المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الاشتقاق الأكبر: إن كل تكلف ارتكبه اللغويون في باب الاشتقاق بقسيمه - دراسات في فقه اللغة

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة

- ‌مقمة الطبعة الأولى

- ‌الباب الأول: فقه اللغة "نشأته وتطوره

- ‌الفصل الأول: بين‌‌ فقه اللغة وعلم اللغة

- ‌ فقه اللغة وعلم اللغة

- ‌منهج فقه اللغة واستقلاله:

- ‌تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب:

- ‌الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة

- ‌الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة

- ‌الباب الثاني: العربية بين أخواتها السامية

- ‌الفصل الأول: أشهر فضائل اللغات

- ‌الفصل الثاني: لمحة تاريخية عن اللغات السامية

- ‌الساميون ومهدهم الأول:

- ‌شجرة اللغات السامية:

- ‌العربية الجنوبية والعربية الشمالية:

- ‌العربية البائدة وأهم لهجاتها:

- ‌الفصل الثالث: العربية الباقية وأشهر لهجاتها

- ‌الفصل الرابع: لهجة تميم وخصائصها

- ‌الباب الثالث: خصائص العربية الفصحى

- ‌الفصل الأول: مقاييس اللغة الفصحى

- ‌الفصل الثاني: ظاهرة الإعراب

- ‌العرب ورثوا لغتهم معربة:

- ‌ليس الإعراب قصة:

- ‌الفصل الثالث: مناسبة حروف العربية لمعانيها

- ‌القيمة البيانية للحرف الواحدة:

- ‌الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعية

- ‌من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية:

- ‌بين الدلالة الذاتية والدلالة المكتسبة:

- ‌الفصل الرابع: المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق

- ‌الاشتقاق الأصغر:

- ‌الاشتقاق الكبير:

- ‌الاشتقاق الأكبر:

- ‌الفصل الخامس: النحت أو "الاشتقاق الكبار

- ‌الفصل السادس: الأصوات العربية وثبات أصولها

- ‌الأصوات العربية وألقاب الحروف:

- ‌ثبات الأصوات في العربية:

- ‌الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير

- ‌الترادف

- ‌ في المشترك اللفظي:

- ‌ في الأضداد:

- ‌الفصل الثامن: تعريب الدخيل

- ‌الفصل التاسع: صيغ العربية وأوزانها

- ‌الفصل العاشر: العربية في العصر الحديث

- ‌خاتمة:

- ‌جريدة المراجع على حروف المعجم:

- ‌ باللغة العربية

- ‌ باللغات الأجنبية:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌الاشتقاق الأكبر: إن كل تكلف ارتكبه اللغويون في باب الاشتقاق بقسيمه

‌الاشتقاق الأكبر:

إن كل تكلف ارتكبه اللغويون في باب الاشتقاق بقسيمه السابقين: الأصغر والكبير، لا يعد شيئًَا إذا قيس بما اضطروا إلى ارتكابه لدى كل خطوة فيما سموه بالاشتقاق الأكبر.

إنهم هنا لا يواجهون مادةً تدل بترتيبها نفسه على معنًى، ولا يخالفون في ترتيبها فيقلبونها على وجوهها المحتملة، وتظل مع ذلك هي بأحرفها وأصواتها، فيعتقدون باتحاد مدلولها أو تقاربه؛ وإنما يواجهون أول الأمر مادة، ويلاقون آخر الأمر مادةً جديدة، فيستبدلون الثانية بالأولى، ويستعيضون بأصوات الثانية عن أصوات الأولى، لأن المخارج متقاربة، أو الصفات متماثلة، ولأن أخا الصوت كأنه الصوت نفسه، فلا فرق بين الأصل والفرع، ولا بين الصوت وصداه، فلك أن تتصور مدى التكلف الذي يقع فيه الاشتقاقيون عندما يؤكدون في مثل هذا الاشتقاق الأكبر أن الصورة "البدلية" لا بد أن تعوض الصورة "الأصلية" في مدلولها وإيحائها، مثلما عوضتها في صوتها وصداها؛ لأن المناسبة الطبيعية التي حملت الواضع على أن يضع لفظة "ع ص ر" لإفادة معنى الحبس، هي التي حملته أيضًا على أن يعبر عن المدلول نفسه بلفظ "أزل"، فالعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي، والراء أخت اللام1.

ولقد اصطلحوا على أن الاشتقاق هو ارتباط بعض المجموعات الثلاثية الصوتية ببعض المعاني ارتباطًا عامًّا لا يتقيد بالأصوات نفسها، بل بترتبيها الأصلي والنوع الذي تندرج تحته، وحينئذ، متى وردت إحدى تلك المجموعات الصوتية على ترتيبها الأصلي فلا بد أن تفيد الرابطة

1 الخصائص 1/ 541.

ص: 210

المعنوية المشتركة، سواء أحتفظت بأصواتها نفسها أم استعاضت عن هذه الأصوات أو بعضها بحروف أخر تقارب مخرجها الصوتي، أو تتحد معها في جميع الصفات.

من ذلك تناوب اللام والراء في هديل الحمام وهديره، والقاف والكاف في كشط الجلد وقشطته، والباء والميم في كبحت الفرس وكمحته.. وهذه الأمثلة كلها في تقارب المخرج الصوتي.

ومن الأمثلة على الاتفاق في الصفات: تناوب الصاد والسين في سقر وصقر، وسراط وصراط، وساطع، وصاطع، ومسقع ومصقع، وهكذا.

وابن جني قد أورد في باب "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" كثيرًا من الأمثلة المتلعقة بهذا الضرب من الاشتقاق، وقال فيه:"وهذا باب واسع، من ذلك قوله الله سبحانه: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهزّ ما لا بال له؛ كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك، ومنه العسف والأسف، والعين أخت الهمزة؛ فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين، ومنه القَرْمة وهي الفقرة تُحز على أنف البعير، وقريب منه قلمت أظفاري؛ لأن هذا انتقاص للظفر، وذلك انتقاص للجلد، فالراء أخت اللام، والعملان متقاربان، وعليه قالوا فيه الجَرْفَة وهي من "ج ر ف"، وقريب منه الجَنَفَ وهو الميل، وإذا جلفت الشيء أو جرفته، فقد أملته عما كان عليه، وهذا من "ج ن ف"1.

1 الخصائص 1/ 538.

ص: 211

وربما لا يكون في هذه الأمثلة تعسف في التطبيق وإيغالٌ في التعليل، ولكن التعسف يظهر أشد ما يكون بعدًا عن المنطق في مثل قول ابن جني:"نعم وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة الفاء والعين واللام، فقالوا: عصر الشيء، وقالوا: أزاله إذا حبسه، والعصر ضرب من الحبس، وذلك من "ع ص ر"، وهذا من "أزل" والعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي، والراء أخت اللام، وقالوا: الأزم: المنع، والعصب: الشد، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء، وذاك من "أز م"، وهذا من "ع ص ب"، وقالوا: السلب والصرف، وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه، فذاك من " س ل ب"، وهذا من "ص ر ف"، والسين أخت الصاد، واللام أخت الراء، والباء أخت الفاء، قالوا: الغدر كما قالوا: الخَتْل، والمعنيان متقاربان، واللفظان متراسلان، فذاك من "غ د ر" وهذا من "خ ت ل" فالغين أخت الخاء، والدال أخت التاء، والراء أخت اللام، وقالوا: زأر، كما قالوا: سعل، لتقارب اللفظ والمعنى.... إلخ"1

وإذا كان الاشتقاق الكبير يقوم على القلب، فمن الواضح أن الاشتقاق الأكبر يقوم على الإبدال، ولقد أدرك لغويو العرب إمكان وقوع الإبدال مثلما تصوروا إمكان وقوع القلب، وأنشئوا يلتمسون الشواهد على تماثل المعنى بين الصورتين المبدلة والمبدل منها، وانطلقوا يؤكدون أن "من سنن العرب إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، ويقولون: مدحه ومدهه، وفرس رفل ورفن، وهو ثكير مشهور قد ألَّفَ فيه العلماء"2.

وإن أدنى ملابسة لتكفي ليربط القدماء بين الصورتين، إذا بدل لهم أنهما اشتركتا في معنى متقارب، مع أن كثيرًا من هذا التقارب لا يزيد

1 المصدر نفسه 1/ 541.

2 الصاحبي 173.

ص: 212

عن الترادف تارةً، والاشتراك تارةً أخرى، ومن العجيب أن ابن السكيت مثلًا في "القلب والإبدال" لم يذكر في الثلاث مئة كلمة التي اشتملت عليها رسالته إلّا القليل مما يكمن أن يُفَسَّر بظاهرة الإبدال تفسيرًا صريحًا، وسائر ما استشهد به بعد ذلك لم يختلف لفظه إلّا في حرف واحد، كالنون واللام في "التهتان" و"التهتال" وكلاهما يعين سقوط المطر.

