المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر

- ‌ ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا:

- ‌ ضابط المثلة الممنوعة

- ‌ مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه

- ‌ شارات الطيارين

- ‌أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله:

- ‌ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك:

- ‌ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتب فيه وقضاء الحاجة به في حمام أو غيره

- ‌بيان ما يسمى معجزة محمدالخالدة والمعجزة القرآنية

- ‌تمهيد:

- ‌مناقشة المحاضرة:

- ‌كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة

- ‌خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي

- ‌ التقادم في مسألة وضع اليد

- ‌أولا: الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا:

- ‌ثانيا: أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس:

- ‌ثالثا: تعريف الحيازة:

- ‌رابعا: موضوع البحث:

- ‌خامسا: ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة

- ‌تمهيد:

- ‌ النقول عن المذهب الحنفي:

- ‌ النقول عن المذهب المالكي

- ‌ النقول عن المذهب الشافعي

- ‌ النقول من مذهب الحنابلة:

- ‌ كتابه المصحف حسب قواعد الإملاء

- ‌أولا: التمهيد

- ‌ بيان نوع الكتابة التي كانت معهودة عند العرب وقت نزول القرآن الكريم

- ‌ أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء

- ‌ثانيا: نقول عن العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني:

- ‌ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء:

- ‌رابعا: بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني

- ‌خلاصة القول:

- ‌وجهة نظرلفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير

- ‌ كتابة المصحف باللاتينية

- ‌أولا: مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره:

- ‌ثانيا: مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها:

- ‌ثالثا: بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر:

- ‌رابعا: الخلاصة:

- ‌ حكم طواف الوداع

- ‌ المالكية:

- ‌ الشافعية:

- ‌ الحنابلة:

- ‌الخلاصة:

- ‌ الحاجز بين المصلي والمقبرة

- ‌ سد الذرائع

- ‌ الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه:

- ‌ نقول عن بعض شراح الحديث

- ‌ نقول عن بعض الفقهاء:

- ‌بحث في نقل لحوم الهداياوالجزاءات خارج الحرم

- ‌حكم دخول الكافر المساجدوالاستعانة به في عمارتها

- ‌ إقامة المسافرالتي تقطع حكم السفر

الفصل: الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا

الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها، ومنهم من قال: لا يجزئه، وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الحديث؛ لأن الشافعي قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله، هذا كلام صاحب البيان، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم.

(فرع) قال صاحب البيان: قال الشيخ أبو نصر في المعتمد: ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا، وقال سفيان الثوري: يلزمه الدم. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع. والله أعلم.

(فرع) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا: دخول الحرم يوجب الإحرام. قال الدارمي: يلزم الإحرام؛ لأنه دخول جديد - قال - ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام. والله أعلم.

ص: 438

د - فقهاء‌

‌ الحنابلة:

قال ابن قدامة رحمه الله (1) :

(مسألة) قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت) .

وجملة ذلك: أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو

(1)[المغني](3 \ 458 - 462) .

ص: 438

الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف، ولا يصح؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » وهذا ليس بنافر، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور، وقال الشافعي في قول له: لا يجب بتركه شيء؛ لأنه يسقط عن الحائض، فلم يكن واجبا كطواف القدوم، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم.

(ولنا) ما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق عليه، ولمسلم قال: كان الناس ينصرفون كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3) » . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة، ويسمى طواف الوداع؛ لأنه لتوديع البيت، وطواف الصدر؛ لأنه عند صدور الناس من مكة، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(2)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(3)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 439

صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .

(فصل) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر، وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم.

(ولنا) عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » ، ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد.

(فصل) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه: لا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى، كالصلاتين الواجبتين.

(مسألة) قال: (فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع) .

قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه؛ ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته، كما

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(2)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 440

لو نفر عقيبه.

(ولنا) قوله عليه السلام: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما.

(مسألة) قال: (فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم.) .

هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد: من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد.

ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي أن عمر (رد رجلا من مر إلى مكة؛ ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه، والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف للوداع. فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 441

فلم تسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.

(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما؛ لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: إنه لا يلزمه إحرام؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، وإنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها.

(مسألة) قال: (والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية) .

هذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روي عن عمر وابنه أنهما (أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع) وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه: فروى مسلم (أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا) قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال: (زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: أما لا تسأل فلانة الأنصارية، هل

ص: 442

أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت) .

وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا:«يا رسول الله، إنها حائض، فقال: " أحابستنا هي؟ " قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذن (1) » ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس:(إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط.

(فصل) وإذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت وودعت؛ لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة، كالخارج من غير عذر.

قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر؛ لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول، وهاهنا لم يكن واجبا، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

ثم إذا نفر من منى، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة - ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات، وخرج، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت، فيطوف

(1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (942) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

(2)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 443

طواف الوداع، حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه.

وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه؛ ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض.

وقال ابن جاسر (1) وفقه الله:

فإذا أتى مكة متعجل، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره، لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف، إذا فرغ من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » إن لم يقم بمكة أو حرمها، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، سواء كان حرا، أو عبدا، ذكرا، أو أنثى، صغيرا، أو كبيرا، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير، فليراجع عند الاحتياج إليه، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال:«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (3) » متفق عليه، وفي رواية عنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال

(1)[مفيد الأنام ونور الظلام](2 \ 127 - 137) .

(2)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(3)

صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 444

النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وعن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (2) » رواه أحمد، وعن عائشة قالت:«حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي؟ " قلت: يا رسول الله، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال: فلتنفر إذن (3) » متفق عليه، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره؛ لما تقدم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها، ولكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه؛ ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك، مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، ولكن يسقط عن الحائض) انتهى كلامه.

ومن مفهومه يؤخذ: أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل - أنه يلزمه إعادة الوداع، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها؛ لأن هذا يعد إقامة، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا، فإنه لا

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(2)

صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/370) .

(3)

صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك الحج (822) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

ص: 445

يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه. والله أعلم.

وقال في [الترغيب والتلخيص] : لا يجب طواف الوداع على غير الحاج، قال في [الفروع] :(وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع) انتهى.

قلت: كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في [الفروع]، قال شيخ الإسلام:(وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة) انتهى. والمذهب: وجوبه على كل من أراد الخروج من مكة وبلده في غير الحرم.

(هذا بحث نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب) وهو أن يقال: هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا؟

فنقول وبالله التوفيق: قال في [المنتهى وشرحه] : (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى ملخصا، قال الشيخ عثمان النجدي:(فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه، صرح به في [الإقناع] عن الشيخ تقي الدين في موضع) انتهى.

قلت: ألم أجد ذلك في [الإقناع] بعد المراجعة مرارا، اللهم إلا أن يكون مراده بذلك قوله الآتي: وطواف الوداع ليس من الحج. . إلى آخره. وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين) .

وقال النووي الشافعي: (ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع) انتهى، قال ابن حجر المكي: (أي: بعد نفره

ص: 446

وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في [المجموع] ) انتهى، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي:(وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به) .

وقال ابن نصر أيضا: (وقوة الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا، ويؤخذ ذلك من قولهم: من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة) انتهى.

قلت: (بل قد صرح به [المغني] حيث قال: فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر، أي: فإنه لا يجزئه) قال في [المغني] : (ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » انتهى، قال في [الإنصاف] :(وظاهر كلام المصنف - يعني: الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة، قال في [الفروع] : وهو ظاهر كلامهم، قال الآجري: يطوف من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر) انتهى، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال: (وأخبرنا جماعة: أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر، والفراغ من واجبات الحج، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب، ولو تحقق ما صرح به الزركشي و [المغني] و [الشرح الكبير]

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 447

وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال) ، قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، قال الزركشي: والمراد الخروج من الحرم، قال في الشرح: ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، وكذا قال في [المغني]، قال: ولقد كشفت قريبا من خمسين كتابا من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم، وأفتى به عنهم، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب؟ ! والصريح عنهم العكس، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج في كلام الخرقي، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم، ولعله ذهل عن وقت الطواف: أعني: طواف الوداع، ولو حقق النظر في [المغني] و [الشرح الكبير] وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في [فروعه] قال: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح) انتهى كلام ابن عطوة.

