الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير
الترادف
…
الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير:
أ- الترادف:
حين نصف العربية بسعة التعبير، وكثرة المفردات، وتنوع الدلالات، وحين نتجرأ أكثر من هذا فنزعم أن لغتنا في هذا الباب أوسع اللغات ثروة، وأغناها في أصول الكلمات الدوال على معانٍ متشعبة، قديمة وحديثة -جدير بنا أن نذكر أن اللغات جميعًا، دون استثناء، تزداد ثروتها وتبلغ مفرداتها من الكثرة حدًّا لا نهاية له إذا كتب لها من شروط النماء والحياة والخلود ما كتب للعربية، فقد أتيح للغة القرآن من الظروف والعوامل ما وسع من طرائق استعمالها، وأساليب اشتقاقها، وتنوع لهجاتها، فانطوت من هذا كله على محصول لغوي، لا نظير له في لغات العالم.
والقاعدة في فقه اللغات بوجه عام أن الكلمة الواحدة تعطي من المعاني
والدلالات بقدر ما يتاح لها من الاستعمالات؛ لأن كثرة الاستعمال1 لا بد أن تخلق كلمات جديدة تلبي بها مطالب الحياة والأحياء.
ولعل أبرز العوامل في اشتمال لغتنا على هذا الثراء العظيم أن المهجور في الاستعمال من ألفاظها كتب له البقاء، فإلى جانب الكلمات المستعملة كان مدونو المعجمات يسجلون الكلمات المهجورة. وما هجر في زمان معين كان قبل مستعملًا في عصر من العصور، أو كان لهجة لقبيلة خاصة انقرضت أو غلبتها لهجة أقوى منها، وهجران اللفظ ليس كافيًا لإماتته؛ لأن من الممكن إحياءه بتجديد استعماله.
فالاستعمال في العربية على نوعين: مهجور قد يستعمل، ومستعمل قد يهجر، واحتفاظ علمائنا بالنوع الأول كأنه إرهاص لإحيائه، وفي هذا كانت المزية للعربية؛ إذ لا تختفظ سائر اللغات إلا بالنوع الثاني وهو مهدد بالهجران، معرض لقوانين التغير الصوتي، فإذا أميت بالهجر لم يكن في طبائعها ما تعوض به المهجور الجديد بمهجور قديم، فتضطر إلى الاستجداء من لغات أخرى وأحيانًا إلى غصبها والسرقة منها.
ليس من الغريب إذن أن نجد باحثًا كرينان Renan في دراسته للغات السامية تأخذه الدهشة وهو ينقل عن الأستاذ دوهامر De Hammer أنه توصل إلى جمع أكثر من 5644 لفظًا لشئون الجمل، رفيق الأعرابي في الصحراء ومؤنسه في وحشته2. ليس من الغريب هذا؛ فإن دوهامر لم يقصر بحثه على أسماء الجمل ومرادفاته، بل جمع كل ما يتعلق بشئونه، وهو الكائن الحي الذي لا يستغني عنه العربي لحظة في حياته. وإذن تكون هذه الأسماء الكثيرة نعوتًا للجمل في أحواله المختلفة: في
1 انظر فندريس 242.
2 Renan، Langues Semitiques، p. 387
حسنه وتمام خلقه، وهزاله وقلة لحمه، وإقامته في المرعى وحبسه، وخطره بذنبه وورده، وشدته في السير ورفقه1. ولا بد أن تلمح حينئذ فروق بين هذه الأسماء، فإذا عجلت الناقة أو الجمل للورد فهي "الميراد"، وإذا توجهت إلى الماء فهي "القارب"، وإذا كانت في أوائل الإبل فهي "السَّلوف"، وإذا كانت في وسطهن فهي "الدَّفون"2. على أن بين علماء العربية من قصر بحثه على أسماء تطلق على مسمى معين وبلغ بها الألوف، لا أقول المئات، كما صنع مجد الدين الفيروزآبادي3 صاحب القاموس في كتابه "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف". ونحن بعد مثل هذا الكتاب سوف نستصغر ونستقل كل ما يشيع على ألسنة المتحذلقين من أن أحدهم جمع للأسد مثلًا خمسمائة اسم، وللحية مائتين4، وأن آخر جمع من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة، وذكر أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي5، بل نستقل كتاب "ترقيق الأَسَل لتصفيق العسل" نفسه؛ لأنه لم يذكر فيه من
1 انظر كتاب الإبل في "المخصص 7/ 2-175" فقد أفرد ابن سيده هذا السفر السابع -ما عدا عشرين صفحة من آخره- لنعوت الإبل وكل ما يتلعق بشئونها. ونظن هذا السفر قد جمع فأوعى، فهو يغني عن جميع المصنفات في شئون الإبل، ولا تجد واحدًا منها يغني عنه.
