الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر: العربية في العصر الحديث
لا يرتاب أحد من الباحثين اللغويين، قدامى ومحدثين، شرقين وغرببين، في أن العربية من أقدم اللغات وأقواها أصالة، وأوسعها تعبيرًا؛ بل يتصدى بعضهم اليوم -عن طريق ما يسميه بالتأثيل والترسيس1- إلى اعتبار العربية فوق اللغات الإنسانية قاطبة، فهي أم اللغات الآريات، لا الساميات والحاميات فحسب2.
ولم يكن بد أن يستشعر صاحب هذا الرأي الأخير ما قد يعتري القارئ عن الذعر حين يواجه لفظي التأثيل والترسيس أول مرة، فأماط
1 انظر اللسان العربي، العدد الرابع ص14 "لمحات من التأثيل اللغوي" للأستاذ عبد الحق فاضل، والعدد الخامس ص18 "علم الترسيس" للكاتب نفسه. واللسان العربي مجلة دورية للأبحاث اللغوية يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي "جامعة الدول العربية" الرباط - المغرب الأقصى.
2 علم الترسيس 19.
اللثام عن مدلوليهما منتهيًا إلى أن التأثيل هو علم أصول الألفاظ، وأنه مشتق من "الأثل" -بمعنى الأصل- فهو على هذا اصطلاح مقابل لكلمة etymologie، وأن الترسيس هو رد الألفاظ إلى بدايتها، وأنه مشتق من "الرس" -بمعنى البداية- ومن الممكن أن يقابله في اللغات الأوربية اصطلاح radixation.
وأيا ما يكن وقع هذين اللفظين على القارئ العادي أو المختص، فلنا أن نستخرج في ضوئهما عددًا من الحقائق اللغوية التي تؤكد إقراض العربية سواها من لغات الإنسان أكثر من اقتراضها منها، فما اقتبسته العربية من مختلف اللغات لا يجاوز ثلاثة آلاف لفظ على أكبر الاحتمالات1، على حين دخل تلك اللغات من العربية وغيرها شيء كثير لم يحصه حتى اليوم الراسخون في علم اللغات.
وربما انطوت هذه الدعوى على كثير أو قليل من الغلو يعارض ما أكدناه في فصل "تعريب الدخيل" من أن العربية ليست بدعًا من اللغات، فهي تقرضها مثلما تقترض منها، وتخضع في ذلك كله لقانون اجتماعي لغوي هو تبادل التأثير والتاثر بين اللغات2 وقد يستنتج من ذلك أن لا داعي لانفراد العربية بقلة ما اقتبسته من سواها، ولا مسوغ للمبالغة فيما اقتبسه غيرها منها أو سواها؛ لذلك نبادر إلى حصر الغاية في مثل هذه البحوث بتقرير الحقائق معززة بالشواهد، ونقر بخضوع العربية للقانون اللغوي المذكور، ونرفض ألوان المبالغة جميعًا في هذا الموضوع، ونلح -رغم ذلك كله- على امتياز العربية
1 قارن بكتاب "غرائب اللغة العربية" للأب رفائيل نخلة اليسوعي.
2 راجع هذ الفصل ص314.
2-
اختلاف المصطلحات التي تم وضعها وتعريبها.
3-
افتقارنا إلى مراجع علمية عربية كافية في مختلف العلوم للتدريس الجامعي.
4-
صعوبة اللغة العربية من حيث القواعد والكتابة.
5-
منافسة بعض اللغات الإقليمية الدارجة للعربية الفصحى.
ولنا - إزاء هذه المعضلات- موقفان؛ أحدهما: دفاعي عام، والآخر: إيجابي تفصيلي. وإنا لنحرص في كلا الموقفين على أن نأخذ بالرأي القائل: إن اللغة عنصر علمي مستقل وظاهرة اجتماعية وعامل حضاري، فإذا ما عزونا إليها طواعيتها للاكتشاف والاختراع والتوليد قديمًا وحديثًا فليس لنا أن نستسلم في ذلك استسلامًا شعريًّا لذيذًا نرى خلاله العربية لغة العبقرية أو عبقرية اللغات.