قلت: أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة، قال الخرقي:(فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت، قال الموفق في [المغني] : وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو: إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم) انتهى ملخصا، ومثله

ص: 448

في [الشرح الكبير]، قال في [الإقناع وشرحه] :(فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف. . . إلى أن قال: وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، قال في [المنتهى وشرحه] :(فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى، وقال في [الإقناع] أيضا:(قال الشيخ: وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة، قال في [المستوعب] : ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع) انتهى، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى - فلا تسلم له صحة فتواه هذه؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها، لوجوب طواف الوداع عليه، ولما تقدم عنه أيضا: أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه، قال في [المغني] بعد كلام سبق:(ولأنه إذا أقام بعده أي: طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه، كما لو طافه قبل حل النفر. . إلخ) فجعل صاحب [المغني] ما إذا طاف للوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعلم منه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه؛ لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر. والله أعلم، ومثله في [الشرح الكبير]، وأما توجيه صاحب [الفروع] الذي نصه:(فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه) فمراده - والله أعلم - إذا

ص: 449

كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، وقد نص العلماء: أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره، بل بقي عليه شيء من واجبات الحج، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع؛ لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 450

وفي [التحفة] للشافعية: (وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير.

قال في [المغني] : (فصل) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ، ولأنه خارج عن الحرم فلزمه

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

ص: 450

التوديع كالبعيد) انتهى، وكذا في [الشرح الكبير]، قال في [الإقناع وشرحه] :(ومن كان خارجه: أي: خارج الحرم، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات، قال في [المنتهى] و [الإقناع] وغيرهما: ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو) انتهى.

قال في [الإقناع وشرحه] : (فإن خرج قبله: أي: قبل الوداع فعليه الرجوع إليه، أي: إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه؛ لكونه في حكم الحاضر، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع، أو بعد مسافة قصر عن مكة - فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا؛ لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات، وسواء تركه أي: طواف الوداع عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره، كسائر واجبات الحج، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام؛ لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره) انتهى.

ص: 451

قال الخرقي: (مسألة) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن بعد بعث بدم، قال في [المغني] : هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام.

وقد روي (أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة؛ ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف الوداع، فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.

(فصل) : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما؛ لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من

ص: 452

الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: أنه لا يلزمه إحرام؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف؛ وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، إنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها) انتهى كلام صاحب [المغني] .

ومثله في [الشرح الكبير] ونصه: (وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع) .

قال الشيخ مرعي في [الغاية] : (ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم) انتهى؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه؛ كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي الطواف، وعن ركعتي الإحرام، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة؛ لأنه لم ينوه، وفي الحديث:«وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » .

فإن قيل: كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع، وقد قال الأصحاب: ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة؟ قلنا: يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا، ثم

(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

ص: 453

طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع، وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة، وهو نص الإمام أحمد، اختاره الخرقي، أما على اختيار الموفق، والشارح، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وابن رجب، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة، وهو الذي تدل عليه السنة، كما تقدم في فصل:(ثم يفيض إلى مكة، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج) والله أعلم. ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه: (إلا أنه خفف عن الحائض) وتقدم، والنفساء في معناها؛ لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره، ولا فدية على الحائض والنفساء؛ لظاهر حديث صفية المتقدم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود، ويغتسلان للحيض والنفاس؛ لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم؛ لتركهما نسكا واجبا، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر، فإن قيل: فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر؟ قلنا: هناك ترك واجبا فلم يقسط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله، وهاهنا لم يكن واجبا عليهما ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس. والله أعلم، وأما المعذور غير الحائض والنفساء، كالمريض

ص: 454

ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع؛ لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر) وتقدم.

3 -

قال ابن حزم رحمه الله:

(وأما قولنا: من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي.

فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة، فلما رويناه من طريق مسلم قال: نا سعيد بن منصور، نا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .

ومن طريق مسلم، نا محمد بن رمح، نا الليث عن ابن شهاب، عن أبي سلمة -وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت: - «حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: أحابستنا هي؟ فقلت: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلتنفر (2) » .

قال أبو محمد: فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير بن عبد الله:

(1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

(2)

صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

ص: 455

(أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا) .

قال علي: ولم يخص عمر موضعا عن موضع، وقال مالك: بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، ومن طريق عبد الرزاق، نا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن نافع قال:(رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشي كن أفضن يوم النحر، ثم حضن فنفرن، فردهن حتى يطهرن، ويطفن بالبيت، ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول) .

قال أبو محمد: هرشي هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء، وبها علمان مبنيان علامة؛ لأنه نصف الطريق، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوسي:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت (1) » .

قال أبو محمد: الوليد بن عبد الرحمن غير معروف، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه، وكأن يكون أمره عليه السلام: الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهما. وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولنا: من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة - فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف

(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .

ص: 456