الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب-
في المشترك اللفظي:
ما دام فقهاء اللغة يقررون أن الكلمة يكون له من المعاني بقدر ما لها من الاستعمالات، فإن كثرة الاستعمال التي لوحظت في المترادفات أو في إظهار الفروق الدقيقة بين الألفاظ التي يظن فيها الترادف، هي تلك التي تلاحظ في الألفاظ المشتركة أو التي يظن فيها الاشتراك؛ فكما يتسع التعبير في العربية عن طريق الترادف -سواء أبولغ فيه فكان للمسمى الواحد ألوف من الأسماء، أم اقتصر منه على الأمور الهامة والتمست الفروق في سائره- لا بد أن يتسع التعبير عن طريق الاشتراك، سواء أسُلِّم وروده على سبيل الحقيقة، أم التُمست له معانٍ متطورة على سبيل المجاز.
ولعل تعريف أهل الأصول للمشترك هو أدق ما يحد به، فهو عندهم "اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة"1. ومثلوا له بعين الماء، وعين المال، وعين السحاب.
وإن شئت أن تختصر تعريفه أمكنك أن تقول: "المشترك هو ما اتحدت صورته واختلف معناه". ولولا تنوع الاستعمال لما تنوع معناه؛ لأن اتحاد صورته مع اتحاد استعماله ما كان لينتج إلا اتحاد معناه، ولكن الصورة وحدها تماثلت في المشترك، بينما تغايرت طرائق استعمالها، أما لتغاير البيئات اللغوية وإما لتفاوت المستعملين في مدى ولوعهم بالمجاز أو إيثارهم الحقيقة.
ولسنا نزعم أن العربية تنفرد بالمشترك اللفظي، ففي سائر اللغات ألفاظ مشتركة Homonymes يدرو النقاش حولها بين أصحاب الاشتراك ومنكريه، كما يدور مثله بين أصحاب الترادف ومنكريه. بيد أن كثرة المشترك النسبية في لغتنا -كالذي رأيناه من كثرة الترادف فيها نسبيًّا- هي التي تجعل بحث المشترك مندرجًا تحت اتساع العربية في التعبير على أنه خصيصة لا تنكر من خصائصها الذاتية.
ولئن توسع الأصمعي والخليل وسيبويه وأبو عبيدة2 في إيراد الأمثلة على المشترك اللفظي في شواهد عربية لا سبيل إلى الشك فيها، فإن طائفة
1 المزهر 1/ 369.
2 سبقت تراجمهم جميعًا.
من العلماء القدامى لم ترَ في تلك الأمثلة والشواهد إلا مصادفات محضة تنوسيت فيها خطوات التطور المعنوي عن طريق المجاز والكناية، ولو أمكن تتبع تلك الخطوات واحدة واحدة لوقعنا على المعنى الأصلي الحقيقي للفظ ثم رأيناه آخذًا في التطور، يلبس كل يوم زيًّا جديدًا، ويعبر في كل بيئة تعبيرًا معينًا. وفي طليعة هؤلاء العلماء المنكرين للاشتراك، المسرفين في إنكاره، وابن دُرُسْتَوَيه1 في كتابه "شرح الفصيح"2.
فإذا ظن الناس من قبيل المشترك مثل لفظ "وجد" الذي لم يفد معاني مختلفة إلا بسبب العوارض التصريفية، فيقال:"وجد الشيء وُجدانًا إذا عثر عليه، ووجد عليه مَوْجِدة إذا غضب، ووجد به وَجْدًا إذا تفانى بحبه؛ لم يسلم ابن درستويه بأن هذا لفظ واحد قد جاء لمعانٍ مختلفة، "وإنما هذه المعاني كلها شيء واحد، وهو إصابة الشيء خيرًا كان أو شرًّا؛ ولكن فرقوا بين المصادر؛ لأن المفعولات كانت مختلفة، فجعل الفرق في المصادر بأنها أيضًا مفعولة، والمصادر كثيرة التصاريف جدًّا، وأمثلتها كثيرة مختلفة، وقياسها غامض، وعللها خفية، والمفتشون عنها قليلون، والصبر عليها معدوم، فلذلك توهم أهل اللغة أنها تأتي على غير قياس؛ لأنهم لم يضبطوا قياسها، ولم يقفوا على غورها"3.
