الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أهم فوائد مثل "النور
".
لقد تضمن مثل "النور" فوائد وموازين هامة تتعلق بأصل الهداية، وبدايتها، ومادة استمرارها ورسوخها.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية، فيه من الأسرار والمعاني، وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم"1.
وأهم الفوائد التي سيجري الكلام عليها هي:
الفائدة الأولى: إثبات النور اسما من أسماء الله وصفة من صفاته.
الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن الهداية والإيمان والنور من الله تعالى وأن سببه من الإنسان.
الفائدة الثالثة: دل المثل على أن الإيمان يزيد وينقص.
الفائدة الرابعة: دل المثل على أن للإيمان والعلم نوراً حقيقيا في قلوب المؤمنين.
الفائدة الخامسة: في مناسبة التعقيب على المثل بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ
1 اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، ص (8) .
َذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ
…
} الآية.
الفائدة السادسة: دلالة المثل على إعداد الله للإنسان بالفطرة السليمة، واستدعائها لنور الإيمان.
الفائدة السابعة: أثر نور العلم والإيمان في سلامة القلب ووظائفه.
الفائدة الثامنة: أن مثل النور ميزان توزن به المناهج الحادثة في تعيين طريق تحصيل العلوم في المطالب الدينية.
وإلى بيان هذه الفوائد. والله المستعان.
الفائدة الأولى: ثبوت النور اسماً من أسماء الله، وصفة من صفاته.
جرت عادة المفسرين والعلماء في بحث ثبوت اسم الله "النور" واتصافه به - سبحانه - عند كلامهم على تفسير قول الله عز وجل: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} والمراد بالإخبار عن الله عز وجل بأنه: نور السماوات والأرض.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد فسر قوله تعالى: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} بكونه منوّر السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله. وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق له اسم "النور" الذي هو أحد الأسماء الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله"1.
وحاصل كلام ابن القيم رحمه الله أن قول الله عز وجل: {الله ُ نُورُ السماوات وَالأرْضِ} لا تدل قطعا على وصف الله بالنور القائم بذاته، وإنما هي محتملة، لذلك ورد عن السلف تفسيرها بكونه سبحانه منور
1 اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (6) .
السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض.
أما النور الذي هو من أوصافه سبحانه ومنه اشتق له اسم "النور" فهو ثابت من نصوص أخرى سيأتي بيانها قريبا - إن شاء الله
…
وقد رجح ابن جرير رحمه الله أن معنى قول الله تعالى: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} هو: "هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال يعتصمون"1.
وقد بين رحمه الله وجه ترجيح هذا المعنى بقوله: "وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه عقب قوله: {وَلَقد أَنْزَلْنَآ إليكُمْ آيَاتٍ مُبَيّنَاتٍ ومَثلاً مِن الَّذين خَلَوْا مِنْ قَبلكم ومَوْعِظَةً للمتَّقِين} فكان ذلك بأن يكون خبرا يقع تنزيله من خلقه، ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدل على انقضاء الخبر عنه من غيره، فإذا كان كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس آيات مبينات الحق من الباطل، {ومَثلاً مِن الَّذين خَلَوْا مِنْ قَبلكم ومَوْعِظَةً للمتَّقِين} فهديناكم بها، وبينا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات وأهل الأرض
…
ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم،
1 جامع البيان، (9/320) .
فقال: {مَثَلُ نُورهِ كَمشْكَاةٍ فِيها مِصْبَاح} يقول: مثل ما أنار من الحق بهذا التنزيل في بيانه: كمشكاة"1.
النور المضاف إلى الله عز وجل:
قال ابن القيم رحمه الله: "إن النص قد ورد بتسمية الرب نوراً، وبأن له نورا مضافا إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه نور، فهذه أربعة أنواع"2.
قوله: وبأن له نورا مضافا إليه: يقصد إضافة صفة إلى موصوفها، وأن النور وصفه القائم به كما تضاف إليه سائر صفاته القائمة به سبحانه.
وقوله: وبأنه نور السماوات والأرض: يقصد إضافة مفعول إلى فاعله، فقد فسر بأنه منور السماوات والأرض وبأنه هادي أهل السماوات والأرض كما تقدم قريباً.
وقد بين رحمه الله هذين النوعين من أنواع النور المضاف إلى
1 جامع البيان، (9/321) .
2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم الجوزية، (2/194) اختصار: محمد بن الموصلي، المطبعة السلفية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1349 هـ.
وانظر: دقائق التفسير لابن تيمية (4/477) .
الله عز وجل في موضع آخر حيث قال:
"إضافة النور إلى الله تعالى على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله"1.
وسأبدأ بذكر أدلة هذين النوعين، ثم أتبع ذلك بذكر أدلة النوعين الآخرين:
النوع الأول: أدلة ثبوت النور صفة ذات لله عز وجل.
قال الله عز وجل: {وأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنورِ رَبِّها} 2.
"فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء"3.
قال ابن القيم رحمه الله: "فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره الذي هو نوره
…
"4.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه
1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (6) .
2 سورة الزمر آية (69) .
3 اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (6)، وانظر: جامع البيان لابن جرير (11/30) .
4 مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، (2/193) .
بصره من خلقه"1.
وهذا الحديث دل على ثبوت نوعين من النور:
الأول: نور الحجاب، وهو مستفاد من قوله:(حجابه النور) .
والثاني: نور الذات، وهو وصف قائم به سبحانه ومستفاد من قوله:"لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه".
والسبحات: جمع سبحة، وهي النور والجلال والبهاء.
وقد نقل الإمام النووي اتفاق شراح الحديث من اللغويين والمحدثين على أن معنى "سبحات وجهه": نوره وجلاله وبهاؤه.2
ويؤكد أن المراد بالسبحات النور المضيء استخدام لفظ الإحراق في قوله: "لأحرقت".
فيكون معنى الحديث: لو كشف سبحانه الحجاب وتجلى لمخلوقاته لأحرق نوره المتجلى من وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ودلالة هذا الحديث قاطعة في ثبوت صفة النور لله عز وجل لمن تأمله وسلم من مرض التعطيل والتأويل.
وهذه الصفة - صفة النور - كغيرها من الصفات، تثبت لله مع
1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام"....، (ح 179) ، (1/161) .
2 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (3/14) .
التنزيه، على حد قوله سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1. فليس النور الثابت له سبحانه كنور الشمس والقمر أو غيرها من الأنوار المخلوقة. بل هو نور يليق به سبحانه لا يماثل المخلوق، فلكل ذات ما يناسبها من الصفات ولله المثل الأعلى والوصف الأكمل الذي ليس كمثله شيء، فيثبت ما أثبت الله وأثبت رسوله صلى الله عليه وسلم من اتصاف الله بالنور، وينفي ما نفى الله من مماثلة المخلوق.
النوع الثاني: النور المضاف إلى الله إضافة مفعول إلى فاعله:
وذلك كما في قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السماوات وَالأرْضِ} .
وقد تقدم2 بيان ما ورد عن السلف من تفسيرها بأنه منور السماوات والأرض، أو هادي أهل السماوات والأرض بما يجعل لهم من النور، كما في نحو قوله سبحانه:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو من الليل: "اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك
1 سورة الشورى آية (11) .
2 ص (345) وما بعدها.
أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، أنت إلهي لا إله لي غيرك"1.
قوله: "لك الحمد أنت نور السماوات والأرض" هو الشاهد لهذا النوع من النور المضاف إلى الله.
فالله نور السماوات والأرض: أي منورهما وبه يهتدي من فيهما.2
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن تفسير النور المضاف إلى السماوات والأرض والمخبر به عن الله: بكونه منور السماوات والأرض أو هادي أهل السماوات والأرض، لا يمنع من إثبات ما ثبت في النصوص الأخرى من اتصافه بالنور وكونه اسما من أسمائه. قال رحمه الله:
"ثم قول من قال من السلف "هادي أهل السماوات والأرض" لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفَسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك
1 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} الصحيح مع الفتح (13/371) .
2 انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (3/4) .
ثبوت بقية صفات المسمى، بل قد يكونان متلازمين"1.
ثم قال: "وكذلك من قال منور السماوات والأرض، لا ينافي أنه نور وكل منَوِّر نور، فهما متلازمان"2.
وهذا الحديث - حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الليل - دل على فائدة هامة
في إثبات اسم النور لله عز وجل، وما يتضمنه من اتصافه بالنور.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بثلاثة أخبار:
بأنه: رب السماوات والأرض.
وأنه: قيّم السماوات والأرض ومن فيهن.
وأنه: نور السماوات والأرض.
والقول في هذه الأوصاف الثلاثة - رب، وقيوم، ونور - من جنس واحد.
وذلك أنه اشتق منها أسماء لله عز وجل، فهو سبحانه: الرب، والقيوم، والنور.
وهو سبحانه متصف بما دلت عليه من المعاني، فمن أوصافه:
1 دقائق التفسير (4/479) .
2 نفس المصدر ص (480) .
الربوبية، والقيومية، والنور.
وهي من أسمائه الدالة على صفة فعلية، فهو الذي يرب خلقه ويصرف شؤونهم، وبه قامت السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المنور لهما الهادي لأهلهما.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن الحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسموات والأرض وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما.
فكونه سبحانه رباً لهما، وقيوما لهما، ونورا لهما أوصاف له.
فآثار ربوبيته، وقيوميته، ونوره، قائمة بهما.
وصفة الربوبية مقتضاها هو المخلوق المنفصل. وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان والخير، والنعمة والعقوبة، آثار تلك الصفات، وهي منفصلة عنه. وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته"1.
وعلى هذا فالنور يضاف إلى الله على أنه منور لغيره، وإنارته لغيره فرع عن كونه نوراً في نفسه، وليس في الموجودات ما هو مُنوِّر لغيره وهو
1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/191) .
في نفسه ليس بنور.1
وعلى هذا فإضافة النور إلى الله في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} هو من هذا النوع، أي مثل نوره الذي يجعله في قلب المؤمن، ينوره به.
النوع الثالث: ثبوت اسم النور لله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن النور جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول وأثبتوه في أسمائه الحسنى.... ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة، ومحال أن يسمي نفسه نوراً وليس له نور، ولا صفة النور ثابتة له، كما أن من المستحيل أن يكون عليما قديرا سميعا بصيراً، ولا علم له ولا قدرة، بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له، وانتفاء حقائقها عنه مستلزمة لنفيها عنه، والثاني باطل قطعاً فتعين الأول"2.
ففي هذا الكلام من ابن القيم رحمه الله بيان لنوعين من الأدلة على ثبوت اسم النور له - سبحانه - هما:
الأول: إن النور جاء في أسماء الله تعالى أي أن الله سمى نفسه نوراً
1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/200) .
2 المصدر السابق، (2/189) .
سبحانه كما في قوله: {الله نُور السماوات وَالأرْضِ} 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "أنت نور السماوات والأرض"2.
قال ابن تيمية رحمه الله: "النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أن الله نور، وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور، فهذه ثلاثة أنوار في النص"3.