أما المحدثون فلهم في هذا الاشتقاق الأكبر رأي جريء يردّون في ضوئه أكثر صور الإبدال إلى ضرب من التطور الصوتي الذي يدخل أحيانًا في اختلاف اللهجات، قال الدكتور إبراهيم أنيس:"حين نستعرض تلك الكلمات التي فسرت على أنها من الإبدال حينًا، أو من تباين اللهجات حينًا آخر، لا نشك لحظة في أنها جميعًا نتيجة التطور الصوتي، أي: أن الكلمة ذات المعنى الواحد حين تروي لها المعاجم صورتين أو نطقين، ويكون الاختلاف بين الصورتين لا يجاوز حرفًا من حروفها، نستطيع أن نفسِّرَها على أن إحدى الصورتين هي الأصل، والأخرى فرع لها أو تطور عنها، غير أنه في كل حالة يشترط أن نلحظ العلاقة الصوتية بين الحرفين المبدل والمبدل منه"1.

ورأي المحدثين -على جراءته- أسلم اتجاهًا، وأصحُّ نتيجة، من رأي تلك الطائفة من المتقدمين الذين ذهبوا إلى إكثار العرب من الإبدال كأنه سنة أو عادة، وكأن النطقين المختلفين عندهم متساويان يوضع أحدهما مكان الآخر، وكأنهم يتعمدون هذا الإبدال إعجابًا به، وتفننا فيه.

على أننا لم نعدم بين المتقدمين من كان يرد كثيرًا من صور الإبدال إلى اختلاف اللهجات، مؤكدًا أن العرب لا تتعمد تعويض حرف من

1 من أسرار اللغة ص58 "ط2".

ص: 213

حرف، "وإنما هي لغات مختلفة لمعانٍ متفقة؛ تتقارب اللفظتان في حرفٍ لمعنًى واحد، حتى لا يختلفا إلّا في حرف واحد"1.

وعندما تحدثنا عن اختلاف اللهجات، ذكرنا كثيرًا من الأصوات التي تباين أداؤها بين قبائل العرب ولا سيما قريش وتميم؛ كالثاء والفاء في لثام ولفام، والظاء والضاد، في فاضت نفسه وفاظت، والسين والصاد في السمخ والصمخ، والقاف والكاف في قشطت وكشطت، والجيم والياء في صهريج وصهريّ2، فلا يعقل أن يشترك العرب في شيء من ذلك؛ إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون3.

ومما يدل على أن هذه الأحرف لهجات مختلفة ما رواه اللحياني 4 قال: قلت لأعرابيّ: أتقول مثل حَنَك الغراب أو مثل حلَكه؟ فقال: لا أقول مثل حَلَكه! 5

وقال البَطَلْيَوْسي6 في شرح الفصيح: قال أبو بكر بن دريد، قال أبو حاتم7: قلت لأم الهيثم: كيف تقولين؟ أشد سوادًا مماذا؟

قالت: من حلََك الغراب، قلت: أفتقولينها من حنك الغراب؟

فقالت: لا أقولها أبدًا8!

1 المزهر 1/ 460، وقارن بما ذكرناه ص96.

2 راجع بعناية واهتمام ما ذكرناه ص 91-96.

3 المزهر 1/ 460.

4 هو الإمام اللغوي المشهور علي بن حازم اللحياني، أبو الحسن، المتوفى سنة 215هـ.

5 المزهر 1/ 475.

6 هو عبد الله بن محمد بن السيد، المشهور بالبطليوسي، من كبار علماء اللغة، ولد ونشأ في بطيلوس بالأندلس، له تصانيف قيمة في اللغة والأدب منها:"الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لابن قتيبة" وقد طبع، وكتاب "المثلث" على مثال "مثلثات قطرب" وهو مخطوط؛ و"المسائل والأجوبة" وهو مخطوط أيضًا. توفي سنة 521هـ. "الوفيات 14/ 265؛ والبداية والنهاية 12/ 198.

7 هو سهل بن محمد السجستاتي، وقد سبقت ترجمته.

8 المزهر 1/ 475.

ص: 214

وليست قصة الاختلاف في الصقر والسقر والزقر عنا ببعيد1، ولا تقل عنها طرافة قصة إمام الصرفيين أبي عثمان المازني2 مع الخليفة الواثق بالله حين غَنَّت جارية بحضرته بقول العَرْجِيّ:

أظلومُ إن مُصابكم رجلًا

أهدى السلام تحيةً ظلمُ

فاختلف من كان بالحضرة في إعراب "رجلًا" فمنهم من نصبه ومنهم من رفعه، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه. وقال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن؛ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قلت: مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال:"با اسمك"؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا! قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر! فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته وأعجب به3.

فهذه الأمثلة كلها -على أنها من تنوع اللهجات- مرَّت بمراحل طويلة حتى تطورت فيها الأصوات، وتأثر بعضها ببعض، بسبب التجاور والتقارب في صفاتها ومخارجها.

لكن الطريف في الأمر أنّ في الأمثلة المحفوظة عن الإبدال اللغوي ما تباعدت فيه الأحرف المبدلة صفة ومخرجًا، حتى قال العلماء:"قَلَّمَا تجد حرفًا إلّا وقد وقع فيه البدل، ولو نادرًا"4.

1 راجع ص63.

2 هو بكر بن محمد بن حبيب بن بقية المشهور بالمازني، إمام الصوفيين، من أهل البصرة، من كتبه "التصريف"، و"الألف واللام"، و"الديباج"، توفي سنة 249هـ. "الوفيات 1/ 92".

3 قارن باللهجات 104 نقلًا عن المبرد.

4 نقل أبو حيان هذا في شرح "التسهيل" عن شيخه أبي الحسن بن الصائغ، وذكره السيوطي في "المزهر 1/ 461".

ص: 215

ولذلك حرص العلماء على التفرقة بين الإبدال اللغوي والإبدال الصرفيّ، ففي الصرف حروف معينة يقع فيها الإبدال، لكن اللغة حين استقرئت وجمعت نصوها وأخبارها لم يقتصر الإبدال فيها على ما سنَّه الصرفيون فيما بعد من قواعد التبديل والتعويض، بل اشتملت على ظواهر مدهشة، أحيانًا أبدل فيها حرف من حرف من غير أن يتماثلا أو يتقاربا في الصفة أو المخرج، قال أبو علي القالي: "اللغويون يذهبون إلى أن جميع ما أمليناه إبدال، وليس هو كذلك عند علماء أهل النحو، وإنما حروف الإبدال عندهم اثنا عشر حرفًا، تسعة من الزوائد، وثلاثة من غيرها.

فأما حروف الزوائد فيجمعها قولنا: "اليوم تنساه" وهذا عمله أبو عثمان المازني، وأما حروف البدل فيجمعها قولنا:"طال يوم أنجدته" وهذا أنا علمته1.

ولقد لخص بعض العلماء المحدثين العلاقات التي تسوغ الإبدال اللغوي بين الحروف، على طريقة الاشتقاق الأكبر، فرآها لا تخرج عَمَّا يلي:

1-

التماثل: وهو أن يتحد الحرفان مخرجًا وصفة؛ كالبائين، والتائين، والثائين.

2-

التجانس: وهو أن يتفق الحرفان مخرجًا ويختلفا صفة؛ كالدال، والطاء2.

3 التقارب.

أ- أن يتقارب الحرفان مخرجًا ويتحدا صفة؛ كالحاء والهاء.

1 الأمالي 2/ 186، ويذكر القالي على الأثر أمثلة على حروف البدل عن نحو ما جمعها، فيراجع هذا في موضعه.

2 ننصح القارئ بالرجوع إلى فصل "الأصوات العربية" الذي أرجأناه لأسباب منهجية كما أوضحنا في مطلع حديثنا عن "مناسبة حروف العربية لمعانيها".

ص: 216

ب- أن يتقارب الحرفان مخرجًا وصفة؛ كاللام والراء.

ج- أن يتقارب الحرفان مخرجًا، ويتباعدا صفة؛ كالدال والسين.

د- أن يتقارب الحرفان صفة ويتباعدا مخرجًا؛ كالشين والسين.

4-

التباعد:

أ- أن يتباعد الحرفان مخرجًا ويتحدا صفة؛ كالنون والميم.

ب- أن يتباعد الحرفان مخرجًا وصفة؛ كالميم والضاد1.