ويبدو أن أبا علي الفارسي كان ينظر إلى الموضوع نظرة معتدلة، لا يغالي فيها في إنكار الاشتراك مغالاة ابن درستويه، ولا يبالغ في جميع صوره مبالغة الفريق الأول، فهو يقول: "اتفاق اللفظين واختلاف
1 هو عبد الله بن جعفر، المعروف بابن درستويه من علماء اللغة، فارسي الأصل. طبع من تصانيفه "الكتاب". ومن كتبه التي لا تزال مخطوطة "تصحيح الصحيح" وهو المعروف بشرح الفصيح أي فصيح ثعلب. توفي سنة 347هـ "بغية الوعاة 279".
2 أي شرح فصيح ثعلب كما ذكرناه في الحاشية السابقة.
3 المزهر 1/ 384.
المعنيين ينبغي ألا يكون قصدًا في الوضع ولا أصلًا ولكنه من لغات تداخلت، أو أن تكون لفظة تستعمل لمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتصير بمنزلة الأصل"1.
وقد لعب تداخل اللغات دورًا خطيرًا في استعمال الألفاظ المشتركة، فكان مادة صالحة للتورية والتجنيس عند المشغوفين بالمحسنات اللفظية، فمن السهل أن يكرر الشاعر أو الناثر لفظ "الألف" قاصدًا به الأحمق كما هو في لغة قيس، أو الأعسر كما في لغة تميم2، أو لفظ "الهِجْرِس" قاصدًا به القرد كما في لغة الحجاز، أو الثعلب كما عند تميم3، أو لفظ "السليط" قاصدًا له الزيت كما يقول عامة العرب، أو دهن السمسم خاصة كما عند أهل اليمن4.
وهنا تسمح قريحة الشعراء المجنسين بما يعتبرونه عبقرية في الشعر، وإن كان الشعر براء من هذا السخف كله، فليأخذ الزهو رجلًا كسلامة الأنباري وهو ينشد في شرح المقامات:
لقد رأيت هذريًا جَلْسا
…
يقود من بطن قديد جَلْسا
ثم رقى من بعد ذاك جَلْسا
…
يشرب فيه لبنا وجَلْسا
مع رفقة لا يشربون جَلْسا
…
ولا يؤمون لهم جَلْسا
وكيف لا يأخذه الزهو وقد صلح لفظ "جلس" عنده لستة معانٍ مختلفة في ثلاثة أبيات فقط؟ فالأول: رجل طويل، والثاني: جبل عالٍ،
1 المخصص 3/ 259.
2 المزهر 1/ 381.
3 في اللهجات العربية 185.
4 المزهر 1/ 381. وقد صرح السيوطي في هذا النوع بأنه "من المشترك بالنسبة إلى لغتين"، ونقل مثلي الألفت والسليط عن "الغريب المصنف".
والثالث: اسم جبل، والرابع: عسل، والخامس: خمر، والسادس: نجد1
…
والواقع أن لفظ "جَلْس" كان يستعمل في الأصل لمعنى خاص هو الارتفاع مثلًا، وقد يكون من السهل ملاحظة هذا المعنى الأصلي في وصف الرجل بالجلس إذا كان طويلا؛ لأن الطول ارتفاع، وقد تكون ملاحظته أيسر في الجبل العالي أو في تسمية الجبل بالجلس بسبب ارتفاعه، وإن كان البحث عن المعنى الأصلي في العسل والخمر والنجد لا يخلو من تكلف واصطنع. لكن الشيء الذي لا بد من ملاحظته هو أن المعنى الأصلي أن تنوسي أو حفظ في بطون المعجمات، قد كان يلاحظ وحده حين أطلق لفظه للمرة الأولى، ثم جاءت بعض المصادفات المحضة التي قد تظل مجهولة لدينا في بعض جوانبها أحيانًا كثيرة فغيرت معنى هذا اللفظ واستعملته في غير المراد الأصلي البدائي منه، فوجوده بين الألفاظ المهجورة التي قد تستعمل أو حفظه في كتب اللغة بين الألفاظ المستعملة التي قد تهجر لا ينفي أن له في الأصل معنى خاصًّا يدل عليه دون سواه.
