الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: العربية الباقية وأشهر لهجاتها
لقد أوضحنا أن اللغة العربية الباقية هي التي ما نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والأدب، وهي التي وصلتنا عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنة النبوية؛ لذلك تنصرف إليها "العربية" عند إطلاقها، والواقع أن الإسلام صادف -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة موحدة، جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوّى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى1، وكان تحدّيه لخاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله، أو بآية من مثله، أدعى إلى تثبيت تلك الوحدة اللغوية، على حين دعا العامة إلى تدبر آياته وفقهها وفهمها، وأعانهم على ذلك بالتوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه السبعة المشهورة2.
1 اللهجات العربية للدكتور إبراهيم أنيس34.
2 راجع في كتابنا "مباحث في علوم القرآن" فصل "الأحرف السبعة" ص101 "الطبعة الخامسة".
والوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره، وقوّاها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات عمليًّا قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما كانوا يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم، وخصائص ألحانهم، قال ابن هشام1:"كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات2".
ويبدو أن اللغوين الأقدمين لم يعرضوا للهجات العربية القديمة في العصور المختلفة عرضًا مفصلًا يقفنا على الخصائص التعبيرية والصوتية لهاتيك اللهجات؛ لأنهم شغلوا عن ذلك باللغة الأدبية الفصحى التي نزل بها القرآن، وصيغت بها الآثار الأدبية في الجاهلية وصدر الإسلام3.
وهم -لشعورهم بعدم توفرهم على دراسة هذا الموضوع دراسة دقيقة عميقة- كانوا يتخلصون من اختلاف اللهجات بالاعتراف بتساويها جميعًا في جواز الاحتجاج بها، بعد الاكتفاء بإشارات عابرة مبثوثة في كتب
1 هو أحد أئمة العربية المشاهير، عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، المعروف بابن هشام، كثير التصانيف في النحو، وأشهرها "مغني اللبيب" وهو معروف، وبعض كتبه لا يزال مخطوطًا "كالجامع الصغير" في النحو. قال ابن خلدون:"ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه". توفي ابن هشام 761هـ. "وراجع ترجمته في الدر الكامنة 2/ 308".
2 المزهر 1/ 261 ط/ 3. وإلى هذه الطبعة سنحيل في الفصول القادمة، ولمزيد الإيضاح انظر جريدة المراجع.
3 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 39-40.
الرواية واللغة، إلى بعض تلك اللهجات. فهذا ابن جني1 على عنايته بدقائق الدراسة اللغوية لا يتردد في "خصائصه" في عقد فصل خاص حول ما سماه:"اختلاف اللغات وكلها حجة"، وهو يقصد باللغات لهجات العربية المختلفة، وينصّ على جواز الاحتجاج به جميعًا، ولو كانت خصائص بعضها أكثر شيوعًا من خصائص بعضها الآخر، فيقول:"إلّا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين؛ فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع، فإنه مقبول منه غير منعي عليه، وكذلك أن يقول: على قياس مَنْ لغته كذا كذا، ويقول: على مذهب مَنْ قال كذا كذا؛ وكيف تصرفت الحال؛ فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه"2.
ومن يعترف بأن اللغات كلها حجة، لا يتعذر عليه أن يتصور اجتماع لغتين فصاعدًا في كلام الفصيح، فحين قال الشاعر:
فَظَلْتُ لدي البيت العتيق أخيلهو
…
ومِطْوايَ مشتاقانِ لَهْ أرقانِ
لم يكن عسيرًا على ابن جني أن يرى في إثبات الواو في "أخيلهو"، وتسكين الهاء في قوله:"لَهْ" لغة جديدة انضمت إلى لغة الشاعر الفصيح، فليس إسكان الهاء في "لَهْ" عن حذفٍ لحق بالصنعة الكلمة،
1 هو أحد أئمة اللغة والنحو والأدب، عثمان بن جني، أبو الفتح، له شعر، كان المتنبي يقول فيه:"ابن جني أعرف بشعري مني"، طُبِعَ كثير من تصانيفه، ولا يزال بعضها مخطوطًًا "كالمحتسب في شواذ القراءات". وكتابه "الخصائص" من أنفس المؤلفات في العربية، توفي سنة 392هـ ، "وانظر في ترجمته إن شئت معجم الأدباء 5/ 15-22".