الثاني: إن الأمة تلقته بالقبول وأثبتوه في أسماء الله الحسنى ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة.
ومراد ابن القيم رحمه الله بقوله: "وأثبتوه في أسمائه الحسنى" يقصد بذلك من عني من السلف بتتبع الأسماء الحسنى وحصرها، سواء فيما أدرج في حديث أبي هريرة4 رضي الله عنه:"إن لله تسعة وتسعين اسماً"5
1 سورة النور آية (35) .
2 تقدم تخريج الحديث ص (351) .
3 دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (4/477) .
4 أبو هريرة الدوسي اليماني، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال، أرجحها عبد الرحمن بن صخر، أسلم أبو هريرة عام خيبر في السنة السابعة، وشهد خيبراً، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، وكان أحفظ الصحابة للحديث، توفي سنة 59 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 2/578، والبداية والنهاية (8/111) .
5 رواه الترمذي، كتاب الدعوات، (ح 3574)، سنن الترمذي (5/192) وقال: "هذا حديث غريب
…
وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا من هذا الحديث".
وقال ابن كثير رحمه الله: "والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه". تفسير القرآن العظيم، (2/269) .
أو في اجتهاداتهم لحصرها لعدم ثبوت التعيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد عنى ابن حجر العسقلاني1 رحمه الله بتتبع الأسماء الواردة في روايات حديث أبي هريرة، وما أضافه العلماء على ذلك أو توقفوا فيه، ثم ختم البحث باجتهاده هو في تعيين أسماء الله التسعة والتسعين المشار إليها في الحديث وذكر من جملتها اسم الله النور، وذكر أنه من الأسماء المضافة حيث قال بعد أن ذكر بعض الأسماء الذي تتبع ورودها في القرآن: "فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون وكلها في القرآن لكن بعضها بإضافة كالشديد من {شَدِيد العِقَابِ} 2
…
1 الحافظ العلامة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري الشافعي، ولد سنة 773 هـ. له مؤلفات كثيرة من أهمها: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والإصابة في معرفة الصحابة، ولسان الميزان، توفي سنة 852 هـ.
انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي (2/36) ، وشذرات الذهب لابن العماد، (7/280) .
2 سورة غافر آية (3) .
والنور من قوله {نُور السماوات وَالأرْضِ} ...."1.
كما يفهم من استعراضه لجهود علماء السلف في تعيينها اتفاقهم على عد النور من أسمائه سبحانه. وهذا الذي عليه مدار الاحتجاج بورود اسم النور لله عز وجل وهو الذي عبر عنه ابن القيم رحمه الله بكلامه المتقدم بقوله:
"إن الأمة تلقته بالقبول وأثبتوه في أسماء الله الحسنى ولم ينكر أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة".
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن جماهير علماء المسلمين يثبتون لله اسم النور ولا يتأولونه2.
وبهذا يتبين أن النور من أسماء الله الحسنى، دل على ذلك الكتاب واتفاق علماء السلف.
وأنه مشتق3 من وصف النور القائم به سبحانه وتعالى4.
1 فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري (11/218)، وانظر: البحث كاملاً من ص (214-219) .
2 انظر: دقائق التفسير، (4/472) .
3 تقدم بيان المراد باشتقاق أسماء الله تعالى، ص (218) .
4 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (6) .
النوع الرابع: إثبات أن النور حجابه سبحانه وتعالى.
ورد التصريح بذلك في الحديث المتقدم الذي رواه الإمام مسلم: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"1.
وفي رواية: "حجابه النار".
قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الحديث فيه ذكر حجابه، فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك، فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور كما سمى الله نار المصباح نوراً بخلاف النار المظلمة كنار جهنم، فتلك لا تسمى نورا"2.
ومن أدلة الحجاب ما رواه مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنَّى أراه"3.
وفي رواية: "رأيت نوراً"4.
والمراد بقوله: "نور أنَّى أراه" أن النور الذي هو الحجاب يمنع من
1 تقدم ص (349) .
2 دقائق التفسير (4/478) .
3 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: نور
…
(ح178) ، (1/161) .
4 نفس المرجع.
رؤيته، فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته. وقوله:"رأيت نوراً" أي أنه رأى الحجاب1.
وخلاصة الفائدة الأولى من فوائد هذا المثل:
أن الأدلة من الكتاب والسنة دالة على أن النور صفة لله عز وجل صفة ذات وصفة فعل، وأن النور من أسماء الله الحسنى وأن حجابه النور، وأقوال السلف الصالح متظافرة على إثبات ذلك.
1 شرح العقيدة الطحاوية ص (214) ، المكتب الإسلامي، ط /4، 1392 م.
الفائدة الثانية: دلالة المثل على أن النور والهداية للإيمان من الله تعالى، وأن سببها من الإنسان.
لقد تقرر عند دراسة المثل أن الغرض من ضربه إنما هو لبيان حقيقتين هامتين.
الحقيقة الأولى: مستفادة من قوله: {مثلُ نُورِه} : وهي أن أصل الإيمان يكون من الله عندما يشرح صدر عبده المؤمن للإسلام ويجعل له نوراً فيبدأ به النور والحياة.
وهذا هو فعل الله، وخلقه للهداية في قلوب العباد إذا استحقوا ذلك واقتضت الحكمة أن يُهدوا.
وسوف يأتي بيان أن الهداية والإضلال من فعل الله تعالى، عند دراسة مثل الظلمات ضمن فوائده.
الحقيقة الثانية: مستفادة من تشبيه العلم المستفاد من الوحي الواصل للقلب بالزيت الجيد.
والذي يدل على أن قبول العبد وإنابته لما نزل من الحق وتشربه له هو السبب في هداية الله له، وإيقاد النور في قلبه.
والسبب الذي جعله الله لابتداء النور والإيمان والهداية، هو نفسه السبب في استمرارها وزيادتها، فاستدامة النور وقوته وسلامته، وتنامي حياة القلب إنما تكون بالعلم بالكتاب والسنة، والعمل به، فهي غذاؤه،
ومادة حياته.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها"1.
والاعتبار الصحيح لهذا المثل وما تقدمه من قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 2 أن يعلم أن العلم المأخوذ من الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد لتزكية القلوب، ومعرفة الحقائق الدينية، وإمداد مصباح الإيمان بمادة نوره، وكلما زاد العلم المستقى من الوحي الواصل للقلب زاد نوره وحياته وصلاحه.
ومعرفة الإنسان لهذه الحقيقة التي دل عليها المثل من أسباب سعادته في الدارين.
فإذا عرف أن هدايته تكون بالعلم بالكتاب والسنة والعمل بهما،
1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص (20) .
2 سورة النور آية (34) .
وأن ذلك هو الطريق الأوحد لمعرفة العلوم والحقائق في المطالب الإلهية والغيبية، والمطالب الشرعية، فقد وضع قدميه على الطريق المستقيم، وكلما سار فيه ازداد بصيرة وعلما بسبل السلام، واستبانت له الظلمات ومواطن الهلكات، واستقر قدمه على الهدى، وقوي استمساكه بالعروة الوثقى، مما يزيد حظه من ولاية الله، ويمكنه في أسباب السعادة.
قال سبحانه مبينا أن الهداية والسلامة إنما تكون بنور العلم المستقى من الكتاب والسنة: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1.
فالخروج من الضلال المبين إلى الهدى المبين إنما يكون بالعلم بالكتاب والحكمة لا بغيره.
والناس بأشد الحاجة إلى من يدلهم إلى المصدر الموثوق لتحصيل
1 سورة المائدة الآيتان (15، 16) .
2 سورة الجمعة آية (2) .
العلوم الصحيحة والحقائق في المطالب الإلهية والشرعية.
وهذا المثل بما ينطوي عليه من تشبيه بليغ ودلالة قاطعة يؤدي هذا الغرض ويوجب لمن تأمله اليقين بأن لا طريق إلى المعرفة الصحيحة إلا بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لذلك قال سبحانه في ختام المثل:
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
فالناس عامة، وأهل الإيمان خاصة، بحاجة إلى تدبر هذا المثل وفقهه ليتبين لهم الطريق الحق الأوحد لمعرفة الحقائق الإيمانية.
والله سبحانه بين الطريق للمعرفة في هذا المثل وغيره من الآيات إقامة للحجة على من طلب المعرفة في غير الكتاب والسنة.
فضرب - سبحانه - هذا المثل للناس، لشدة حاجتهم إليه، وعظيم نفعه لهم، وإتماماً للحجة على عباده. {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} 1.
وقد بين ابن القيم رحمه الله أن العلم الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو الطريق إلى حياة القلوب واستنارتها، وأن العبرة بصحة العلوم، واستمدادها من مشكاة النبوة، لا بكثرتها مع التخليط، بين ذلك في معرض كلامه حول قول الله تعالى:
1 سورة الأنفال آية (42) .
حيث قال: "فسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومَن عُدمها فهو ميت لا حي
…
وسماه نوراً لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث. فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده
…
فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال"2.
وهذه الفائدة المستوحاة من هذا المثل - وهي إخلاص التلقي
1 سورة الشورى آية (52) .
2 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص (24) .
للأمور الدينية والمطالب الغيبية من الوحي المطهر - هي خطوة هامة ومقدمة في واقع المسلمين اليوم، في مجال النهوض بهم، والعمل على عودتهم إلى الدين القويم، وفي سبيل توحيدهم وضم جهودهم للعمل على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وعزتهم ورفعتهم، فذلك لا يكون إلا إذا سبقه عملية مراجعة لأحوالهم وأوضاعهم وعرضها على الميزان العلمي الذي جاء به الوحي المطهر، وإخضاع تلك الأحوال والأوضاع الدينية والدنيوية لحكمه، والتخلص مما يخالفه.
وبذلك يسعى المسلمون أولاً إلى استجلاب ولاية الله، والله وليهم - إذا جاؤوا بشرط الولاية - يحوطهم بعنايته وتوفيقه، ويدافع عنهم، ويكلل أسبابهم بالتوفيق، ويكمل نقصهم ويهيِّئ لهم من أمرهم رشداً.1
وخلاصة هذه الفائدة:
أن المثل دل على أن إيمان العبد يوجد بفعل الله عز وجل حيث يشرح صدره فيحيا القلب ويستنير، وأن هذا النور - نور الإيمان - يحتاج
1 تكلمت عن هذا الأمر وهو وجوب إخلاص التلقي عن الوحي المطهر في جميع المطالب في جانب العقيدة والعبادات والأخلاق والآداب، وأهميته للمجتمع المسلم والسبيل إلى تحقيقه - في بحثي لرسالة الماجستير بعنوان:[أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة] المقدمة للجامعة الإسلامية عام 1412هـ. انظر: ص (415-425) .
إلى مادة من نور العلم المستخلص من الوحي يقوم بها ويدوم بدوامها ويزيد ويصفو بزيادتها وصفائها، وإذا ضعف العلم أو استقى من غير الوحي ضعف نور الإيمان وربما انطفأ كما تنطفئ النار بفراغ مادتها.