ولعل بلي Bally لم يكن يقصد غير هذا حين كان يقول: "الكلمات لا تستعمل في واقع اللغة تبعًا لقيمته التاريخية؛ فالعقل ينسى خطوات التطور المعنوي التي مرت بها، إذا سلمنا بأنه عرفها في يوم من الأيام. وللكلمات دائمًا معنى حضوري actuel محدود باللحظة التي تستعمل فيها، ومفرد، خاص بالاستعمال الوقتي الذي تستعمل فيه"2.
وإذا كان تطور اللفظ المشترك -بأي طرق التطور- لا ينم في طبيعة المفردات إلا عن فكرة تاريخية عجلى غالبًا ما تكون زائفة، فإنه وقد حصل مقدمة لثراء كل لغة تشتمل على جملة طيبة منه،
1 المزهر 1/ 376-377.
2 ch. Bally precis de stylistique 21-47
ففائدته تقوم على الكم الا الكيف؛ إذ تُوسع من القيم التعبيرية، وتبسط من مداها اللفظي؛ بينما لا تسعفنا إلا بصورة مموهة عن كيفية وصولها إلينا معبرة عن عدد من المعاني بعد أن كانت في الأصل لا تعبر إلا عن معنى واحد.
نحن إذن لا نستغرب موقف لغوي كبير مثل لروا B Leroy من هذه الألفاظ المشتركة في اللغة الفرنسية بوجه خاص، واللغة الإنسانية بوجه عام. فهو يرى "أننا حينما نقول: إن لإحدى الكلمات أكثر من معنى واحد في وقت واحد إنما تكون ضحايا الانخداع إلى حد غير قليل؛ إذ لا يطفو في الشعور من المعاني المختلفة التي تدل عليها إحدى الكلمات إلا المعنى الذي يعينه سياق النص"1.
ولقد كان علماؤنا القدامى أكثر الناس تقديرًا لحدود ما يعرفون وحدود ما يجهلون، فقد تخفى موارد الاشتقاق عليهم جميعًا، ولا يدل خفاؤها على عدم ملاحظة العرب لها. "قال أبو العباس عن ابن الأعرابي: كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، وربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا، فلم نلزم العرب جهله. وقال: الأسماء كلها لعلة خصت العرب ما خصت منها. ومن العلل ما نعلمه ومنها ما نجهله. قال أبو بكر2: يذهب ابن الأعرابي إلى أن مكة سميت مكة لجذب الناس إليها، والبصرة سميت بصرة للحجارة البيض الرخوة بها، والكوفة سميت الكوفة لازدحام الناس بها، من قولهم: قد تكوف الرمل تكوُّفًا إذا ركب بعضه بعضًا، والإنسان سمي إنسانًا لنسيانه، والبهيمة سميت بهيمة لأنها أبهنت عن العقل والتمييز، من قوله: أمر مبهم إذا كان لا يعرف بابه،
1 B Leroy Le langage 97
2 يعني أبا بكر بن الأنباري في كتابه "الأضداد".
ويقال للشجاع: بهمة؛ لأن مقاتله لا يدري من أي وجه يوقع الحيلة عليه"1.