وكان لزامًا على العلماء أن يضعوا حدودًا فاصلة بين التقارب والتباعد لأنهما ضدان متقابلان، مع أن الإبدال يقع فيهما كليهما على سواء، فلاحظوا أن التقارب في المخرج لا يكون إلّا في عضو واحد من أعضاء النطق، من غير أن يكون بين الحرفين فاصل؛ كالهمزة من أقصى الحلق، والعين من وسطه، أما التباعد في المخرج فيكون على حالتين:

إحداهما خروج الحرفين من عضو واحد، مع أن بينهم فاصلًا؛ كالهمزة من أقصى الحلق، والخاء من أدناه، فالفاصل بينهما وسط الحلق؛ والثانية خروج الحرفين من عضوين مختلفين؛ كالعين من وسط الحلق؛ والثانية خروج الحرفين من عضوين مختلفين؛ كالعين من وسط الحلق، والجيم من وسط اللسان، ولم يشترطوا للتقارب في الصفة إلّا اتحاد الحرفين في أكثر الصفات؛ كالنون والراء، لذلك يقال في الحرفين اللذين لم يتحدا في أكثر الصفات: إنهما متباعدان صفة22.

وبين هذه العلاقات الأربع التي تسوِّغ الإبدال ما يبدو بديهيًّا، حتى ليعجب الباحث من التصريح به، وذلك ما نجده في حال التماثل، فمن ذا الذي ينكر أن البائين مثلًا تحل إحداهما مكان الأخرى بعد أن اتحدتا صفة ومخرجًا؟

1 الاشتقاق "أمين" 352؟

2 قارن بالاشتقاق أيضًا 353.

ص: 217

وبين هذه العلاقات ما يبدو منطقيًّا مقبولًا، كما في حال التجانس، فقد لوحظ فيها الأمر الأهم، وهو اتفاق المخرج، أما اختلاف الصفة فليس بذي بالٍ؛ لأن المعوّل في معرفة نوع الصوت ودرجة إيقاعه على العضو الذي خرج منه من بين أعضاء جهاز النطق، وليس على الطريقة أو الكيفية التي تَمَّ بها انطلاق هذا الصوت، فالدال والتاء حرفان نطيعان، كلاهما يخرج من سقف غار الحنك الأعلى، المسمى بـ"النطع"، فهما إذًا متجانسان، وعلى هذا المعوّل، فلا ضير بعد هذا أن توصف الطاء بالإطباق والاستعلاء، وهما صفتان قويتان، بينما توصف الدال بالصفتين المضادتين الضعيفتين: الانفتاح والاستفال.

لكن بين هذه العلاقات المسوغة للإبدال ما لا يبدو منطقيًّا قط، بل يمكن القول فيه: إنه مضطرب تارةً، متناقض تارةً أخرى.

والاضطراب واضح في بعض حالات "التقارب"، حين يلحظ في هذا "التقارب" مفهوم التباعد، فإن لم يكن لنا مأخذ على الحالين الأولين من حالات التقارب، حين يتقارب الحرفان مخرجًا ويتحدان صفة، وحين يتقاربان مخرجًا وصفة، ليكوننَّ مأخذنا الأول على الحال الثالثة التي يتقارب فيها الحرفان مخرجًا، ولكن يتباعدان صفة؛ كالدال والسين، ومأخذنا على هذه الحال ليس بالشديد؛ لأن التباعد لم يكن في "المخرج" المعوّل عليه، بل في الصفة، ثم ليكوننَّ لنا مأخذ أشد على الحال الرابعة التي يتقارب فيها الحرفان صفة، ولكن يتباعدان في الأمر الأهم، وهو المخرج؛ كالشين والسين، فما ندري كيف أدرجوا مفهوم التباعد في مفهوم التقارب، وكيف جمعوا بين النقيضين وسموهما مع ذلك باسم واحد، وكيف طوّعت لهم أنفسهم أن يبدلوا حرفًا بحرف وقد اختلف مخرجاهما، فانطلق كلٌّ منهما من مكانٍ بعيد عن المكان الذي خرج منه الآخر!

أين تذهب إذن تلك القيمة التعبيرية والموحية للحرف العربي؟ وإذا

ص: 218

اكتشفت هذه القيمة في الصوتين "التوأمين" الخارجين من مكان واحد، فأنى تكشف في الصوتين "الغريبين" اللذين خرجا مخرجين متباعدين، ثم أحدثا إيقاعين متباينين؟!

وهذا الاضطراب فيما سموه علاقة "التقارب"، ليس شيئًا يذكر إذا قارنه بالتناقض الصريح الذي لا سبيل إلى دفعه فيما سموه علاقة "التباعد"، وعدُّوه -رغم اسمه هذا- من مسوغات الإبدال بين الحروف!

وفي الحالتين اللتين أوضحوهما في علاقة "التباعد" يبدو التناقض صريحًا، وإن كان في الحال الثانية منهما بالغًا أشده، ففي الأولى يتحد الحرفان صفة، لكنهما يتباعدان مخرجًا؛ كالنون والميم، أما في الثانية فيتباعدان في كلا الأمرين: المخرج والصفة؛ كالميم والضاد، فأين مسوّغات الإبدال بعد هذا كله؟ ولم هذا التكلف كله في التماس الحالات النادرة التي لا يكاد العقل يتصور إمكان وقوعها في اللغة الواحدة، والبيئة الواحدة؟

إن لأنصار الاشتقاق الأكبر المولعين بصور الإبدال فيه، أن يدافعوا عن وجهة نظرهم بقولهم: إنهم في قضايا الإبدال ليسوا نقلةً أمناء، تقصوا الأحرف التي أبدل بعضها مكان بعض، فلم يجدوها متجانسة دائمًا، ولا متقاربة دائمًا، بل وقعوا فيها على أحرف محفوظ فيها الإبدال، وهي مع ذلك متباعدة المخارج حينًا، متباعدة الصفات حينًا آخر، فما كانوا ليكتموا ما عرفوه، وما زادوا على أن نقلوا هذا وبينوه، وإن الباحث ليميل إلى تَقَبُّل هذا الدفاع حين يرى طائفة من الشواهد المتضافرة على وقوع الإبدال حقًّا بين الأحرف المتباعدة صفة أو مخرجًا.

ولو تتبعنا مسوغات الإبدال في حروف المعجم العربي على ترتيبها لوجدنا علاقة التقارب أكثر من تلك المسوغات، أما التجانس والتباعد

ص: 219

فقليلان نادران، وإن كانا يتفاوتان بين حرف وآخر.

فمن أمثلة الإبدال المحفوظة في الهمزة أربع صور من التقارب: مع العين، والقاف، والواو، والياء؛ فقد عاقبت الهمزة العين في قولهم: آديته على كذا وأعديته: قويته وأعنته1، وموت ذؤاف وذعاف، وهو الذي يجعل القتل2. وعاقبت الهمزة القاف في قولهم: القوم زهاق مئة وزهاء مئة، بضم الزاي وكسرها فيهما، بمعنى واحد3. وعاقبت الهمزة الياء في الرجل الألمعي واليلمعي، وهو الظريف5، وفي العود الألنجوج واليلنجوج، وهو الذي يُتَبَخَّرُ به6، وفي أسنانة ألل ويلل، إذا كان فيها إقبال على باطن الفم7.

أما التجانس فله في الهمزة صورة مع الهاء، فقد عاقبت الهمزة الهاء في أيا وهيا، واتمأل السنام واتمهل إذا انتصب، وأرقت الماء وهرقته8.

وأما التباعد فله في الهمزة صورة مع الغين، مع أن كلًّا منهما حرف حلقي، لكنهما متباعدان مخرجًا وصفة9، كالمأص والمغص من

1 الأمالي 2/ 78.

2 المزهر 1/ 462.

3 الاشتقاق "أمين"362. وجميع الأمثلة التي سننقلها عنه إنما هي لابن السكيت.

4 المزهر 1/ 462، وقارن بما ذكرناه ص79 عن اختلاف الحجاز وتميم في مثل هذه الألفاظ.

5 الأمالي 2/ 160.

6 المزهر 1/ 463.

7 الأمالي 2/ 160.

8 المزهر 1/ 462.

9 ومن العجيب أن يكون بين الهمزة والغين تباعد مع أنهما حلقيان، يخرجان من عضو واحد، على حين يكون بين الهمزة والقاف تقرب كما رأينا؛ لأنهما متقاربان صفةً وإن تباعدا مخرجًا.

ص: 220

الإبل: البيض اللواتي قد فارقت الكوم1.

والياء أبدلوها ميمًا، فكان في هذا الإبدال تجانس؛ كقولهم: هو يرمي من كثب ومن كثم، أي: من قرب وتمكُّن. وضربة لازم ولازب، وأدهقت الكأس إلى أصبارها وأصمارها: إذا ملأتها إلى رأسها2.

وأبدلوا الباء حاءً وفاءًَ، فكان في هذا الإبدال تباعد، يقال للناس والدواب إذا مروا يمشون مشيًا ضعيفًا: مروا يدبون دبيبًا، ويدحون دحيحًا3. وجب القلب ووجف: خفق واضطرب. هبت الريح وهفت: ثارت وهاجت4.

والتاء أبدلوها دالًا وطاءً، فتجانس المبدل والمبدل منه، نحو: قرت الدم وقرد الإثمد إذا جمدا5، والأقطار والأقتار: النواحي6.