أما موقفنا الأول فقد كفانا مئونة الإفاضة فيه عدد من البحوث اللغوية الرصينة التي تصف دور العربية في الكشوف العلمية، وتبرز مقدرتها الذاتية على التعبير الفني الدقيق، فإذا كانت من مصادر البحث العلمي القديم فلماذا لا تكون اليوم مرجعًا ولغة عالمية؟ 1
ولقد أوضحنا -في غضون كتابنا هذا- كيف كانت العربية مرنة مطواعًا تلبي أدق مطالب الأحياء بألوان اشتقاقاتها من صغير وكبير وأكبر وكُبَّار2، في تلك الحركة الدائمة التي تلد كل لحظة مولودًا
1 انظر في اللسان العربي، العدد الرابع، البحوث التالية: العرب والكشوف العلمية الدكتور يحيى الهاشمي ص7، اللغة العربية على المحك للأستاذ خليل الهنداوي ص48، اللغة العربية والعالم الحديث للأستاذ شارل بيلا ص50.
2 انظر بحث "المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق" ص173.
جديدًا، وبأنواع صيغها أسماء وأفعالًا وصفات1، في تلك القوالب التي تنسبك بها كل التعابير، وباستعدادها الأصيل للاقتباس والتعريب2. في تلك الألفاظ التي خلقتها الحضارة والفنون، فما يكُ من عيب فهو في الباحثين العرب لا في اللغة العربية، وما تقع عليه العين من تخلف في أي ميدان من الميادين فمصدره الوحيد قلة اهتمامنا بتطوير فكرنا العلمي، فمن المعروف أن انتشار اللغة -أي لغة كانت- رهن بمدى إسهامها في الواقع الحضاري، ولئن ثبت في ماضينا المجيد أن لغتنا كانت لغة حضارة مرت بتجربة ضخمة أبرزت طواعيتها للاكتشاف والتوليد فعلينا أن نثبت نحن اليوم أنها ما تبرح تمر بالتجارب الضخام، بل بتجارب أضخم مما سلف، وأنها تواكب نماءنا الحضاري وما تنفك قادرة على اختراع التعابير الحية لجميع الفنون.
ولعل هذه النظرة الإجمالية العامة -في الموقف الدفاعي- هي التي يتبناها في مؤلفاتنا الحديثة وفي بحوثنا بالمجلات العلمية والأدبية كل غيور على لغة الضاد، من الأدباء والدارسين وغيرهم أحيانًا، أما النظرة التفصيلية، في الموقف الإيجابي، فما تكفل بإيضاحها على الوجه الأكمل إلا المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي3 الذي وجه في أواخر سنة 1966 استفتاء حول اللغة العربية، والمشكلات التي تعترض سيرها، وحلول هذه المشكلات، ومعضلات التدريس الجامعي بالعربية، وحلول تلك المعضلات4.
ويبدو أن مقترحات العلماء هاهنا تشابهت إلى حد كبير، فلمعالجة
1 راجع بحث "صيغ العربية وأوزانها" ص328.
2 راجع بحث "تعريب الدخيل" ص314.
3 هذا المكتب تابع لجامعة الدول العربية، ومركزه الرباط في المغرب الأقصى.
4 وقد تلقى هذا الاستفتاء عدد كبير من العلماء ينتمون إلى أحد عشر قطرًا، ويدرسون في تسع عشرة كلية من الكليات الجامعية.
