الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: لهجة تميم وخصائصها
لقد أتيح للغة قريش أن تتبوأ المكانة الأولى بين اللهجات العربية الشمالية، فأصبحت هي الفصحى المقصودة عند الإطلاق، وكان على اللغويين القدامى أن يعنوا بها عناية خاصة، ويفضلوا نطقها ورسمها وإعرابها ووضعها واشتقاقها، فلم تحظ اللهجات العربية الباقية منهم إلّا بالقليل من أبحاثهم. فلندع الحديث عن لهجة قريش جانبًا، فقد أشبعها علماؤنا بحثًا، وقد زادها نزول القرآن بها مكانة ومجدًا؛ ولندرس لهجة تميم بين مجموعة اللهجات النجدية الشرقية؛ لنحاول إلقاء بعض الأضواء عليها، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض خصائصها ومزاياها.
إن في المصادر القديمة والمعجمات اللغوية ما يشير إلى أن كثيرًا من قواعد اللهجة التميمية أقوى قياسًا من بعض القواعد القرشية، بل فيها ما يكاد الباحث يستنتج منه باطمئنان أن لهجة تميم كانت في كثير من
مفرداتها وتراكبيها هي التبي ينطق بها غالبًا أبناء اللغة العربية، فهذا سيبويه1 يذكر كيف يراعي التميميون القياس في كسر أوائل الأفعال المضارعة، ويقرر بوضوح أن "ذلك في لغة جميع العرب إلّا أهل الحجاز"؛ ويؤكد ابن منظور2 في "لسان العرب"3 نسبة هذا القول إلى سيبويه في العبارة الآتية: "وزعم سيبويه أنهم يقولون: تَقَى الله رجلٌ فعل خيرًا، يريدون: اتَّقى الله رجل، فيحذفون ويخففون، وتقول أنت: تَتَّقِي الله، وتِتَّقى الله، على لغة من قال تَعْلم وتِعْلم.
وتِعْلم -بالكسر- لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة العرب، وأما أهل الحجاز وقوم من أعجاز هوازن وأزد السراة وبعض هذيل فيقولون: تَعْلم، والقرآن عليها. قال: وزعم الأخفش4 أن كل من ورد علينا
1 هو إمام النحاة، عمرو بن عثمان، أبو بشر، الملقب بسيبويه، أول من بسط علم النحو، وصنف كتابه المسمى:"كتاب سيبويه"، لم يصنع قبله ولا بعده مثله في النحو، توفي شابًّا سنة 180هـ، "ترجمته في الوفيات 1/ 385، وطبقات النحويين 66-74".
2 هو محمد بن مكرم، المعروف بابن منظور المصري، لغوي كبير، توفي بالقاهرة سنة 711هـ، طبع معجمه "لسان العرب" في بولاق، ثم في بيروت أخيرًا.
3 "لسان العرب" 20/ 283، وفي القراءات الشاذة، ص8 "إياك نِعبد" بكسر النون، وقد علق عليها العكبري بقوله:"لغة فاشية في العرب يكسرون حرف المضارعة" صورة شمسية لمخطوطة الكتاب بالمجمع العلمي بدمشق رقم 59، أما ابن سيده فيؤكد أن كسر أوائل الحروف المضارعة معروف في لغة جميع العرب إلّا أهل الحجاز. وانظر أمثلته الكثيرة وشواهده في "المخصص 14/ 216" وما بعدها، وقارن بالصاحبي 19/ والمزهر 1/ 255.
4 هو عبد الحميد بن عبد المجيد، أبو الخطاب، الأخفش الأكبر، مولى قيس بن ثعلبة، كان إمامًا في العربية، لقي الأعراب وأخذ عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء وطبقته، أخذ عنه سيبويه والكسائي ويونس وأبو عبيدة، توفي سنة 177هـ "ترجمته في بغية الوعاة 296، وإنباه الرواة 2/ 157".
من الأعراب لم يقل إلّا تِعلم، قال: نقلته من نوادر أبي زيد"1.
وفي الباب الذي يعقده ابن جني في "خصائصه" لتعارض السماع والقياس، يعترف بأن التميمية أكثر مراعاة للقياس من القرشية، ويبين الفرق بين ما كان أقوى قياسًا وما كان أكثر استعمالًا، فيقول:"وإن شذَّ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس، كان استعمال ما كثر استعماله أولى، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله". من ذلك اللغة التميمية في "ما"، هي أقوى قياسًا وإن كانت الحجازية أيسر استعمالًا، وإنما كانت التميمية أقوى قياسًا؛ من حيث كانت عندهم كـ"هَلْ"، في دخولها على الكلام مباشرة، كل واحد من صدري الجملتين الفعل والمبتدأ، كما أن "هَلْ" كذلك إلّا أنك إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية، ألا ترى أن القرآن بها نزل! وأيضًا فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر، أونقضٍ لنفي، فزعت إذا ذاك إلى التميمية، فكأنك من الحجازية على حرد، وإن كثرت في النظم والنثر"2.
وهذا الذي ذكره ابن جني عن "ما" التميمية، وكونها أقوى قياسًا من الحجازية، وهي فوارق ذات بال، يحسن أن تجمع وينبه عليها، فمن المعلوم أن النحاة يقسمون ما "النافية" إلى حجازية وتميمية، فالخبر في الحجازية منصوب، بينما هو في التميمية مرفوع، والقرآن في قوله "ما هذا بشرًا"3 جاء طبعًا على لهجة الحجاز، ويقرب من هذا الخلاف
1 هو أبو زيد الأنصاري، سعيد بن أوس، من أئمة اللغة والرواية المشاهير، توفي سنة 215هـ، كتابه "النوادر في اللغة" طبع في بيروت في المطبعة الكاثوليكية بتحقيق سعيد الحوري الشرتوني سنة 1894م.
2 الخصائص 1/ 130-131.
3 سورة يوسف31.
الإعرابي ما دار حول خبر ليس، إذا اقترن "بإلا"؛ فتميم ترفع هذا الخبر حملًا "لليس" على "ما النافية" على حين تنصبه قريش إطلاقًا، ويروون في هذا قصة لا ندري أصحيحة هي أم موضوعة، ولكنها على كل حال صورة واضحة للجدل العلمي حول بعض المعضلات اللغوية؛ ففي "أمالي" القالي1:"حدثنا أبو بكر بن دريد2، حدثنا أبو حاتم3 قال: سمعت الأصمعي يقول: جاء عيسى بن عمر الثقفي4 ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز "ليبس الطيب إلّا المسكُ" بالرفع، قال أبو عمر: ذهب بكم يا أبا عمرو! نمت وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازيّ إلّا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلّا وهو يرفع، ثم قال أبو عمرو: قم يا يحيى -يعني اليزيدي- وأنت يا خلف -يعني: خلفًا الأحمر- فاذهبا إلى أبي المهديّ فلقناه الرفع، فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجعه فلقناه النصب فإنه لا ينصب، قال: فذهبا فأتيا أبا المهديّ، فإذ هو يصلي؛ فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟
1 ذيل الأمالي لأبي علي القالي 39، وقد نسخها السيوطي كعادته في المزهر ج2 ص277، والقالي هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم، من كبار العلماء في الغريب والأخبار، أخذ من ابن دريد وغيره، ورحل إلى الأندلس، وأشهر كتبه "الأمالي والنوادر" وهو مطبوع ومعروف، توفي سة 356هـ.
2 ابن دريد هو محمد بن الحسن، أبو بكر، من كبار أئمة العربية، توفي سنة 321هـ، وأشهر كتبه "الجمهرة"، وقد طبع في حيدر آباد بين سنتى 1344-1353هـ، وطبع كذلك كتابه "الاشتقاق" بعناية المستشرق وستنفلد سنة 1853هـ.
3 هو سهل بن محمد السجستاني، من كبار أئمة اللغة، كان المبرد يلازم القراءة عليه، له نيف وثلاثون كتابًا، طبع بعضها ككتاب "المعمرين" وكتاب "النخلة"، توفي سنة 248هـ "الوفيات 1/ 218".
4 نحويّ كان يتقعر في كلامه، توفي سنة 149هـ.
قلنا: حئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول ليس الطيبُ إلّا المسكُ؟ فقال: أتأمراني بالكذب على كبرة سني؟ فأين الجادي1؟ وأين كذا؟ وأين بَنَّة2 الإبل الصادرة؟ فقال له خلف: ليس الشرابُ إلا العسلُ3، فقال: فما يصنع سودان هجر؟ ما لهم شراب غيرُ هذا التمر. قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاكُ الأمر إلّا طاعةُ الله والعمل بها، فقال: هذا كلام لا دخيل فيه، ليس ملاكُ الأمر إلا طاعةَ الله، فقال اليزيدي: ليس ملاكُ الأمر إلّا طاعةُ الله والعمل بها، فقال: ليس هذا لحني، ولا لحن قومي. فكتبنا ما سمعنا منه، ثم أتينا أبا المنتجع فأتينا رجلًا يعقل، فقال له خلف: ليس الطيبُ إلّا المسكَ، فلقناه النصب وجهدنا به فلم ينصب، وأبى إلّا الرفع، فأتينا أبا عمرو فأخبرناه وعنده عيسى بن عمر لم يبرح، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم بهذا، والله فقت الناس! ".