لكنهم أبدلوها على تباعد في المخارج والصفات سينًا وفاء وواوًا، فقالوا: النات والناس والأكياس والأكيات7، وقالوا: محتد كل شيء ومحفدة: أصله8، وقالوا: التكلان، والتراث، والتخمة، والتقوى وتترى، والتليد، والتلاد؛ أصلها من وكلت، وورثت، والوخامة، والوقاية، والمواترة، والولادة 9.

1 الاشتقاق "أمين" 367، والواحدة من هذه الإبل: مأصة ومغصة.

2 الأمالي 2/ 53.

3 الاشتقاق "أمين"367.

4 نفسه 369.

5 الخصائص 1/ 540.

6 عن الأصمعي "الأمالي 2/ 156" ومنه "ما أستطيع وما أستتيع"، و "رجل طبن وتبن": فطن حاذق.

7 المزهر 1/ 464.

8 الاشتقاق "أمين"368.

9 عن ابن السكيت "ذكره في المزهر 1/ 464".

ص: 221

والثاء أبدلوهها ذالًا، فتجانس الحرفان، نحو: ثروة وذورة: مال1، وأبدلوها فاء، فتقارب صفة وتباعدا مخرجًا، نحو: ثلغ رأسه وفلغه: إذا شدخه، والحُثَالة والحُفَالة: الرديء من كل شيء، والثوم والقوم، واللثام واللفام، والأثاثي والأثافي2. وقد سبق أن نبهنا على أن هذا الاختلاف في نطق الثاء والفاء يرتَّد إلى ضربٍ من تباين اللهجات، ولا سيما بين الحجاز وتميم3. وسنرى تقاربها مع السين ولو تباعدا مخرجًا.

والجيم الشَّجْرية أبدلوها على تجانس بالشين والياء الشجريتين، وعلى تقارب في الصفة وتباعد في المخرج بالكاف والميم، وعلى تباعدٍ مخرجًا وصفة بالحاء.

فمن التجانس بين الجيم والشين: الأجدر والأشدر4، وبين الجيم والياء: شجرة وشيرة5.

ومن التقارب بين الجيم والكاف: جمل وكمل6، وبين الجيم والميم: جرن على الأمر جرنًا، ومرن عليه مرونًا ومرانة: تعوده7.

ومن التباعد بين الجيم والحاء قول الأصمعي: تركت فلانًا يجوس بني فلان ويحوسهم: إذا كان يدوسهم ويطلب فيهم، وقد سمع المازني أبا سرار الغَنَويّ يقرأ:"فحاسوا خلال الديار" فقال له: إنما هو

1 انظر مادة "ذرو" في لسان العرب، ومنه النبيشة والنبيذة: تراب البئر، وتعلتم وتلعذم "قارن بالمزهر 1/ 464، 465".

2 راجع المزهر 1/ 465.

3 راجع ص89.

4 الاشتقاق "أمين"357.

5 المخصص 14/ 34، وقارن بما ذكرناه ص94-95 عن اختلاف اللهجات في مثل هذا.

6 مقدمة الجمهرة ص5.

7 الاشتقاق "أمين"365.

ص: 222

جاسوا، قال الغنوي: جاسوا وحاسوا واحد1. ويلاحظ في مثل هذا إمكان وقوع التصحيف، وإمكان القول بالترادف الحقيقي2.

والحاء أبدلوها خاء وههاء وكافًا على تقارب، وأبدلوها عينًا على تجانس، ولامًا على تباعد، ورأينا آنفًا الإبدال بينها وبين الباء والجيم على تباعد أيضًا.

فمن التقارب بين الحاء والخاء: الطحرور والطخرور للسحابة، واطمحرّ واطمخرّ: امتلأ وروي3، وبين الحاء والهاء: مدحت الرجل ومدهته.

قال النعمان بن المنذر لرجل ذكر عنده رجلًا: "أردت كيما تذيمه فمدهته" أي: تعيبه فمدحته4، وبين الحاء والكاف: سفح ما في إنائه وسفكه، وسفح دمه وسفكه5.

ومن التجانس بين الحاء والعين أنهم قالوا: تجعَّد كما قالوا: شحط، وذلك أن الشيء إذا تجعد وتقبض عن غيره شحط وبعد عنه، ومنه قول الأعشى:

إذا نزل الحيّ حلَّ الجحيـ

ـش شقيًّا غويًّا مبينًا غيورًا

وذاك من تركيب " ج ع د"، وهذا من تركيب "ش ح ط"، والعين أخت الحاء6.

1 الأمالي 2/ 78، ومنه أيضًا قول الكسائي: أحم الأمر وأجم: إذا حان وقته.

2 قارن بأسرار اللغة ص 65 "ط2".

3 ومنه: يتحوف مالي ويتخوفه: ينقصه ويأخذ من أطرافه، قال تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} :

الأمالي 2/ 111-112.

4 مقدمة الجمهرة ص6، ومنه قول رؤبة بن العجاج

لله در الغانيات المده

سبحن واسترجعن من تألهي

ويروي: "المزه" أراد "المزح". ومن روى "المده" أراد "المدح". انظر المصدر نفسه.

5 الاشتقاق "أمين"362.

6 الخصائص 1/ 542. ويلاحظ هنا أن الإبدال واقع في الأحرف الثلاثة.

ص: 223

ومن التباعد بين الحاء واللام قولهم: انداح بطنه واندال: عظم واسترسل1.

والحاء أبدلوها هاء على تقارب، وجيمًا على تباعد، فقالوا: اطرخم واطرهم: إذا كان طويلًا مشرفًا2، وخلع وجلع: ذهب حياؤه3.

والدال جانسوا في إبدالها تاء وطاء، وقاربوا في إبدالها باء وذالًا، وباعدوا في إبدالها لامًا.

فمن التجانس بين الدال والتاء ما سبق ذكره من قرد الإثمد وقرت الدم ذا جمدا4، وبين الدال والطاء قولهم: مد الحرف ومطه بمعنى واحد5، والإبعاد والإبعاط، وما له عليَّ إلا هذا فَقَدْ، وإلا هذا فقط6.

ومن المقارنة بين الدال والباء: قاد قوسين وقاب قوسين7، وبين الدال والذال: ادرعفَّت الإبل واذرعفت: إذا أسرعت، والدحداح والذحذاح: القصير8.

أما المباعدة بين الدال واللام ففي مثل قولهم: معده ومعله: إذا

1 الاشتقاق "أمين"367.

2 المزهر 1/ 466. ومنه: بخ بخ وبه به: إذا تعجب من الشيء، وصخدته الشمس وصهدته: إذا اشتد وقعها عليه.

3 الاشتقاق "أمين"367.

4 راجع ص221.

5 الأمالي 2/ 155.

6 نفسه 2/ 156.

7 ومنه: صاروا عباديد، وعبابيد: متفرقين. قارن بالاشتقاق "أمين"365.

8 الأمالي 2/ 171. وقارن بذيل الأمالي ص55 قول العرب في بعض أدعيتها: دبلا دبيلا، وذبلا ذبيلًا، ولكنه بالدال غير المعجمة أجود.

ص: 224

اختلسه1، قال الشاعر:

إني إذا ما الأمر كان معلًا

وأوخفت أيدي الرجال الغسلا2

وقال الآخر:

أخشى عليها طيئًا وأسدًا

وخاربين خربا ومعدا3

والذال جانسوا في إبدالها ثاء كما رأينا في الثروة والذروة، وجانسوا أيضًا في إبدالها ظاء في قولهم: تركته وقيذًا ووقيظًا4، وقاربوا في إبدالها دالًا، على نحو ما استشهدنا بالذحذاح والدحداح، والأمثلة الأخرى.

والراء قاربوا في إبدالها لامًا وميمًا ونونًا، وباعدوا في إبدالها دالًا وسينًا.

فمن تقاربها مع اللام: جبر وجبل، وكلاهما يفيد الالتئام والتماسك، ومنه جبرت العظم ونحوه: قويته5، والجبل لشدته وقوته6.

ومن تقاربها مع الميم وصفهم الشيخ المسن بالقحر والقحم7.

ومن تقاربها مع النون جرف وجنف، وفي كليهما معنى الميل إلى الشيء8.

1 المزهر 1/ 467.

2 معلًا: اختلاسًا، وأوخفت أيدي الرجل: قلبوا أيديهم في الخصومة "الأمالي 2/ 156".

2معدًا: اختلسا. والخارب: سارق الإبل خاصة، ثم يستعار فيقال لكل من سرق بعيرًا كان أو غيره "الأمالي 2/ 156".

4 ومنه "الموقوذة" الشاة تضرب حتى تموت، وكانت في الجاهلية فحرمها الإسلام. الاشتقاق "أمين "357.

5 راجع ص 193.

6 الخصائص 1/ 538.

7 الاشتقاق 365.

8 الخصائص 1/ 538.

ص: 225

ومن التباعد في إبدال الراء دالًا عَكَدة اللسان وعكرته، وفي إبدالها سينًا الانغمار في الشيء، والانغماس في الماء1.