بطء حركة التعريب في العالم العربي مال أكثرهم إلى تكوين لجنة جامعية من هيئة التدريس تشرف على نقل ما يوضع من دروس إلى العربية السهلة الميسرة، ودعوا الجامعات العربية إلى الإسهام في وضع المصطلح العلمي الأدق، والسعي لنشر معجم للمصطلحات العلمية والفنية والأجنبية مع جميع مقابلاتها العربية1. ولم يرَ بعضهم بأسًا في قبول طائفة من المصطلحات العلمية بألفاظها أسوة بجميع اللغات الحية، ومن بينها الروسية، فلا داعي لانفراد العرب بنقل تلك المصطلحات من اللاتينية إلى العربية دون جدوى؟ 2
ولم يتورع بعض الباحثين -تسابقًا إلى حركة التعريب- عن اقتراح الاقتصار على التعريب الحرفي لجميع المصطلحات. فلم يكن بد من نبذ هذا الا قتراح؛ لأنه يوسع شقة الخلاف القائم في المصطلحات بحيث يكون في العالم العربي من اللغات العربيات عدد مماثل للغات الأجنبية المنتشرة فيه3. والأفضل إذن أن نقصر التعريب على الألفاظ الدولية للمصطلحات العلمية المستعملة بألفاظها اللاتينية في جميع لغات العالم.
1 جدير بالذكر أن المكتب الدائم لتنسيق العرب أنجز الجزء الأول من "معجم الفقه والقانون"، وهو الآن يعد معجمات في كل من الرياضيات والفيزياء والكيمياء تشتمل على المصطلح العربي المقترح من قبل مختلف البلاد العربية.
2 من الذين نبهوا إلى هذه المسألة المستشرق شارل بيلا، ففي بحثه عن "اللغة العربية والعالم الحديث" ص54 يقول:"يعلم الجميع أن علماء النبات والحيوان يستعملون في العالم أجمع اسمًا ونعتًا لاتينيين لكل جنس ونوع من النبات والحيوان، فهذه الأسماء والنعوت مجمع عليها كما قلت في العالم كله. والروس أنفسهم الذين يكتبون بخط خاص يذكرون لكل حيوان ونبات اسمه ونعته باللاتينية".
3 وحينئذ تكون مصطلحات مصر والعراق مثلا إنكليزية اللفظ، ومصطلحات سورية ولبنان فرنسية اللفظ، فتكثر بهذا السبب اللغات الإقليمية، وتتسع بينها مع الأيام شقة الخلاف.
أما بقية المصطلحات فلن تعجز العربية عن توليد اللفظ الملائم لها عن طريق الاشتقاق.
أما مشكلة اختلاف المصطلحات التي تم تعريبها في البلدان العربية فلها حل عملي عن طريق الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، والمجامع العلمية واللغوية القائمة اليوم في القاهرة ودمشق وبغداد. فليس عسيرًا أن نضع حدًّا لاختلاف الاصطلاح العلمي إذا سعينا لأيجاد مجمع عربي لغوي وعلمي موحد، وعقدنا مؤتمرات علمية بالتعاون مع المكتب الدائم لتنسيق التعريب، ابتغاء الوصول إلى الوحدة الثقافية العربية، وتوحيد المناهج والكتب الدراسية. ووضع مقاييس عامة لإيثار مصطلح على آخر حتى تكتب له السيرورة1.
وأما افتقارنا إلى مراجع علمية عربية لتدريس جميع العلوم على المستوى الجامعي فمشكلة عويصة لن يحلها إلا تشجيع التعريب لمختلف المصادر العلمية الجامعية التي يقع عليها اختيارًا أكابر علمائنا وباحثينا، كل في ميدان اختصاصه وخبرته. ومما يعين على حل هذه المشكلة أيضًا إسهام الدول العربية عن طريق جامعتها بتمويل مشروع على جانب عظيم من الأهمية؛ ألا وهو إصدار معجمين عربيين، أحدهما لغوي والآخر علمي، تعدهما الهيئات العلمية واللغوية في الوطن العربي.