2 الخصائص 1/ 411.
لكن ذاك لغة! "1.
ومثل هذا الفصيح الذي يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا، ينصح ابن جني بتأمل كلامه، "فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتهما واحدة، فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها، وسعة تصرف أقوالها"2؛ وهكذا ينقل ابن جني تنوع الاستعمال من الفرد إلى القبيلة، أو قل: من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي؛ تهربًا من الاعتراف بشذوذ الفرد، ما دام فصيحًا!!
وهذا التهرب واضح في دفاع ابن جني عن الفصيح، حين تكون إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فهو يرى حينئذ أن التي كانت أقلَّ استعمالًا "إنما قلَّت في استعماله لضعفها في نفسه، وشذوذها عن قياسه، وإن كانت جميعًا لغتين له ولقبيلته"3؟. ويستشهد على ذلك بحكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهارَ، وأن أبا العباس قال له: ما أردت؟ فقال: أردت سابقٌ النهارَ، فعجب أبو العباس لم لم يقرأه عمارة على ما أرداه فقال له: فهلّا قلته؟ فقال عمارة: لو قلته لكان أوزن: أي أقوى!
والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن تتساوى اللغتان القوية والضغيفة في كلام الفصحاء، فهم "قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه، وذلك لاستخفافهم الأضعف؛ إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى4.
1 نفسه 1/ 375.
2 نفسه 1/ 277.
3 الخصائص 1/ 377.
4 نفسه 1/ 377-378.
فلا ضير إذن أن يقول الشخص الواحد في المسمَّى الواحد: رُغوة اللبن، ورَغوته، ورِغوته، ورُغاوته، ورِغايته، ورُغايته، فـ "كلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد، من هنا وهناك"1.
وأطرف من ذلك كله أنه يخلص ابن جني إلى تداخل اللغات وتركّبها، فيصم بضعف النظر وقلة الفهم كل من يفسر هذا التداخل بالشذوذ، أو ينسبه إلى الوضع في أصل اللغة2، ولا يتردد في الاحتجاج لثبوت تركب اللغات بحكاية يرويها عن الأصمعي3 أنه قال:"اختلف رجلان في الصقر، فقال أحدهما: "الصقر" بالصاد، وقال الآخر: "السقر" بالسين، فتراضيا بأول وراد عليهما، فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو "الزقر! "، ويعلق ابن جني على هذا بقوله: "أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة، كيف أفاد في هذه الحالة، إلى لغته لغتين أخريين معها؟ وهكذا تتداخل اللغات! "4.
وابن فارس5 نظر إلى هذا الموضوع أيضًا من خلال المنظار نفسه،
1 نفسه 1/ 378.
2 نفسه 1/ 379.
3 الأصمعي هو عبد الملك بن قريب، أبو سعد، من علماء اللغة وأئمتها، أخذ الروايات والأخبار عن العرب في باديتهم وأحيائهم، توفي سنة 216هـ. نشرت له بعض الأبحاث في اللغة؛ ككتاب خلق الإنسان، والإبل، وأسماء الوحوش، وصفاتها.
4 الخصائص 1/ 378-379.
5 هو أحمد بن فارس الرازي، أبو الحسين، أحد أئمة اللغة والأدب، أستاذ الصاحب بن عباد، والبديع الهمذاني، توفي سنة 395 في الريّ، وإليها نسبته، له كتاب "الصاحبي في فقه اللغة"، وقد طبع سنة 1328 في القاهرة، و"مقاييس اللغة" في ستة أجزاء، وقد نشره عبد السلام هارون في القاهرة سنة 1366هـ، وله أيضًا "المجمل" الذي طبع الجزء الأول منه في القاهرة سنة 1331هـ، وفي "الظاهرية" أجزاء مخطوطة منه.
فبعد أن ذكر صورًا متباينة من اختلاف لغات العرب، وصرَّح بأنها "كانت لقوم دون قوم" لم يرتب في تداولها على ألسنة العرب، على ما كان في بعضها من اللغات الضعيفة، "فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ"1. فهل على أبي حيّان2 من حرج بعد هذا إذا رأى أن "كل ما كان لغةً لقبيلة قيس عليه"؟ 3.