وإن أقل ما ترمز إليه هذه القصة -سواء أصورت خقيقة ما حدث، أم لخصت الصراع اللغوي بين النحاة- أن لكل قبيلة عربية لحنًا خاصًّا لا تستطيع سواه، ويستحيل تلقينها غيره؛ لأن ألسنتها لا تجري إلّا به، ولقد آثر العلماء أن يعدوا الخلاف حول هذه القضايا منتهيًا، ويردوا بها التأويلات المتكلفة، فقال أبو حيان: "إنما يسوغ التأويل إذا كان الجادة على شيء، ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول؛ أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم يتكلم إلّا بها فلا تأويل، ومن ثَمَّ
1 الجادي هو الزعفران، نسب إلى الجادية وهي من أعمال البلقاء.
2 بنة الإبل "بفتح الباء" رائحتها، "وقد وردت في المزهر بضم الباء "بنة" 1/ 278 فتصحح".
3 برفع العسل؛ لأن القصة كلها تدور حول هذا الرفع، ولكنها مجرورة في "المزهر" خطأ أو توهمًا 1/ 278.
رد تأويل أبي علي قولهم: "ليس الطيبُ إلا المسكُ" على أن فيها ضمير الشأن؛ لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة بني تميم"1.
ولا مدافعة في أن اللحن الخاص يتعذر تركه في تمييز كم الخبرية، فإنه منصوب وجوبًا في لهجة تميم، فهي تقول: كم حربًا خضت، وكم فارسًا جندلت؛ بينما يقول الحجازيون: كم حربٍ وكم فارسٍ.
وهذا يفسر لنا ما دار من الجدل النحوي العقيم حول بيت الفرزدق -وهو كما نعلم تميمي:
كم عمة لك يا جرير وخالة.
فإن من رواه بالنصب لاحظ أن الفرزدق إنما لحن بلحن قومه، ومن رواه بالجر أراد أن يؤكد أن جميع الشعراء، من أية قبيلة كانوا، يلتزمون النطق بلهجة قريش؛ لإيمانهم بأنها أفصح اللهجات العربية2.
على أننا -بلا ريب- ما كنا لنعرف بعض الفروق بين لهجتي الحجاز وتميم لولا التزام بعض التميمين لحنهم الخاص لدى نطقهم بألفاظ معينة.
من ذكل أن لهجة تميم تنبر الهمزة، أي: تحققها وتلتزم النطق بها -يشاركها في ذلك أكثر البدو- على حين يسهل الحجازيون الهمزة ولا ينبرونها إلّا إذا أرادوا محاكاة التميميين استلطافًا لهذه الصفة الحلوة من صفات لهجتهم، قال أبو زيد:"أهل الحجاز وهُذَيْل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون، وقف عليها عيسى بن عمر فقال: ما آخذ من قول تميم إلّا بالنبر، وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا"3.
1 المزهر 1/ 258.
2 اللهجات 73.
3 لسان العرب 1/ 14، وفي كتب الأدب أن أحد الرواة سأل رجلًا من قريش: أتهمز الفأرة؟ فلم يفهم المسئول وأجاب متهكمًا: "إنما يهمزها القط! ".
ومعنى نبر الحجازين عند الاضطرار، خروجهم من سليقتهم في تسهيل الهمزة في غير لهجات خطابهم العادية، لشهورهم بأن تحقيق الهمزة في الأساليب الأدبية من شعر وخطابة أقرب إلى الفصاحة من تسهيلها، وجاء نزول القرآن بنبر الهمزة دليلًا على أن اللغة المثالية كانت قبل الإسلام قد استحسنت في هذا لحن تميم فاقتبسته واتخذته صفة من صفات نطقها الفصيح، ولكن الإسلام -جريًا على عادته في التخفيف على القبائل ومراعاة لهجاتها- لم يلزم أحدًا بتحقيق الهمزة، وإن التزمه في الوحي، فمالت قراءات أكثر الحجازيين إلى التسهيل لا النبر، كما هي الحال في قراءة نافع وأبي جعفر من أشهر قراء المدينة1، فإنهما يقرآن:"وَبِسَ الْمِهَادُ"2، "وَأَصْبَحَ فُوادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا"3، "خَاسِيًا وَهُوَ حَسِيرٌ"4، "وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ ~لَهٍ"5.
وفي بعض القراءات الشاذة غلو في نبر الهموزة في مثل "رَبِّ الْعَألَمِين"6، بل تجاوز القراء الحدود حين قرءوا بهمزة مفتوحة مثل:"كَعَصْفٍ مَأكُول"7، وبهمزة قبل الحرف المشدد في "وَلا الضَّألِّين"8.
1 قارن باللهجات 66.
2 البقرة: 203.
3 القصص: 10.
4 الملك 4.
5 المؤمنون 91.
6 انظر إعراب القراءات الشاذة للعكبري، ص5. "عن صورة شمسية لمخطوطة الكتاب" وسنختصر الإحالة على هذا الكتاب بقولنا "العكبري".
7 العكبري 420.
8 نفسه 13.
ولا ينقضي عجبك من قول العكبري1 في هذه القراءة الشاذة: "وهي لغة مسموعة من العرب! "2.
والحق أن الذي سمع من العرب في باب الهمزة -على تنوعه تبعًا لتنوع القبائل ولهجاتها- لم يكن فيه مثل هاتيك الصورة الشاذة التي ذكرها العكبري وأضرابه على سبيل الإغراب حتى بالغوا فيها، وإلّا فكيف صحَّ لعماء اللغة أن يكشتفوا الفروق بين ما يهمز، فيكون له معنى، وما لا يهمز فيختلف معناه؟ 3 وما الذي يسوغ لهم أن يحكموا بأن بعض ما همز ليس أصله الهمز؟ 4 أو أن بعض ما تركت العرب همزه أصله الهمز؟ 5.
1 هو عبد الله بن الحسين العكبري -أبو العكبراوي- البغدادي الضرير، الحنبلي، أصله -كما قال القفطي- من عكبراء وإليها نسب، برع في علوم كثيرة؛ منها القراءات والفقه والحديث والفرائض والحساب، وكان له في علوم العربية قصب السبق. ذكر السيوطي من كتبه خمسة وعشرين؛ أشهرها إعراب القرآن، وقد طبع، وإعراب الحديث؛ ومنه نسخة مخطوطة في الظاهرية، وإعراب القراءات الشاذة الذي نحيل هنا على الصورة الشمسية لمخطوطته، وتوفي العكبري سنة 616هـ "انظر بغية الواعاة 281".
2 العكبري 13.
3 انظر المخصص 14/ 2-6، ومن الأمثلة التي ذكرها: تملأت من الطعام والشراب؛ وتمليت من العيش: إذا عشت مليًّا، أي: طويلًا، وكفأت الإناء إذا قلبته؛ وكفيته ما أهمه وهمه، وكلأت الرجل أكلؤه كلاءة إذا حرسته، وقد كليته إذا أصبت كليته، وذرأ الله الخلق يذرؤهم، أي: خلقهم، وقد ذرا الشيء ذروًا: نسفه. وقد أردأت الرجل إذا أعنته، قال الله تعالى:{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} وقد أرديته: إذا أهلكته.
4 قال ابن السكيت: "مما همزت العرب وليس أصله الهمزة قولهم: استلأمت الحجر، وإنما هو من السلام وهي الحجارة، وكان الأصل استلمت"، وقالوا: الذئب يستنشئ الريح، وإنما هو من نشيت الريح، أي: شممتها.. وكان رؤبة يهمز سية القوس، وسائر العرب لا يهمزها:"راجع هذه الأمثلة مع أخرى من نوعها من المخصص 14/ 7-8".
5 قال أبو عبيدة: "تركت العرب الهمز في أربعة أشياء لكثرة الاستعمال: في الخابية، وهي من خبأت. والبرية، وهي من برأ الله الخلق، والنبي وهو من النبأ، والذرية، وهي من ذرأ الله الخلق". المزهر 2/ 252 وقارن بالجمهرة لابن دريد.
أنهم بلا ريب -في باب الهمزة- قد بنوا قواعدهم على الاستقراء الدقيق، فتحدثوا عما همزه بعض العرب وترك همزه بعضهم، وإن كان الأكثر الهمز1 وعما يقال بالهمز مرة وبالواو أخرى2، وذلك يؤكد انبناء مقاييسهم على نصوص ووثائق لا سبيل إلى مدافعتها، وأقل ما يستنتج من هذا أن الخلاف الذي قام حول النبر والتسهيل لم يذهب بحسنات النبر، ولو كان لهجة لتميم لا لقريش، بل فضل العلماء المحققون على تسهيل الحجازيين نبر التميميين، آخذين بالقرآن، متأثرين بصنيعه.