وإذا كان القدماء يصرحون بصعوبة الكشف عن العلاقة بين بعض الألفاظ ومدلولاتها، ولا يتصدون لتعليل أسماء المسميات أو توضيح جميع موارد الاشتقاق، فليس من اللائق أن يرميهم المحدثون بالاضطراب في الرواية مؤكدين مثلًا أن ليس من علاقة بين "الليث بمعنى الأسد، وضرب من العنكبوت، واللسن البليغ" أو بين "الفخت بمعنى ضوء القمر، ونشل الطباخ الفدرة2 من القدرة، وثقوب مستديرة في السقف" أو بين "البلد بمعنى كل قطعة من الأرض عامرة، ومكة، والتراب، والقبر، والدار، والأثر"3 لأن الراوبط المشتركة بين هذه المسميات يمكن أن تلمح بإحدى طريقتين: سلبية أو إيجابية، فإذا كان في الليث معنى القوة الحسية ففي اللسن البليغ معنى القوة البيانية، وفي العنكبوت معنى الضد المقابل، فكان الرابط فيها سلبيًّا عكسيًّا كما سنرى في بحث الأضداد، وإذا كان في الفخت معنى ضوء القمر الذي يخترق الليل وينفذ خلاله ويثقبه ففي الثقوب المستديرة اختراق للسقف ونفوذ فيه، وفي امتداد يد الطباخ إلى القدرة ولانتشال الفدرة منها نفوذ فيها واختراق لها؛ فالمعنى الحسي الذي لاحظه العرب في ضوء القمر الثاقب يمكننا ملاحظته بيسر وسهولة في المعنيين الآخرين المتطورين اللذين يثيران الدهشة عند المحدثين.
وإذا كان في البلد معنى اقتطاع الشيء لسكناه وعمرانه، ففي مكة تجسيد لهذا المعنى عن طريق العلمية، وفي التراب تحقيق لهذا المعنى؛ لأنه وسيلة البناء والعمران الحسيين، ويزداد هذا المعنى تحققًا في
1 الأضداد لابن الأنباري 6-8.
2 القدرة من اللحم: القطعة المطبوخة الباردة.
3 اللهجات 187.
الدار التي تم بناؤها لتكون جزءًا من البلد العامر، ثم في القبر والأثر معنى عكسي للسكنى والعمران، فما القبر إلا بلد الموتى ومسكنهم، وما الأثر إلا الدليل على عمران المكان قبل أن يعفو ويدرس. ولقد يكون في التماس هذه الروابط المشتركة بعض التكلف، ولكنه يظل خيرًا ألف مرة من التسرع في رمي القدماء بقلة التثبت، فما أمثالنا بأهل لكيل الاتهامات جزافًا لأمثالهم.
والسياق هو الذي يعين أحد المعاني المشتركة للفظ الواحد، وهذا السياق لا يقوم على كلمة تنفرد وحدها في الذهن، وإنما يقوم على تركيب يوجد الارتباط بين أجزاء الجملة، فيخلع على اللفظ المعنى المناسب. وعلى هذا لا يجد الباحث كبير عناء في فهم لفظ "الغروب" يتردد ثلاث مرات في ثلاثة أبيات على قافية واحدة يستوي لفظها ويختلف معناها:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى
…
إذ رحل الجيران عند الغروبْ
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا
…
ودمع عيني كفيض الغروبْ
كانوا وفيهم طفلة حرة
…
تفتر عن مثل أقاحي الغروبْ
فليس متعذرًا أن يُفهم من وحي السياق أن الغروب الأول: غروب الشمس؛ والثاني جمع غرب: وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث جمع غرب: وهو الوهاد المنخفضة1.
إن في المشترك لتنوعًا في المعاني بسبب تنوع الاستعمال، وإن في اشتمال العربية على قدر لا يستهان به من الألفاظ التي تنوع استعمالها بتنوع السياق -لدليلًا على سعتها في التعبير عن طريق الاشتراك كسعتها فيه عن طريق الترادف.
1 المزهر 1/ 376. وقارن بمراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص35.