، وكان غيلان قدريا مرجئا جامعا بين السيئتين كتب إلى عمر بن عبد العزيز رسالة كما ذكر صاحب المنية والأمل2 وستأتي، فولاّه عمر دار الضرب بدمشق واستمر فيها إلى أن عرف عمر بمذهبه فناداه وحبسه، وناظره فتاب ثم ناداه فناظره فتاب وهكذا تكررت المناظرات بينهما إلى أن أوصى عمر إلى أمراء أجناده بتنفيذ حكم الله فيه، ولكن توفي عمر قبل أن تصل هذه الوصية إليهم كما ناظر عمر غيره ممن وفد عليه كما سيأتي بيانه خلال الآثار القادمة، وقد كان غيلان من بلغاء الكتاب، وقد نافق عمر حين ناظره - ولعله لم يستطع أن يتخلص من سلطان عقائده الموروثة فقد كان القبط من أهل الكتاب النصارى، وكان النصارى مختلفين في القدر فمنهم من كان يرى أن الإنسان حر مختار في عمله، ومنهم فئة جبرية، ترى أن كل
1 انظر المنية والأمل ص15.
2 المصدر السابق ص15.
شيء مقدور على الإنسان حتى في أعماله الاختيارية1، ولعل عمر يقصد غيلان وغيره بقوله:"لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا".
وقد أورد اللالكائي بسنده عن الأوزاعي أن أول من نطق في القدر سَوْسَنْ بالعراق كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد، وأخذ غيلان القدري عن معبد2. وكان غيلان متلوِّناً في دينه متهماً فيه، فقد روى ابن عساكر عن يحيى بن مسلم قال: أتيت بيت المقدس للصلاة فيه فلقيت رجلا فقال: هل لك في إخوان لك؟ قلت: نعم. قال فبت الليلة، فإذا أصبحت لقيتك، فلما أصبح لقيني فقال: هل رأيت الليلة في منامك شيئاً. قلت: لا، إلا خيرا، قال: فصنع بي ذلك ثلاث ليال ثم قال: انطلق فانطلقت معه حتى أدخلني سربا فيه غيلان والحارث الكذاب في أصحاب له ورجل يقول لغيلان: يا أبا مروان ما فعلت الصحيفة التي كنا نقرأها بالأمس. قال: عرج بها إلى السماء، فأحكمت ثم أهبطت. فقلت: إنا لله
1 انظر: القضاء والقدر لأبي الوفاء محمد درويش ص10. ط. دار القاسم ط. الأولى عام 1416هـ.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/827.
ما كنت أرى أني أبقى حتى أسمع بهذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم1 وفيما يلي الآثار الواردة عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك.
288/1- الآجري: قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: أخبرنا علي بن ثابت، عن عمر بن ذر، قال: "جلسنا إلى عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه فتكلم منا متكلم فعظم الله عز وجل وذكر بآياته فلما فرغ تكلم عمر بن عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه وشهد شهادة الحق، وقال للمتكلم: إن الله عز وجل كما ذكرت وعظمت ولكن الله عز وجل لو أراد أن لا يعصى ما خلق إبليس وقد بين ذلك في آية من القرآن علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2، قال: ومعنا رجل يرى رأي القدرية، فنفعه الله عز وجل بقول عمر بن عبد العزيز ورجع عما كان يقول فكان أشد الناس بعد ذلك على القدرية3.
1 انظر تاريخ دمشق 48/191.
2 الآيات 161- 163 من سورة الصافات.
3 الآجرى في الشريعة 1/442، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده لا بأس به ورواه ابن بطة في الإبانة 2/238، والملطى: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص181 والفريابى في القدر مخطوط ورقة "أ"55.وابن عساكر45/14-15.
289/2- الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا ابن إدريس، عن عمر بن ذرّ قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز خمسة، موسى بن أبي كثير، ودثار النهدي، ويزيد الفقير، والصلب بن بهرام، وعمر بن ذر، فقال إن كان أمركم واحدا فليتكلم متكلمكم، فتكلم موسى بن أبي كثير وكان أخوف ما يتخوف عليه أن يكون عرض بشيء من أمر القدر. قال: فعرض له عمر بن عبد العزيز فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: لو أراد الله عز وجل أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله عز وجل علمه من علمه وجهله من جهله ثم تلا هذه الآية {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1، ثم: لو أراد الله عز وجل حمل خلقه من حقه على قدر عظمته لم يطق ذلك أرض ولا سماء لا ماء ولا جبل ولكنه رضي من عباده بالتخفيف2.