ولو أثيرت هذه المشكلة من زاوية صلاح العربية أو عدم صلاحها للتدريس الجامعي لما اكترثنا لذلك ولا اهتممنا به قط؛ لأن واقع
1 لقد أقيم في الجزائر سنة 1964 مؤتمر لهذه الغاية شاركت فيه جميع الدول العربية. وإذا لم يكتب للمحاولة النجاح الكامل في ذلك الحين، فلا مانع من إعادة الكرة في محاولة جديدة.
التدريس الجامعي في كثير من البلاد العربية يؤكد اليوم أنا قطعنا أشواطًا في هذا الصدد، "فالدراسات القانونية والاجتماعية بوجه عام إنما تدرس باللغة العربية، وكذلك الدراسات العلمية من طبيعة وهندسة ورياضة، بل يدرس في جامعات الجمهورية العربية المتحدة نظريات الذرة والإليكترونات باللغة العربية، ولم يبقَ إلا بعض الدراسات الطبية التي لم تستكمل وسائلها في المكتبة العربية"1.
وإذا تيسر وضع المعجمين اللذين أشرنا إليهما آنفًا فنحن نؤيد كل التأييد استعمال الكلمات المدونة فيهما، على حالها التي وردت عليها، ولو كان لدى المؤلفين أفضل منها، "على أن يبين المؤلف في آخر كتابه أو في هوامشه نقده والكلمة المفضلة لديه، لتنظر فيها لجنة المعجم فتقرها إذا اقتنعت بها في الطبعة الجديدة، ويقضي ذلك بأن يطبع المعجم لا أقل من مرة كل ثلاث سنوات"2.
وإنا لفي أشد الحاجة إلى عقد مؤتمر لغوي عام لتبسيط قواعد اللغة، وتيسير كتابتها وطباعتها. ومن المعلوم أن مؤتمر التعريب المنعقد بالرباط سنة 1961، والذي انبثق عنه المكتب الدائم لتنسيق التعريب، قد اتخذ طائفة من التوصيات، كان من بينها "وضع كتاب في قواعد اللغة والنحو يراعى فيه أن يكون مبسطًا واضحًا سهل التناول، وأن
1 هذا ما أفتى به مجمع اللغة العربية في القاهرة تحت عنوان "حتى علوم الذرة والإلكترونات تدرس باللغة العربية" لما استفتاه المكتب الدائم لتنسيق التعريب، انظر اللسان العربي ص98. وذلك أيضًا ما اقترحه المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة تحت عنوان "ضرورة التعجيل بتعريب التعليم" انظر اللسان العربي أيضًا ص105.
2 هو اقتراح الدكتور أحمد شوكت الطي الأستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق، وذلك في مقاله باللسان العربي ص136 تحت عنوان:"اللغة العريبة طاقات خلاقة، ولكن تنقصنا وسائل التنسيق".
يزين بفهارس دقيقة تمكن الباحث من العثور على ما يريد بأقل مشقة".
ولقد اقترح كثير من الباحثين، في عدد من البلدان العربية، طرائق لشكل الكلمات كتابة وطباعة، وما يزال التنافس شديدًا بين أولئك الأفراد، ولكن الخطأ يكمن هنا، فإن هذه المشكلة لا تعالج بصورة فردية، بل في مؤتمر عام كبير.
ومهما نحاول التجديد فلا مفر من الإبقاء على الحروف العربية بأشكالها الراهنة، على أن نرمز إلى بعض ما ينقصنا من الأصوات الأجنبية. وكل محاولة لاستبدال الحروف اللاتينية بالأبجدية العربية مقضي عليها بالإخفاق، لسنا نحن نقول هذا بل ينادي به المستشرقون:"فلا تجاوز بعض الناس الحق إلى الباطل، فاقترحوا استبدال الحروف اللاتينية بالإبجدية العربية، ولكني أعتقد أن مثل هذا المشروع مكتوب عليه الفشل؛ لأن العربية غير التركية، وأيقنت أن الخط العربي سيدوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"1.