ويخل إلى الباحث أن لقب "أهل التحقيق" الذي أطلقه ابن سيده3 على محققي الهمزة من بني تميم وأهل الحجاز، ليس مرادفًا للقب "أهل النبر" في نظره حين قال:"اعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها أهل التحقيق من بني تميم وأهل الحجاز، وتجعل في لغة أهل التخفيف بين بين قد يبدل مكانها الألف.."4؛ بل يرادف هذا الاسم في نظره "أهل الصواب والحق"؛ لأنه لم يكن يجهل أن تحقيق الهمزة بمعنى "نبرها" لم يك شائعًا لدى الحجازين عامة، وإنما عرفه منهم المحققون الذين استلطفوا
1 قالوا: عظاءة وعظاية، وصلاءة وصلاية، وعباءة وعباية، وسقاءة وسقاية، وامرأة رثاية ورثاءة. "المخصص 14/ 11".
2 نحو أكدت العهد ووكدته، وأرخت الكتاب وورخته، وأسن الرجل ووسن: إذا غشي عليه من نتن ريح البئر. "المخصص 14/ 12".
3 هو علي بن إسماعيل، المعروف بابن سيده، أبو الحسن، إمام في اللغة، يعد كتابه "المخصص" من أثمن كنوز العربية، وقد طبع في سبعة عشر جزءًا، ومنه استقينا أكثر معلومات هذا الفصل، وله كتاب آخر جليل يسمى "المحكم والمحيط الأعظم" وهو مخطوط يقع في 18 جزءًا، وكان ابن سيده ضريرًا، وكذلك أبوه، وتوفي سنة 458هـ "ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 342، وإنباه الرواة 2/ 225".
4 المخصص 14/ 13، وقد ذكر ابن سيده هذا النص في سياق الحديث عن التخفيف البدلي، "فإنه أحب -كما قال- أن يصنع لهذا التخفيف عقدًا ملخصا وجيزًا".
فيه لهجة تميم1.
ومن الفروق بين تميم وقريش أن تميمًا تجنح كثيرًا إلى إدغام المثلين أو الحرفين المتجاورين المتقاربين، فالأمر من "غض" مثلًا في لغة أهل الحجاز "اغضض" بالفك، وفي التنزيل {اغْضُضْ مِنْ صَوْتِك} 2 أي: اخفض الصوت.. وأهل نجد يقولون: "غض صوتك" بالإدغام، ومن ذلك قول جرير، وهو كما نعلم تميمي:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا3
وتميم تقول: {إِنْ تَمْسَّكُمْ حَسَنَة} 4، {وَمَنْ يَحْلّ عَلَيْهِ غَضَبِي} 5 {ولا تمن تستكثر} 6، وهي جميعًا في القرآن بلهجة قريش مفكوكة الإدغام7، ومن ذلك أن بني تميم لما أرداو إسكان عين معهم كرهوه9، فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا:"محم" وأصلها "مححم"، فرأوا ذلك أسهل من الحرفين المتقاربين8.
وإذا كانت الأمثلة السابقة كلها مما اتحد فليه الحرفان وتماثلا، فلم يستغرب فيها الإدغام، ففي قول تميم "فُزْدُ" بالدال عوضًا عن
1 خالفنا فيما ذهبنا إليه هنا صديقنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد راتب النفاخ، فهو لا يرتاب في أن لقب "أهل التحقيق" يرادف "أهل النبر"، ولكني -فوق الذي ذكرته في تعليل رأي- أستأنس بالعبارة نفسها على أن "أهل الصواب والحق" هم المقصودون في هذا النص، ولولا ذلك لقال ابن سيده:"اعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها بنو تميم وبعض أهل الحجاز".
2 لقمان 19.
3 قارن بلسان العرب 9/ 61.
4 آل عمران 120.
5 طه 81.
6 المدثر 6.
7 قارن باللهجات 63- 64.
8 المزهر 1/ 194 نقلًا عن ابن جني في "سر الصناعة"، وقارن بمقدمة الجمهرة.
"فزت" بالتاء ظاهرة مدهشة تستحق الاهتمام، لأن تميمًا قد استعاضت بحرف مجهور هو الدال عن حرف مهموس هو التاء، بسبب التجاور الصوتي بين الحرفين، فكلاهما حرف نطعي؛ وشبيه بذلك قول التميميين:"وَدَّ" بدلًا من "وَتِد" فسكنوا التاء وأدغموها في الدال أيضًا؛ لأنهما من مخرج واحد2.
كان طبيعيًّا إذن أن ينتهي ابنج جني إلى أن عملية الإدغام ليست أكثر من "تقريب صوت من صوت"3، وأن يلاحظ في لمتقاربين ضرورة التقائهما "على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام، فيقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه، وذلك مثل: وَدَّ في اللغة التميمية، وامَّحى، وامَّاز، واصَّبر، واثاقل عنه، والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت! "4.
وطريقة معالجة تميم لبعض الأفعال والأسماء والحروف والصيغ تختلف اختلافًا واضحًا عن طريقة قريش.
أ- فإذا فتحت قريش عين الفعل الماضي فقالت: زَهَد، حَقَد، كسرتها تميم غالبًا، فآثرت أن تقول: زَهِدَ، حَقِدَ5. وإذا ضمت قريش عين المضارع فقالت: يَفْرُغُ فرُوغًا، إذا بتميم تفتحها وتقول: يَفْرَغُ فراغًا6، ويلاحظ هنا أن مصدري الفعلين قد اختلفا باختلاف
1 المخصص 13/ 270.
2 الخصائص 1/ 532.
3 نفسه 1/ 531.
4 نفسه 1/ 532.
5 المزهر 2/ 276، ولكن الأمر على العكس في ماضي عرض، فعينه مكسورة عند قريش مفتوحة عند تميم. فالسيوطي في "المصدر نفسه" يقول:"أهل الحجاز: قد عرض لفلان شيء تقديره ضرب" فالقاعدة أغلبية. ولا يجب اطرادها.
6 قارن باللهجات 88.
اللهجتين، وهذا يفسر لنا الوجوه المتعددة في الفعل الثلاثي الواحد؛ من ناحية حركة عينه في صيغتي الماضي والمضارع، فسبب جواز أكثر من وجه في الفعل الواحد مرده في الأصل إلى اختلاف اللهجات1.
ومن الاختلاف في الفعل أن قريشًا تقول: برأت من المرض فأنا براء، وتميمًا تقول: برئت فأنا بريء، كما هي لغة سائر العرب، واللغتان في القرآن2. أهل الحجاز: ذأى البقل يذأى، ولغة نجد ومنها تميم: ذوى يذوي. أهل الحجاز: قلوت البُرَّ وكل شيء يقلى فأنا أقلوه قلوًا، وتميم: قليت البُرَّ فأنا أقليه قليًا، وهذ إذا كانوا لا يريددون بمادة "ق ل ي" معنى البغض، أما إذا أرادوه فهم جميعًا في التعبير عنه سواء، فيقولون: قليت الرجل فأنا أقليه قِلىً4.
والحجاز: لات الشيء يليته، إذا نقصه حقه، وتميم: ألاته يليته5، واللغتان في القرآن، فمن الأول قوله تعالى:{لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} 6، من الثانية قوله:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 7.
والحجاز: تَخِذَت ووخِذَت، وتميم: اتخذت8. والحجاز: أوصدت الباب، وتميم: آصدته. والحجاز: وكّدت توكيدًا، وتميم: أكدت تأكيدًا9. وضللت -بكسر اللام- لغة تميم، ووَرِيَ الزند "بكسر
1 ولذلك تجد في اللسان 10/ 328 "فرغ يفْرُغ ويفرَغ فراغًا وفروغًا".
2 المزهر 2/ 276-277.
3 تفسه 2/ 277.
4 نفسه 2/ 276.
5 نفسه 2/ 276.
7 الحجرات 14.
8 المزهر 2/ 276.
9 نفسه 2/ 277.
الراء" ومضارعهما يضل ويري1.
ب- ومن الاختلاف في الاسم أن الصيغة الدالة على أسماء الزراعة هي "فِعال" بكس الفاء على لغة الحجاز، فتقول: حِصاد وقِطاف، بينما هي "فَعال" بالفتح في لغة تميم2. وقد جاءت بالفتح في قوله تعالى:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3. والحجاز: حِجَّ بالكسر، وتميم: حَجَّ بالفتح. والحجاز: مِرية بالكسر، وتميم: مُرية بالضم.
والحجاز: كراهة، وتميم: كراهية. والحجاز: رِضوان بالكسر، وتميم: رُضوان بالضم. والحجاز: قلنْسُيَة، تميم قَلَنْسُوَة4. وأهل الحجاز يخففون الهدي يجعلونه كالرمي، وتميم يشدونه فيقولون: الهديّ كالعشي. والحجاز: الوكاف، وتميم: الإكاف. والحجاز: الشفع والوَتر -بفتح الواو، تميم: الوِتر -بكسرها. والحجاز: إسوة وقِدوة بالكسر، وتميم: أُسوة وقُدوة بالضم5. وصيغة الاسم المبني للمجهول من الأفعال التي عينها حرف علة هي الصيغة القوية عند تميم، الضعيفة عند الحجاز، فتميم: مبيوع ومديون، والحجاز مبيع ومدين.