287 /3- ابن جرير الطبري قال: حدثنا بن حميد ثنا يعقوب عن جعفر عن العشرة الذين دخلوا على عمر بن عبد العزيز وكانوا متكلمين
1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات.
2 الآجري في الشريعة 1/441- 442، وقال المحقق: إسناده صحيح، والفريابى في القدر ورقة ب54.وابن عساكر ج 15/45.
كلهم ثم إن عمر بن عبد العزيز تكلم بشيء فظننا أنه تكلم بشيء رد به ما كان في أيدينا فقال لنا هل تعرفون تفسير هذه الآية؟ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1 قال: إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم با لذي تفتنون عليها إلا من قضيت عليه أنه يصلى الجحيم2.
288/4 - الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الحمصي قال: حدثنا محمد بن حمير عن محمد بن مهاجر، عن أخيه عمرو بن مهاجر، قال: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان بن مسلم يقول في القدر فبعث إليه فحجبه أياما ثم أدخله عليه فقال: غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه أن لا يقول شيئا، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 3، قال: إقرأ
1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات.
2 ابن جرير في التفسير 23 /70.
3 الآيات 1-3 من سورة الإنسان.
آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما} 1، ثم قال: ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالا فهديتني
…
"2.
289/5- اللالكائي قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: ثنا أحمد بن محمد بن زياد، قال: ثنا عبد الله بن روح، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا حيان ابن عبيد الله التميمي، عن أبيه، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقد أدخل عليه غيلان. فقال ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك. ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك، أيا غيلان أحقا ما أبلغ عنك؟ فسكت. فقال: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن هات فأسكت قليلا.
فقال عمر: ويحك فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس.
1 الآيات 30-31 من سورة الإنسان.
2 الآجري في الشريعة 1/438، والفريابى في القدر ورقة أ/51، وابن بطة في الإبانة 2/236، وابن عساكر في تاريخ دمشق 48/196، وقال محقق كتاب الشريعة: رجاله ثقات وهو صحيح أو حسن. انظر الشريعة 1/438 الحاشية.
فتكلم بلسان ذلق فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل ولم يكلف نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، ولم يكلف المسافر صلاة المقيم، ولم يكلف الله المريض عمل الصحيح، ولم يكلف الفقير مثل صدقة الغني، ولم يكلف الناس إلا ما جعل إليه السبيل، وأعطاهم المشيئة فقال:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} 1، وقال:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2.
فلما فرغ من كلام كثير قال له في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3.
أنت تزعم يا غيلان - ذكر كلاما كثيرا سقط من الكتاب -.
1 الآية 29 سورة الكهف.
2 الآية 40 سورة فصلت.
3 الآيات من 1-10 من سورة يس.
فأسكت غيلان لا يجيبه. وجعل عمر يسأله وغيلان يرفع بصره إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة وانتفخت أوداجه1. فقال: ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان؟ فقال غيلان: استغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين ادع الله لي بالمغفرة. فقال: اللهم إن كان عبدك صادقا فوفقه وسدده وإن كان كاذبا أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن أنصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به2.
1 الأوداج: عروق تكتنف الحلقوم. اللسان 2/397.
2 اللالكائى: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/791-792. وهذا الأثر مما تفرد به اللالكائي.
والحسن بن عثمان بن بكر بن جابر، أبو محمد العطار كان ثقة صالحا دينا. انظر تاريخ بغداد 7/365.
وأحمد بن محمد بن زياد بن أيوب أبو علي وثقه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ، ومحمد بن الحسين بن بكير. انظر تاريخ بغداد 5/9-10، وعبد الله روح بن عبد الله سمع شبابة بن سوار قال الدارقطني لا بأس به. انظر تاريخ بغداد 9/454ن وشبابة بن سوار الفزاري أبو عمرو ثقة كان يرى الإرجاء وقيل رجع عنه. انظر تاريخ بغداد 9/295- 299ن وحيان بن عبد الله التميمي يحتمل أنه حيان بن عبيد الله بن زهير أبو زهير العدوي. قال البخاري روى عن أبيه وعنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم "وهما دون شبابة في الحفظ قال أبو حاتم صدوق وذكره ابن حبان في الثقات انظر التاريخ الكبير 3/58، والجرح والتعديل 3/246، والثقات 6/230، وأبوه لم أهتد إليه.