2 انظر على سبيل المثال: فرائد اللغة في الفروق ص266، والكتاب من جمع الأب لامنس.
3 هو محمد بن يعقوب، أبو طاهر، مجد الدين الفيروزآبادي. إمام في اللغة. له كتب كثيرة أشهرها "القاموس المحيط" وقد طبع في أربعة أجزاء. ومما طبع في رسائله اللغوية "تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين". ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "المثلث المتفق المعنى" و"الجليس الأنيس في أسماء الحندريس" و"البلغة في تاريخ أئمة اللغة". توفي في زبيد سنة 817هـ "بغية الوعاة 117".
4 وهو ابن خالويه كما في "المزهر 1/ 325". وقارن فيما يتعلق بصفات الأسد بذيل الأمالي ص180.
5 وهو حمزة بن حسن الأصبهاني نقلًا عن الثعالبي في "فقه اللغة ص 457"، وقارن بالمزهر 1/ 325.
أسماء العسل إلا ثمانين: منها الحميت، والتحموت، والطَّرْيَم، والدستفشار1، والْمِحْران، والعِكْبر، والبلة، والصبيب، والصموت، واللواص، والرُّحاق، فضلًا على أسمائه المشهورة كالشهد، والذوب، وريق النحل، وقيء الزنابير2.
ونلاحظ هنا شيئًا جديرًا بالاهتمام، فعدا عن أن أوصاف المسمى تصبح أسماء مرادفات، هنالك ألفاظ أعجمية معربة لا يلبث جامعو القواميس أن يجعلوها من عناصر اللغة ومفرداتها نفسها، وعليها يبنون نظرتهم في انفراد اللغة بمزية الثراء العظيم. ولكيلا نضرب إلا مثلًا واحدًا، نشير إلى ما علق به صاحب اللسان على كلمة "دستفشار" فإنه قال:"هو معرب، وهو العسل المعتصر بالأيدي إذا كان يسيرًا. وإن كان كثيرًا فبالأرجل، ومنه قول الحجاج في كتابه إلى بعض عماله بفارس: ابعث إليَّ بعسل خُلار، من النحل الأبكار، من الدستفشار، الذي لم تمسه نار"3.
ولكن بعض العلماء القدامى ينكرون وقوع الترادف في العربية، وفي إنكارهم معنى أخطر كثيرًا مما يتصوره أي باحث من المحدثين، فلا سبيل معه إلى القول بانفراد العربية بكثرة المفردات وسعة التعبير. قال أبو علي الفارسي4: "كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة
1 وردت في "المزهر 1/ 407" المستفشار، بالميم، وهي الدستفشار بالدال، كما في اللسان 5/ 144.
2 المزهر 1/ 407. والأسماء الثمانون كلها مذكورة في المزهر، ولكن من الغريب حقًّا أن يعلق السيوطي على ذلك بقوله: "قلت: ما استوفى أحد مثل هذا الاستيفاء، ومع ذلك فقد فاته بعض الألفاظ، فقد أنشد القالي في أماليه:
ولذ كطعم الصرخدي تركته.
وقال: الصرخدي: العسل".
3 اللسان 4/ 144 مادة "بكر".
4 سبقت ترجمته.
من أهل اللغة، ومنهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسمًا، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسمًا واحدًا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفات"1.
وإنكار الترادف، والتماس الفروق الدقيقة بين الكلمات التي يظن فيها اتحاد المعنى، والقول بالتباين بين اسم الذات واسم الصفة أو صفة الصفة، ذهب إليه بعض العلماء في أواخر القرن الهجري، فكان عالم كبير كثعلب2 يرى أن "ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات"3، وبمثل قوله قال تلميذه أحمد بن فارس. وإذا الجدل يبلغ أشده في القرن الرابع الهجري حول هذا الموضوع، فمن منكر للترادف، ومن مغالٍ في وقوعه، ومن معتدل فيه.
فأما ابن فارس فكان يقول: "يسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام. والذي نقول في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى"4. وإذا اعترض أصحاب الترادف بأن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يعبر عن الشيء بالشيء فيكون التعبير عن معنى الريب بالشك خطأ، ويكون التعبير عن معنى البعد بالنأي
1 المزهر 1/ 405.
2 هو أحمد بن يحيى أبو العباس، المعروف بثعلب. إمام الكوفيين في النحو، وأحد كبار الراوة الحفاظ. من كتبه المطبوعة "الفصيح" و"مجالس ثعلب" و"شرح ديوان زهير" و"شرح ديوان الأعشى" و"قواعد الشعر" وله في اللغة كتب أخرى أهمها "معاني القرآن" و"إعراب القرآن". توفي سنة 129هـ "تاريخ بغداد 5/ 204".