والزاي تجانست مع السين في المكان الشأز والشأس: الغليظ، وفي تزلع الجلد وتسلعه: تشققه2، ومع الصاد في "العلز" الذي هو خفة وطيش وقلق يعرض للإنسان، "والعلوص" الذي هو وجع في الجوف يلتوي له الإنسان ويقلق منه، فذاك من "ع ل ز" وهذا من "ع ل ص"، والزاي أخت الصاد3.

ولم يكن بين الزاي والذال إلا تقارب، في وصف الماء المالح بالزُّعاق والذُّعاق، ووصف السم بالزعاف والذعاف4. ومن الواضح أن يبنهما تباعدًا في المخرج وإن تقاربا في الصفة.

والسين تجانست مع الزاي كما في المكان الشأس والشأز -وقد مر- ومع الصاد كما في قولهم: السحيل والصهيل. قال زهير:

كأن سحيله في كل فجر

على أحساء يمؤود دعاء

وذاك من "س ح ل" وهذا من "ص هـ ل" والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء5.

وتباعدت السين عن الثاء والشين مخرجًا وإن قاربتهما صفة، في مثل قولهم: ساخت رجله في الأرض وثاخت: إذا دخلت، والوطس

1 الاشتقاق "أمين"369.

2 الأمالي 2/ 185.

3 قارن بالخصائص 1/ 540.

4 الاشتقاق "أمين"363.

5 الخصائص 1/ 540، ويلاحظ أن المضارعة هنا في الأصل الواحد بالحرفين، وذلك ما قصده ابن جني من هذا الشاهد، وإنما يعنينا منه التجانس بين السين والصاد.

ص: 226

والوطث: الضرب الشديد بالخف1، وفي مثل قولهم: حمس الشر وحمش: إذا اشتد، وسَئِفت يده وشئفت: إذا تشققت أصول أظفارها2.

وتباعدت السين عن التاء مخرجًا وصفة كما رأينا في الناس والنات3.

وقد نبهوا في إبدال السين صادًا على أنه موقوف على السماع، فكل سين وقعت بعدها عين أو غين أو خاء أو قاف أو طاء جاز فيها صادًا، مثل: يساقون ويصاقون، وصقر وسقر، وصخر وسخر: مصدر سخرت منه إذا هزأت، فأما الحجارة فبالصاد لا غير.

واشترطوا أن تكون السين متقدمة على هذه الحروف لا متأخرة بعدها، وأن تكون هذه الحروف مقاربة لها لا متباعدة عنها، وأن تكون السين هي الأصل، فإن كانت الصاد هي الأصل لم يجز قلبها سينًا؛ لأن الأضعف يقلب إلى الأقوى، ولا يقلب الأقوى إلى الأضعف4.

والشين تقاربت مع الثاء والسين صفة، فأبدلوها بهما ولو تباعدت منهما مخرجًا. قالوا: نثر الحب: رمى به متفرقًا، ونشر الراعي غنمه: بثها5. وقالوا: الغبش والغبس: السواد، ومنه: غبش الليل وأغبش، وغبس وأغبس6. وقد نبهنا على تجانس الشين والجيم في مثل الأجدر والأشدر.

والصاد أبدلوها سينًا وزايًا على تجانس، نحو: ما كدت أتملص منه وأتملس وأتلمز7: بمعنى أتحلص. لكنهم باعدوا في إبدالها تاء في مثل

1 الأمالي 2/ 114.

2 نفسه 2/ 125.

3 راجع هذا في صفحة 221.

4 هذه التنبيهات وا لشروط وردت في كتاب "الفروق بين الأحرف الخمسة" لأبي محمد البطليوسي، وقد سبقت ترجمته ص214. ونقله السيوطي في "المزهر 1/ 469".

5 الاشتقاق "أمين"365.

6 المخصص 13/ 278.

7 ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانية "للأصمعي" الورقة 130/ أ "مخطوطة الظاهرية، 119 تصوف".

ص: 227

اللص واللصت1، وطاء في مثل الناقة المملص والمملط2، وضادًا في قولهم: رجع إلى صئصئه وضئضئه: وهو أصله3، وياء في وصفهم الحجر الصلب بالأصر والأير4.

والضاد أبدلوها ظاء على تقارب، ودالًا وذالًا على تباعد. فمن التقارب: فاضت نفسه وفاظت، وإن كان الخلاف في هذا يرتد غالبًا إلى اختلاف اللهجات5. ومن التباعد: ربض في المكان وربد: أقام، ونبض العرق ونبذ: ضرب، وغمضه وغمطه: احتقره وازدراه6. وعرفنا ما في تعاقبها مع الصاد من تباعد.

والطاء تجانست مع التاء والدال، وقد استشهدنا على ذلك، وتقاربت مع الظاء، وتباعدت عن الجيم والصاد. فمن التقارب: اطرورى واظرورى: انتفخ بطنه7. ومن التباعد: بط فلان جرحه وبجه: شقه8. وتباعدها عن الصاد عرفناه.

والظاء تجانست مع الذال، وتقاربت مع الضاد والطاء، وقد مثلنا لهذا كله.

1 وقد رووا هذا عن أبي عبيد، إلا أنه قال مرة: اللص في لغة طيئ، وغيرهم: اللصت، فرد الإبدال إلى اختلاف اللهجات "قارن بالمخصص 13/ 281".

2 هذا وصف الناقة إذا ألقت ولدها ولم ينبت شعره. وإذا كان ذلك من عادتها قبل: مملاص ومملاط "انظر الأمالي 2/ 155".

3 المخصص 13/ 279.

4 نفسه 13/ 288.

5 قارن بما ذكرناه ص92-93.

6 الاشتقاق "أمين"368.

7 المخصص 5/ 80.

8 نفسه 13/ 287.

ص: 228

والعين تقاربت مع الغين والهاء، ورأينا تقاربها مع الهمزة، وتجانسها مع الحاء.

ومن تقاربها مع الغين: نُشعت بالشيء ونشغث به: أولعت1، ومن تقاربها مع الهاء قولهم: عاث في الأرض فسادًا وهاث2.

والغين عرفنا تقاربها مع العين، وتجانسها مع الحاء. إلا أنها متباعدة مخرجًا وصفة عن الهمزة، وإن كانت كلتاهما من أحرف الحلق3.

والفاء أبدلوها ثاء على تقارب -كما رأينا- وأبدلوها قافًا وكافًا على تباعد. فمن تباعدها عن القاف قولهم: الزحاليف والزحاليق4، وعن الكاف قولهم: في صدره عليَّ حيفة وحسيكة: غل وعداوة5. ولاحظنا ما بينها وبين الباء والتاء من التباعد.

والقاف أبدلوها على تقارب جيمًا وكافًا، فقالوا: عانقت الرجل وعانجته6، وقالوا: إنا قربان وكربان: إذا دنا أن يمتلئ، وقهرت الرجل أقهره، وكهرته أكهره7. وأبدلوها على تقارب أيضًا همزة وعلى تباعد فاء كما علمنا.

والكاف تقاربت مع الجيم في مثل قولهم: مر يرتك ويرتج: إذا

1 المخصص 13/ 275.

2 نفسه 13/ 284.

3 راجع ص220 والحاشية "9".

4 الاشتقاق "أمين"367. والزحاليف أو الزحاليق: آثار تزلج الصبيان من أعلى إلى أسفل.

5 المزهر 1/ 468.

6 الاشتقاق "أمين"363.

7 المخصص 13/ 277. وقارن بما ذكرناه عن اختلاف اللهجات وتباين القراءات في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ففي مصحف ابن مسعود: قشطت. راجع ص95، وانظر ما ذكرناه بهذا الخصوص سابقًا.

ص: 229

ترجرج1. ولا حاجة للتمثيل على تقاربها مع القاف، وتباعدها عن الفاء، فقد استشهدنا على هذين الأمرين.

واللام أبدلوها راء ونونًا على تقارب، وحاء ودالًا على تباعد. وتعاقبها مع الراء، وتباعدها عن الحاء والدال، سبق الاستشهاد عليهما2. أما تقاربها مع النون فمنه قول الأصمعي: رأيت في أرض بني فلان لعاعة حسنة ونعاعة: وهو نبت ناعم في أول ما يبدو رقيق ثم يغلظ3.

والميم أبدلوها فاء على تقارب، وقافًا ونونًا على تباعد، وواوًا على تجانس، ورأيناهم يبدلونها باء على تجانس، وجيمًا وراء على تقارب.

وتقاربها مع الفاء واضح، فهما على تباعدهما في المخرج متقاربان صفة4؛ وأوضح منه تباعدها عن القاف، فلا اتفاق بينهما في المخرج ولا الصفة5. وتجانسها مع الواو أيضًا لا يوقع في اللبس. ولكن الغريب تباعدها عن النون، على ما اشتهر لدى أكثر العلماء من أنهما خيشوميتان، وإن كان لتلقيبهما بهذا اللقب شروط سنعرفها قريبًا.