290/6- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن عمرو الليثي أن الزهري حدثه قال: "دعا عمر بن عبد العزيز غيلان فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر، فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال يا غيلان، إقرأ أول "يس" فقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول فقال عمر: اللهم إن كان صادقا فثبته وإن كان كاذبا فاجعله آية للمؤمنين"2.
291/7- الفريابي: قال: حدثنا جعفر، نا هشام بن عمار، ثنا معاوية ابن يحيى، ثنا عمرو بن مهاجر، قال استأذن غيلان على عمر بن عبد العزيز فأذن له فقال ويحك يا غيلان ما الذي بلغني عنك إنك تقول. قال:
1 الآيات 1-10 سورة يس.
2 الآجري في الشريعة 1/439، والفريابي في القدر ورقة أ/51، وابن بطة في الإبانة 2/235، وتاريخ ابن عساكر 48/197 و 198، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده حسن.
إنما أقول بقول الله {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
…
وَإِمَّا كَفُوراً} 1 فقال عمر أتم السورة، ويحك أما تسمع الله يقول:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ويحك يا غيلان أما تعلم أن الله قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك
…
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2، فقال غيلان: يا أمير المؤمنين لقد جئتك جاهلا فعلمتني وأعمى فبصرتني، وضالا فهديتني. فقال: اخرج فلا يبلغني أنك تتكلم في شيء من هذا3.
292/9- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي محمد بن يوسف قال: حدثنا عبد الرحمن بن خلف قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن أبي جعفر، عن محمد بن كعب أو غيره، أن عمر بن عبد العزيز قيل له: "إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا فقال: يا غيلان: ما تقول في القدر فتعوذ
1 الآيات 1-3 من سورة الإنسان.
2 الآيات 30-32 من سورة البقرة.
3 الفريابى في القدر ورقة ب/56، والمطبوع ص198، وحسن إسناده المحقق. وتاريخ ابن عساكر 48/194.
ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
…
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 1.
قال: فقال عمر: القول فيه طويل عريض ما تقول في العلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن، قال:"أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك"2.
293/10- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد - يعني ابن سلمة - حدثنا أبو جعفر الحظمي، قال شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك ياغيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم أقل. قال: ما تقول في العلم. قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت، وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ثم قال تقرأ يس؟ قال: نعم. فقال: إقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} فقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا
1 الآيات 1- 3 من سورة الإنسان.
2 ابن بطة في الإبانة 2/236-237، وتاريخ ابن عساكر 48/194، ولم يتبين الراوي عن عمر.
يُؤْمِنُونَ} قال: قف، كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين، قال: زد فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1، قال كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط وإني لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا. قال: اذهب
…
"2.
294 /11- عبد الله بن الإمام أحمد أيضا قال: حدثني أبي، نا محمد ابن سلمة، أنبأنا خصيف، قال: قال عمر رحمه الله لغيلان ألست تقر بالعلم؟ قال: بلى. قال: فما تريد مع أن الله عز وجل يقول: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 3،4.
1 الآيات من 1-10 سورة يس.
2 عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/429، والفريابي في القدر ورقة أ/51، والملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص177- 178، وتاريخ ابن عساكر 48/208.
3 الآيتان من 161- 163 سورة الصافات.
4 عبد الله في السنة 2/428-429 والفريابي في القدر ورقة ب/58، وقال محقق كتاب السنة في سنده خصيف بن عبد الرحمن صدوق سيئ الحفظ. انظر تقريب التهذيب ص193.
295/12- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الهيثم بن عمران، قال: سمعت عمرو بن مهاجر، قال: أقبل غيلان وهو مولى لآل عثمان وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز فبلغه أنهما ينطقان بالقدر فدعاهما فقال: أعلم الله نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ ياأمير المؤمنين. قال: ففيم الكلام؟ فخرجا فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد1 أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟ قال عمرو: فأومأت إليهما برأسي: قولا نعم، فقال: نعم. فأمر بإخراجهما وبالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما قالا فمات عمر رحمه الله قبل أن ينفذ تلك الكتب2.
296/12- ابن عبد البر قال: ورُوي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري: إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدر، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمر فطالب نفسك من حيث يطالب ربك. والسلام3.