الفائدة الثالثة: دل المثل على أن الإيمان يزيد وينقص.
وذلك مستنبط من تشبيه العلم النازل بالوحي بالزيت الذي يمد المصباح بوقوده.
وكلما كان الزيت جيداً في مادته، وزاد في كميته، قوي نور المصباح وازداد إشراقا وصفاء. وكذلك نور الإيمان في قلوب أولياء الرحمن يزيد بزيادة العلم وصفائه من العلوم الدخيلة، والعمل به.
كما ينقص بضعف العلم، أو خلطه بعلوم ليست من الوحي، أو عدم العمل بالعلم.
وما دل عليه المثل من كون الإيمان يزيد وينقص هو الذي تظافرت على بيانه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح.
وقد ذكرت طرفا من تلك الأدلة في المقدمات المتعلقة بالإيمان في الباب الأول1.
وهذه الفائدة يترتب عليها أن يكون نور الإيمان والعلم في قلوب المؤمنين متفاوتاً قوة وضعفاً بحسب ما عند كل منهم من العلم والإيمان.
1 تقدم ص (258) .
وانظر: للاستزادة: كتاب زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه للشيخ د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، دار القلم والكتاب بالرياض، الطبعة الأولى 1416 هـ.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أكمل المؤمنين علما بالله وبدينه وإيماناً وعملاً فهو الذي تحقق فيه كمال نور الإيمان والعلم.
وعلى هذا يوجه قول من قال: إن المراد بالنور في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِه} هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير رحمه الله: "وقال آخرون بل عنى بالنور: محمداً صلى الله عليه وسلم وقالوا: الهاء التي في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِه} : عائدة على اسم الله"1.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف بأنه نور وسراج منير، كما قال تعالى:{يَآ أيها النَّبي إنَّا أَرْسَلْناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وَدَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِه وَسِرَاجاً منيراً} 2.
قال ابن جرير رحمه الله: "وقوله: {بإذْنِه} يقول: بأمره إياك بذلك. {وَسِرَاجاً منيراً} يقول: وضياء لخلقه يستضيء بالنور الذي أتيتهم به من عند الله عباده {منيراً} يقول ضياء ينير لمن استضاء بضوئه، وعمل بما أمره، وإنما يعني بذلك: أنه يهدي به من اتبعه من أمته"3.
1 جامع البيان (9/322) .
2 سورة الأحزاب من الآية (45 - 48) .
3 جامع البيان (10/307) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف بأنه نور باعتبارين:
الأول: أنه قد عمر قلبه بنور العلم والإيمان، فهو الأنموذج البشري الذي اكتمل فيه النور لكمال علمه وإيمانه. فاتقد سراجه أتم الاتقاد.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد اختلف في مفسر الضمير في {نُورِهِ} فقيل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل مفسره المؤمن أي مثل نور المؤمن. والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده. وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وآله وسلم"1.
الاعتبار الثاني: أنه قد بدا عليه ومنه النور ظاهراً وباطناً.
حيث عمل بالعلم والإيمان. فعمله نور، وقوله نور، وفي كل أحواله على نور من ربه. وقد دعا إلى الله وبلغ البلاغ المبين، فهدى الله به من شاء من عباده واستناروا بما بلغهم به من نور الوحي.
فهو صلى الله عليه وسلم سراج منير، مستنير في نفسه منير لغيره.
"والنور في الحقيقة هو كمال العبد في الظاهر والباطن"2.
والاقتباس من نوره صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من العلم المدلول عليه
1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص (7) .
2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، (2/203) .
بنصوص الكتاب والسنة.
والانتفاع من نوره صلى الله عليه وسلم يكون باتباعه والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وألا يفعل فعلاً يتعبد لله فيه إلا وعنده شاهد عليه مما جاء به صلى الله عليه وسلم من الوحي، أو من سيرته وما كان عليه من الأحوال، لذلك قال سبحانه:
خلاصة هذه الفائدة:
أن المثل دل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بزيادة العلم الواصل للقلب المستفاد من نور الكتاب والسنة كما ينقص بنقصه.
ومأخذ ذلك من المثل هو تشبيه العلم الذي يمد القلب بالمعارف والحقائق الإيمانية بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكون المصباح يزيد ضوؤه ويصفو بزيادة الزيت وجودته.
والمؤمنون يتفاوتون بقوة النور الكائن في قلوبهم بحسب ما عندهم من العلم والإيمان.
وأكمل المؤمنين نوراً هو النبي صلى الله عليه وسلم لكمال علمه وإيمانه.
1 سورة الأحزاب آية (21) .
الفائدة الرابعة: دل المثل على أن للإيمان والعلم نوراً حقيقياً في قلوب المؤمنين.
وذلك مستفاد من التشبيه نفسه، حيث لا يفهم من تشبيه نور الإيمان والعلم بالمصباح المتقد الذي وقوده زيت جيد، إلا حقيقة ذلك النور، وإنما ضرب المثل لبيان حقيقته وما يتعلق به من الأوصاف وما ينتج عنه من الآثار.
ولا يجوز أن يقال إن الله ضرب مثلاً محسوساً لبيان وإيضاح أمر مجازي لا حقيقة له.
فالقلب يحيا بنور الوحي كما تحيا الأرض بالماء، وحياة القلب ونوره أمران وجوديان حقيقيان.
وكذلك كل ما نسب إلى القلب من أضداد الحياة والنور: كموت القلب وعماه، والختم والطبع والأقفال
…
ونحوها فهي على حقيقتها، "ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات"1.
وليس المراد إذا قيل أن النور في القلب نور حقيقي أنه كالأنوار المحسوسة، ولا أن العمى الذي يصيب القلب كالعمى الذي يصيب العين، ولا أن حياة القلب وموته كحياة البدن وموته.
1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيم الجوزية، ص (195) .
فهذه الألفاظ وإن كانت حقيقة في كل ما تنسب إليه، إلا أن الحقائق تختلف باختلاف محالّها التي تعلقت بها.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محالّها كانت بحسب تلك المحالّ"1.
فحياة البدن حقيقة، وحقيقته سريان الروح فيه، وموته حقيقة، وحقيقته مفارقة الروح له.
وحياة القلب حقيقة، وحقيقته قذف الله الإيمان فيه. وموته حقيقة، وحقيقته مفارقة الإيمان له وخلوه منه. ونور القلب حقيقة، وحقيقته أن يجعل الله فيه النور. وعماه حقيقة، وحقيقته خلوه من ذلك النور نور العلم والإيمان.
وهكذا في كل الألفاظ المنسوبة إلى القلب فهي على الحقيقة المناسبة للقلب، على قاعدة "لكل ذات ما يناسبها من الصفات".
وكما دل المثل - كما تقدم - على أن نور القلب حقيقة، إذ لا يضرب المثل لشيء لا حقيقة له، فقد وردت آية واضحة الدلالة قاطعة في إثبات عمى القلوب حقيقة وهي قول الله تعالى: {أفلَمْ يَسِيرُوا في الأرْض
1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (195) .
فَتكون لهم قُلُوب يعقِلُون بهَا أَوْ آذَان يَسْمَعونَ بها، فإنَّها لا تَعْمى الأبصار ولَكن تَعْمى القلُوب الَّتي في الصّدُور} 1.
فقوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
المراد: إن معظم العمى وأصله هو عمى القلب، ولم يرد سبحانه نفي العمى عن الأبصار، وإنما أراد أن عمى القلوب أولى بهذا الوصف وأحق به لشدة خطره وضرره على صاحبه.2
فعمى القلب أمر حقيقي وجودي يقوم بالقلب ويؤثر فيه تأثيرا معينا يترتب عليه فساده وضلاله، وينعكس ذلك على جوارح الإنسان الأخرى، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"3.
فأكدت هذه الآية أمرين:
الأول: حقيقة عمى القلوب وأنه هو الأصل، وأعظم من عمى الأبصار وأخطر.
1 سورة الحج آية (46) .
2 انظر: شفاء العليل ص (196) بتصرف.
3 تقدم تخريجه ص (191) .
الثاني: إن القلوب التي تعمى هي القلوب المعروفة الكائنة في الصدور.
فالقلوب تحيا وتبصر وتموت وتعمى، ونصيبها من ذلك متأثر بما فيها من الإيمان والعلم قوة وضعفا.
كما أنها قد تكون عوراء وذلك إذا خلط العلم المستمد من الكتاب والسنة بغيره، فيرى من الحق بما معه من نور الكتاب والسنة، ويقع في ضلالات بسبب تلك الظلمة التي نتجت عن العلوم الدخيلة.
ومثله في المصباح: إذا خلط الوقود الجيد بوقود رديء فإنه يضعف نوره، وينبعث منه دخان يلطخ باطن الزجاجة، وكلما زاد الوقود الرديء زاد الدخان حتى يظلمها.
وخلاصة هذه الفائدة:
أن المثل دل على أن النور الذي يجعله الله في قلوب المؤمنين نور حقيقي، ومأخذ ذلك هو تشبيه ذلك النور - الذي يعلم معناه ولا تعقل كيفيته1 - بنور المصباح المحسوس. ولا يجوز تشبيه شيء
1 حقيقة النور الذي هو فعل الله، ووجوده في القلب من جنس وجود الروح في البدن، ووجود العقل، وهذه يقطع بأن لها وجوداً حقيقياً، لكن لا تعرف كيفيتها.
وأثر نور العلم والإيمان على المؤمن له حقيقة أيضا، وهي التي عبر عنها ابن القيم رحمه الله بقوله المتقدم:"والنور في الحقيقة هو كمال العبد في الظاهر والباطن". انظر: ص (369) .
مجازي لا حقيقة له بشيء محسوس، بل إن التشبيه بالمحسوس يؤكد وجوده وحقيقته.
الفائدة الخامسة: مناسبة التعقيب على المثل بقوله تعالى:
اختلف المفسرون وأهل اللغة في قوله تعالى: {فِى بُيُوتٍ.....} اختلافاً واسعاً، ومرد أقوالهم إلى ما يلي:
1-
أنها متعلقه بما قبلها.
2-
أنها متعلقه بما بعدها.
3-
أنها على تقدير محذوف.
4-
أنها مستأنفة لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها2.
أما القول بأنها متعلقة بما بعدها، والقول بأنها مستأنفة، فهي أقوال لا تخلو من بُعْد أو تكلف3. وتلغي تلك العلاقة العظيمة بين ما دل عليه
1 سورة النور آية (36 - 38) .
2 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمداني، (3/600) .
3 انظر: نفس المصدر.
مثل النور وبين أولئك الرجال الذين قلوبهم معلقة بالمساجد.
وأما كونها متعلقة بما قبلها، فسأذكر مما قيل فيه قولين. أما الأول فلشهرته عند المفسرين. والثاني لكونه أقرب إلى الصواب، وبيان علاقة نور العلم والإيمان بأولئك الذين يعمرون بيوت الله.
وعلى القول بتقدير محذوف فسأذكر فيه ما أرى أنه يربط بين ما دلّ عليه مثل النور، وبين الرجال الذين يعبدون الله في بيوته.
