الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاجز بين المصلي والمقبرة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة من إعداد بحث في الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه.
وحيث إن الموضوع يتطلب البحث في أمرين:
أحدهما:
سد الذرائع
.
والثاني: الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة.
أعدت اللجنة بحثا مختصرا فيهما، وفيما يلي الحديث عنهما، وبالله التوفيق.
أولا: سد الذرائع:
سبق أن كتبت اللجنة الدائمة بحثا في سد الذرائع في موضوع الأسورة المغناطيسية، وموضوع شارات الطيارين، وهذا نصه:
قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر.
إن تطبيق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته،
واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى - قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار. . ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها، وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها.
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال:
(الوجه الرابع العشرون)(1) : أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.
والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم - فهذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء؛ لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو
(1)[الفتاوى الكبرى](3\ 256- 295) .
لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي، وقد لا تفضي، لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا، فإن يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا.
ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها: ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام (ثلاثة) .
أولا: ما هو ذريعة، وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم.
الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها، كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن.
الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل؛ كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة.
والغرض من هذا: أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها
المحرم، خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع.
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها، وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا، ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه.
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيها فاستباحه بهذا التأويل - فهو ظلوم لنفسه، جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة.
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر:
فالأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.
(1) سورة الأنعام الآية 108
(الثاني) : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (1) » متفق عليه.
ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (2) » ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما، وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره.
(الثالث) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام.
(الرابع) : أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة؛ لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها.
ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو
(1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(2)
صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
(الخامس) : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير.
(السادس) : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا، ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
(السابع) : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك: أنها وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ أحوال بعض عابديها.
(الثامن) : أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (1) » ، «إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء:«لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (3) » ، وقال في موضع:«لا تشبهوا بالأعاجم» ، وقال فيما رواه الترمذي:«ليس منا من تشبه بغيرنا (4) » حتى قال حذيفة بن اليمان: من تشبه بقوم فهو منهم؛ وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض.
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(2)
سنن أبو داود الصلاة (652) .
(3)
صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) ، سنن الدارمي الصوم (1759) .
(4)
سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(التاسع) : أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها (1) » ، وقال:«إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ، حتى ولو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك؛ لأن الطباع تتغير؛ فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، كذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (2) وهذا نص في اعتبار الذريعة.
(العاشر) : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك.
(الحادي عشر) : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين.
(الثاني عشر) : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل: اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة.
(1) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3288) ، سنن أبو داود النكاح (2066) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2179) .
(2)
سورة النساء الآية 3
وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (1) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (2) وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة نكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش.
ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة الزائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى:{نَسَبًا وَصِهْرًا} (3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه.
(الثالث عشر) : أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع (4) » ، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا.
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك: أن هذا ذريعة إلى الربا، وهذه علة
(1) سورة النساء الآية 24
(2)
سورة النساء الآية 25
(3)
سورة الفرقان الآية 54
(4)
سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
صحيحة في مسألة مد عجوة، ولكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له.
(الرابع عشر) : أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة.
(الخامس عشر) : أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض. وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية.
(السادس عشر) : أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من ميراث شيء، أما القاتل عمدا، كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر.
(السابع عشر) : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث
بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك: أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين.
(الثامن عشر) : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
(التاسع عشر) : أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب» ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار.
(العشرون) : أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه (1) » ، «ونهى عن صوم يوم الشك (2) » ، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم، وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم، تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التبيين، ومن جملة فوائد ذلك: سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض.
(1) صحيح البخاري الصوم (1914) ، صحيح مسلم الصيام (1082) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2173) ، سنن أبو داود الصوم (2335) ، سنن ابن ماجه الصيام (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1689) .
(2)
سنن ابن ماجه الصيام (1646) .
(الحادي والعشرون) : أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا، قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه.
(الثاني والعشرون) : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا) مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا.
(الثالث والعشرون) : أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفاسد بحسب الإمكان.
(الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحى إليه بالباطن، وأمر أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة، وإن وثق بتقواه. حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير.
(الخامس والعشرون) : أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله
ومن جاء به.
(السادس والعشرون) : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجرا، وإن كان العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(السابع والعشرون) : أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات - لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال، وزجر من ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا.
(الثامن والعشرون) : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع.
(التاسع والعشرون) : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم.
(الثلاثون) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذراع.
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم؛ إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول - لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا.
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما قصدنا: أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم،
أو بأن لا يقصد به - يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط.
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله:
فصل: في سد الذرائع (1) :
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود. لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه.
ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كله كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع
(1)[إعلام الموقعين](3\ 147- 153) .
الموصلة إليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده.
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء.
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه، فنقول: الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه.
فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك.
والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك.
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته. فهاهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم.
ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، وسبه آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك.
ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة.
بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى:
(1) قوله: يطؤها في الأصل، والصواب يطأها.
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (2) فمنعن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزا في نفسه، لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} (3) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقائهم ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها، وقلة الإفضاء إليها، فجعلت (4) كالمقدمة.
الوجه الرابع: قوله تعالى:
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2)
سورة النور الآية 31
(3)
سورة النور الآية 58
(4)
كذا بالأصل، وصوابه كالمعدوم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (1) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلا من الرعونة: فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم؛ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (2){فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه، لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن
(1) سورة البقرة الآية 104
(2)
سورة طه الآية 43
(3)
سورة طه الآية 44
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه (1) » متفق عليه.
ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (2) » فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
الوجه التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنهم وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخلوا فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها. وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب. ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث. وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم بها؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال:«لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» .
الوجه الحادي عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج، وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر
(1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(2)
صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
من الفتنة وتقلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله؛ سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدا. وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه، سدا للذريعة.
الوجه الرابع عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟ !
الوجه الخامس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (1) » ، وقوله:«إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (2) » ، وقوله في عاشوراء:«خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده» ، وقوله:«لا تشبهوا بالأعاجم» ، وروى الترمذي عنه:«ليس منا من تشبه بغيرنا (3) » ، وروى الإمام أحمد عنه:«من تشبه بقوم فهو منهم (4) » ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(2)
سنن أبو داود الصلاة (652) .
(3)
سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(4)
سنن أبو داود اللباس (4031) .
إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها وقال:«إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع، وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن؛ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذريعة.
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع، حتى أوصلها تسعة