1 في الشريعة "قد اشرق" والتصحيح من كتاب القدر للفريابي.
2 الآجري في الشريعة 1/443، والفريابي في القدر ورقة ب/56.
3 ابن عبد البر في التمهيد 18/18، وابن بطال في شرح البخاري ج 10 ص 301-302.
297-
13- ابن سعد قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال حدثني الحارث بن عبيد قال حدثنا مطر الوراق عن رجاء بن حيوة قال: قال عمر بن عبد العزيز لمكحول إياك أن تقول في القدر ما يقول هؤلاء يعنى غيلان وأصحابه.1.
298/14- ابن بطة قال حدثني أبو صالح قال حدثنا أبوا لأحوص قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد يا أمير المؤمنين فهل رأيت عليما حكيما أمر قوما بشيء ثم حال بينهم وبينه ويعذبهم عليه قال: فكتب إليه عمر أما بعد: فهل رأيت قادرا قاهرا يعلم ما يكون خلف لنفسه عدوا وهو يقدر على هلاكه قال: فبطلت الرسالة الأولى. 2.
299/15- عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال حوثرة وحدثنا حماد بن سلمة عن أبى جعفر الخطمي قال قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا فمر به فقال: أخبرني عن العلم؟ فقال سبحان الله قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وإلى ما هي صائرة فقال
1 ابن سعد في الطبقات 5/386.
2 ابن بطة فىالإبانة2/279 رقم1911.
عمر بن عبد العزيز: والذي نفسي بيده لو قلت غير هذا لضربت عنقك اذهب الآن فاجهد جهدك،1.
300/16- أبو نعيم قال: حدثنا أبي، وأبو محمد بن حيان، قالا: ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا موسى بن عامر، ثنا الوليد بن مسلم، قال: قال عبد الله بن العلاء: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب في الجمع بخطبة واحدة يرددها، يفتتحها بسبع كلمات: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له
…
".
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ثم يوصي بتقوى الله ويتكلم، ثم يختم خطبته الأخيرة بقراءة هؤلاء الآيات {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِم
…
} 2 إلى تمام العشر. قال عبد الله بن العلاء: لم يدع قراءة ذلك مدة مقامي قبله"3.
1 عبد الله في السنة 2 /386.
2 الآية 53 من سورة الزمر.
3 أبو نعيم في الحلية 5/302، وأبو حفص الملاء 2/449، وابن الجوزي سيرة عمر ص249.
وإبراهيم بن محمد الحسن البخاري روى عن أبيه روى عنه خالد بن أحمد أبو الهيثم البخاري لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل: انظر الجرح والتعديل 2/130.
وموسى بن عامر المري أبو عامر الدمشقي صاحب الوليد بن مسلم صدوق صحيح الكتب. انظر ميزان الاعتدال 4/209.
وعبد الله بن العلاء بن زبر أبو زبر الشامي الدمشقي روى عن عمر بن عبد العزيز، قال عنه يحيى بن معين: ليس به بأس. انظر الجرح والتعديل 5/28.
301/ 17- الفريابي قال: ثنا أبو مروان عبد الملك بن حبيب المصيصي، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا وكان في أول ما كتب: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة1.
302-
/18 - عبد الرزاق في المصنف قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: إن
1 الفريابي في القدر ورقة ب66، ومن طريقه اللالكائي في السنة 2/752، وعبد الملك بن حبيب المصيصي أبو مروان البزار مقبول مات في حدود الأربعين. تقريب التهذيب ص362.
وأبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحارث
…
الإمام ثقة حافظ له تصانيف مات سنة خمس وثمانين وقيل بعدها. تقريب ص92.
استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلى بها1.
303/19- الآجري قال: حدثنا أبو شعيب عبد الله بن حسن الحراني، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروى، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الوليد، قال: خرج عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة فخطب كما كان يخطب ثم قال: أيها الناس من عمل منكم خيرا فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله، فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم2.
304/20 الفريابي قال: ثنا محمد بن مصغي، ثنا بقية، ثنا المسعودي، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز بلغه عن رجل له سرق3 أنه قارف السرقة. قال: فقال عمر: من خلقه الله لأمر فهو أهل لما خلقه الله له"4.
1 عبد الرزاق في المصنف 11/122، واللالكائي 2/753، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/425، وصحح إسناده محقق كتاب السنة.
