الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة
إن المنهج الصالح في دراسة فقه اللغة هو المنهج الاسقرائي الوصفي الذي يعترف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية؛ كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش، بل هي بين الظواهر الاجتماعية كلها دليل نشاطها، ووعاء تجاربها، وبها تستقصى الملامح المميزة لكل مجتمع1.
لا شيء في الحياة يؤكد خصائص المجتمع، ويبرزها على وجهها الحقيقي؛ كاللغة المرنة المطواع التي تعبر بألفاظها الدقيقة الموحية عن حاجات البشر مهما تتشعب، حتى تصبح الرمز الذي به يعرفون، والنسب الذي إليه ينتسبون2!
هذا المسلك الاجتماعي الذي لا تزال اللغة الإنسانية تسلكه في أرقى المجتمعات وأبسطها، يسمح لنا بتوسيع المجال أمام العرف لتحديد مقاييس
1 Bloch and Tnager. Outine of Iinguistic Analysis، 5
2 Vendryes، Le Langage. 240-261
اللغة ومعايير استعمالها فلا قيمة للأصوات والكلمات والصيغ والتراكيب إلّا بمقدار ما يتعارف المجتمع على أنها رموز للدلالة1.
"أليست هذه الألفاظ العامة التي نستعملها؛ كالشجرة، والإنسان، والبشرية، والحرية، أشبه بالرموز الرياضية؟ أليست أشبه بالنقود التي يرمز بها إلى القيم؟ أولم تكن الرموز الرياضية والاقتصادية وسيلة للرقيّ في الميدانين الفكريّ والاقصادي؟ وكذلك اللغة، فهي لم تقتصر على كونها معبرة عن التفكير، بل كان كذلك أداة نمائه وارتقائه
…
"2.
لقد ظلَّ العالم غافلًا عن تلك الرموز اللغوية حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان يحاول تأويل نشأة اللغات في سذاجة عجيبة، حتى أوشك كثير من العلماء أن يجزموا بأن العبرية، لغة الوحي، هي لغة الإنسانية الأولى التي تشعبت منها لغات العالم المعروفة كلها3. وكان على آباء الكنسية أن يستندوا إلى الكتاب المقدس لتأييد هذا الرأي، وقد وجدوه في سفر التكوين: "والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول"4. وكذلك استند العرب من قبل إلى آية قرآنية حين مال كثير منهم إلى أن لغة العرب توقيف لا اصطلاح، واضطر ابن جني إلى تأويل تلك الآية على غير ما فهمها عليه أشياخه، فنسب إلى أكثر أهل النظر القول بأن أصل اللغة تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف، ثم قال: "ألا إن أبا عليّ رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله؛ واحتج بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّم
1 Edward Sapir، Selected Writings، 549
2 فقه اللغة، للأستاذ المبارك، ص2.
3 perr، op cit، 69
4 سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 19 وما يليها.
آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهذا لا يتناوله موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها"1.
فإذا استثنينا رأي هذا العبقري ابن جني الذي سبق إلى القول بوضع اللغة، وبأن وضعها لم يكن في وقت واحد، بل على دفعات؛ إذ تلاحق تابع منها بفارط2، وأنها بدأت بصورتها الصوتية السمعية، فكانت أصل اللغات كلها الأصوات المسموعة3، واستثنينا أيضًا آراء من تابع ابن جني على هذا المذهب السديد، وجدنا أئمة العربية الباقين يكادون يطبقون على أن اللغة إلهام وتوقيف، ويكادون لا يختلفون في تصورهم نشأة اللغة الإنسانية عَمَّا ظلَّ سائدًا في الغرب حتى أواخر القرن السابع عشر في الأوساط الكنسية، إلّا في فرق ضئيل لا يؤبه له: أن لغة الوحي في نظر الإسلام كانت لغة القرآن، علي حين كانت في نظر آباء الكنسية لغة الكتاب المقدس!
ومن أعجب صور التلاقي على صعيد الفكر أن العرب حين غَلَوْا في لغتهم؛ لأنها لغة الوحي، فخصوها بالمناسبة الطبيعية بين ألفاظها ومدلولاتها، نافسهم الغربيون بتخصيص هذه المناسبة بالعبرية؛ لأنها لغة الوحي كذلك، فهبَّ كيشارد E. Giichrd، في مطلع القرن السابع عشر يبرز فكرة التناسق الصوتي في اللغات المتفرعة من العبرية4.
وكان لـ "ليبنز Leibiz" الفضل في مقاومة هذا التفكير الأسطوري الذي يبدأ بافتراض الرأي، وينتهي سريعًا إلى التسليم به، ثم إلى فرضه
1 الخصائص 1/ 9.
2 نفسه 1/ 417.
3 نفسه 1/ 44-54.
4 وذلك في كتابه
Harmonie etymologiqe langues descendues de l hebraique.