وعلى هذا الأساس من تساوي جميع اللهجات العربية في جواز الاحتجاج بها، لم تكن ثمة بواعث قوية تحمل القدامى على العناية باللهجات عناية خاصة، فوقعوا في كثير من التناقص حين استنبطوا قواعدهم النحوية والصرفية من كل ما روي عن القبائل، وأقحموا على الفصحى خصائص اللهجات المتباينة بوجوهها المتعددة، ولم يصدروا -كما قال الأستاذ سعيد الأفغاني- في تنسيق شواهدهم عن خطة محكمة شاملة؛ فأنت تجد في البحث من بحوثهم قواعد عدة، هذه تستند إلى كلام رجل من قبيلة أسد، وتلك إلى كلام رجل من تميم، والثالثة إلى كلمة لقرشيّ، وتجد على القاعدة تفريعًا دعا إليه بيت لشاعر جاهلي، واستثناء مبنيًّا على شاهد واحد اضطر فيه الشاعر إلى أن يركب الوعر حتى يستقيم له وزن البيت!! "4. ومنشأ هذا كله خلطهم بين اللغة الأدبية المثالية الموحدة، التي هي لغة الخاصة، وبين لهجات التخاطب العامة لدى القبائل الكثيرة المشهورة، على حين أنَّ شرط اللغة هو الاطراد والتوحيد في الخصائص5.
1 الصاحبي 22.
2 هو العالم اللغوي المشهور محمد بن يوسف، أبوحيان الأندلسي، صاحب التفسير المعروف "بالبحر المحيط". وله "التذييل والتكميل" في شرح التسهيل لابن مالك، توفي سنة 745هـ.
3 المزهر 1/ 258.
4 في أصول النحو 61.
5 اللهجات 41.
ويزداد الأمر تعقيدًا بعد ذلك، فتدرس اللهجات في ضوء ما وضعه النحاة من القواعد والمقاييس، ويحكم عليها -مع تنوع أصولها- من وجهة نظر واحدة، هي مطابقتها أو مخالفتها لهاتيك القواعد، كما فعل الهمذاني "334 " في "صفة جزيرة العرب1".
والحق أن العرب -ككل شعوب العالم- كانوا قبل الإسلام وبعده منقسمين إلى فئتين؛ فئة الخاصة التي كانت تتطلع إلى صقل لغتها وتحسينها، فتسمو في تعابيرها إلى مستوى أرفع من مستوى التخاطب العادي، وفئة العامة التي كانت تكتفي بحظ قليل من فصاحة القول وبلاغة اللتعبير، وتمضي تبعًا لتقاليدها الخاصة وبيئاتها الجغرافية الخاصة إلى الاستقلال في صياغة جملها وتركيب مفرداتها ولحن أصواتها2. ومما لا ريب فيه أن البيئة الحضرية في مكة والمدينة كانت بضرورة الحال تختلف لهجاتها عن لهجات البيئات البدوية المنعزلة التي لا تكاد تستقر على حال، فمهما تكن اللغة العربية قد صُقِلَت وتوحدت قبل الإسلام، ومهما تكن وحدتها قد قويت وتمت بعد الإسلام، لا يسعنا أن نتصورها إذ ذاك إلّا مؤلفة من وحدات لغوية مستقلة منعزلة، متمثلة في قبائلها الكثيرة المتعددة3. على أن الكتب التي عرضت لتلك اللهجات كثيرًا ما تغفل أسماء قبائل معينة تنسب إليها لهجةٌ ما، ومن خلال الكتب المذكورة -على ندرتها- نستنتج أن أشهر القبائل التي تورى لها لهجات خاصة تختلف عن اللغة الأدبية المثالية اختلافًا ذا بالٍ هي: تميم وطيئ وهذيل، وهي جميعًا قبائل معروفة بالفصاحة، بدوية ضاربة في أنحاء الصحراء.
1 انظر آراءه في "اللهجتين المهرية والشحرية، فهو يرى أن أهلهما غتم يشاكلون العجم". صفة جزيرة العرب، ص92".