2 الآجري في الشريعة 1/441، وابن بطة في الإبانة 2/237، وابن عساكر 1/32، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده محتمل للتقوية.
3 هكذا في المخطوطة ولعله زيادة.
4 الفريابي في القدر ورقة أ69.
ومحمد بن مصغى بن بهلول الحمصي القرشي صدوق له أوهام، وكان يدلس مات سنة أربع وأربعين. تقريب ص507.
وبقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو محمد، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء مات سنة سبع وتسعين. انظر تقريب التهذيب ص126.
305/21- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا أبو المنذر عنبسة بن يحيى المروزي
…
حدثنا أبو داود الحفري عن أبي رجاء قال: كتب عامل لعمر بن عبد العزيز إليه يسأله عن القدر فكتب، أما بعد:
…
وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا
…
"1.
التعليق:
إن القول بالقدر بدعة حدثت في أواخر عهد الصحابة كما تقدم في التمهيد، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى له مواقف مشرقة في بيان المعتقد الصحيح في مسألة الإيمان بالقدر، وجهود عظيمة وحرص شديد في رد بدع القائلين بالقدر. والآثار التي مر نقلها تدل على سيرته مع القدرية، وتبين أنه حين تولى الخلافة جاءته وفود كثيرة تهنئه وتخطب أمامه، وقد عَرَّض رجل من ضمن هؤلاء في خطبته بشيء من القول بالقدر، فبين له عمر بأن لله سبحانه وتعالى إرادتان هما:
1 الآجري في الشريعة 1/445.
1-
إرادة كونية قدرية لا تتخلف ومثالها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 1 فقال عمر: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس ثم استشهد بالآيات {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2 وهذه الإرادة ترادف المشيئة.
2-
وإرادة دينية شرعية ومثالها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ
…
} 4 ثم بين لهم عمر أن هذا الذي ذكره موجود في القرآن الكريم علمه من علمه وجهله من جهله، والعذر بالجهل مع قيام الحجة ووضوحه لا يفيد من يتمسك به، والتكاليف التي فرضها الله على العباد خفيفة عليهم لأن الله لو كلف خلقه على قدر عظمته لم يطق ذلك سماء ولا أرض ولا ماء ولا جبل، ولكنه خفف عنهم ورضي بذلك فرضاه بمعنى الإرادة
1 الآية 16 من سورة الإسراء.
2 الآيات من 161- 163 من سورة الصافات.
3 الآية 185 من سورة البقرة.
4 الآية 125 من سورة الأنعام.
الدينية التي يدل عليها قول الحق تبارك وتعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1.
فدين الله يسر لا عسر فيه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهذا الذي أثر عن عمر رحمه الله هو الحق الذي دل عليه الكتاب وسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإرادة على نوعين:
أحدهما: الإرادة الكونية، الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجا} 2، وقوله:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم} 3، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 4، وقال تعالى:{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللَّه} 5
1 الآية 185 من سورة البقرة.
2 الآية 125 من سورة الأنعام.
3 الآية 34 من سورة هود.
4 الآية 253 من سورة البقرة.
5 الآية 39 من سورة الكهف.
وأمثال ذلك وهذه الإرادة مدلول اللام في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1.
قال السلف: خلق فريقا للاختلاف، وفريقا للرحمة، ولما كانت الرحمة هنا الإرادة. وهناك إرادة كونية وقع المراد بها فقوم اختلفوا وقوم رحموا.
وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية: وهي محبة المراد ورضاه، ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاؤهم بالحسنى كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 3، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ
1 الآية 119 من سورة هود.
2 الآية 185 من سورة البقرة.
3 الآية 6 من سورة المائدة.
اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} 1. فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة
…
2.
فحينما بين عمر لهؤلاء الحق الذي يدل عليه القرآن نفع الله به ذلك الرجل الذي كان يرى رأي القدرية وتاب من هذه البدعة وأصبح شديدا على من يقول بالقدر، وقد ناظر عمر غيلان الذي اشتهر بالقول بالقدر كما في الآثار السابقة. وقبل ذكر المناظرات التي جرت بين غيلان القدري وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نشير إلى أن غيلان كان قد كتب إلى عمر رسالة رواها صاحب المنية والأمل نوردها هنا ليتضح مدى جهود عمر في الرد على القدرية، ولنظهر مضمون ما كان يدعو إليه غيلان الضال. قال صاحب المنية والأمل:
…
كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز كتابا قال فيه: "أبصرت يا عمر وما كدت ونظرت وما كدت أعلم يا عمر أنك أدركت من الإسلام خلقاً باليا ورسْمًا عافيا، فيا ميت بين الأموات لا ترى أثرا فتتبع ولا تسمع صوتا فتنتفع طفا أمر السنة وظهرت البدعة أخيف العالم فلا يتكلم ولا يعطى الجاهل فيسأل. وربما نجت الأمة بالإمام وربما هلكت بالإمام فانظر أي الإمامين أنت فإنه تعالى يقول: {وَ
1 الآيات 26- 28 من سورة النساء.