وقد أكثروا من إبدالهما حتى خيلوا إلى الباحين أنهما متقاربتان، فقالوا لما غلظ من الأرض: حزن وحزم6، وقالوا للسحاب: الغيم والغين، وللغاية: المدى والندى، وللون المتغير: امتُقع وانتُقع7.

1 والرواية هنا عن الأصمعي "انظر المخصص 13/ 277".

2 راجح في صفحة سابقة من هذا الفصل.

3 المخصص 13/ 281. وقارن بما ذكرناه عن اللحياني "ص214 " في حنك الغراب وحلكه: سواده. ولاحظ كيف رد اللحياني مثل هذا الإبدال إلى اختلاف اللهجات. وقارن أيضًا بقصة أبي حاتم مع أبي الهيثم، السابقة.

4 انظر الاشتقاق "أمين"363. مثل هوامي الإبل وهوافيها: ضوالها.

5 نفسه 367. نحو: أرمد وارفد: مضى على وجهه.

6 المخصص 13/ 284.

7 المزهر 468.

ص: 230

وفي بعض الصور التي أبدلت فيها الميم باء لاحظ العلماء إمكان القول بالإتباع، كما في قولك: مهلًا وبهلًا، فإنها بمعنى واحد، وأتبع ثانيها أولهما1. وسنرى أن كثيرًا من صور الإبدال ينبغي أن يسلك في باب الإتباع، لا في باب الاشتقاق الأكبر.

والنون أبدلوها على تقارب باء وراء ولامًا، وعلى تباعد جيمًا، وأوضحنا قصة تباعدهما عن الميم.

أما تقاربها مع الباء فمنه قولهم: بأرض فلان نُعاعة حسنة وبعاعة2. ومر أمثلة على تقاربها مع الراء واللام. وأما تباعدها عن الجيم فمنه قولهم: استَوثَنَ من المال واستوثج: استكبر منه3.

والهاء أبدلوها على تباعد ثاء4 ونونًا ولامًا5، ورأينا تجانسها مع الهمزة، وتقاربها مع الحاء والخاء والغين، ومثلوا على تقاربها صفة مع الفاء وإن تباعدت عنها مخرجًا بالهودج والفودج: وهو مركب النساء6.

والواو أبدلوها على تقارب همزة، وعلى تباعد تاء، وعلى تجانس ميمًا. وقد سبق التمثيل على كل ذلك.

ومن تقاربها مع الهمزة: ذأى البقل يذأى، وذوى يذوي7، وإن كان مثله أقرب إلى أن يكون من تباين اللهجات.

1 المخصص 13/ 285.

2 الاشتقاق "أمين"356. وقد رأينا أيضًا لعاعة "باللام"، وكلها بمعنى واحد. والتصحيف محتمل في مثل هذا ولا سيما بين نعاعة وبعاعة.

3 نفسه 368.

4 ومنه: الهرب "بضم الهاء" والثرب: شحم رقيق يغشي الكرش "الاشتقاق 366".

5 فمن التباعد مع النون تفكه وتفكن: تندم، ومع اللام: شاكهه وشاكله "المخصص 13/ 287".

6 نفسه 362.

7 راجع ص83، وقارن باللسان 18/ 307.

ص: 231

والياء أبدلوها على تقارب همزة، وعلى تجانس جيمًا، وقد مثلنا لذلك. وأبدلوها على تباعد لامًا، كما في قولهم: وصلت الشيء ووصيته1.

وفي الياء صور من الإبدال يستبعد الباحث كل ارتباط بينها وبين الاشتقاق الأكبر، فهي إلى الإبدال الصرفي أقرب منها إلى اللغوي. وأوضح ما يكون ذلك في المحول من المضاعف عندما يبدل مكان لامه ياء كراهة التضعيف، نحو قوله تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وهو من دسست، وقوله:{لَمْ يَتَسَنَّه} من مسنون، وقولهم: سُرِّيَّة من تسررت، وتلعيت من اللعاعة2.

وتحويل المضاعف على هذا النحو لم يطرد عند العلماء، بل سلكه بعضهم في باب الشذوذ، ومنهم سيبويه3، وآثر بعضهم أن يعده مما يجري مجرى البدل، كأنه يرتاب في أن يكون من البدل حقيقة، حتى زعم ابن سيده أن أبا عبيد أدخل في هذا الحيز ألفاظًا ليست جارية على أحكام البدل، وأكد ابن سيده أنه لم ينقل تلك الألفاظ ولم يسمح لنفسه بذكرها إلا مخافة أن يظن به إغفال4.

ومن صور الإبدال الصرفي في الياء تناوبها مع الواو، نحو ميقات فإن أصلها مِوْقات، وميعاد فإن أصلها موعاد، فهما من أحرف العلة التي هي أحق بالإبدال من كل ما عداها من الحروف لخفتها وكثرتها في اللسان العربي ومناسبة بعضها لبعض، واتساع مخرجها، ولما فيها من

1 المخصص 13/ 287.

2 المزهر 1/ 468. وقد نقل السيوطي هذه الأمثلة عن أبي عبيد.

3 المخصص 13/ 288.

4 نفسه 13/ 278. ويقرب من هذا أيضًا الرباعي المضعف الذي يرجح أن أصله ثنائي، نحو: دهدهت الحجر، فقد حول تضعيفه ياء، فقيل: دهديت الحجر.

ص: 232

المد واللين، وما تكسب الشعر من النغم والتلحين1. ولكن هذه الصور من الإبدال -على خفتها وكثرتها وجريان اللسان بها- ولا ترتبط بالاشتقاق الأكبر من قريب ولا من بعيد، ولا يرضاها اللغويون شواهد على الإبدال الذي أخذوا به، وفرقوا بينه وبين الإعلال، وإنما يرضاها ويكثير منها الصرفيون الذين لم يروا بأسًا في عد الإعلال تابعًا للإبدال2.

ولم يفت الصرفيين أن يفرقوا في الإبدال بين شائع مشهور ونادر لا ينقاس، فقد رأوا الشائع يكثر وقوعه في حروف لا تزيد على اثني عشر كالتي جمعها أبو علي القالي في قوله:"طال يوم أنجدته"3.وجعلها بعضهم أربعة عشر حرفًا، وبلغ بها ابن مالك اثنين وعشرين4، وأراد ابن يعيش5 أن يعلل حصرها في واحد من تلك الأعداد المذكورة، فرأى أن مراد الصرفيين استقراء الحروف التي كثر إبدالها واشتدت واشتهرت بذلك، ولم يريدوا أنه لم يقع البدل في شيء من الحروف سوى ما ذكر6. أما النادر الذي لا ينقاس، فقد لاحظ الصرفيون إمكان وقوعه في جميع حروف الهجاء. ولعلهم بإدراكهم هذه الحقيقة فتحوا الباب للغويين على مصراعيه حتى استكثروا في الإبدال من الغرائب

1 قارن بالمخصص 13/ 367. وانظر الأمثلة التي أوردها توضيحًا وتبيانًا.

2 قارن برأي أبي علي القالي "الذي ذكرناه ص219-217" حول التفرقة بين الإبدال اللغوي والإبدال الصرفي.

3 الأمالي 2/ 186. وقارن بما أوضحناه ص217.

4 قارن بشرح الأشموني 4/ 211.

5 هو يعيش بن علي بن يعيش، موفق الدين، أبو البقاء الأسدي، والاسم الذي غلب عليه وعرف به هو ابن يعيش، ويسميه بعضهم أيضًا ابن الصانع، بصاد مهملة ونون "كما في البغية 419" أحد كبار العلماء بالعربية، توفي بحلب سنة 643هـ بعد أن درس فيه كثيرًا. له شرح على كتاب "المفصل" للزمخشري. وهو مطبوع "قارن بالوفيات 2/ 341".

6 شرح المفصل 7.

ص: 233

والنوادر، وطلعوا على الباحثين بأحرف وقع فيها الإبدال على الرغم من تباعدها صفة ومخرجًا. وقد تكون شواهدهم التي أتوا بها تقريرًا لهذه الظاهرة اللغوية المدهشة أقل وأندر من أن يبالي بها أو يقام لها وزن أو يستنتج منها قانون، وربما لا تجاوز شواهدهم على الحرف الواحد المبدل أحيانًا أصابع اليد الواحدة، وقد تكون صور كثيرة مما استشهدوا به مهجورة في لغة العرب، أو نادرة الاستعمال فيها، أو لم يستعملها العرب قط وإن جاءت على النسيج العربي وكانت جائزة الاستعمال.

ولكن اللغويين في هذا كله لم يعرفوا أنفسهم إلا نقلة أمناء، فرووا القيل النادر مثلما رووا الكثير الشائع، وحرصوا على أن يعرضوا هذا وذاك كما سمعوهما دون زيادة ولا نقصان1.