فهذه ثلاثة أقوال، وتفصيلها فيما يلي:
(الأول) : أن المراد المصابيح المشبه بها وهي المصابيح المحسوسة التي توقد بالزيت.
ويكون المعنى كما قال ابن جرير رحمه الله:
"يعنى تعالى ذكره بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} : الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، في بيوت أذن الله أن ترفع"1.
والبيوت هي المساجد2.
1 جامع البيان، (9/329) .
2 نفس المصدر.
وعلى هذا القول أكثر المفسرين1.
(الثاني) أن المراد أن المصابيح المشبهة بالمشكاة - مصابيح الإيمان في قلوب عباد الرحمن التي تضاء بالعلم المستقى من الوحي - كائنة في بيوت
…
.
وقد أشار إلى هذا بعض المفسرين حيث قال: "ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد، ذكرها منوهاً بها، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ} "2.
ويكون التقدير على هذا القول: مثل نوره في قلوب المؤمنين، حال كونهم {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ
…
} الآية، كمشكاة فيها مصباح.
وهذا القول ليس ببعيد عن القول الأول. وذلك أن كلا القولين يشتركان في تعلق البيوت بالمصابيح. أي: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
…
في بيوت أذن الله أن ترفع.
1 انظر: جامع البيان (9/329) ، وتفسير القرآن العظيم، (3/292) . وفتح التقدير للشوكاني (4/34) ، والتفسير الكبير للرازي (24/2) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي، (5/422) .
والفرق بينهما أن القائلين بالقول الأول أرادوا المصابيح الحسية الممثّل بها.
وفي القول الثاني المراد: المصابيح الممثّل لها، القائمة في قلوب المؤمنين.
والقول الثاني هو الأنسب للسياق - والله أعلم - وذلك للاعتبارات الآتية:
1-
أن تخصيص المشبه به - وهي المصابيح المحسوسة - بالمساجد لا يفيد شيئاً في إيضاح المثل حيث أن نور المصابيح في المساجد وغيرها واحد.
أما تخصيص المشبه - وهو نور الإيمان والعلم- بكونه في المساجد فإنه يفيد زيادة معنى، وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعة وخاصة الفرائض. فيتجلى النور ويشرق أكثر في بيوت الله عند قيامهم بالطاعات المذكورة.
2-
أن المصابيح المحسوسة ليست مختصة بالمساجد بل توضع فيها وفي غيرها. أما مصابيح الإيمان، فإن من قامت بهم من المؤمنين هم أهل المساجد الذين اختصوا بها وبعمارتها فلا يعمرها غيرهم كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1.
1 سورة التوبة آية (18) .
3-
إنه ذكر صفات الذين يعمرون البيوت - التي أذن الله أن ترفع - وذكر قبول أعمالهم مما يدل على أن المراد ذكر أثر نور العلم والإيمان القائم في قلوبهم في صلاح أعمالهم وقبولها.
ويكون التقدير: مثل نوره في قلوب المؤمنين الكائنين في بيوت
…
كمشكاة.
4-
التعقيب بعد ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُم كَسَرَاب..} 1 الآية، يؤكد المعنى السابق من أن المراد ذكر أثر نور العلم والإيمان على صلاح أعمال المؤمنين وقبولها؛ حيث قابل ذلك بذكر أثر ظلمة الجهل على فساد أعمال الكافرين وحبوطها.
5-
أن هذا المعنى هو الذي يظهر حكمة التعقيب بذكر البيوت وما يحصل فيها وأن ذلك لبيان أثر نور العلم والإيمان على عُمَّارها، والسياق في معرض بيان هذا النور (المشبه) وبركته وأهميته.
أما المصابيح المحسوسة فذكرت مثالاً لإيضاح نور الإيمان والعلم ثم انصرف السياق عنها، واستمر في بيان المقصد الأهم وهو نور الإيمان والعلم وثماره على أهله، فقال {فِي بُيُوتٍ} أي:{مَثَلُ نُورِهِ} في قلوب المؤمنين حال كونهم {فِي بُيُوتٍ} {كَمِشْكَاةٍ} .
1 سورة النور آية (39) .
(الثالث) على القول بوجود محذوف لا بد من تقديرة قبل قوله: {فِي بُيُوتٍ} لإبراز المعنى.
واختلف في تقدير المحذوف1. إلا أن الأقرب - والله أعلم - أن يقدر بأحد أمرين:
الأول: أن يقال: وذلك النور أكمل ما يكون في قلوب أهله عندما يتعبدون لله {فِي بُيُوتٍ
…
} الآية.
فيكون المراد بيان أهم أسباب كمال النور بعد العلم، وهو العمل به، وإقام الصلاة وذكر الله.
الثاني: أن يقال: أن المقدر متعلق بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآء} ، ويكون التقدير: وأولئك الذين هداهم الله لنوره تجدهم {فِي بُيُوتٍ
…
} الآية، لأداء الصلوات وذكر الله تعالى مع القيام بمصالحهم.
من فوائد التعقيب على المثل بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} :
أولاً: دل ذلك على أن نور العلم والإيمان أكمل ما يكون عند أهله حال كونهم يعبدون الله في المساجد.
وذلك عند قيامهم بالأعمال التي تشرع في المساجد من الصلوات
1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمداني، (3/600) .
وأنواع الذكر وطلب العلم.
والصلاة خاصة لها أثر عظيم في قوة نور الإيمان والعلم، وذلك أنها تشتمل على كلا الأمرين المؤثرين في هذا النور، وهما الإيمان والعلم.
فالعلم يتجلى بقراءة القرآن الذي أنزله الله بعلمه، والذي هو النور الذي يمد مصباح الإيمان في القلب.
والصلاة إيمان لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُم} 1 أي صلاتكم، حيث سمى الصلاة إيمانا.2
ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نورا، حيث قال:"الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو. فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"3.
ويتحقق ذلك أيضا - كمال النور - في كل عمل يشتمل على هذين الأمرين أن يكون من شعب الإيمان، ويشتمل على العلم، كحلق
1 سورة البقرة آية (143) .
2 انظر: الجامع الصحيح للإمام البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، (ح40) ، الصحيح مع الفتح (1/95) .
3 رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، (ح 223) ، (1/203) .
الذكر والعلم.
قال صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلُون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه"1.
ويدل على زيادة الإيمان والنور بهذه الأعمال حديث حنظلة2 رضي الله عنه وفيه قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك"؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي
1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء
…
، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، (ح 2699)(4/2074) .
2 أبو ربعي، حنظلة والده الربيع أو ربيعة بن صيفي التميمي، ويقال حنظلة الأسيدي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، شهد مع خالد حروبه في العراق، نزل قرقيزياء، ومات بها في خلافة معاوية (.
انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/431) وأسد الغابة (2/5) .
طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات1.
وهذا الحديث يدل على أن المؤمنين يكونون أكمل حالاً وإيماناً عندما يكونون مع النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم العلم ويذكرهم بالله.
ثمرة العلم بهذا الأمر:
أن يدرك المسلمون وخاصة من يتصدى للدعوة والتربية والتعليم أن كمال المسلمين وصلاحهم إنما يكون بالعلم الشرعي من الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة، وإقامة الدين وشعب الإيمان، ويركزون جهودهم على ذلك، ويجعلونه الخطوة المقدمة في عملهم، وبذلك تصلح حال المسلمين ويقوى نورهم وبصيرتهم، ويلهمون الرشد والسداد في أعمالهم ويستحقون ولاية الله عز وجل.
ثانيا: ومما يستفاد من التعقيب بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} هي:
اهتداء المؤمنين بهذا النور، وأنه كشف لهم مواطن الخير وأسباب السلامة، والربح الحقيقي والأعمال النافعة.
دل على ذلك قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ
1 رواه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر
…
، (ح 2750)(4/2106) .
فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} فهؤلاء الرجال الذين - أثنى الله عليهم - لقوة بصائرهم لا ينشغلون بالبيع والتجارة- مع أهميتها لحياتهم وحبهم لها - عن مهمات دينهم وفرائض ربهم.
رأى عبد الله بن مسعود1 رضي الله عنه قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، وتركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله:"هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} "2.
فمن آثار نور العلم والإيمان القائم في قلوب المؤمنين أنه يكشف لهم محاسن الأعمال والأقوال والأخلاق ومساوئها، وفاضلها ومفضولها، وما هو من متطلبات الإيمان مما هو من حاجات الأبدان، كما يكشف لهم محاب الله ومكارهه، وما هو من أسباب رضوانه أو سخطه.
ويكشف لهم ما يستقبلونه مما يكون عند الموت، وفي البرزخ، ويوم القيامة.
1 أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي من السابقين إلى الإسلام، أسلم بمكة وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وغيرها. أحد فقهاء الصحابة وقرائهم المشهورين توفي بالمدينة سنة 32هـ.
انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/110) ، وأسد الغابة (3/384) .
2 جامع البيان لابن جرير (9/332) .
فأكسبهم ذلك رشداً وسداداً يحكم سيرهم في الحياة وبين الناس، حيث يقدمون الباقي على الفاني، ولا تشغلهم أمور دنياهم وحاجاتهم عن طاعة ربهم وما ينفعهم في أخراهم، وضمَّنوا سعيهم في الدنيا أعمالا يتقون بها ما يستقبلونه في الأخرى، فحالهم كما قال سبحانه:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يقول: فهديناه للإسلام، فأنعشناه، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده، فجعل إبصاره الحق- تعالى ذكره - بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس"2.
ومن هذا المعنى قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
1 سورة الأنعام آية (122) .
2 جامع البيان (5/331) .
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 1.
فبين - سبحانه - أن أهل العلم الذين أنار العلم دربهم، وأعملوا عقولهم في مقتضياته تميزوا عن أهل الجهل الذين يتخبطون في الظلمات، إذ إنّ من ثمرات نور العلم على أهله سلامة نظرهم وتفكيرهم الذي أفادهم المسارعة في الخيرات، والباقيات الصالحات، والحذر من الأخطار والموبقات، فما هم بمتساوين مع أهل الجهل والظلمات: لا في القلوب وأعمالها، ولا في الفكرة وأحوالها، ولا في الأخلاق والأقوال، ولا في السلوك والأعمال، ولا في المنزلة عند الله، ولا في المصير يوم القيامة، فهم مفترقون في كل شيء:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وقال - سبحانه -: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} 2.
ثالثاً: دل التعقيب على مثل النور بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} الآية، على أن المحافظة على الصلاة مع الجماعة دليل على قوة الإيمان وصلاح القلب، وقوة نور العبد وبصيرته.
1 سورة الزمر آية (9) .
2 سورة الجاثية آية (21) .
وإذا تهاون بصلاة الجماعة كان ذلك دليلاً على ضعف في إيمانه وفي نور قلبه، وإذا وصل التهاون إلى الصلاة نفسها دل على اختلال الإيمان وظلمة القلب، حتى يصل إلى الكفر وموت القلب وعماه إذا تركها.