على الناس1، ورأينا كثيرًا من الباحثين -بعد ليبنز- ينكرون القول بأصل اللغات، وينادون باستحالة الوصول إلى نتيجة قطعية تبين الصورة التي بدأ الإنسان يتكلم عليها؛ فهناك لغات تنتسب إلى تواريخ منها القديم، ومنها الأقدم، ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع إلى أكثر من عشرين قرنًا، ولكن أقدم اللغات المعروفة، اللغات الأمهات كما تسمى أحيانًا، لا شيء فيها من البدائية، ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة فإنها لا تفيدنا علمًا بالتغيرات التي طرأت على الكلام، ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها"2.
لقد بات لزامًا علينا تجديد البحث في فقه اللغة، فليس يعنينا أن نتقصى أصل اللغة الغامض المجهول، وليس علينا أن نعلل كل صوت لغوي، أو رمز دلالي، أنه على وجه الحكمة كيف وقع، وبأي لغة ينطق، بل يعنينا أن نتابع التطور اللغوي كيف حدث؟ بعد إحصائه واستقرائه وملاحظته، ومقارنة بعض مظاهره ببعض، وعلينا أن نبدأ بجمع ما يمكننا من المعلومات عن اللغات الإنسانية المختلفة لنخرج أخيرًا بالسنن العامة والقوانين الثابتة في علم اللغة العام؛3 وفي ضوئها نحدد خصائص لغتنا المدروسة بطريقة وصفية استقرائية؛ كصنيعنا هنا في فقه اللغة العربية.
وإنّ هذه الطريقة الوصفية لتفرض علينا الاعتراف بحقيقةٍ لا يمكن نكرانها: وهي أنه لم يعثر قط على قبيلة لا لغة لها، "وأن المتوحشين أنفسهم ليسوا بدائيين، رغم الإسراف في تسميتهم بهذا الاسم في غالب
1 perrot، op. cit.، 69. 70.
2 فندريس، اللغة 29-30.
3 وهذا ما يسمى في نظر العلماء الانتقال من اللغات إلى اللغة Des lagues langage
وانظر فيه بوجه خاص A. Sommerfelt في أبحاثه poins de vue diachonique،
synchronique et panchroni que generale (cf. perrot، op. cit 106)
الأحيان، فهم يتكلمون أحيانًا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدًا، ولكن منهم من يتكلم على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة، فهذه وتلك ليست إلّا نتيجة تغيرات تغيب عنا نقطة البدء التي صدرت عنها"1.
ومن يقرر هذه الحقيقة المتلعقة بلغات المتوحشين، ولا يستبعد أن يكون لتلك اللغات وخصائصها بساطة أو تعقيدًا، وتطورًا أوجمودًا، ولا يسعه أن يغض النظر في دراسة فقه العربية عن أخواتها من اللغات السامية؛ لأنها -فضلًا على أنها كانت رموزًا لحضارات سابقة- لم تنفصم العرى الوثيقة التي ظلت آمادًا طوالًا تربط بين بعضها وبعض في أغمض ظروف التاريخ.
وإن تعجب فعجبٌ تغافلُ علمائنا القدامى عن هذ القضية البديهية، مع أن كثيرًا منهم أشاروا في مواطن مختلفة إلى بعض اللغات السامية؛ كالعبرية والسريانية، بل عرف بعضهم اليهود والسريان واتصلوا بهم، وأفادوا إفادة خاصة من نقل السريان فلسفة اليونان إلى العربية.
ولعل للعصبية العمياء دخلًا في هذه النظرة العجلى إلى الحقائق والأشياء، فهم لا يريدون أن يقارنوا لغة القرآن بأية لغة أتيح لهم أن يلموا بها؛ لأن لغة العرب بزعمهم أشرف اللغات؛ ولو أرادوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلًا، فما تيسّر للباحثين في العصور الوسطى أن يتناولوا اللغات بالدراسة التاريخية المقارنة، وإنما ظهرت تلك الدراسات بعد عشرة قرون أو أكثر.
أنّى لهم إذن أن يكتشفوا خصائص العربية على حقيقتها؟
أنّى لهم أن يروا رأي العين أن العربية هي "أشد اللغات السامية احتفاظًا بمقومات اللسان السامي الأول، فقد نشأت غالبًا في موطنها القديم، لم تحل محل لغة أخرى غير سامية، كما حدث لسائر اللغات السامية
1 فتدريس 29-30.
النازحة، وموقعها الجغرافي ساعدها على الاستقلال بعيدة عن المؤثرات الأجنبية؟! 1".
إن علينا الآن -وقد ارتضينا الاستقراء والوصف طريقة ومنهاجًا- ألَّا نكتفي بتصوير وشائج القربى بين العربية والساميات، بل نلم فوق ذلك بفصائل اللغات الإنسانية لنعرف السر في إطلاق السامية على لغتنا، ثم نضيف إلى هذا كله لونًا من المقارنة بين بعض اللهجات العربية القديمة، لنصل منها آخر الأمر إلى لغتنا العربية الفصحى بخصائصها الفذة وأسلوبها المبين.
1 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 30.