على أنه يتحتم علينا تشكيل الحروف كتابة وطباعة، ضبطًا للفظ بما تمليه قواعد الإعراب، وتيسيرًا للقراءة الصحيحة التي يقال فيها دائمًا عن العربية: إن علينا أن نفهمها لنقرأها، بينما نقرأ غيرها فنفهمها. ومن المناسب ألا نفرق في هذا الصدد بين الكتب المؤلفة للمبتدئين وكتب المطالعة للمثقفين، مع التخفف من بعض الحركات التي
1 المستشرق شارل بيلا، الأستاذ في جامعة السربون، في مقاله السابقة "اللغة العربية والعالم الحديث" ص54.
لا حاجة إليها على النحو الذي أوضحه بعض الباحثين1.
وخليق بنا هنا أن ندرك أن تيسير العربية لا ينبغي أن يخص به أبناؤها وحدهم، فقد كانت هذه اللغة العالمية وما تزال مطلوبة من غير بنيها، ولعل أقدم محاولة للاتصال بالثقافة العربية ترتد إلى مدرسة المترجمين في طليطلة، وهي المدرسة التي أنشأها ألفونسو العالم "1252-1284" ثم تعهدها بالرعاية رايموندو المطران، وتيسر لها أن تنقل عن التراث العربي كثيرًا من الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات والطبيعة2، وما برح الأجانب إلى يومنا هذا يتعلمون اللغة العربية ليفهموا تراثنا وحضارتنا، ولا سيما ما ارتد إلى ماضينا التليد، ولكنا نود بلا ريب أن يتجاوزوا الماضي إلى الحاضر، فيدركوا روح الأمة العربية في واقعها الذي تعيشه اليوم، ومن الراغبين في الاستشراق من يقبل على دراسة العربية بهذا الروح وبهذه الحماسة، غير أنهم بعد أن يقضوا في تحصيلها مراحل طوالًا يشعرون بصعوبة قواعدها وصعوبة كتابتها شعورهم بمنطقيتها وجمال حرفها، فهل علينا -من أجل ذلك- أن ننحي بترثنا اللغوي وبحرفنا الجميل الذي يعد بذاته ضربًا من الفن الرفيع؟
إن الباحثين الأجانب أنفسهم يعلمون أن صورة الحرف العربي مرتبطة
1 انظر مثلًا في اللسان العربي، العدد الخامس، ص58 بحث الأستاذ رشاد دارغوث "هل اللغة العربية صعبة؟ كيف يمكن تفسيرها؟ ". وقد اقترح الأستاذ هنا حذف العلامة المعروفة بالسكون حيثما وجدت، وعدم تحريك الحرف في حال الوقف، وحذف الحركات قبل حروف المد، وحذف الفتحة قبل تاء التأنيث، وأمورًا أخرى تراجع في موضعها، ومعظمها مستساغ ومقبول.
2 انظر بحث الدكتور الطاهر أحمد مكي، أستاذ الأدب الأندلسي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بعنوان "تيسير العربية للأجانب" اللسان العربي، عدد 5، ص 64.
بكتابة القرآن الذي انتشر بانتشار الإسلام، وبفضل الكتابة العربية حمل الإسلام خصائص العرب إلى كل مكان أمسى عقيدة عامة فيه: فهذا إرنست كونل يؤكد "أن الإسلام منح العرب اللغة والخط، وانتشر الخط العربي في العالم الإسلامي فأصبح رابطة لجميع الشعوب الإسلامية رغم الحدود الحاضرة"1. ومن المعروف أن الخط العربي -بعد أن بات عنصرًا من عناصر الزخرفة الجميلة- قام بسياحات بعيدة المدى، وترك أروع الآثار، ولقي في كل مكان هاجر إليه في أوربة من العناية والاحتفال ما لقيه في أرض العرب والمسلمين، حتى قال مارسيه عن قصر إشبيلية: "إنه رغم الترميمات التي أدخلت عليه بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر ما ينفك يكشف عن مشاركة الفنانين الغرناطيين، ويؤكد بصورة قاطعة تأثير طابع الفن الإسلامي على الملوك المسيحيين"2.