وكذلك الحال في أداء الزكاة وملازمة ذكر الله، وغيرها من شعب الإيمان، فإن العناية بها دليل قوة الإيمان والبصيرة؛ والغفلة عنها والتهاون بها دليل ضعف الإيمان ونور القلب.
وخلاصة هذه الفائدة:
إن التعقيب على "مثل النور" بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِن اللهُ أَنْ تُرْفَعَ..} الآية، له دلالة عظيمة في بيان أن النور أكمل ما يكون في قلوب أهله في المساجد حال كونهم يصلون أو يذكرون الله أو يطلبون العلم.
وأن هذا النور أكسبهم البصيرة التي جعلتهم يميزون بين أجاود الأعمال وأحسنها عاقبة، فيسارعون إليها ولا يتشاغلون عنها بما دونها.
كما كشف لهم ذلك النور عما يكون في اليوم الآخر من الأهوال، فأكسبهم اليقين به، والحذر والخوف منه، والتزود له.
وأثر ذلك كله في قلوبهم وأعمالهم وفوزهم وحظوتهم عند ربهم.
وإنّ تدبر المثل ومعرفة هذه الفائدة وغيرها من أقوى الدوافع للعناية بالعلم المستمد من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح والعمل به،
ونشره، والتواصي على تقوية الإيمان بتعلم التوحيد وأركان الإيمان، وإقامة شعب الإيمان عامة، والصلاة والزكاة وذكر الله خاصة، وإعطاء ذلك الأولوية في منهاج الدعوة إلى الله، والتربية والتعليم والإعلام، وجميع نواحي العمل لإعلاء كلمة الله.
كما يستفاد من التعقيب أن المحافظة على الصلاة مع الجماعة دليل على صلاح القلب، وقوة نوره، وزيادة الإيمان، وأن التخلف عن الجماعة دليل على ضعف الإيمان والبصيرة والنور. والله أعلم.
الفائدة السادسة: دلالة المثل على إعداد الله الإنسان بالفطرة السليمة واستدعائها لنُور الإيمان.
تقدم1 عند الكلام على مطابقة المثل للمثّل له، أن هناك تشابها بين الفطرة والفتيلة، من حيث إن كلاً منهما في أصل خلقه وصنعه مهيأ لاستدعاء وتشرب ما يناسبه، فالفتيلة تتشرب الوقود المناسب وتمتصه، وتتبلل به وتصبح مهيأة به للاشتغال إذا أوقدت.
وكذلك الفطرة على الدين الحنيف - التي فطر الله قلوب العباد عليها - مهيأة لاستدعاء ما يناسب ما فُطرت عليه من التوحيد والدين والحق؛ فإذا تشربت ما يرد إليها من ذلك من العلم بالكتاب والسنة، فإنها تكون مهيأة لإيقاد مصباح القلب، وقذف نُور الإيمان به.
المراد بالفطرة:
يطلق لفظ الفطرة ويراد به معان مختلفة، وهذه المعاني ترجع إلى معنيين:
(الأول) : هو إعطاء المخلوق في أصل خلقه ما يستدعي فعل أو قبول شيء أو تركه.
وهذا النوع هو الذي عبر عنه الراغب في المفردات بقوله: "وفطر الله الخلق: وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من
1 انظر: ص (323) .
الأفعال"1.
وهذا المعنى - وهو كون النفوس مترشحة أو مترجحة لفعل من الأفعال أو لتركه - يزيد على كونها قابلة له أو لضده، فهي تتضمن هذا المعنى وزيادة ترجيح قبول ما فطرت على قبوله، أو ترك ما فطرت على تركه.
(الثاني) : هو ما ركز في النفوس في أصل خلقها من الوظائف والقوى النفسية، والحاجات الضرورية ونحوها.
والفرق بين النوعين: أن الأول هو إعطاء المخلوق الداعي لأمر من الأمور أو الداعي لتركه، والثاني هو إعطاؤه الأمر نفسه ليكون جزءاً من خلقه.
ومثال النوع الأول: ما ركز في النفوس ذات الفطر السليمة من حب النظافة والتجمل وكره الأوساخ والشعث، وهذا يستدعي السواك، وقص الأظافر
…
ونحوها.
ومثال النوع الثاني: الإحساس بالجوع، والحاجة إلى الطعام، والتألم لفقده، والانفعال لطلبه، وصراخ الطفل إذا جاع، أمور فطرية ركزت فيه في أصل الخلقة، لا يكتسبها بتعلم ولا بمحاكاة ولا بتفكير.
وعلى هذا فكل ما ذكر في النصوص الشرعية من أمور نسبت
1 المفردات في غريب القرآن، ص (382) .
للفطرة فهي لا تخرج عن هذين المعنيين:
فإما أن يكون في النفس الداعي لفعله أو تركه، أو يكون ذلك الأمر مغروساً في النفس من أصل الخلقة.
والله - سبحانه - خلق النفوس البشرية وفطرها على أمور:
منها ما فطروا عليه وله علاقة بشؤونهم الدنيوية المعيشية.
ومنها ما له علاقة بهدايتهم إلى الدين القويم.
ومنها أمور ركز في النفوس الداعي إليها فهي فطرية شرعية عقلية.
فهذه ثلاثة أنواع تنسب إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
فالأمور الدنيوية المركوزة في الفطر، مثل: حب التملك، والميل إلى النافع، والفرار من الضار، والشعور بالجوع،
…
ونحوها، وهي ما يسميه علماء النفس بالغرائز الفطرية، ويستوي فيها سائر البشر، وقد يشترك في بعضها مع الحيوان، وتدخل في عموم قوله تعالى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1.
وأما الأمور التي أُعطيَ الناس الداعي إليها: فمنها ما ذكر في الحديث2 من قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة
1 سورة طه آية (50) .
2 انظر: صحيح الإمام مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة من (ح 257 إلى 261) .
والاستنشاق، وقص الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان
…
ونحوها.
فهذه الأمور تستحسنها النفوس ذوات الفطر السليمة، وتميل إليها وتنفر من ضدها، وهذا معنى كونها من الفطرة، إذ النفوس مجبولة على حب النافع الجميل، وترك الضار القبيح.
وأما كونها عقلية فإن العقل يدرك حسنها وأهميتها لصحة الإنسان وجماله.
وأما كونها شرعية فلأن الشارع جعل فعلها عبادة.
والنوع الثالث مما فطر عليه الناس هو ما له علاقة بالهداية إلى الإيمان، وقد بينها الله بقوله سبحانه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تبديلَ لخلقِ اللهِ} 1.
حيث دلت هذه الآية على ثلاثة أمور هامة لها علاقة بالفطرة:
(الأمر الأول) : أن الله فطر الناس على الدين الحنيف.
وهذا مستفاد من قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه} .
وتدور تفاسير السلف للفطرة التي فطر الله الناس عليها في هذه الآية على معنيين:
1 سورة الروم آية (30) .
(الأول) أن الفطرة هي الإسلام.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "والفطرة: الإسلام"1.
وقال به عكرمة2 ومجاهد3 - رحمهما الله - وغيرهما.4
ويستند من قال بذلك إلى ورود لفظ "الدين" في الآية في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، والدين هو الإسلام، كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} 5.
1 الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، الصحيح مع الفتح (8/512) .
2 العلامة الحافظ المفسر، أبو عبد الله عكرمة القرشي مولاهم، المدني، بربري الأصل، مولى عبد الله بن عباس، ورث عنه علما غزيرا في التفسير وغيره. توفي سنة 105 هـ وهو ابن ثمانين سنة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/12) ، تهذيب التهذيب (7/263) .
3 الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، شيخ القراء والمفسرين، مولى لرجل من بني مخزوم، روى عن ابن عباس فأكثر وأطال، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وروى عن جمع من الصحابة. قيل كانت سنة وفاته 104 هـ وقيل غير ذلك، وكان عمره 83 سنة.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/449) ، وتهذيب التهذيب (10/42) .
4 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (10/183) .
5 سورة آل عمران آية (19) .
ومن ذلك ورود الفطرة في مقابلة اليهودية والنصرانية والمجوسية مما يدل على أن المراد بها الإسلام، في حديث:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول: "{فطرَة اللهِ الَّتِي فَطرَ الناسَ عَليها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ} ". 1
(والمعنى الثاني) في المراد بالفطرة في الآية أنها:"معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره"2.
ومستند هذا المعنى هو ذكر لفظ {حَنِيفاً} في الآية، والحنيف هو الذي استقام على التوحيد والإخلاص، وجانَب الشرك، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
ومما يستدل به على هذا المعنى ما ورد في الحديث القدسي وفيه:
1 متفق عليه، البخاري، كتاب الجنائز، باب:" إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه"، (ح 1358) الصحيح مع الفتح (3/218) . ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح 2658) الصحيح ت /محمد عبد الباقي (4/2047) .
2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/432) .
3 سورة النحل آية (123) .
"وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"1.
وأورد ابن جرير رحمه الله ما يؤيد هذا المعنى من قول معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه "ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص، وهو الفطرة {فطرَة اللهِ الَّتِي فَطرَ الناسَ عَلَيْهَا} والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، قال عمر: صدقت"2.
والفرق بين المعنيين: أن المعنى الثاني وهو معرفة الله وتوحيده أخص من الإسلام، فهو أصله وأساسه، والكلام في الفطرة التي فُطر الناس عليها من حيث: هل فطروا على معرفة الله وتوحيده؟ أم على الإسلام كله؟ أم عليهما معا ولكن كل منهما باعتبار؟
والاختيار الأخير هو المتعين، ويكون كلا المعنيين صحيحاً، وذلك أنه تقدم أن الفطرة لها معنيان:
(أحدهما) : ما ركز في النفوس وأعطيت إياه في أصل الخلق.
1 رواه مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، (ح 2865)(4/2197) .
2 جامع البيان، لابن جرير، (10/182) .
(والثاني) : ما ركز فيها من الداعي إلى الشيء أو إلى تركه.
فالقول بأن الفطرة هي معرفة الله وتوحيده يراد به المعنى الأول، وأنه رُكز في النفوس ذلك وفُطرت عليه.
والقول بأن الفطرة هي الإسلام يراد به المعنى الثاني بالنظر إلى ما أوجد الله في النفوس وفطرها عليه من الاستعداد والترجح لقبول الحق ومعرفته إذا عرض عليها، وأنها خلقت سوية تتعرف على الخير وتنشرح له وتقبله، وتنفر من الشر وتشمئز منه، وتستدعي ما يناسب ما أودع فيها من معرفة الله وتوحيده ومحبته - الذي هو أصل الإسلام- فهي بذلك مهيأة لقبول الإسلام إذا عرض عليها بواسطة الرسل أو أتباعهم والذي يوافق ما جبلوا عليه.
فالذي قال: الفطرة هي معرفة الله وتوحيده ومحبته، نظر إلى ما ركز في النفوس وجبلت عليه.
والذي قال: هي الإسلام أراد أنهم قد جبلوا على أصل الإسلام وهو التوحيد ومعرفة الله ومحبته، وأن ذلك يستدعي ويستلزم تمامه وقبول سائر شعائره.