واسم الفعل "هلُمَّ" عند الحجازيين يستوي فيه الواحد والجمع، والتذكير والتأنيث، أما تميم فتلحقه الضمائر وتصرف تصريف الأفعال:
"هلمَّ هلمَّا هلمِّي"6 والحجاز: أيهات، وتميم: هيهات7.
وصيغة "فَعالِ" منبية على الكسر في لغة الحجاز، ولكنها عند
1 نفسه 2/ 38.
2 نفسه 2/ 276.
3 الأنعام 141.
4 المزهر 2/ 276.
5 نفسه 2/ 277.
6 انظر هلم في لسان العرب 16/ 101.
7 المزهر 2/ 275-276.
تميم معربة ممنوعة من الصرف. قال الزمخشري1 في "المفصل": "والبناء في المعدولة لغة أهل الحجاز، وبنو تميم يعربونها ويمنعونها من الصرف إلّا ما كان آخره راء؛ كقوله: "حضار وجعار" فإنهم يوافقون فيه الحجازيين إلّا القليل".
واسم الإشارة عند الحجازيين ذلك وتلك، وهو عند تميم ذاك وتاك2، وأولاء بالمد لغة الحجاز، وأولى بالقصر لغة تميم، وقد أشار إلى أصل هذا الخلاف ابن مالك في ألفيته:
وبأولى أشر لجمعٍ مطلقًا
…
والمدّ أولى ولدى البعد انطقا
فقال ابن عقيل في شرحه: "وفيه لغتان: المد، وهي لغة أهل الحجاز، والقصر، وهي لغة تميم"3، وعلى هذا الأساس يمد الضمير المتصل عند الحجازيين، بينما يقصر عند تميم، ومن السهل تطبيق ذلك نطقًا في مثل قوله تعالى:{وَنَزَعَ يَدَهُ} 4، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} 5، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} .
والظرف "منذ" عند الحجازيين هو "مذ" عند تميم، يقول أهل الحجاز: ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان، وتقول تميم: مذ يومين ومذ يومان، فيتفقون في الإعراب ويختلفون في مذ ومنذ6.
1 هو محمود بن عمر، أبو القاسم، جار الله، المشهور بالزمخشري، من أئمة اللغة والتفسير، توفي سنة 538هـ. طبع كتابه "المفصل" وحده مرارًا، ومع شرح ابن يعيش عليه، وقارن في صيغة "فعال" شرح شذور الذهب 109-113.
2 شرح الأشموني 1/ 137.
3 قارن بشرح شذور الذهب 164.
4 الأعراف 107.
5 الذراريات 26.
6 المزهر 2/ 276.
ومن أغرب الاختلاف وأعجبه بين هاتين اللهجتين العربيتين الشماليتين ما يتعلق بتذكير الأسماء وتأنيثها، وقد عقد السيوطي في "المزهر" بابًا لذكر ألفاظ اختلفت فيها لغة الحجاز ولغة تميم، فقال فيه:"أهل الحجاز هي التمر، وهي البر، وهي الشعير، وهي الذهب، وهي البسر، وتميم تذكر هذه كله"1، ونضيف إلى ذلك أن أعضاء جسم الإنسان؛ كالعنق والعضد مونثة عند الحجازين، مذكرة عند التميمين؛ وكذلك الحال في أسماء الأماكن؛ كالطريق والسوق والصراط والسبيل، فبينما تؤنثها الحجاز تذكرها تميم2. والواقع أن الاختلاف في تذكير هذه الألفاظ وتأنيثها لا يمت إلى المنطق العقلي بصلة، وأن الخيال السامي الخصيب -كما يقول المستشرق ريت Wright- قد خلع على بعض الأشياء الجامدة سمات الأشخاص الحية، فأنث بعضها وذكّر بعضها الآخر تبعًا لتصوره كلًا منها. ونحن نستطيع بمثل هذا التعليل أن نفهم تقسيم المؤنث إلى حقيقي ومجازي؛ ففي المجازي تعبير عن شيء مبهم يتعذر تفسيره، ولكنه وقد أشبه في أذهان الساميين ومعتقدات العرب بوجه خاص ما يكتنف المرأة في سحر وغموض، كان بالتأنيث أجدر منه بالتذكير3.
وعلينا -في هذا الموطن- أن نذكر بشيء من الإعجاب رأي فنسنك Wwnsinck في كتابه "بعض ظواهر الجنس في اللغات السامية snme aspects gender in Semitic languages" فهو ينفي أن تكون علامات التأنيث؛ كالتاء والألف الممدوة والمقصورة أمارات حقيقية على التأنيث؛ وإنه لينتهي من بحثه إلى أنها ليست أكثر من علامات للمبالغة تفيد التكثير؛ كعلّامة وفهّامة في وصف مذكر، وقتلى وجرحى وشهداء
1 المزهر 2/ 277.
2 نفسه، والصفحة نفسها.
3 أسرار اللغة للدكتور إبراهيم أنيس 94.
وعلماء، في وصف بعض الجموع؛ ولعلنا لا نستبعد هذا الرأي إذا ما قارناه بما تسيغه العربية الفصحى من صيغ تفيد التأنيث رغم فقدانها كل أمارة دالة عليه؛ كالمرأة الحامل والمرضع والعاقر والطالق والثاكل والعانس والعاكب والناهد والعَروب1 وكالظبية العاطف والمفل والمشدن2، والحذول3، والناقة الأمون4، والدلاث5 والحرف6 والدّ لْقم7.
والمبرد8 يرى بوضوح أن هذه الصفات الدالة على التأنيث من غير علاماته لا تخضع للمنطق، وينبه على ما يلاحظ بطريقين: أحدهما: الإتيان بصفات نعت بها المذكر مع وجود علامات التأنيث كغلام يفعة، ورجل علامة ونسابة وراوية9؛ والثاني: التمييز بين ما نعت به المؤنث نعتًا خالصًا لمعنى الوصفية، وما نعت به على معنى الحدثية أو الفعلية.
فمتى أفاد الفعلية لزمته علامة التأنيث حتى يضارع فعله كقولك: أشدنت
1 العروب: المتحببة إلى زوجها.
2 الظبية المشدن: التي معها شادن.
3 الخذول: التي تأخرت عن القطيع.
4 الأمون: الصلبة.
5 الدلاث: الجريئة على السير.
6 الحرف: الضامر.
7 الدلقم إلي تكسر فوها، وسال لعابها. وانظر هذه الصفات كلها في المزهر 2/ 206-215 نقلًا عن الجمهرة لابن دريد، والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام. وقارن بعض أمثلتها بالمذكر والمؤنث للمبرد 136/ ب "مخطوطة الظاهرية مجموع 113"، وسنرمز عند الإحالة إليها بقولنا:"المبرد".
8 هو محمد بن يزيد، أبو العباس، المرعوف بالمبرد، أحد أئمة الأدب والأخبار، وإمام العربية في زمانه ببغداد. أشهر كتبه "الكامل" وقد طبع مرارًا. وله "المذكر والمؤنث" لا يزال مخطوطًا في الظاهرية كما أشرنا إليه في الحاشية السابقة، توفي المبرد سنة 286 هـ، "ترجمته في بغية الوعاة 116، ووفيات الأعيان 1/ 495، وتاريخ بغداد 3/ 380".
9 المبرد 137/ أ.
الظبية فهي مشدنة، وطلقت المرآة فهي طالقة1، ويستدل المبرد على ذلك بقوله تعالى:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 2، فلم يقل:"كل مرضع" بل جاء بالتاء المربوطة "مرضعة"، وكأن المبرد بهذه التفرقة الدقيقة تميز الوصف القائم بالنفس -لتعويضه الموصوف- عن الحدث العارض الذي هو فعل من أفعال الذات. وفي تجشمه هذا التعليل المنطقي لعلامة التأنيث في الآية، إيحاء بصعوبة التعليل فيما سمع من الشواهد الأخرى، كأن أمرها أهون في نظره من أن يتكلف له دليل من المنطق، ولعل موقفه هذا يبدو أصرح في تعليل وصف السماء بغير علامة التأنيث في قوله تعالى:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه} 3؛ إذ ينقل عن الخليل4 قوله: "إنما قيل منفطر ولم يقل منفطرة؛ لأنه أريد به النسب؛ كقوله: دجاجة معضل، وامرأة مرضع، وظبية مشدن، وإذا جاءت على الفعل لم يجز إلّا منفطرة، كقوله: منشقة على قوله: "انشقت5".
ويزداد اقتناع المبرد بتعذر التعليل في مباحث التذكير والتأنيث حين يعترف بأن "من التأنيث والتذكير ما لا يعلم مصدره، كما أنّ مما يذكر من الأسماء ما لا يعرف لأي مسمى هو"6. ومن الأمثلة التي يستشهد بها على ذلك: القِتْب -لحشو البطن- وهو واحد الأقتاب
1 نفسه.