3 المزهر 1/ 403.
4 الصاحبي 65.
خطأ في قول الشاعر:
وهند أتى من دونها النأي والبعد
أجاب ابن فارس: "إنما عبر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول: إن اللفظتين مختلفتان فيلزمنا ما قالوه، وإنما نقول: إن في كل واحدة منهما معنى ليس في الأخرى"1.
ولم يكن ابن فارس يكتفي بملاحظة الفروق الدقيقة بين الاسم والوصف أو بين اسم وآخر، بل كان يرى مع شيخه ثعلب أن معاني الأحداث التي تفيدها الأفعال تشتمل كذلك على فروق دقيقة لا تسمح بالقول بالترادف فيها "نحو مضى وذهب وانطلق، وقعد وجلس، ورقد ونام وهجع، ففي قعد معنى ليس في جلس، وكذلك القول فيما سواه"2.
وبسبيل إثبات هذه التفرقة وإيضاحها يقول ابن فارس: "ألا ترى أنا نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد
…
ثم نقول: كان مضطجعًا فجلس، فيكون القعود عن القيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الْجَلْس المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله"3.
ولقد نجد في لغات العالم، القديمة والحديثة، كلمات قليلة محدودة للتعبير عن أصوات الحركات الخفية مثلًا، فإن التمسنا في العربية ما وضع لأداء هذه الأصوات أدركنا العجز عن استيعاب تلك الكثرة من الكلمات الدالة على فروق دقيقة جدًّا؛ فالهمس صوت حركة الإنسان
1 نفسه 66.
2 المزهر 1/ 405.
3 الصاحبي 66.
وقد نطق به القرآن، ومثله الجرس والْخَشْفة. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال:"إنني لا أراني أدخل الجنة فأسمع الخشفة إلا رأيتك". وقريب منها الهمشة والوقشة. فأما النامة فهي ما يتم على الإنسان من حركته أو وطء قدميه. والهسهسة عام في كل شيء له صوت خفي كهساهس الإبل في سيرها. والهميس صوت نقل أخفاف الإبل في سيرها. "ومنه قول القائل":
وهن يمشين بنا هميسا1
وتبلغ العربية حد الإعجاز وهي تعبر عن صوت الشيء الواحد بألفاظ مختلفة تراعي معها التفاوت في علوه وهبوطه، وعمقه وسطحيته. فإذا كان صوت الإنسان الخفي -كما رأينا- قفد يكون همسًا أو جرسًا أو خشفة أو همشة أو وقشة، فإن صوت الماء إذا جرى خرير، وإذا كان تحت ورق أو قماش قسيب، وإذا دخل في مضيق فقيق، وإذا تردد في الجرة أو الكوز بَقْبَقة، وإذا استخرج شرابًا من الآنية قرقرة
…
وهكذا2.
ولقد حَرَصَ العلماء على إظهار الفروق الدقيقة بين الألفاظ المستعملة، فعقدوا فصولًا لأشياء تختلف أسماؤها باختلاف أحوالها، ونقلوا مثلًا أنه "لا يقال كأس إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان. ولا كوز إلا إذا كانت له عروة، وإلا فهو كوب"3.
1 فقه اللغة للثعالبي ص308.
2 فقه اللغة للثعالبي 321.
3 انظر خصائص اللغة 152/ ب "مخطوطة الظاهرية تصوف 206" والكتاب منسوب إلى الثعالبي وهو في الحقيقة مختصر من كتابه "فقه اللغو وسر العربية" والذي اختصره الإمام النسفي، المفسر المشهور. وهذا واضح من مقدمة المخطوط، وقد زاده وضوحًا عندنا مقابلته بنسخة منه يملكها الأستاذ أحمد عبيد أحد أصحاب المكتبة العربية بدمشق.
ولسنا نريد بهذا أن ننكر مع أحمد بن فارس وقوع الترادف، بل نؤثر أن نعتدل في رأينا، فلا ضير علينا إذن أن نأخذ بمذهب من يقول في شأن الترادف:"وينبغي أن يحمل كلام من منعه على منعه في لغة واحدة، فأما في لغتين فلا ينكره عاقل"1.
وقد تنبه إلى هذا علماء الأصول حين فسروا وقوع الترادف بوجود واضعين مختلفين، "وهو الأكثر: بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان، أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر، وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية"2.