وعلى هذا فأصل الإسلام الذي هو معرفة الله وتوحيده ومحبته والخضوع له من موجب الفطرة، لا يتوقف أصله على غيرها. أما الإسلام الذي هو كمال الاستقامة على التوحيد والعبادة فهو يتوقف على غيرها - مما جاء به الرسل - وهي تستدعيه، ويجب حصوله فيها إذا عرض
عليها ولم يوجد ما يعارضه ويقتضي حصول ضده.
قال ابن القيم رحمه الله: "فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجب فطرهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده
…
وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة، وإن توقف كماله وتفصيله على غيرها. وبالله التوفيق"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا الأمور التي ركزت في النفوس وجبلت عليها في تعقيبه على حديث "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم": "فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده، فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول "لا إله إلا الله ""2.
وهذه الأمور التي تضمنتها الفطرة هي أصل التوحيد الذي هو أصل الإسلام، فالفطرة تتضمن أصل التوحيد وتستلزم مقتضاه وهو الدين
1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (604) ، دار التراث، القاهرة، الطبعة الأولى.
2 مجموع الفتاوى (16/345) .
وأعمال الإسلام.
قال ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى: "
…
فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به.
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وهو فطرة الله التي أمر الله بها
…
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضاياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية"1.
وقال أيضاً: "وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول:{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} 2، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له.
وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض.
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل
1 درء تعارض العقل والنقل، ت: د. محمد رشاد سالم، (8/451) .
2 سورة النحل آية (78) .
مولود يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه"1.
ثم قال: "والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة
…
والطفل مفطور على أنه يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف ربه، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض.
....فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله. والذل له، وإخلاص الدين له، وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه"2.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - بعثوا ليذكروا الناس بما فطروا عليه من معرفة الله وتوحيده، ويدعوهم إلى موجبه ومقتضاهُ من الإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله: "والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين
1 درء تعارض العقل والنقل، (8/383، 384) .
2 نفس المرجع ص (448، 449)
هما أصل السعادة:
أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها
…
فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئاً، ولم تشرك به، ولم تجحد كمال ربوبيته، وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء عندها....
والأمر الثاني: أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها، وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه"1.
وما رسخ في الفطرة هو الأساس الذي يستند إليه كل نظر صحيح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "البرهان الذي يُنال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية، فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضاً نظرية لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله، للزم أن لا يحصل في قلبه علم
1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (353) .
ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدئها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها"1.
والمتأمل لهذا الكلام من شيخ الإسلام رحمه الله يجد أنه دقيق المعنى عظيم الفائدة، إذ بين أن الفطرة أصل لكل نتيجة من الحق يتوصل إليها بنظر العقول.
وعلى هذا تكون الفطرة مشابهة للبذرة الصغيرة، التي تحمل في طياتها كل عوامل الوراثة للنبات من شكل الجذع والأغصان والأزهار ولونها، وشكل الثمرة ولونها وطعمها وما إلى ذلك.
وكل ما يحدث في الشجرة من خلقها فأصله كائن في بذرتها.
فتبارك الله أحسن الخالقين الذي جعل في نفوس الناس بذور الخير والحق والصلاح الذي يتضمن أو يستلزم ما تكتمل به سعادتهم في الدين والدنيا، إذا سُقي بمعين الوحي الصافي، واستخرج بالنظر الصحيح، كما جعل في بذور النبات أسرار خلقها ومقومات اكتمالها وثمرها إذا سقيت بالماء الصالح وهيئت لها الظروف المناسبة.
ومما تقدم يتبين أن الله أعان عباده بثلاثة أمور هامة تسهم إذا استجابوا لموجبها في هدايتهم:
1 درء تعارض العقل والنقل، (3/309) .
(الأول) : إعدادهم بالفطرة المتضمنة لأصل الهداية، والمستلزمة لتفاصيلها.
(الثاني) : إمدادهم بالرسل والكتب المنزلة التي تذكرهم بالفطرة وتدعوهم إلى مقتضاها، وتبين لهم مراد الله عز وجل.
(الثالث) : إمدادهم بالعقل الذي يتفكرون به، والذي يستند في نظره إلى ما أودع في الفطرة من المعطيات الضرورية، وفيما أظهر الله من الآيات الكونية، ويتدبرون به ما أنزل من البينات والهدى.
فالفطرة السليمة، والنظر الصحيح، يقبلان ما جاء به الأنبياء ويشهدان له، ويسكنان إليه ويطمئنان به، فهذه الثلاثة متكاملة في قبول الحق والترقي فيه. والله أعلم.
الأمر الثاني: الذي دلت عليه الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو أن خلق الناس على الفطرة عام لجميعهم، وذلك سنة جارية لا تتخلف عن أحد من المكلفين.
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل إنسان تلده أمه على الفطرة"1.
1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح 2658) ، (4/2048) .
وما ورد في الحديث من قول الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم"1.
فلفظ " كل " و " كلهم " يدلان على العموم.
ويؤكد هذا المعنى ما ورد في السياق من قول الله عز وجل: {لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ} .
على أحد القولين في تفسيرها. ففي هذه الجملة تفسيران مشهوران:
الأول: قيل معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فيكون الأسلوب خبرا أريد به الطلب والنهي كقوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَه كَان آمِنا} 2.
الثاني: قيل إن معناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك ولا تفاوت بين الناس في ذلك.3
"أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه"4.
1 تقدم الحديث ص (396) .
2 سورة آل عمران آية (97) .
3 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/432) بتصرف.
4 فتح القدير، للشوكاني، (4/224) .
ومن شواهد هذا المعنى أيضا قول الله عز وجل:
{وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا} 1 قال ابن كثير رحمه الله: "أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
…
} "2.
وهذه الفائدة هي الركيزة الأولى والأساس المهم في أمرين عظيمين:
(الأول) : حصول الإيمان في القلب مستلزم للفطرة السليمة والاستجابة لداعيها، فالقلب ذو الفطرة السليمة هو المؤهل لاتقاد نُور الإيمان فيه، كما أن المصباح لا يتقد بدون فتيلة صالحة، فالله سبحانه جعل فرصة جميع المكلفين إزاء الإيمان به متكافئة باعتبار أصل الخلق حيث سوى بينهم في الخلق على الفطرة.
(الثاني) أن الإيمان بالقدر وفهمه فهما صحيحا يستلزم معرفة أن كل الناس ولدوا على فطرة سليمة قويمة مرجحة للإيمان داعية إليه، وذلك من عون الله لهم على الإيمان، ومن مقتضى عدله وفضله.
فعدله سبحانه: في التسوية بينهم في الخلق على الفطرة، وفضله: في جعل الفطرة متضمنة لمعرفة الباري، وداعية إلى الإيمان مترجحة له.
1 سورة الشمس آية (7) .
2 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (4/515) .
الأمر الثالث: الذي دلت عليه الآية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا..} هو بيان أن الفطرة قابلة للتغيير والحرف عن الأصل الذي خلقوا عليه بأسباب تكون من الناس.
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ} على القول بأن المراد بها هو: لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، والنهي يدل على الإمكان.
وقد ورد تأكيد هذا المعنى في نصوص أخر.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"1.
فدل على أن للتربية التي تكون غالبا بين الأبوين أثراً في تغيير حال الولد عن الفطرة التي فطر عليها.
ودل الحديث من جهة أخرى على هذا المعنى - وهو قابلية الفطرة للتغيير بفعل الناس - في المثل المضروب لبيان ذلك في قوله: "كما تُنْتج البهيمة بهيمة جمعاء2، هل تحسون منها من جدعاء3"، وفي بعض
1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح2658) ، (4/2048) .
2 "أي: مجتمعة الأعضاء، سليمة من نقص". شرح النووي على صحيح مسلم، (16/209) .
3 "هي: مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء". نفس المرجع.
رواياته: "حتى تكونوا أنتم تجدعونها"1.
قَال ابن تيمية رحمه الله: "المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تَبدل، فلا يخلقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط، والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغير، ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع، ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة"2.
ومن ذلك ما تقدم في الحديث من قول الله تعالى: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً".
فدل الحديث على أثر جهود الشياطين من الجن والإنس في تغيير وحرف ما فطر الناس عليه وصرفهم عن التوحيد إلى ضده من الشرك، وتأمرهم بتغيير الدين بتحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله، وتزين لهم الشر والفساد.
فالشياطين من الإنس والجن أثرهم مضاد لأثر دعوة الأنبياء الذين
1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (ح2658) ، (4/2047) .
2 درء تعارض العقل والنقل، (8/425) .
يدعون الناس إلى مقتضى ما فطرهم الله عليه، ويدعونهم إلى دين الله والخير والفضيلة.
العبرة من معرفة هذه الفائدة:
إذا أدرك المسلم ما دل عليه المثل من أن الإيمان نُور يؤسس على الفطرة السليمة، وما دلت عليه هذه الآية العظيمة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، من أن الله فطر الناس جميعا على معرفته سبحانه وما تستلزمه من الإسلام والخير والفضيلة، وأن الفطرة قابلة للتغيير بفعل أسباب تكون من الناس، وأدرك أهمية التربية في تنمية الفطرة وخطر شياطين الإنس في تدسيتها وحرفها إلى الضلال والشرك. فإن العبرة من ذلك كله تكون بأن يعمل المسلمون أفرادا وجماعات وفي كل المجالات المختصة بالتعليم والتربية والتوجيه في المحافظة على الفطرة القويمة التي حباهم الله بها، وخاصة لدى الناشئة، ويكون ذلك بخطوتين هامتين:
الخطوة الأولى: التزكية
قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} 1.
1 سورة الشمس آية (7 - 10) .
فأخبر سبحانه أنه خلق النفوس سوية على الفطرة كما تقدم1 هذا المعنى في كلام ابن كثير رحمه الله. وأخبر أن الفلاح يكون بتزكيتها.
وتكون تزكية الفطرة بالتركيز على العلم المستمد من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح ليكون المصدر الأساس للتربية والتعليم، فتستمد جميع العلوم والمعارف المتعلقة بالدين من العقائد والشرائع والمناهج والآداب والأخلاق والمعاملات مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة.
وذلك مستفاد من تشبيه العلم بالزيت الذي يمد المصباح بالزيت الذي هو وقوده ومادة حياته، وكذلك العلم يمد الفطرة وما قام بها من نُور الإيمان بالعلم الذي هو أصل حياة القلب وصلاحه، والإخلال بهذا الأمر يؤدي إلى حرف الفطرة.
ويكون الإخلال إما بإهمال العلم فينشأ الناشِئُ جاهلا، فتبقى فطرته معطلة لا تترقى في معارج الخير، ويكون إمعة متأثراً بما حوله بلا بصيرة، أو يكون الإخلال بتعلمه من غير الكتاب والسنة فيتغذى قلبه من مستنقعات الأمم الجاهلية فتتغير فطرته.
ومما يتصل بالتزكية العناية بالتعليم العام ووسائل الإعلام وجعل مادتها موافقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بإيجاد توافق وانسجام في مواد
1 ص (405) .