2 الحج2.
3 المزمل 18.
4 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو عبد الرحمن، إمام زمانه في العربية، وهو الذي استنبط العروض، وصاحب كتاب "العين"، الذي يعد أول معجم في العربية، توفي الخليل سنة 175هـ.
5 المبرد 143/ ب.
6 نفسه 140/ أ.
أي: الأمعاء، على حين سلكها ابن قتيبة1 في عداد الأسماء المؤنثة التي لا علامة فيها للتأنيث2.
وينكشف لنا مرة أخرى أن علامات التأنيث ليست ذات بالٍ حين نرى أن الأصل في الأسماء تجردها من هذه العلامات، حتى صرح العلماء بأن كل ما لا يعرف أمذكر هو أم مؤنث، فحقه أن يكون مذكرًا؛ كجبريل وميكال3. يضاف إلى ذلك أنّ الأسماء المذكرة التي فيها ظاهرة التأنيث إنما توصف منها مسمياتها، ويُخْبَرُ عن ذواتها لا عن أعراضها: "تقول: قال الخليفة كذا، وقال الرواية، وجاء النسابة؛ لأنك تخبر عن الذات، ولست تريد أن الاسم هو الذي جاء وقال"4.
ونسارع -بعد الذي عرفناه من قلة غناء هذه الأمارات في الدلالة- إلى قبول تعليل المبرد لتأنيث الطاغوت تارةً، وتذكيره أخرى، بأنه جماعة، وهو كل ما عُبِدَ من دون الله؛ من إنس وجن وغيره5، فلقد ذكره الله صراحة في قوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 6. وأنثه صراحة في قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} 7، وجمعه جمع العقلاء في قوله:
1 هو عبد الله بن مسلم، المعروف بابن قتيبة، أبو محمد، كثير التصانيف في الأدب واللغة والدين، طبع كثير من كتبه، ومن أشهرها:"عيون الأخبار"، و"الشعر والشعراء"، و"تأويل مختلف الحديث". وله كتاب قيم قي الاشتقاق لا يزال مخطوطًا، توفي سنة 276هـ، "انظر وفيات الأعيان 1/ 251".
2 راجع هذا في المزهر 2/ 221، مع أمثلة أخرى من هذا القبيل؛ كالسماء والأرض والقوس والحرب والدرع.
3 المبرد 138/ ب.
4 نفسه 138/ أ.
5 نفسه 136/ أ.
6 النساء 59.
7 الزمر 17.
{أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 1؛ وهو في الحالات الثلاث لا يتعين فيه إلّا أنه اسم جنس، فيفرد على التذكير إذا قصد منه جنسه، ويجمع على التأنيث إذا قصدت منه جماعته، أو على تذكير العقلاء إذا قصد منه أفراده.
ومن اليسير -قياسًا على ما مضى- أن نفهم سر التذكير في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 3 فليس في إحدى الآيتين رعاية للفاصلة -وما أغنى القرآن عن رعايتها لو أدخلت الضيم على المعنى! - وإنما قصد جنس النخل في التذكير، وأريدت جماعته في التأنيث، وبكلتا الصيغتين نطقت العرب! وعلى كلتيهما بنت تصرفها في الكلام4 وما تحل العقدة، ولا تذللّ العقبة إلا بثقوب الفهم وجودة التقدير.
من هنا صحّ أن يقرءوا بوجهين قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} 5، فمن قصد الجنس، ذكر بالبناء للماضي فقال:"تشابه علينا"، ومن قصد الجماعة أنّث بصيغة المضارع "تَشَابَهُ" بعد حذف إحدى التائين تخفيفًا إذ أصله "تتشابه"6، وصح أيضًا أن تقول:"البلدة" فتريد البقعة، و"البلد" فتريد المكان 7.
وابن سيده في كتابه "المخصص" قد لاحظ تردد جمع الجنس بين التذكير والتأنيث في كلام العرب وفي التنزيل، فنبه عليه وقال: "فمن
1 البقرة: 257.
2 القمر: 20.
3 الحاقة: 7.
4 قارن بالمبرد 132/ أ.
5 البقرة 70.
6 قارن بالمبرد 132/ ب.
7 نفسه 147/ أ.
التذكير قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} 1، و {جَرَادٌ مُنْتَشِر} ، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} 3؛ ومن التأنيث قوله تعالى:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة} 4، وقوله:{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} 5، في حين أن السحاب مذكر في قوله تعالى:{يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} 6. والأمر أهون من هذا، فما زاد القرآن في تلك الألفاظ المترجحة بين التذكير والتأنيث على أن أظهرنا على عدم استقرار هذه الألفاظ لدى فصحاء العرب، ونزوله بالأمرين جميعًا يحفظ لغير لهجة قريش اعتبارها، مؤكدًا في الوقت نفسه ضرورة التساهل في قضية لغوية لا تمت إلى المنطق العقلي بصلة، فليس القول بتأنيث جمع الجنس، أو المؤنث المجازي بأولى من تذكيرهم، ولا هناك اعتبارات حقيقية لدى بعض القبائل دون بعض تحمل على تقديم مذهبها، وتصويب طريقتها، ويمكن أن يقال هذا في عدد لا يستهان به من الفروق بين لهجتي الحجاز وتميم، وردت في القرآن بكَلَا الأمرين.
ج- وفي أصوات الحروف اختلاف بين تميم والحجاز، فالثاء عند تميم تقابل الفاء عند الحجازيين، فتميم: لثام، والحجاز لفام7.
قال أبو زيد: "وبنو تميم في هذا المعنى: تلثمت تلثمًا8".
ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَفُومِهَا} بالفاء على لغة أهل الحجاز، وهو الثوم عند تميم9.
1 يس 80.
2 القمر 7.
3 القمر 20.
4 الحاقة 7.
5 الرعد 13.
6 النور 43. وقارن بالمخصص 100-113.
7 ومثلها الأثاثي، فإنها لغة تميم في الأثافي. قارن بالمزهر 1/ 465.
8 لسان العرب 16/ 5.
9 تتبع الآراء المختلفة إلى أوردها ابن منصور حولها في "اللسان 15/ 348".
وقد نسبت إلى تميم ظاهرة صوتية تسمى: "بالعنعنة"، هو قلب الهمزة المبدوء بها "عينًا"، ومنها قول ذي الرمة:
أعَنْ ترسّمتَ من خرقاء منزلةً
…
ماء الصبابة من عينيك مسجومُ
أراد "أأن ترسمت".
ومنها ما أنشده يعقوب:
فلا تُهْلِكَ الدنيا عن الدنيا واعتملْ
…
لآخرة لا بد عن ستصيرها
أراد "لا بد أن".
ومن الظواهر الصوتية الغريبة، الاختلاف بين الصوت الرخو "الظاء"، ونظيره الشديد وهو "الضاد"، فإننا نسنتج من كتب الرواية أن الظاء حجازية، والضاد تميمية، قال ابن سيده في "المخصص":"فاضت نفسه، خرجت، تميمية"1. وقال في موضوع آخر في غضون حديث عن "اضروري" بمعنى: أنه انتفخ بطنه من الطعام: إنه قد حكي عن أبي عمرو: "اطْرَوْرَى" بالطاء، ورواية أبي زيد "اظرورى" بالظاء، وأبو عمرو ثقة وأبو زيد أوثق منه، وقد
سألت عنه بعض فصحاء الحجاز فوافقوا أبا زيد"2. على أن النحاة واللغويين ينظرون إلى الموضوع نظرة أخرى، فلا يبالون بهذا الاختلاف بين لهجتي تميم والحجاز، وإنما يأخذون بعين الاعتبار ما استقرت عليه الأصوات المنقطوق بها في لغة العرب الأدبية المثالية، ففي بعض الألفاظ تتعين الظاء، وفي بعضها تتعين الضاد، كما أن الصوتين يشتركان أحيانًا في عدد لا يستهان به من الألفاظ. من ذلك
1 المخصص 15/ 36.
2 نفسه 5/ 80.
ما ذكره ابن مالك1 في كتابه: "الاعتضاد في معرفة الظاء والضاد"2، فهو يجزم بتعين الظاء في الظُرْبَغَانة "الحية" والمماظ "المؤذي جيرانه"، والمظّة "الرمانة"، وحَبَظَ "امتلأ"، وحَمَظَ "عصر"، بينما لا يرى غضاضة في مشارة الظاء والضاد في فيض النفس، ومضاض الحسام، وإنضاج السنبل، وإعضآلّ المكان "كثرة شجره". ولكي يهوّن الحريري3 صاحب المقامات على الطالب تمييز هذين الصوتين نطقًا، نظم من المقامة الحلبية شعرًا تعليميًّا جاء فيه:
أيها السائلي عن الضاد والظا
…
ء لكيلا تضله الألفاظ
إن حفظ الظاءات يغنيك فاسمعـ
…
ـها استماع امرىء له استيقاظ
هي ظمياء والمظالم والإظلام
…
والظلم والظبي واللحاظ
إلى آخر الأبيات4.