2 الفتاوى 8/188.
جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} 1. فهذا إمام هدى ومن اتبعه شريكان وأما الآخر فقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} 2، ولن تجد داعيا يقول تعالوا إلى النار إذًا لا يتبعه أحد ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله فهل وجدت ياعمر حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه أم هل وجدت رشيدا يدعو إلى الهدى ثم يضل عنه، أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة أو يعذبهم على الطاعة، أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم، وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم كفى ببيان هذا بيانا وبالعمى عنه عمى
…
" في كلام كثير 3.
وهذه الرسالة من غيلان إلى عمر تبين الأفكار التي كان يقول بها القدرية وهي باختصار كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
1 الآية 73 من سورة الأنبياء.
2 الآية 41 من سورة القصص.
3 المنية والأمل ص15-16 وهو شرح كتاب الملل والنحل لأحمد بن يحيى المرتضى اعتنى بتصحيحه توماارنلد طبعة دار صادر بيروت ومطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن سنة 1316هـ.
"وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين الله وأمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد. وكانوا يقولون: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة وهو تعالى لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد"1.
ويبدو أن غيلان قد أصر على أفكاره الخاطئة، وقد ناظره عمر واستتابه فيما كان يذهب إليه من القول بالقدر عدة مرات، والنصوص التي بين أيدينا لا تفيدنا الترتيب الزمني على وجه الدقة واليقين، وذلك لاختلافها في الألفاظ والمدلولات، ولعل عمر لما سمع وتأكد من إنكار غيلان القدر، حجبه وحبسه في السجن أياما، ثم أمر بإدخاله عليه ليرى ما موقفه مما نسب إليه، فاستفسره بقوله: "غيلان ما هذا الذي بلغني عنك، وكان صاحب حرس عمر يعلم ما يكنه غيلان من القول بالقدر، فأشار عليه بأن لا يقول شيئا ولكنه أصر على القول بما كان يدعو إليه فقال
1 مجموع الفتاوى 13/36- 37.
بكل جرأة: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
…
} الآيات مستدلا بها على أن الإنسان هو الذي إذا شاء اهتدى وإذا شاء ضل، فألجمه عمر جوابا بقوله إقرأ آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1.
وبعد هذا الجواب المفحم، والحجة الدامغة، لا مفر لغيلان إلا النفاق، وإظهار التوبة والإصرار على القول بالقدر، فقال له عمر ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالا فهديتني، وكأن عمر يحس بأن هذه الكلمات المعسولة لا تنم عن الواقع بشيء فعلق على عبارات غيلان بقوله: اللهم إن كان عبدك صادقا وإلا فاصلبه2.
ولكن لم ينته غيلان عن قوله، ولعل المعاملة الحسنة التي لقيها من عمر شجعته على القول بالقدر فيدخل على عمر مرة أخرى فيوبخه عمر بقوله ويحك ياغيلان أراني أبلغ عنك ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك، أيا غيلان
1 الآيتان 30- 31 من سورة الإنسان.
2 انظر الشريعة ص209.
أحقا ما أبلغ عنك؟ قال الراوي فسكت لأنه كان يعرف ما حصل له في المرة السابقة ولكن عمر رحمه الله يطمئنه حبا له في الهداية والاستقامة فقال له: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن، هات. فأسكت غيلان قليلا ثم رد ما كان قد كتبه إلى عمر سابقا من أن الله لا يوصف إلا بالعدل ولا يكلف نفسا إلا وسعها وإلا ما آتاها وأن العباد لهم مشيئة مستقلة لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} 1،ولأن الله يقول:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 2، فتركه عمر حتى انتهى ثم أمره بقراءة بداية سورة يس الآيات التي تبين مشيئة الله وقدرته النافذة وأن كل شيء لا يخرج عن قدرته وإرادته ومشيئته حتى وصل إلى قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، وبعد قراءة هذه الآيات التي تدل على أن الله هو الهادي وهو المضل إذا شاء وليس للعباد مشيئة مستقلة خارجة عن مشيئة الله.. ولا شك أن الحق يزهق الباطل فيسكت غيلان بخبث ولكن عمر يلح عليه لإظهار
1 الآية 29 من سورة الكهف.