وإن خفاء الواضعين حين لم يمنع اشتهار الوضعين قد زاد من ثروة اللغة المثالية حتمًا، فقد انتقل إلى هذه اللغة كثير من مفردات القبائل الأخرى، وأصبحت في الحقيقة تؤلف جزءًا من صيغها وألفاظها، وتنوسيت الفروق الدقيقة التي تميز لهجة من لهجة، أو حفظ بعضها وأهمل البعض الآخر.
وعلى هذا الأساس نقر بوجود الترادف في القرآن الكريم؛ لأنه وقد نزل بلغة قريش المثالية يجري على أساليبها وطرق تعبيرها، وقد أتاح لهذه اللغة طول احتكاكها باللهجات العربية الأخرى اقتباس مفردات تملك أحيانًا نظائرها ولا تملك منها شيئًا أحيانًا أخرى، حتى إذا أصبحت جزءًا من محصولها اللغوي فلا غضاضة أن يستعمل القرآن الألفاظ الجديدة المقتبسة إلى جانب الألفاظ القرشية الخالصة القديمة، وبهذا نفسر ترادف
1 انظر المزهر 1/ 405. يقرب من هذا قول ابن جني في "الخصائص 1/ 378": "وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن يكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هنا وهناك" وقارن بما ذكرناه ص63.
2 المزهر 1/ 405-406.
أقسم وحلف في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} ، وترادف بعث وأرسل في قوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} ، وترادف فضَّل وآثر في قوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وقوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} فقريش كانت تستعمل في بيئتها اللغوية الخاصة أحد اللفظين في هذه الأمثلة الثلاثة، وإنما اكتسبت اللفظ الآخر من احتكاكها بلهجة أخرى لها بيئتها اللغوية المستقلة. وهكذا لم نجد مناصًا من التسليم بوجود الترادف ولا مفرًّا من الاعتراف بالفروق بين المترادفات، لكن هذه الفروق -على ما يبدو لنا- تنوسيت فيما بعد، وأصبح من حق اللغة التي ضمتها إليها أن تعتبرها ملكًا لها، ودليلًا على ثرائها، وكثرة مترادفاتها.
وتكاد تُجْمِع كتب الأدب على رواية قصة تعتبر حجة دامغة على صحة ما نميل إليه؛ فقد خرج رجل من بني كلاب أو من بني عامر بن صعصعة1 إلى ذي جَدَن من ملوك اليمن، فاطلع إلى سطح والملك عليه، فلما رآه الملك قال له: ثب، يريد "اقعد". فقال الرجل: ليعلم الملك أني سامع مطيع، ثم وثب من السطح ودقت عنقه. فقال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن، إن الوثب في كلام نزار الطمر "أي الوثوب إلى أسفل" فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم، من دخل ظفار حَمَّر "أي من دخل مدينتنا اليمنية "ظفار" فعليه أن يتكلم بلهجة حمير"2.
وواضح أننا لا نقصد من هذه القصة أن نجري وراء المبالغين في الترادف، فنهول كما هولوا، ونزعم الترادف المطلق بين مئات الأسماء
1 سماه ابن فارس في "الصاحبي 22" زيد بن عبد الله بن دارم.
2 قارن بالصاحبي 22.
وعشراتها لمسمى واحد، فإننا من قبل ومن بعد أمام قصة ستظل مهما تجمع عليها كتب الأدب قصة، ولكن مصدر احتجاجنا بها يعود إلى أن الذين وضعوها -إن كانت موضوعة- إنما استشعروا فيها إمكان التعبير عن شيء واحد بلفظتين مختلفتين ما دامت البيئتان اللغويتان متباينتين. ولو صدر لفظ "وثب وقعد" بمعنى واحد عن قبيلة واحدة، وفي بيئة لغوية واحدة، لما كان ثمة احتمال للترادف بين اللفظين.
وإذا كنا نعتبر الكلمة التي تقتبسها اللهجة الأقوى ملكًا لها ودليلًا على ثرائها متى تثبتنا من اختلاف البيئتين اللغويتين، فإننا نود أن ننبه -مخافة الوقوع في اللبس- على أن الاختلاف بين لغتين يراد منه الاختلاف بين لهجتين كلتاهما فرغ للغة واحدة، وت فرعهما عن أصل واحد هو الذي يسوغ ضم ما عند هذه إلى تلك، فيصح لنا -على هذا الأساس- التغني بمآثر لغتنا التي تشتمل على محصول لغوي لا مثيل له بين لغات العالم.
أما متى بلغ الاختلاف بين اللغتين مرحلة التباين الأصلي، كما بين العربية والفارسية، أو بين العربية واليونانية مثلًا، فإن الكلمات المكتسبة لا يستدل بها على ثراء اللغة إلا من زعم أن الطير ولد الحوت!