ويقرب من الاختلاف بين الضاء والظاء ظاهرة الاختلاف بين الطاء والتاء، والصاد والسين، والقاف والكاف، فكما آثر التميميون الصوت الأشد -وهو الضاد- على الأخف -وهو الظاء- ظلوا على عادة
1 هو محمد بن عبد الله، أبو عبد الله جمال الدين الطائي، المشهور بابن مالك، من كبار الأئمة في النحو. توفي بدمشق سنة 672هـ، طبع كثير من كتبه؛ كالألفية المشهورة، وتسهيل الفوائد الذي شرحه أبوحيان، وقد أشرنا إلى ذلك سابقًا، وطبع له أيضًا شواهد التوضيح، وإكمال الإعلام بمثلث الكلام، ولامية الأفعال. أما كتابه "الاعتضاد" الذي نقل منه السيوطي، فلا يزال مخطوطًا. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 53، وفوات الوفيات 2/ 277".
2 انظر في المزهر 2/ 282-286 أكثر الفروق الواردة في كتاب "الاعتضاد".
3 هو القاسم بن علي، أبو محمد، الذي نسب إلى عمل الحرير أو بيعه، فعرف بالحريري، ومقاماته أشهر من أن يعر ف بها، وقد طبع من كتبه "درة الغواص في أوهام الخواص"، و"ملحة الإعراب"، وله "ديوان رسائل". توفي بالبصرة سنة 516هـ. "انظر وفيات الأعيان 1/ 419".
4 تجد هذه المنطومة أيضًا في المزهر 2/ 286-288.
البدو يجنحون إلى التفخيم، ففضلوا الطاء على التاء، فقالوا: أفلطني لرجل إفلاطًا، عوضًا عن:"أفلتني إفلاتًا". وفي هذا يقول صاحب المخصص: "وقد أبدلت الطاء من التاء في "فعلت"، إذا كانت بعد حروف من حروف الإطباق". قال: "وهي لغة تميم، قالوا: فَحَصْطَ برجلك، يريدون فحصت1، وحِصْطَ، يريدون حصت" وفضلوا الصاد على السين فقالوا: "شمر عن صاقه" عوضًا عن "ساقه".
وقد أشار إلى هذا ابن منظور في مادة "سمخ" فقال: "السماخ الثقب الذي بين الدُّجْرَيْن من آلة الفدان. والسماخ لغة في الصماخ، وهو والج الأذن عند الدماغ، وسمخه يسمخه سمخًا، أصاب سماخه فعقره.. ولغة تميم الصمخ"2. وابن جني يسلك هذا في باب الإدغام، إذ لا يراه -كما أوضحنا- إلّا تقريب الصوت من الصوت، ويعد منه تقريب الصاد من الزاي؛ لأن كليهما أسَليّ مخرجًا، صفيري صفة، نحو: مصدر ومزدر، والتصدير والتزدير، وعليه قول العرب في المثل: "لم يُحْرَم مَنْ فَزْدَله" أصله: فصد له، ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِبَ: ضُرْب، وقوله3:
ونفخوا في مدائنهم فطاروا
فصار تقديره: فصد له، فلما سكنت الصاد فضعفت به، وجاورت الصاد "وهي مهموسة" الدال "وهي مجهورة"، قربت منها بأن أُشمت شيئًا من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر"4. وإذا تذكرنا أن
1 المخصص 13/ 270.
2 لسان العرب 3/ 504.
3 أي: قول القطامي الشاعر المشهور، وصدر البيت:
ألم يجز التفرق جند كسرى
4 الخصائص 1/ 535-536. وقارن بالمزهر 1/ 467.
تميمًا تجنح كثيرًا إلى إدغام المثلين، وضممنا إله ما سوف نذكره من تسكينها عين الفعل الماضي، وأواسط بعض الكلمات، لم نجد مشقة في رد هذا المثل إلى أصحابه من بني تميم1.
وفضَّلَ التميميون القاف على الكاف فقالوا: "قشطت الجُلّ عن الفرس" بدلًا من "كشطته". قال أبو عبيدة2: "وقريش تقول: كشطت، وتميم وأسد وقيس تقول: قشطت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: "قشطت"3، ومن هذا الباب، بلا ريب إلحاقهم القاف باللهاة حتى تغلظ جدًّا فيقولون: "الكوم" بدلًا من "القوم"، فيكون بين الكاف والقاف.
قال الشاعر من تميم:
ولا أكول لِكدْر الكَوْم: كَدْ نضجت
…
ولا أكول لباب الدار: مكفولُ4
ولئن عرفنا عن فُقَيْم من تميم إبدال الياء جيمًا مطلقًا، فإن عامة
1 يضرب هذا المثل فيمن أصاب بعض حاجته وإن لم ينلها كلها.
2 أبو عبيدة هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، إمام في اللغة والأدب، إلّا أنه كان شعوبيًّا يبغض العرب، وصنَّف في مثالبهم كتبًا، توفي في البصرة سنة 209هـ، له مصنفات كثيرة أشهرها "نقائض جرير والفرزدق" و"مجاز القرآن " وقد طبعا، ومن كتبه التي لا تزال مخطوطة:"إعراب القرآن"، و"طبقات الشعراء".
3 قارن المخصص 13/ 277 بأمالي القالي 2/ 139.
4 الصاحبي 25، وفي المصدر نفسه نقرأ علن حرف بين القاق والكاف والجيم، ويقول فيه ابن فارس:"وهي لغة سائرة في اليمن، مثل "جمل" إذا اضطروا قالوا: "كمل"، وقارن بمقدمة الجمهرة لابن دريد 1/ 4 عند الحديث عن الحروف التي استعملتها العرب، وأنها تزيد على ثمانية وعشرين حرفًا إذا أضيفت إليها حروف لا تتكلم بها العرب إلّا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها، مثل "بور" بين الباء والفاء يقولون فيه: فور.
تميم ترى العكس صحيحًا أيضًا، فتبدل الجيم ياء، فتقول: صهريٌّ وهي تريد "صهريج": نبه على ذلك ابن سيده في "باب الإتباع" لدى تعليله ما في قولهم: "حار يار، وحران يران، وحارّ جارّ" من الإتباع فقال: "ويمكن أن يكون بارّ لغة في جارّ، كما قالوا: الصهاريج والصهاري، وصهريج وصهري، وصهري لغة تميم؛ وكما قالوا: شِيرَة لشجرة، وحقَّروه فقالوا: شِيَيْرَة"1.
ولقد أدرك العلماء ما في ضروب الإبدال هذه من تنوع اللهجات، فلم يفسرها المحققون منهم بالمصادفة والاتفاق، ولا بتعمد العرب تعويض حرف من حرف، "وإنما هي -كما قال أبو الطيب اللغوي2- لغات مختلفة لمعانٍ متفقة: تتقارب الفلظتان في لغتين لمعنًى واحد، حتى لا تختلفا إلّا في حرف واحد، قال: والدليل على ذلك أن قبيلةً واحدةً لا تتكلم بكلمة طورًا مهمزة، وطورًا غير مهموزة، ولا بالصاد مرة وبالسين أخرى، وكذلك إبدال لام التعريف ميمًا، والهمزة المصدرة عينًا؛ كقولهم في نحو: أن: عن، لا تشترك العرب في شيء من ذلك، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون"3. على أننا -بصورة عامة - لاحظنا في الشواهد على تخالف العرب في نطق الأصوات، أن تميمًا تجنح إلى الأشد الأفخم؛ لأنها بدوية، وأن قريشًا تختار الأرق
1 المخصص 14/ 34.
2 أبو الطيب اللغوي: هو عبد الواحد بن علي، له تصانيف كثيرة أهمها "الإبدال" وقد حققه ونشره الأستاذ العلامة عز الدين التنوخي، في مطبوعات المجمع العلمي بدمشق، ومن تصانيفه:"مراتب النحويين" طبع بالقاهرة سنة 1375هـ، ومنها أيضًا "الأتباع"، و"شجر الدر"، كان بينه وبين ابن خالويه منافسة. أخذ عن أبي عمر الزاهد ومحمد بن يحيى الصولي، وأصله من عسكر محرم، قدم حلب وأقام بها إلى أن قتل في دخول الدمشق حلب سنة 351هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 317".
3 المزهر 1/ 460.
الأنعم؛ لأنها حضرية.
وفي وسعنا أن نلحق بهذه الظاهرة الأخيرة ما لوحظ من حرص التميميين على الضم -لخشونته- حين يحرص الحجازيون على الكسر لرقته.
فتميم: القُنْوَة "الكسبة"، والحجاز: القِنْيَة؛ وتميم: رُضوان، والحجاز: رِضْوَان. وتميم: مُرية؛ والحجاز: مِرية وتميم: أُسوة وقُدوة؛ والحجاز: إِسوة وقِدوة1. وجمهور تميم: "ما رأيته أمسُ" بالتزام ضم السين، والحجاز: "أمسِ" بالبناء على الكسر2.