2 الآية 40 من سورة فصلت.
3 الآيات 1-10 من سورة يس.
الحجة قائلا: "ياغيلان ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان وانتهت هذه الجلسة بإظهار التوبة من غيلان ولكنه لا ينتهي عن القول بالقدر فيدعوه عمر موبخا ومنذرا فيتظاهر بالتوبة ثم يدعوه مرة أخرى فيسأله بقوله ما تقول في العلم. فيجيب غيلان: قد نفذ العلم. فيحذره عمر بقوله: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر. وفي مرض موته يكتب إلى أمراء الأجناد بخلاف ما أقربه غيلان عنده ولكن تلك الكتب لم تنفذ حتى مات رحمه الله رحمة واسعة.
ويتبين من الآثار السابقة أيضاً منهج عمر بن عبد العزيز في الرد على القدرية وذلك بسؤالهم عن علم الله فإذا أقروا به خصموا وإن حجدوه كفروا. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وقد قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا فقد كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما
أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه"1. ولعل عمر بن عبد العزيز أول من نهج هذا النهج في سؤال القدرية عن العلم، ثم صار هذا المنهج منهجا لأهل السنة والجماعة بعده وقد استدل رحمه الله في ردوده على غيلان بآيات صريحة في الرد على المكذبين بالقدر وهي قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2. قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآيات يقول تعالى: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي بمضلين أحدا إلا من سبق في علمي أنه صال الجحيم3.
وقد بيّن عمر رحمه الله في خطبه ورسائله أن الله تبارك وتعالى هو الهادي وهو المضل. وهذا ما جاء في الكتاب العزيز. قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. وغيرها من الآيات وقد كانت القدرية تنكر أن يكون الله تعالى هو الهادي وهو الفاتن وإنما العبد
1 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص30.
2 الآيات 161-163 من سورة الصافات.
3 جامع البيان للطبري 23/109.
4 الآية 39 من سورة الأنعام.
هو الذي يهدي نفسه إذا شاء ويضلها إذا شاء فلعل رسائل عمر وخطبه في الجمع من الردود على هؤلاء المبتدعة، وسواء قصدهم عمر بخطبه أو ألقاها بدون قصد الرد عليهم تبقى ردوداً قوية على كل من انحرف في باب القدر عن منهج الكتاب والسنة، وذلك أن تحقيق الحق إبطال للباطل فإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وقد بين عمر أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى مقدرة له مكتوبة على عباده وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
…
"2. وقد كانت القدرية تقول إن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يكتبها في اللوح المحفوظ، وإن الأمر أنف أي مستأنف لم يعلمه الله قبل وقوعه فرد عليهم عمر بما سبق سطره مما أثر عنه حيث بين لعامله ولرعيته أن أعمال العباد مخلوقة مقدرة مكتوبة عليهم وهي من الابتلاء على العباد، فمن حاد عن ذلك وزعم أن أعماله خارجة عن مشيئة الله غير مقدرة له فقد ضل عن الرشد، وتاه عن السبيل.
وقد بين عمر أيضا أن العبد إذا أذنب فعليه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يحتج على الله بالقدر ولا يقول أي ذنب لي وقد قدر علي هذا
1 الآية 96 من سورة الصافات.
2 رواه مسلم برقم 2655.
الذنب، بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره، ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه1.
كما رد عمر على القدرية القائلين بأن العبد له مشيئة مستقلة يستطيع بها رد علم الله فبين أن العبد له قدرة ومشيئة، ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى ومن المهم هنا أن نذكر أن ردود عمر على القدرية ردود على الجبرية كذلك، وذلك ببيانه أن الإيمان بالقدر يجعل الإنسان متوسطا في أموره فلا يزعم أن أموره كلها بيده ولا يجعلها كلها مسلوبة عنه فهو يطلب ويهرب، ويعبد، ويدعو، وهو بالقدر موقن.
1 انظر مجموع الفتاوى 8/237.