2 اللهجات: 36.
3 نفسه: 31.
ومع كثرة من ينتمي إلى هذه القبائل من الشعراء يلاحظ أن أحدًا من رجال الطبقة الأولى لم ينسب إليها، وإنما كان المنتسبون إليها من الجاهليين مقلِّين، لا يروى عنهم إلا النزر اليسير، فمن التميميين أوس بن حجر، وسلامة بن جندل، وعلقمة بن عبدة، وعديّ بن زيد، وعمرو بن الأهتم، والبرَّاق بن رَوْحَان، والأسود بن يعفر، ومن الطائيين حاتم الطائي، وأبو زبيد الطائي، وإياس بن قبيصة، ومن الهذليين: أبو ذؤيب الهذلي، وعامر بن حُلَيْس، وخويلد بن خالد.
وإذا آثرنا عدم التوسع في اللهجات -حتى لا يطول بنا البحث كثيرًا والمقام لا يسمح له- فإن أقصى ما يُغْتَفَرُ لنا الاقتصار عليه من لهجات العربية الباقية مجموعتان رئيستان عظيمتان، إحداهما حجازية غربية أو كما تُسَمَّى أحيانًا "قرشية"، والأخرى نجدية شرقية، أو كما تدعى أحيانًا "تميمية"، فهذه القسمة الثنائية الرئيسة للهجات العربية الباقية، هي الحد الأدنى لتلك المجموعة الواسعة من الوحدات اللغوية المنعزلة المستقلة. وليستحيلنَّ علينا بدون هذه القسمة أن نعلل تعليلًا علميًّا صحيحًا وجود تِعْلم ونِعْلم بكسر حرف المضارعة إلى جانب تَعْلم ونَعْلم، ووجود حُمْر وجُمْعة إلى جانب حُمُر وجُمُعة، ووجود حَقِدَ يَحْقَدُ إلى جانب حَقَدَ يَحْقِدُ، ووجود مَدْيون إلى جانب مَدِين، ومُرْيَة ومِرْيَة، وهيهات وأيهات2، وأمثال ذلك أكثر مما نتصور، والخلاف حوله في أصل لهجتي قريش وتميم أوسع نطاقًا مما نُقَدِّرُ أو نستشعر، وسنرى أن لهجة قريش، التي جعلتها العوامل السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية اللغة العربية الفصحى المقصودة عند
1 عبارة الدكتور إبراهيم أنيس في "اللهجات 140" أشد عنفًا مما ذكرنا، ولا داعي لهذا الغلو، ففي كتب "الطبقات" إشارة إلى بعض أولئك الفحول منع كثرة ما ينسب إليهم من الشعر، بالإضافة إلى غيرهم، وحسبك بديوان الهذلين حجة وبرهانًا!
2 اللفظة الأولى من جميع هذه الأمثلة لتميم، والأخرى لقريش.
الإطلاق، لم تكن في جميع الحالات أقوى قياسًا من لهجة تميم؛ بل كثيرًا ما تفوقها في بعض ذلك تميم، ولكنها -أي القرشية- باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مخلتف لهجاتها، كانت أغزرها مادةً، وأروقها أسلوبًا، وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة؛ "فقد ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء"1. ولقد أكد الفراء2 صفاء لغة قريس، وأوضح أسرار ذلك الصفاء بقوله: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ"3، لذلك اصطنعت لغة قريش وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، فكان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته، ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وإخراج الحروف وتركيب الجملة، ليتدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها، بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في تهذيبها وصقلها.
وفي كتب اللغة إشارات إلى بعض المذموم من لهجات العرب؛ من ذلك الكشكشة، وهي في ربيعة ومضر، يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيئًا، فيقولون: رأيتكش، وبكش وعليكش، فمنهم من يثبتها حالة الوقف فقط، وهو الأشهر، ومنهم من يثبتها في الوصل أيضًا، ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكّنها
1 الخصائص 1/ 411.
2 هو يحيى بن زياد المعروف بالفراء، من أئمة الكوفة في اللغة والنحو، توفي نحو سة 160هـ.
3 المزهر 1/ 221.