التربية والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمسجد والإعلام، بقصد النهوض بالفطرة إلى كمالها الموافق لهدي الدين القويم، والمحافظة عليها وتجنبها البلبلة والحيرة والشتات.
الخطوة الثانية: التطهير
وتكون بالابتعاد عن وساوس الشياطين الذين يجتهدون في صد المسلمين عن موجب فطرهم من الدين والخير والفضيلة.
أما شياطين الجن فإن العناية بالعلم والتربية عليه وعلى التعلق بالله كفيلة في إحباط مكرهم حيث إن جهدهم منصب على الوسوسة التي تفتك بالجهال وبمن أعرض عن الله فقلَّت حماية الله له.
أما شياطين الإنس فيكون الابتعاد عنهم بقطع قنوات الاتصال بهم، كالاختلاط بهم، أو السفر إلى بلادهم ومعاشرتهم.
ومن ذلك منع المسلم من الاستماع أو المشاهدة لما ينقل من رجسهم في وسائل الإعلام من تمثيليات أو أفلام أو غناء أو مجون وغير ذلك من آدابهم وفسقهم وباطلهم. فإن للعكوف على هذه المواد أثراً بالغاً في حرف الفطر وتشويهها، وخاصة ما يبث للأطفال مما يسمى بأفلام الكرتون فإن لها أثرا في تشويه ما فطروا عليه، والإيحاء إليهم بخيالات عن الذات الإلهية وغيرها من المطالب الغيبية تجعلهم يعتقدون الشرك أو التشبيه أو غير ذلك من الباطل.
كما يحذر من المربيات الكافرات والمشركات والفاسقات، لما لهن
من التأثير على الأطفال بما يقصصن عليهم من القصص الباطلة الخرافية، وبما يشاهدونه من سلوكهن.
وعموما فإنه كلما كان الإنسان أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسير الأنبياء والعلماء والصالحين كان أزكى لفطرته، وانفتح لها المجال للترقي في الهداية والصلاح، وفي المقابل فإن القرب من الجاهليين من الكفرة والمشركين والفاسقين، واستماع أخبارهم وقصصهم وسيرهم وآدابهم ومعاشرتهم له أثر فعال في تغيير الفطرة أو تشويهها، وإضعاف الإيمان.
وخلاصة الفائدة السادسة:
أنّ المثل دل على اعتبار الفطرة السليمة في قبول الحق والتجاوب معه، وأن ذلك شرط في حصول نُور الإيمان في القلب وانتفاعه بالعلم الواصل إليه والمستمد من الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتبين من أدلة الكتاب والسنة أن الله فطر كل الناس على معرفته وتوحيده ومحبته، وجبل نفوسهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلك من الدين والإسلام والخير.
كما تبين أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الأصل في ثلاثة أمور هامة:
(الأول) : حصول الإيمان في القلب مستلزم للفطرة السليمة والإنابة لداعيها.
(الثاني) : أن الإيمان بالقدر وفهمه فهما صحيحا يستلزم الإيمان بأن الناس ولدوا جميعا على فطرة سوية قويمة مرجحة للإيمان داعية إليه.
(الثالث) أن العلم الحق الذي ينال بالنظر العقلي لابد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية.
كما تبين أهمية العناية بالفطرة والمحافظة عليها بتزكيتها بالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وتطهيرها من مكايد شياطين الإنس والجن الذين يجتهدون في إفسادها. والله أعلم.
الفائدة السابعة: أثر نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وعلى وظيفة التعقل.
تقدم1 عند الكلام على تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به، تقرير أن الزجاجة تقابل ما يقوم بالقلب من أعماله. بمعنى أن نُور الله في قلب المؤمن سرى وسطع على كل أعماله القلبية: من العقائد، والعواطف والإرادات، والانفعالات، وخاصة وظيفة التعقل، فاكتسب القلب لذلك البصيرة في تعقله وأعماله.
فالقلب محل لأهم وظيفة أكرم الله بها الإنسان وهي التفكر والتعقل الذي هو طريق العلم والهداية بإذن الله.
"ونُور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثرا عظيما على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية، ويزداد ذلك بازدياد العلم الوارد إلى القلب، فلا يزال الخير إليه واصل، والشر منه نازل حتى يصلح القلب ويستنير،
1 انظر: ص (321) .
فتنبعث الجوارح بالعبودية لله عن علم به وبحقه سبحانه"1.
فالله - سبحانه - أعطى الإنسان من الفطرة القويمة، والقدرة على التعقل ما يكفي لإدراك الحق ومصدره إذا عرض عليه عن طريق الأنبياء ومن يبلغ عنهم، فإذا ركن إلى ذلك كان منيباً يستحق هداية الله، كما قَال تعالى:{وَيَهْدِي إليْهِ مَنْ أَنَابَ} 2.
ويشرح صدره للإسلام، ويجعل في قلبه نُور الإيمان، وبذلك تبدأ الحياة في القلب والصلاح، وتزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر، ويصبح القلب قادرا على التعقل السوي الصحيح بقدر ما عنده من الإيمان والعلم.
وهذا المعنى المستفاد من المثل وهو: أن المؤمنين - الذين أنار الله قلوبهم بنُور الإيمان القائم على العلم بما نزل من الكتاب والسنة- هم أقدر الناس وأحقهم بالتعقل الصحيح وأن ذلك من ثمرات ذلك النُور القائم في قلوبهم، هذا المعنى ورد في كثير من الآيات نحو قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا
1 البحث الذي قدمته لرسالة الماجستير ص 223 بعنوان [أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة] قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية عام 1412 هـ.
2 سورة الرعد آية (27) .
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
…
} 1 الآيات.
وقد اشتركت هاتان الآيتان في بيان أمور هامة منها:
1-
المقايسة بين الذين يعلمون ما أنزل الله من الوحي على نبيه صلى الله عليه وسلم وبين الجهال، وبيان عدم استوائهم.
2-
بيان أثر العلم على أعمال العالمين، واشتغالهم بالأعمال والصفات التي علموا فضلها وحسن عاقبتها.
3-
الإشارة إلى أن هؤلاء - أهل العلم والإيمان - هم أهل العقول الراجحة والنظر السديد والرأي الحصيف.
4-
بيان أن السبب المؤثر في كل ما تقدم: من عدم استوائهم مع الجهال، ومسارعتهم في الخيرات، وتميزهم بالعقول الراجحة، إنما هو علمهم بما نزل من الوحي.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوآ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ
1 سورة الرعد آية (19- 22) .
2 سورة الزمر آية (9) .
الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 1.
وقد دل هذان السياقان على أمور هامة منها:
1-
الشهادة لأهل الإيمان - لا لغيرهم - الذين كفروا بالطاغوت، وأنابوا إلى الله بتوحيده، وإخلاص الدين له بأنهم أولو الألباب، ورد ذلك في الآية الأولى في قوله:{أولئكَ الَّذِين هَدَى الله وأولئِكَ هُم أولُوا الألبَاب} .
وفي الآية الثانية بقوله: {يَآ أُولي الألبَابَ الَّذِينَ آمَنُوا} .
2-
أن العقل قادر - عندما يعمل في تدبر آيات الله وما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي هو أحسن القول والحديث - على المقايسة
1 سورة الزمر الآيتان (17، 18) .
2 سورة الطلاق الآيتان (10، 11) .
والتمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح، وأن هذه الخاصية تميز بها أهل الإيمان والعلم وبها اكتسبوا الوصف بأنهم أولو الألباب.
ورد هذا المعنى في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي أنهم يعملون عقولهم في تدبر القول الحسن وهو الوحي المطهر فيتبيّن لهم الحسن من القبيح والحق من الباطل فيتبعون الحسن.
وفي قوله في الآيات الأخرى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
وذلك أن خروجهم من الظلمات إلى النُور يكون بعد إعمالهم عقولهم في الآيات المبينات، فيتبين لهم النور من الظلمة فيسيرون في النور ويبتعدون عن الظلمات.
فقدرة العقل على التمييز بين الحق والباطل في المطالب الدينية لا تكون بنظره المجرد، وإنما هي خاصية القلب المنور بنُور العلم والإيمان.
وبذلك يتبين أثر نُور العلم والإيمان في زكاة القلب وسلامة تعقله وصحة استنتاجه.
3-
أن ثمرة تلك العقول الراجحة الناظرة في العلوم النازلة، أنها دلت أهلها على الأعمال الصالحة، والأقوال الخيرة، والأحوال المباركة، فسارعوا إليها فاستحقوا بذلك هداية الله ورضوانه وكرامته في الدنيا
والآخرة، دل على ذلك قوله:{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} وقوله: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..} الآية.
وخلاصة هذه الفائدة:
أن المثل دل على أثر نُور العلم والإيمان على العقل حيث أكسبه سلامة التعقل، وسداد النظر، وصحة الاستنتاج.
وأن الطريق إلى الحق في كل المطالب الدينية إنما يكون بإعمال العقل المستنير في الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأن العقل المجرد عن العلم لا سبيل له إلى تلك الحقائق.
كما دل المثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب ووظائفه الأخرى: من العقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات فأخصبها بالخير والسلامة والصلاح.
الفائدة الثامنة: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في تعيين طريق تحصيل العلوم في المطالب الدينية.
تقدم1 عند الكلام على أهمية ضرب الأمثال: أن الأمثال "موازين عقلية ضمنها الله كتابه، توزن بها القضايا التي قد يستشكلها بعض الناس، أو الحادثة التي يحصل الخلاف والنزاع والجدال حولها، فتأتي الأمثال القائمة على مقايسة تلك الأمور على ما يشابهها لإيضاح حكمها وإلحاقها بها، أو مقايستها على ما يخالفها لبيان بعدها عنها وإزالة الشُّبه التي أوهمت قربها منها".
وقد دل المثل عن طريق تشبيه العلم بالزيت على أن العلم المستقى من الكتاب والسنة هو الطريق الأوحد لمعرفة القلب لحقائق الإيمان وأن بيان جميع عقائد الدين وشعائره وكل ما يتصل به ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} دل على أن نُور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان ويزيده ويقويه.
وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} دليل على أن النوريْن من الله، نُور الإيمان الذي يقذف في القلب، ونُور العلم الذي
1 انظر: ص (150) .
طريقه الوحي، فمن هُدي إلى الأول، واهتدى بالثاني فقد أعطاه الله نُوراً تاماً، ومن أخطأه نُور الله فليس له من نُور بل هو في طريق من طرق الضلال سائر في الظلمات.
وهذا المعنى الذي دل عليه المثل - وهو أن العلم المستقى من الوحي هو طريق الهداية ومعرفة الحقائق الدينية الشرعية - أمر معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه أحد من الأئمة المعروفين الذين يُقتدى بقولهم السائرين على نهج السلف الصالح قديماً وحديثاً.
فالإيمان إنما يكون بتعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم به والاعتصام بالكتاب والسنة والاستمساك بهما ويطلب الحق في جميع المطالب الشرعية منهما، وهذا هو نهج السلف الصالح وهو مفتاح الخير وأساس الهداية.