ولعلنا لا نجد عناءً -بعد هذا- في ربط المعاقبة الحجازية بالميل إلى الكسر في مثل "صيّام ونيّام"؛ إذ تعتبر الياء امتدادًا للكسر، على حين تقول تميم: صوَّام ونوَّام"، بالواو امتدادًا للضم. قال ابن السكيت 3: "أهل الحجاز يسمون الصواغ: الصياغ. قال: ويقولون: المياثر والمواثر، والمواثق والمياثق، وأنشد لأعرابي:
حِمًى لا يَحلّ الدهر إلا بإذننا
…
ولا نسأل الأقوام عقد المياثق4
ويزداد هذا وضوحًا بمقارنة "اللذون" التميمية بـ"الذين" الحجازية5 "وحوث" التميمية بـ"حيث" الحجازية6.
1 المزهر 2/ 276-277.
2 انظر شرح شذور الذهب لابن هشام 113 وما بعدها.
3 هو يعقوب ابن إسحاق، أبو يوسف، المشهور بابن السكيت، إمام في اللغة والأدب، عهد إليه الخليفة المتوكل بتأديب أولاده، ثم قتله سنة 244هـ لسب مجهول، من أشهر كتبه "إصلاح المنطق" وهو مطبوع. وطبع له في مباحث اللغة كتب قيمة مثل:"الألفاظ"، و"القلب والإبدال" و"الأضداد""راجع ترجمته في بغية الوعاة 418-419".
4 المخصص 14/ 19.
5 انظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك حول بيت الشاعر:
نحن اللذون صبحوا الصباحا
…
يوم النخيل غارة ملحاحًا
6 الكفاية في علم الرواية 182، وقارن بالمزهر 1/ 473.
ومع ورود أمثلة كافية للاستدلال على أن المعاقبة لغة لأهل الحجاز ينفردون بها دون سائر اللهجات العربية، أبى بعض العلماء أن يفسروا كل ما سمع من هذا الباب بمثل هذه المعاقبة الحجازية؛ إذ بدا لهم أنها ليست مطردة في لغتهم، فدخول الياء على الواو، والواو على الياء من غير علة، لا ينبغي أن يبحث دائمًا عن سببه في افتراق القبيلتين في اللغتين، بل قد تحدث المعاقبة عند القبيلة الواحدة من العرب1. قال الأصمعي: سألت المفضل2 عن قول الأعشى:
لعمري، لمَنْ أمسى من القوم شاخصًا
…
لقد نال خيصًا من عُفَيْرَة خائصا
فقلت: ما معنى خَيْصًا خائصًا؟ فقال: أراه من قولهم: فلان يخوص العطاء في بني فلان: أي: يقلّله، فكأن "خيصًا" شيء يسير، ثم بالغ بقوله "خائصا "، كما قالوا: موت مائت. قلت له: فكان يجب أن يقول: لقد نال خوصًا؛ إذ هو من قولهم: يخوص العطاء. فقال: "هو على المعاقبة، وهي لغة لأهل الحجاز، وليست بمطردة في لغتهم! "3.
وسواء أأقَرَّ العلماء بردِّ صور المعاقبة جميعًا إلى الحجاز، أم ترددوا في بعضها، لا يسع أحدًا منهم الشك في أن أمثلة المعاقبة مسموعة من
1 المخصص 14/ 19.
2 هو المفضل بن محمد، أبو العباس، المشهور بالمفضل الضبي، رواية علامة بأيام العرب، لزم المهدي وصنف له كتابه "المفضليات"، وقد رجح الأستاذ المحقق عبد السلام هارون وفاته سنة 178هـ، عندما نشر المفضليات الخمس "انظر ص4-5". ولكن الذي في لسان الميزان 6/ 81 أن وفاته نسة 168هـ ،ولم يؤرخ السيوطي في "البغية".
3 المخصص 14/ 19.
العرب، محفوظة في كلامها؛ فقد روى أبو عبيد1 أن العُجاوة والعجاية لغتان2، وأن الطَّيْع لغة من الطّوْع3، وقال: طغوت يا رجل وطغيت، وهذوت وهذيت، وطهوت اللحم وطهيته، ولحوت العصا ولحيتها، إذا قشرتها، ولحيت الرجل من اللوم لا غير
…
"4.
وزعم الكسائي5 أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني، بدلًا من "يضيرني"6، وقال:"لم أسمع ينمو -بالواو- إلّا من أخوين من بني سليم"، قال:"ثم سألت عنه جماعة من بني سليم فلم يعرفوه بالواو"7.
وقال ابن السكيت: عزيته إلى أبيه، نسبته إليه أشد العزي، وبنو أسد يقولون:"عزوته إلى أبيه"8.
وجاء في الحديث النبوي: "إذا تَبَيَّغَ الدم بصاحبه فليحتجم" يعني: إذا هاج فكاد يقهره، مع أنه يقال أيضًا: "تبوغ الدم بصاحبه
1 هو القاسم بن سلام، أبو عبيد، ولد بهراة ورحل إلى بغداد، كان من أئمة العلماء في الحديث واللغة، توفي سنة 224هـ، طبع من كتبه "الأموال" و"الأمثال"، وله مخطوطات كثيرة جديرة بالنشر، ومكتبتنا العربية بأمس الحاجة إليها؛ وأهمها:"الغريب المصنف" في غريب الحديث، ألفه في نحو أربعين سنة، و"فضائل القرآن" و"الأجناس من كلام العرب".
2 المخصص 14/ 23.
3 نفسه 14/ 25.
4 راجع في المخصص "14/ 24" هذه الأمثلة وشواهد أخرى من هذا الضرب.
5 هو علي بن حمزة، أبو الحسن، المشهور بالكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة المشهورين، كان يسمع الشاذ فيجعله أصيلًا ويقيس عليه. صنف "معاني القرآن" و"القراءات" و"المصادر".
اختلف في وفاته، والأشهر سنة 182هـ. "انظر ترجمته في البغية 336".
6 المخصص 14/ 20.
7 نفسه 14/ 22.
8 نفسه 14/ 23.
إذا قتله"1. وحين روى الصحابي الجليل أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا قلت لأخيك يوم الجمعة والإمام يخطب: "أنصت" فقد لغيت" بالياء، قال أبو الزناد -من رجال الإسناد في هذا الحديث: "وهذه لغة أبي هريرة، إنما هو لغوت"2.
وبدا للعلماء في باب المعاقبة -كما بدا لهم في باب الهمز- أن يخضعوا دخول الياء في الواو، أو الواو في الياء، لما سمع عن فصحاء العرب، فإن يعترفوا بجواز اللغتين فقد نبهوا إلى الفصحى فيهما، فأنت تقول: ينمي وينمو، ولكن الفصحى ينمي بالياء3، وتقول عن الحدقة: حِنْدَيرة وحِنْدَوْرَة، والحنديرة أجود4، وزعم الكسائي أنه سمع في تثنية الرضا والحمى: رِضَوَان وحِمَوَان، والوجه: رِضْيَان وحِمْيَان5.
ولم يكن بد من أن يستثنوا في مثل هذا التداخل الصوتي حالات يخصونها بالواو وأخرى بالياء، فيقال: إن بينهما لبونًا في الفضل وبينًا، فأما في البعد فيقال: إن بينهما لبينًا لا غير6، وتقول: قلوت البر، وبعضهم يقول: قليت، ولا يكون في البغض إلّا قليت، كما رأينا7، وتقول: قد غلوت في القول فأنا أغلو غلوًّا، وقد غلوت بالسهم لا غير، وقد خلوت به بالواو لا غير، وقد
1 نفسه 4/ 21.
2 الكفاية 183. وراجع في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" "ص79-870 " ما ذكرناه عن تحرج الرواة من تغيير اللحن، أو تغيير اللهجة التي تحملوها، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يؤديها كما تحملها بما فيها من لحن الراوي.
3 المخصص 14/ 222.
4 نفسه 14/ 25.
5 نفسه أيضًا 14/ 25 أيضًا.
6 نفسه 14/ 20.
7 نفسه، 14/ 23.
خَلَيْتُ دابتي خليًا، إذا جززت لها الخلا، وهو الرطب1.
والأمثلة التي ذكرناها عن المعاقبة قليل من كثير مما انطوت عليه بطون المعجمات والقواميس، فلا سبيل إلى إنكار ما تنطق به من ميل بعض العرب إلى الكسر، وبعضهم إلى الضم، ولا مفر من الاعتراف بتفضيل الحجازيين الكسر على الضم.
وقد يبدو غريبًا لأول وهلة أن يجنح التميميون إلى الإمالة -وهي صوت مائل إلى الكسرة- بينما يحتفظ الحجازيون بالفتح. إلّا أن بعض النظر كافٍ في أظهار الفرق بن الموضوعين، فالمقابلة بين الضم والكسر مقابلة بين صوتين متشابهين؛ لأنهما كليهما من أصوات اللين الضيقة، غير أن أحدهما -مع ذلك- أشد من الآخر وأفخم، وهو الضم طبعًا. فأما بين الإمالة والفتح، فالأخف هو الفتح، ولا سيما لأنّ الإمالة ليست كسرة خالصة، فضلًا على أن من الإمالة ما يكون ميلًا إلى الضم، كقولهم: بُوعَ، بإشمام الياء صوت الواو عوضًا عن بيع2.