في الوقف، فيقول: مِنْش وعَلَيْش1. وفي ذلك أنشد قائلهم:
فعيناشِ عيناها، وجيدشِ جيدُها
…
ولونُشِ، إلا أنها غيرُ عاطلِ2
ومن ذلك الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينًا3.
ومن ذلك الطُمْطُمانية في لغة حِمْيَر؛ كقولهم: طاب امهواء، أي: طاب الهواء4.
ومن ذلك: العَجْعَجة في لغة قضاعة، يجعلون الياء المشددة جيمًا، يقولون، في تميميّ: تميمج5، وقال أبو عمرو بن العلاء6: قلت لرجل من بني حنظلة: ممن أنت! قال: فُقَيْمجّ، فقلت: من أيهم؟ قال: مُرِّج، أراد فُقَيْميّ ومُرّيّ7، ولذلك اشتهر إبدال الياء جيمًا ملطقًا في لغة فقيم، حتى أنشد شاعرهم:
خالي عُوَيْفٌ وأبو عَلجِّ
…
المطعمان اللحم بالعشجِّ
وبالغداة فلق البرنجّ8
1 المزهر 1/ 221.
2 الصاحبي 24.
3 المزهر 1/ 222.
4 نفسه 1/223.
5 نفسه 1/ 222.
6 هو زبان بن العلاء، أحد أئمة اللغة والأدب، ومن قراء القرآن المشاهير، كانت عامة أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية، أخذ عنه كثيرون منهم الأصمعي وأبو زيد والأخفش وعيسى بن عمر، توفي نحو سنة 145هـ.
7 أمالي القالي 2/ 77.
8 قارن الصاحبي 25 بأمالي القالي 2/ 77.
ومن ذلك شنشنة اليمن؛ تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبّيش اللهم لبَّيْشَ، أي: لبيك1.
ولخلخانيّة أعراب الشّحْر وعُمان، كقولهم: مشا الله كان، أي: ما شاء الله كان2.
وعنعنة تميم، تقول في موضع أن: عن، أنشد ذو الرمة:
أعَنْ ترسّمت من خرقاء منزلة3.
فلو أن شاعرًا ضمَّن شعره شيئًا من كشكشة ربيعة، أو طمطمانية حمير، أو عجعجة قضاعة، وغدا ينشده في بعض أسواق العرب لغلبوه على أمره بالمكاء والتصدية، ولصيروه أضحوكة من التهكم به والتندر عليه، ولكي تتصور مثل هذا الموقف تخيل رجلًا يكشكش الكافات في قول امرئ القيس من معلقته:
أغركِ مني أن حبكِ قاتلى
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فهو سينشد البيت هكذا:
أغرَتَشْ مني أن حبتْشِ قاتلي
…
وأنتشِ مهما تأمري القلب يفعل
وتخيل رجلًا آخر يطمطم لامات التعريف، فيسأل الرسول العربي صلى الله عليه وسلم: هل من امبر امصيام في امسفر؟ يقصد: هل من البر الصيام في السفر، فيضطر عليه السلام لاستخدام لغته ليفهمه الحكم الشرعي فيجيبه "ليس من امبر امصيام في امسفر"4.
1 المزهر 1/ 222.
2 نفسه 1/ 223.
3 الخصائص 1/ 441.
4 الكفاية في علم الرواية للخطيب 183.
ثم تخيل رجلًا ثالثًا يجعجع الياءات المسبوقة بالعينات، فيقول:"الرّاعج خرج معج" بدلًا من "الراعي خرج معي".
فلا غرو بعد هذا كله إذا نزل القرآن بلغة العرب المثالية، وبارك توحّدها، وسما بها إلى الذروة العليا من الكمال، بعد أن كانت لهجة محدودة لإحدى قبائل العرب1، ولا عجب إذا اقتصر على تحدّي خاصة العرب القادرين على التعبير بتلك اللغة الموحدة، ثم لا غرابة أخيرًا إذا تعددت وجوه قراءاته تخفيفًا على القبائل، وحلًّا لمعضلة تباين اللهجات.
1 انظر "بلاد العرب قبل النبي" لبرجيه "النشرة الأسبوعية للاتحاد العالمي سنة 1885م"، عدد 271، 272.