وكنا نحسب لغويي العرب قد مضوا جميعًا يحاكي بعضهم بعضًا في قصة الإبدال، فيقلبون دون نقاش ما ترامى إليهم من صور هذا الإبدال ولو تباعدت الأحرف المبدلة والمبدل منها صفة ومخرجًا، ويسلمون بها تسليمًا ولو وقعوا فيها على تسوية تامة بين تباعد الصفة وتباعد المخرج، فما أنقذنا من هذا الظن وما أخرجنا من هذا الوهم إلا نص في "المخصص" صرح فيه ابن سيده بما نميل إليه من أن "ما لم يتقارب مخرجاه البتة فقيل على حرفين غير متقاربين فلا يسمى بدلا، وذلك كإبدال حرف من حروف الفم من حروف الحلق"2. فلو استندنا إلى هذا النص الصريح القاطع لحكمنا بتناقض الذين لاحظوا في مسوغات الإبدال إمكان التباعد التام بين الحروف المبدلة، كما في حال التباعد صفة ومخرجًا، وحكمنا أيضًا بتناقض الذين لاحظوا في مفهوم التقارب إمكان

1 قارن بما ذكرناه ص 219.

2 المخصص 13/ 274 "باب ما يجيء مقولًا بحرفين وليس بدلًا".

ص: 234

تباعد المخرج شريطة تقارب الصفة1. فالمعول في باب الإبدال -كما قلنا- على المخرج لا على الصفة، ولو تقيد اللغويون بهذا الشرط الهام لجاءت شواهدهم على الإبدال اللغوي قليلة في العدد ثقيلة في الميزان، ولكانت مثل أكثر الشواهد التي ذكرها ابن جني في "الخصائص" أقوى من أن ترد وأمتن من أن تنقض!

ذلك بأن ابن جني -على ولوعه بتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني- لم يذكر من صور الإبدال إلا ما تقارب مخرجًا، بل ما تآخى مخرجًا، حتى كان يعلل هذا التقارب بقوله في الأحرف المبدل منها:"إنها أخوات الأحرف المبدلة"، ولم يكد ينسى هذه العبارة التقليدية في شيء مما أورده من صور الإبدال. وما رأيناه يجري مجرى البدل مثل يدب ويدح؛ لأن الحاء ليست أخت الباء، ولا مثل جاسوا وحاسوا؛ لأن الجيم ليست أخت الحاء، ولا انداح بطنه واندال؛ لأن الحاء ليست أخت اللام، ولا معده ومعله؛ لأن الدال ليست أخت اللام، وإنما أجري مجرى البدل مثل الأز والهز، والهمزة أخت الهاء، ومثل العسف والأسف، والعين أخت الهمزة2، والحمس والحبس، والعلم والعلب، والميم أخت الباء3.

1 ارجع إلى مسوغات الإبدال التي ذكرناها "ص216-217"، واقرأ بعناية نقاشنا لها قبل صور الإبدال التي تتبعناها على ترتيب حروف المعجم.

2 الخصائص 1/ 538، وقارن ما نقلناه من قبل بعبارة "الخصائص" نفسها.

3 الخصائص 1/ 329. وإذا مضيت في تتبع ابن جني في جميع ما ذكره في هذا الباب لم نجده مرة واحدة ذهب إلى إبدال حرفين متباعدين. ولا غرو فهو يسمى "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" والتصاقب تقارب، بل اتحاد وتمائل.

ص: 235

ولكي يتصاقب المعنيان في الاشتقاق الأكبر، لا بد أن يتصاقب اللفظان تصاقبًا حقيقيًّا لا تجوز فيه. ولا يظهر التصاقب اللفظي على حقيقته إلا استعماله فما وضع له، فإن استعمل في غير ما وضعته العرب عُدَّ خطأ ولم يكن من الإبدال في شيء.

إن بعض العرب يقول مثلًا: جَمَسَ الوَدَك وجمد الماء، ولا يقال: جمس الماء ولا جمد الودك، وقد خطَّأ الأصمعي ذا الرمة في وصفه الماء الجامد بالجامس في قوله:

ونقري سديف الشحم والماء جامس

فإذا ادعى بعضهم -مع ذلك- أن السين أبدلت دالًا في قولهم: جمس الودك وجمد، ردت عليه دعواه، ولم يكن هذا بدلًا قط1، فليس بين الحرفين تصاقب ولا تقارب، بل بينهما تباعد في المخرج لا يسمح لمعنييهما أن يتصاقبا إلا بضرب من التجوز والاتساع في التعبير.

ولا يتم تصاقب المعنين إلا إذا أمن التصحيف في اللفظين ليعلم أن كلا منهما مادة مستقلة. وأصل التصحيف "أن قومًا كانوا أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير"2. وهذا التصحيف عند اللغويين على قسمين: تصحيف نظر وتصحيف سمع، وإن كان أصله الأول من أخطاء النظر في الصحف. وأكثر ما يقع تصحيف النظر في الأحرف المتشابهة رسمًا إذا لم تعجم، كالباء والتاء والثاء والنون، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال، والراء

1 المخصص 13/ 287.

2 التصحيف "لأبي أحمد العسكري" ص9. وقارن بما ذكرناه عن المصحف في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" 272-280.

ص: 236

والزاي، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين، والفاء والقاف، وأكثره هذه الأحرف متباعدة المخارج، وبعضها متقارب في الصفات.

أما تصحيف السمع فأكثر ما يقع في الأحرف المتقاربة صفة أو مخرجًا، وهي غالبًا لا تتشابه رسمًا عند إهمال نقطها: كالهمزة، والهاء، والباء والميم، والتاء والطاء، والثاء والفاء والسين، والجيم والشين، والدال والضاد، والذال والزاي والظاء، والسين والصاد، والقاف والكاف.

فمما ورد بوجهين وأمن فيه تصحيف النظر قولهم في وصف الشيء الذي يذاق: عَدوف وعذوف، بالدال والذال، فهما لغتان، والإبدال فيها محتمل لولا تباعد مخرجيهما.1 قال أبو حسان: "سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: ما ذقت عدوقًا ولا عدوفة. قال: وكنت عند يزيد بن مزيد الشيباني فأنشدته بيت قيس بن زهير:

ومجنَّبات ما يذقن عذوقة

يقذفن بالمهرات والأمهار

بالدال، فقال لي يزيد: صحفت أبا عمرو! قال: فقلت له: لم أصحف أنا ولا أنت، تقول ربيعة هذا الحرف بالذال، وسائر العرب بالدال". وفي رواية "المزهر": لغتكم عذوف ولغة غيركم عدوف! 2

ويتسرع بعض الباحثين برمي الأئمة الأجلاء بتصحيف النظر، فيما شكوا بروايته بأحد الحرفين، وغالبًا ما يرتد هذا الشك إلى الورع الزائد والحيطة البالغة في نقل الأخبار، فإن يكن أبو عمر بن العلاء شك في الدحداح "الرجل القصير" بالدال أو بذال؟ فقد رجع فقال: بالدال.

1 لسان العرب، مادة "عدف" 11/ 139-140.

2 المزهر 1/ 537.

ص: 237

وقال أبو عبيد: "والصواب عندنا بالدال"1.

فمثل هذا اللفظ الذي صوب فيه أحد الوجهين وخطئ الآخر لا يلتمس فيه إبدال، وإنما يلتمس في مثل العدوف والعذوف مما ورد بوجهين، وأما فيه التصحيف، بيد أن الذال ليست أخت الدال، فلم يصح القول بالإبدال هنا لاختلاف المخرجين.

ومن العسير الوقوع على صورتين مبدلتين فما يتوهم فيه تصحيف النظر؛ إذ لا تتشابه فيه الحروف إلا برسمها، أما تقارب المخارج والصفات فليس شرطًا في مثله.

لكن صور الإبدال فيما توهم فيه تصحيف السمع أكثر شيوعًا وانتشارًا؛ لأن تقارب الأصوات فيها هو الذي أوقع الباحث في اللبس، فلولا ما نعرفه من ورود اتمأل واتمهل، ومن كثب ومن كثم، والأقطار والأقتار، واللثام واللفام، والوقيذ والوقيظ، والوطس والوطث2، لاختلط علينا أكثرها3، وحسبناه لفظًا واحدًا ولم نمز الأصل من الفرع، فأنى لنا إذن أن نقول بالإبدال؟ فلما ورد كل لفظ مما ذكر بوجهين وأمن فيه التصحيف، وظن في بعضه تباين اللهجات، أيقنا من تجاوره الصوتي أن فيه إبدالًا لا ريب فيه.

ومقياسنا فيما ورد بوجهين؛ لتمييز الأصل من الفرع، هو كثرة الشواهد المتعلقة بأحد الوجهين4: فما أكثر الأمثلة على كثب، والأقطار،

1 المخصص 13/ 287.

2 ارجع إليها متعاقبة فيما تقارب وانسجم من ضروب الإبدال بين هذه الحروف ابتداء من ص220.