وفي الإمالة بنوعيها -الجانح إلى الكسر والجانح إلى الضم- ضرب من الاشتراك الصوتي لا يُعْطَى به اللفظ الممال حقه من النغم الخاص به، ومثل هذا الاشتراك في النطق بالأصوات لا يستغرب من قبيلة بدوية كتميم، وإنما يستغرب منها العكس؛ لأن تحقيق جميع أصوات اللفظ وإعطاءها حقها من النغم طور نهائي في صقل اللغة واستكمال أدواتها، فهو أجدر أن يكون وظيفة اللغة الأدبية المصطفاة، لا وظيفة من البدو الرحَّل، قابلة للتغير والتأثير والعدوى تبعًا لتنقلات أصحابها الذين لا
1 المخصص 14/ 26. واقرأ في هذه الصفحة أمثلة أخرى من هذا القبيل.
2 قارن ما ذكره الدكتور إبراهيم أنيس عن الإمالة في "اللهجات 80 وما بعدها" برأي ابن جني فيها "الخصائص 1/ 535". وارجع أيضًا إلى الصاحبي 20 والمزهر 1/ 256.
يستقرون في مكان1.
وبسبب هذا الاشتراك الصوتي الناجم عن الغموض في أداء النغم حقه، جرى على لسان تميم أحيانًا كَتْبَ بدلًا من كَتَبَ، فاستعاضت عن فتح عين الماضي بتسكينها، ومن هذا النوع بلا ريب ما يؤثر عن كثير من بني تميم2 من تسكين الكلمات الآتية: فَخْذ، كَبْد، في الإفراد، ورُسْل، وخمُرْ، وفُرْش، في الجمع، بينما يتوالى تحقيق المتحركات جميعًا عند الحجازين، فيقولون على التعاقب: فَخِذَ، كَبِدَ، رُسُلُ، خُمُر، فُرُش؛ وهكذا دواليك3. ولا شك أن هذا التخفيف، عند الآخذين به، ليس بواجب، ولا هو بناء بُنِيَ اللفظ عليه في الأصل، وإنما هو عارض، ولقد نبه إلى هذا سيبويه حين ردَّ مثل: عَلْمَ وكَرْمَ إلى عَلِمَ وكَرُمَ، إذ جعل المتكلم الفعل لنفسه فقال: عَلِمْتُ وكَرُمْتُ4.
ولا يختلف كثيرًا عما نحن بصدده من الاشتراك الصوتي ما تمتاز به تميم من الإنباع الصوتي في مثل: "ضَحِكَ ضِحِكًا" عوضًا عن "ضَحِكَ ضَحِكًا" فقد أثَّرَ صوت الحاء المكسور -وهو عين هذه الكملة- على الضاد المفتوحة في أولها، فلم تُعَنَّ تميم نفسها في تحقيق صوتين متعاقبين متنافرين، واستسهلت إتباع أولهما ثانيهما بسبب القرب والجوار5.
1 اقرأ بعناية "اللهجات ص85".
2 يفهم من "اللسان" أن هذه بالدرجة الأولى لغة بكر بن وائل، على أن تميمًا تشاركها فيها.
3 انظر في "المخصص 14/ 220" باب ما يسكن استخفافًا، وهو في الأصل عندهم متحرك.
4 راجع رأي سيبيويه في "المخصص 14/ 222"، وقارن بالمزهر 2/ 109 كيف يرد هذا التخفيف إلى اختلاف اللغات.
5 ومن ذلك: لئيم، نحيف، رغيف، كلها بكسر الحرف الأول في لغة تميم. "المخصص 14/ 213". وفي القراءات الشاذة صور من الإتباع:"الحمد لله". انظر إعراب القراءات الشاذة العكبري 4. وانظر في "الزهر 2/ 66" أمثلة أخرى على الإتباع.
على إن للإتباع صورًا تطَّرِدُ في اللغة من غير أن توحي بشيء من اختلاف اللهجات، من ذلك "لِهِمٌ" للشخص الذي يلتهم كل شيء، "إنما هو إتباع ومضارعة؛ لأن كل ما كان على فعل ثانيه حرف من حروف الحلق، ففيه أربع لغات مطردة: فعل وفعل وفعل"1.
وفي هذا الجو الغامض من تأثر بعض الأصوات ببعض -وهو نتيجة حتمية لنطق قبيلة بدوية لم يتم صقل لغتها- لم تستنكف تميم عن تقديم الحروف وتأخيرها في ألفاظ معينة، فهي تقول في القسم:"رَعَمْلي" عوضًا عن لعمري2، كما تقول:"جَبَذَ" بدلًا من جذب.
ولعل الباحث اللغوي يرى في هذه المسألة نوعًا من القلب المعروف في الصرف، ولكنه مضطر إلى الرجوع عن رأيه إذا قرأ في "باب ما الهمزة فيه موضع اللام" من كتاب سيبويه:"وأما جَذَبْتُ وجَبَذْتُ ونحوه، فليس فيه قلب، وكل واحد منهما على حدته؛ لأن ذلك يطَّرد فيهما في كل معنًى، ويتصرف الفعل فيه، وليس هذا بمنزلة ما لا يطرد"3.
هذه خلاصة الفوارق الرئيسية بين لهجتي تميم والحجاز، رأينا من خلال عرضها أننا من تميم أمام لهجة خاصة قائمة بذاتها، لها خصائصه ومميزاتها، وعسى أن نكون قد استنتجنا من معرفتنا لذلك أن لهجة تميم قد أمدت العربية الفصحى بروافد غنية غزيرة، ساعدت على استقرار نحوها وصرفها، وسعة اشتقاقها، وبعد دلالتها، وانبساط
1 المخصص 5/ 27، وارجع إلى "الإتباع والمزواجة لابن فارس" الذي نشرة المستشرق رودلف برو بمدينة غينسن سنة 1906، ويقع في 24 صفحة.
2 المزهر 2/ 277.
3 قارن باللسان 5/ 10 وانظر الصاحبي 172 والمقاييس 1/ 501.
مدرجها الصوتي، وحياة عدد كبير من مفرداتها، فإذا أردنا أن ننتقل إلى دراسة خصائص العربية ومميزاتها كان لزامًا علينا أن نفهم لدى أول خطوة نخطوها حتى آخر نتيجة نعطيها، أن تميمًا تشارك قريشًا بنصيب كبير من هذه الخصائص، وأن إغفال دور تميم في هذا إنما هو تهاون بجزء لا يتجزأ من لغتنا العربية الفصحى.
ولقد سبق أن نبهنا على أن للعربية الشمالية الباقية لهجات مختلفة، كلها جدير أن يدرس، غيبر أن أقصى ما يغتفر لنا الاقتصار عليها منها إبراز الفروق في مجموعة اللهجات النجدية الشرقية، ومجموعة اللهجات الحجازية الغربية، ونحن قد اقتصرنا على هذا لضيق المقام، وإن كنا نعتقد أن التوسع في دراسة سائر اللهجات العربية يزيد لغتنا ثروة، ويمنحها قوة، ويفسر كثيرًا من خصائصها التي لم تنفرد بها لهجة، بل أسهمت في تكوينها هذه اللهجات قاطبة.
ولسوف يبدو لنا -حين نأخذ في الباب التالي بدراسة خصائص العربية- أن ظاهرة التأثر بين اللهجات الصحيحة المسموعة من العرب آلت بالفصحى إلى ضرب من التوحد في الخصائص، والتماثل في السمات والملامح، فلم يخف على المحققين من علمائنا القدامى ما تجاور هذه اللهجات وتلاقيها من ملاحظ نفسية واعتبارات اجتماعية، مذ غدوا يتساءلون: إذا سمع العربي لغة غيره فهل يراعيها ويعتمدها، أم يلغيها ويطرح حكمها1؟
ففي تعليل هذه الظاهرة لم يقتنع هؤلاء المحققون بالإحالة على ما اطرد من مقاييسهم، بل نظروا نظرة موضوعية هدتهم إلى مواطن التأثر والعدوى، وإلى الاعتراف بحاجة العرب إلى أن يراعي بعضهم لغة بعض،
1 الخصائص 1/ 413.
وأن يأخذ بعضهم عن بعض: "وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيرًا منتشرين، وخلقًا عظيمًا في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين، فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ ويراعي أمر لغته، كما يراعي ذلك من مهم أمره"1.
لكأن هاتيك اللهجات، وهي في طريقها إلى التلاقي والتقارب، لم تك إلّا جداول تجري رخاء في مسالكها، ثم تنتهي باطمئنانٍ إلى الانصباب في نهرٍ واحدٍ غزيرٍ قادها نحوه دليل لا يضل ولا ينسى!
1نفسه 1/ 415.