وندرك قيمة الكتابة العربية حين نعلم مثلًا أن الحرف العربي قد امتد إلى أنحاء لا يحكمها العرب في الجزيرة الإيبيرية، حتى استعمل المستعربون الخط العربي لكتابة اللاتينية نفسها، وإذا بألفونس يسك النقود بالعربية، وإذا ببطرس الأول المتوفى عام 1104 من ملوك الأراغون لا يحسن إلا العربية كتابة وخطًّا3.
وبعد سقوط غرناطة كان للموريسكو "المسلمين الذين لم يهجروا البلاد" لهجة رومانسية "أي محرفة عن اللاتينية" لكنهم ظلوا يستخدمون
1 قارن بفن الخط العربي "المقدمة 1943" ذكره الدكتور عفيف بهنسي في بحثه القيم: الحرف العربي وجولاته في العالم ص 77 "اللسان العربي".
2 انظر Marcais lArt musulman، p 169 ed 1962
3 هذا ما يقوله جورج غراف Georges Graff، وقارن بالحرف العربي وجولاته في العالم ص81.
الحرف العربي لكتابة ما يعبرون عنه بلهجتهم، وقد أطلقوا عى أدبهم هذا لقب الجمياد al- Jamiado وهو محرف عن لفظ "أعجمي" الذي يسمى به في العربية من لم يكن عربيًّا1.
فإذا كان ممكنًا أن يكتب الناس غير العربية بالخط العربي والحرف العربي، لما استشعروا فيه من الجمال والفن، فليس من المنطق في شيء أن نضحي بذلك كله ابتغاء تيسير الكتابة العربية على الأعاجم. وخير من هذا في نظرنا أن يقترح المختصون في التربية لا فقهاء اللغة المراحل التدريجية التي ينبغي أن يمر بها الطالب الأجنبي حتى لا يجد عسرًا في تعلم العربية. وأكثر ما قيل في تيسير القواعد والخط العربي يصدق على غير العربي، مع توسع في تعليم الأجنبي العربية المكتوبة المبسطة الحية لا العربية الأدبية المتقعرة التي أوشكت أن تموت2.
ولا بد -لحل هذه المشكلة حلًّا جذريًّا- من دعوة الحكومات العربية وجامعة الدول العربية إلى فتح مراكز ثقافية ومعاهد لتعليم العربية لغير العرب في مختلف بلدان العالم، ولا سيما في الأقطار الإسلامية غير العربية. ولا بد -من الزاوية التربوية المحضة- من العناية بإعداد المتخصصين في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وتأليف الكتب الميسرة، ووضع ما يصلح لهذا التعليم من الأفلام المصورة والأشراطة المسجلة.
والمشكلة الأخيرة التي تعترض مسيرة العربية في العصر الحديث تتمثل في هذا الجدل البيزنطي العقيم حول العامية والفصحى. فمن دعاة العامية اليوم من يحتج بعصوبتها وتعقيدها، وقد يبينا كيف يمكن تيسيرها،
1 قارن بالمرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
2 هنالك اقتراحات تفصيلية وجيهة دعا إليها الدكتور الطاهر أحمد مكي في بحثه الذي ذكرناه سابقًا "تيسير اللغة العربية للأجانب" فتراجع في موضعها.
ومنهم من يميل إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية أسوة بالأتراك، وقد أوضحنا أن الحرف العربي أجمل الحروف وأن لا جدوى من استبدال غيره به، ومنهم من يبالغ في تصوير الخيبة التي تساور الأوربي المستشرق عندما يرى في البلد العربي الذي يقدم إليه أن عامة الناس تتحدث بغير الفصحى التي تعلمها، وقد اقترحنا واقترح غيرنا ما نظنه كافيًا لسد هذه الثغرات جميعًا. والحق أنا عندما نأخذ بتطبيق هذه النظريات، حلًّا لتلك المشكلات، لن نجد مسوغًا للدعوة إلى العامية؛ لأن عدواها لا تسري إلا حيثما يكون الجهل والمكابرة والعناد.