3 ويكون هذا الاختلاط واللبس أشد عند الألثغ. ولقد عقد السيوطي فصلًا في "المزهر 1/ 556" لمعرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب، والأصل في هذا النوع ما ذكره الثعالبي في "فقه اللغة" قال: أنا أستظرف قول الليث عن الخليل: الذعاق كالزعاق، سمعنا ذلك في بعضهم، وما ندري ألغة أم لثغة؟!

4 قارن بأسرار اللغة 62 "ط2".

ص: 238

واللثام، وما أقلها في كثم، والأقتار، واللفام. وارتداد بعض هذه الألفاظ إلى قبيلة وبعضها الآخر إلى قبيلة أخرى لا ينبغي أن يقلل من قيمة المقياس الذي ذكرناه؛ لأنه لم يقطع برأي حاسم في قضية اختلاف اللهجات، وما تزال أدلتنا عليها أضعف من أن يفسر في ضوئها كل هذه الظواهر اللغوية النادرة.

ومن صور الإبدال ما يمكن إدراجه في باب الإتباع، لكن للقول بذلك قيودًا لا بد من التنبه إليها وإدراكها على وجهها الصحيح، فالإتباع على ضربين: فضرب يكون فيه الثاني بمعنى الأول فيؤتى به توكيدًا؛ لأن لفظه مخالف للفظ الأول، وضرب فيه معنى الثاني غير معنى الأول1. فمن الأول قولهم: رجل قسيم وسيم، وكلاهما بمعنى الجميل، وضئيل بئيل بمعنى واحد، وجديد قشيب، ومضيع مسيع2. ومن الثاني حار يار، وعطشان نطشان، وجائع نائع، وحسن بسن، والكلمة الثانية في هذا الضرب الثاني إنما هي تابعة للأولى على وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بالثانية منفردة، فلهذا قيل إتباع3.

وقد لاحظ ابن فارس كلا هذين الضربين حين عرف الإتباع بقوله: "وهو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويها إشباعًا وتأكيدًا"؛ وأراد أن ينبه على الضرب الثاني تنبيهًا خاصًّا فحكي عن بعض العرب أنه سئل عن حكمة هذا الإتباع، فقال:"هو شيء نتدبه كلامنا"4. وفي هذا المعنى ما حكاه ابن دريد من أنه سأل أبا حاتم السجستاني عن بسن من قولهم "حسن بسن" فقال: لا أدري ما هو5.

1 المخصص 14/ 28.

2 المزهر 1/ 416 نقلًا عن أمال القالي.

3 المزهر 1/ 415 عن الكسائي.

4 الصاحبي 226، وقارن بالمزهر 1/ 414.

5 المزهر 1/ 417.

ص: 239

فلو كان أحد يجهل هذا الإتباع بكلا ضربيه، وسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الشبرم1:"إنه حار يار" لظن الياء بدلًا من الحاء، مع إنهم نبهوا على أن هذا من الإتباع2، ويكون الإبدال في زعمه حينئذ واقعًا بين حرفين متباعدين. فإن صحف الحديث وقرأ الحاء جيمًا فقال:"إنه جار يار" فرك يدًا بيد فرحًا مسرورًا؛ لأن الجيم أخت الياء، فكلتاهما شجرية، وقد فاته أن العلماء نبهوا أيضا على أن هذا من الإتباع، وفسروا الجار بالذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته كأنه ينزعه ويسلخه مثل اللحم إذا أصابه، أو ما أشبهه3.

وقس على ذلك لفظ وسيم في قولهم "قسيم وسيم" فهذا إتباع، وليست الواو بدلًا من القاف. ولفظ بئيل من قولهم:"ضئيل بئيل" فليس الباء بدلًا من الضاد، ولفظ جديد من قولهم "جديد قشيب" فليست القاف بدلًا من الجيم، وهكذا دواليك.

ولعلنا نجرؤ على أن نستنتج من هذه المقدمات المتعاقبة أن الصور المترجحة في نظر العلماء بين الإبدال والإتباع ينبغي أن تكون شواهدها من النوع الذي يتجانس فيه -بين اللفظين- الحرف المظنون إبداله؛ لأن فرص القول بالإبدال تنقل عند التباعد، أو قل: إنها حينئذ تصبح نادرة جدًّا.

وقد رأينا في الإتباع أنه على ضربين، تكون الكلمة الثانية في أحدهما غير واضحة المعنى ولا بينة الاشتقاق4، فلا تفيد وحدها شيئًا، وإنما

1 الشبرم: ضرب من الشيح.

2 المخصص 14/ 23.

3 المخصص 14/ 34، وقارن بما ذكرناه عن "جار يار" من احتمال ارتداده إلى اختلاف اللهجات، وإن كان ضربًا من الإتباع. راجع ص94- 95.

4 وهو الضرب الثاني الذي قلنا: إن معنى الكلمة الثانية فيه غير معنى الأولى. وقارن بخطبة ابن فارس في كتابه "الإتباع والمزواجة" نشر المستشرق رودلف برونو، بمدينة غيسن سنة 1906، وانظر المزهر 1/ 404.

ص: 240

تفيد بتقدم الأولى عليها، فلا سبيل إلى الظن بأنها مرادفة للأولى، وإن أوهمت الترادف وبدت كأنها من قبيله1، أما الإبدال فيحتمل كثيرًا في لفظتيه أن تكونا مترادفتين، تفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت؛ بل ربما كان أنصار تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني يشترطون هذا الضرب من الترادف بين اللفظتين المبدلة والمبدل منها، وإلا لتصاقبت الألفاظ من غير أن تتصاقب معانيها!

ومع أن العرب أمة حكيمة لا تضع شيئًا سدى -كما علمنا أسلافنا في آثارهم وكتبهم- ومع أنها قصدت من التابع أن يفيد التقوية، وجعلته أشبه شيء بأوتاد تَتِد به كلامها2، لم يستنكف العلماء أن يعترفوا بجهلهم معناه، كما قال أبو حاتم السجستاني في بسن3: لا أدري ما هو!

وإذا بطائفة من الباحثين لا يجدون في جهل معنى التابع بأسًا ولا ضررًا، حتى قال التاج السبكي:"وجهل أبي حاتم بمعناه لا يضر، بل مقتضى قوله: إنه لا يدري، معناه أن له معنى، هو لا يعرفه". ومضى التاج يفرق بين معنى التقوية في التابع ومعنى التقوية في التأكيد، فقال:"والفرق بينه وبين التأكيد أن التأكيد يفيد في التقوية نفي احتمال المجاز. وأيضًا فالتابع من شرطه أن يكون على زنة المتبوع، والتأكيد لا يكون كذلك"4.

فإن يكن التابع -عند القائلين بأنه له معنى- لا يزيد معناه عن التقوية، مشابهة للتأكيد أو مختلفة عنه، فكيف بهم يخلطون بعض صور الإبدال ببعض صور الإتباع، على الرغم مما يشترط في الصورة المبدلة

1 قارن بما ذكره السيوطي في "المزهر 1/ 415" التاج السبكي في "شرح منهج البيضاوي".

2 قارن بما ذكرناه قبل قليل.

3 من قولهم على سبيل الإتباع: حسن بسن، وقد سبقت الإشارة إليه.

4 ذكره في المزهر "1/ 416" نقلًا عن السبكي في كتابه الذي سميناه آنفًا "شرح منهاج البيضاوي".

ص: 241

من وضوح المعنى ودقته، فضلًا عن ترادفه مع الصورة المبدل منها؟!

أحسب أن الذين وقعوا في مثل هذا اللبس كانوا من غلاة الاشتقاقيين الذين لم يشف صدورهم ما في الإتباع من صور محكية مكرورة، فانطلقوا إلى الاشتقاق الأكبر يسترفدونه في ضروب "إبداله" المتنوعة التي تهيب بالباحث إلى إعمال فكره، وكد ذهنه، وابتكار ناردة أو غريبة من الغرائب!!

ألا تعجب منهم إذن إن تجاهلوا أن أسوان أتوان1، وعريض أريض، وفقير وقير، وخائب هائب2، ولا تارك الله فيه ولا دارك، ويوم عك أك وعكيك أكيك: شديد الحر3، وشيء فذ بذ4، كلها من قبيل الإتباع، وودوا لو يجعلونها صورًا من الإبدال لما لاحظوه في بعضها من تقارب في المخارج والصفات؟!

وبعد، فإن غلو القوم في الاشتقاق الأكبر لا يستكثر عليهم، فإن حدوده غير واضحة المعالم، وإنه لمن الأبحاث البكر التي وجدت من فراغ الوقت ونعومة البال وترف الفكر عند بعض العلماء ما أغنى العربية بآراء إن يك فيها وهم كثير، ففيها أيضًا خيال خصيب!

1 للحزين المتردد الذي يذهب ويجيء من شدة الحزن "المزهر 1/ 416".

2 المزهر 1/ 419.

3 المزهر 1/ 420.

4 نفسه 1/ 421.

ص: 242