ذلك بأن الأقطار الناطقة بالضاد مترامية الأطراف، تمتد من المحيط إلى المحيط. وإنك لتجد حتى في القطر العربي الواحد من تعدد اللهجات ما لا ينقضي له عجبك، ففي لبنان -على ضيق رقعته بالنسبة إلى مصر مثلًا- تفاوت ملحوظ بين لهجات الجنوب والشمال والبقاع وكسروان1، بل الأحياء في كل مدينة من مدن لبنان تتفاوت لهجاتها تفاوتًا عجيبًا، فلهجة الميناء في طرابلس تختلف عن كل من لهجات ساحة التي وباب التبانة وبوابة الحدادين.
ولئن بلغ التفاوت بين الأحياء في كل مدينة، وبين الأقاليم في كل قطر، وبين الأقطار المتباعد بعضها عن بعض، هذا الحد الواسع الهائل، فما هي اللهجة العامية التي يسعنا اختيارها من بين هذا الركام المختلط العجيب؟
إلى هذا لفت الدكتور طه حسين الأنظار وهو يقرع ناقوس الخطر
1 وكذلك في مصر تختلف لهجة الصعيد عن لهجة البحري، وفي سورية تختلف لهجات دمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية اختلافًا غير قليل.
ويقول: "أحب أن ألفت نظر أدبائنا الذين يطالبون بالالتجاء إلى اللهجات العامية إلى شيء خطير ما أرى أنهم قد فكروا فيه فأحسنوا التفكير. هو أن العالم العربي الآن، وكثيرًا من أهل العالم الشرقي كله يفهم العربية الفصحى ويتخذها وسيلة للتعبير عن ذات نفسه وللتواصل الصحيح القوي بين أقطاره المتباعدة، فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتدابر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سورية ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين، وكما يترجم هؤلاء عن الفرنسين.
ولنسأل أنفسنا آخر الأمر: أيهما خير؟ أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى، يفهمها أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق، أم أن تكون لهذا العالم لغات بعدد الأقطار التي تتألف منها، وأن يترجم بعض عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة هذه فهي خليقة بأن يجاهد في سبيلها المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون".
ومهما تتطور اللهجات الإقليمية العامية في بعض الأقطار العربية، ومهما يحاول الدعاة إليها وضع القواعد لها والأصول، فمما لا ريب فيه أن العامية متفرعة عن الفصحى، ومتأثرة بها، وإن كانت أحيانًا تشويهًا وتحريفًا لها، وليس لداء العامية من علاج إلا محاربة الأمية، وتعميم التعليم الإجباري، وتمكين أجهزة الإعلام في الدول العربية من الارتفاع بالعامية إلى الفصحى المبسطة الميسرة، فيما تبثه بالإذاعة والتلفزيون من أشرطة مسجلة وأسطوانات، وفيها تنشره من أدبنا المسرحي الحي
الذي يتكاثر مع الأيام غير متجانف عن تفصيح العامية ولا تيسير الفصحى.
ومرة أخرى نقول: إن العربية الفصحى -التي انطوت على خصائصها فصول هذا الكتاب- ليست هي المتخلفة، فلقد أدت دورها في حضارة الإنسان وما تزال تؤديه، وإنما التخلف فينا، في عقلياتنا ونفسياتنا، وفي مناهجنا وطرائقنا، وفي تلهينا بالقشور عن اللباب.
ولسوف تظل العربية الفصحى نافذتنا الوحيدة التي نطل منها على العالم كله شرقًا وغربًا، ولسوف تظل رمز وحدتنا ما كر الجديدان، وتعاقب الملوان.