لذلك كان الأصل الأول في منهج أهل السنة والجماعة السائرين على نهج السلف الصالح هو:
أنهم يتلقون علومهم ومعارفهم في جميع المطالب الدينية في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب والمعاملات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح وهدي الخلفاء الراشدين.
وهذا المعنى تظافرت على تقريره نصوص الكتاب والسنة، من ذلك قول الله عز وجل:{إن هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَم} 1.
1 سورة الإسراء آية (9) .
1 سورة المائدة آية (16) .
2 سورة الشورى آية (52) .
3 سورة النحل آية (89) .
4 سورة النحل آية (64) .
والآيات الدالة على أن الهدى والنور والبيان إنما هو بكتاب الله عز وجل وتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى.
وقد جاءت بمختلف تصاريف القول لتأكيد هذا المعنى وترسيخه لكونه مفتاح العلم والإيمان وأساس الهداية.
وأما الأحاديث فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"1.
ويشهد له الحديث الآخر، وفيه قال:"وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"2.
وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما: كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"3.
وقَال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها
1 رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، (ح 1218) ، (2/890) .
2 رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ح240) ، (4/1873) .
3 رواه مسلم نفس المرجع ص (1874) .
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1.
فحث صلى الله عليه وسلم على تعلم كتاب الله والعمل به، ثم حث على سنته وسنة الخلفاء الراشدين وحث على التمسك بها مبيناً أن ذلك هو أساس الدين وقوامه، والمخرج من الفتن، والمنقذ من الضلالات. وحذر من البدع في الدين والمحدثات مبيناً أنها طريق الضلال.
ومن أعظم البدع التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم هي التي صرفت الناس عن تلقي العلوم من الوحي المحفوظ، وأوهمتهم بأن هناك طرقا لتحصيل المعارف اليقينية في المطالب الإلهية وغيرها من غير الكتاب والسنة، بل زعموا - وبئس ما زعموا - أن الاقتصار في تحصيلها على الكتاب والسنة قصور لا يوجب لصاحبه معرفة الحقائق.
وأهم هذه الطرق الزائغة طريقان:
1-
طريق النظر العقلي الذي اعتمد عليه أهل الكلام، وزعموا أنه هو طريق معرفة الله، بل وأسموه"التوحيد" زورا وبهتانا، وهو قائم على المنطق الفلسفي الأرسطي.
وبالغ المتأخرون من أهل الكلام حتى جعلوا جميع العلوم من فروع
1 رواه الإمام أحمد، المسند (4/126) ، والترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، (ح2676)(5/44)، وقال:"حديث حسن صحيح"، والحاكم في المستدرك (1/95) وقال في بعض طرقه:"هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً ولا أعرف له علة".
علم الكلام، وزعموا أن النظر العقلي وما ينتج عنه، هي الميزان الذي توزن به الحجج والبراهين، ويميز به بين الصدق والكذب في الأقوال، والخير والشر في الأفعال، والحق والباطل في الاعتقادات!! 1.
2-
طريق الكشف والفيض الذي اعتمد عليه أهل التصوف الغالي، وزعموا أنه هو الطريق لمعرفة كل الحقائق الدينية، وزعموا أنه نوع من الوحي الذي يحصل للقلوب الزكية.
قال ابن تيمية رحمه الله: "
…
هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان:
إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين عَلِمَ أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان مَنْ سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات
1 انظر: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه، لمحمد بن حزم الأندلسي ص (6، 7) ، تحقيق د. إحسان عباس، دار مكتبة الحياة.
ومقدمة ابن خلدون ص (908) دار الكتاب اللبناني. ومفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لأحمد مصطفى الشهير بطاش كبرى زادة، ص (597) ، ت /كامل بكري، وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.
التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق.
فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى"1.
ولا شك أن هذين الطريقين من أعظم البدع المضلة، إذ هما صد عن سبيل الله وصرف للناس عن العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل الهدى والنور ومنبع المعارف والعلوم المصلحة للقلوب والأعمال الموجبة لزيادة الإيمان وتحصيل رضى الرحمن، قال الله عز وجل:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَآهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوآ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} 2.
قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر الطريقين:
1 درء تعارض العقل والنقل، (5/345) .
2 سورة الأنعام آية (155- 157) .
"وهذان أصلان للإلحاد"1.
وذلك أن كل ميل وانحراف وضلال حصل في الأمة فمرده إلى أحد هذين الطريقين فهما أصلان للضلال والإلحاد.
ثم قال رحمه الله: " وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين، فلا بد من العلم والقصد.
ولا بد من العلم والعمل به. ومن عمل بما يعلم ورَّثه الله علم ما لم يعلم.
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلا بدّ من أداء الوجبات.
ولا بد أن يكون كل منهما موافقاً لما جاء به الرسول، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالاً في علمه، غاويا في عمله. ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة، من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالاً غاويا،
…
فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالاً، وإذا لم يعمل بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذاك فساداً ثانياً. والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات، والرياضات والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغيَّ ما
1 درء تعارض العقل والنقل، (5/348) .
ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم.
كما قال تعالى: {هلْ أُنَبئُكُمْ عَلى مَن تَنَّزلُ الشَّيَاطينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثيمٍ} 1.
والإنسان همام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل، وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه، فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران. ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم، وهو يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر"2.
الرازي ومنهج المتكلمين:
وقد تولى كبر زخرفة المنهج العقلاني محمد بن عمر الرازي3
1 سورة الشعراء الآيتان (221، 222) .
2 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، (5/351) .
3 أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين القرشي الرازي، يلقب بابن الخطيب، ولد سنة 543هـ، كان مضطرب الديانة كثير الحيرة، ينتسب إلى المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية المبتدعة، إلا أنه أقرب إلى دين الفلاسفة، وقد رمي بالتشيع، كانت أغلب مؤلفاته في الفلسفة، وعلم الكلام، والرياضة، والطب، والسحر والتنجيم والرمل، وألف في أصول الفقه، وله في التفسير كتاب مشهور هو التفسير الكبير، ضمنه كثيرا من باطله، قال عنه بعض العلماء:"فيه كل شيء إلا التفسير"، وقال أبو شامة المقدسي:"كان الرازي يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة، فإذا جاء الأجوبة اقتنع بالإشارة"، وقَال الشهرزوري:"إن الإمام الرازي شيخ مسكين متحير في مذاهب الجاهلية التي تخبط فيها خبط عشواء"، وقال ابن جبير:"دخلت الري فوجدت ابن خطيبها قد التفت عن السنة وأشغلهم بكتب ابن سينا وأرسطو".
وقال الحافظ الذهبي: "الفخر بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات في مسائل من دعائم الدين تورث حيرة".
وقد تصدى له شيخ الإسلام ابن تيمية ورد على ضلالاته بالتفصيل في كتابه: نقض التأسيس، ودرء تعارض العقل والنقل، وغيرها، توفي الرازي سنة 606 هـ.
انظر: ميزان الاعتدال، للذهبي، (3/340) وفخر الدين الرازي وآراؤه الفلسفية والكلامية، د. محمد صالح الزركان، ومقدمة كتاب القضاء والقدر للرازي، (11-26) .
الملقب بفخر الدين1! حيث حشد الشبهات، ولبس الحق بالباطل ليقنع
1 إطلاق مثل هذه الألقاب على أمثال هؤلاء يؤدي إلى اغترار الناس وإحسانهم الظن بهم، مما يساعد على انتشار باطلهم.
من يطلع على أقواله بأن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لا يدلان على الحق في المطالب اليقينية المتصلة بالعقائد وخاصة معرفة أسماء الله وصفاته والقدر، وأن الطريق إلى معرفة ذلك إنما يكون بالدلائل العقلية.
ويزعم أن التمسك بالدلائل اللفظية - نصوص الكتاب والسنة - في المطالب اليقينية - معرفة أسماء الله وصفاته والقدر ونحوها - باطل قطعاً.1
ويقول في مسألة الإيمان بالقدر: "إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، وهذه المسألة يقينية، فوجب أن لا يجوز التمسك فيها بالدلائل السمعية"2.3
وعنده أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين لأن الصحابة الذين بلغوها مطعون فيهم، وقد حشد الشبهات والتلبيسات التي يسميها أدلة لتلفيق القدح والطعن في خيار الصحابة وأمهات المؤمنين الذين بلّغوا الدين، ليتوصل بذلك إلى التشكيك في رواياتهم للقرآن والأحاديث.4
1 انظر: كتاب القضاء والقدر، لمحمد بن عمر الرازي، ص (106) ت /محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
2 "الدلائل السمعية"، "الدلائل اللفظية"، "السمع": تعابير يراد بها نصوص الكتاب والسنة التي مدارها على التعلم والخبر الذي يكون باللفظ والسمع.
3 كتاب القضاء والقدر، للرازي، ص (105) .
4 نفس المصدر ص (174 - 176) .
ويزعم أن القرآن مشتمل على التناقض، وآياته يعارض بعضها بعضا.1
ويزعم أن الميزان الذي يجب الرد إليه عند الاختلاف والنزاع هي الدلائل العقلية، ويقول بعد أن ذكر الآيات التي تمسك بها المعتزلة على مذهبهم في القدر:"والمعتمد لنا في الجواب عن الكل: أن الأخبار التي تمسكنا بها على صحة قولنا معارضة لهذه الأخبار، ولما تعارضت الأخبار وجب الرجوع إلى دلائل العقل"2.3
1 كتاب القضاء والقدر للرازي، ص (115، 299) .
2 نفس المصدر، ص (299) .
3 الحق أن هذه النتيجة العقلية التي توصل بها إلى إسقاط نصوص الكتاب والسنة من أن تكون ميزاناً وفرقاناً يكشف الحق من الباطل في المسائل العقدية، لهي من أصدق وأوضح الأدلة على تخبطه في نظره وقياسه، وذلك أنه زعم أن نصوص القرآن متعارضة لأنها تدل تارة على الجبر وأخرى على قدرة العبد على فعله واختياره، ثم رتب على ذلك أنها لما تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى الدلائل العقلية، ولو أنه نظر نظرا صحيحا لعكس الدليل ولقال:
تبين لنا أن دلائلنا العقلية على هذه المطالب معارضة لدلائلهم العقلية فوجب إسقاطها والرجوع إلى دلائل الكتاب المحفوظ الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية 42]، ولتوصل إلى نتيجة يشهد لها العقل السليم والوحي المنزل حيث قال سبحانه:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية 59]، ولكن سوء ظنه بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أورده المهالك وقد قال سبحانه:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النُور آية 40] .
الغزالي وطريق الكشف الصوفي:
لقد تولى أبو حامد الغزالي كبر زخرفة طريق الكشف والفيض، القائم على أن السبيل إلى الحقائق إنما يكون برياضة النفوس فتنكشف لها الحقائق انكشافاً.
فهو يزعم أن النفوس إذا قطعت علائقها بالدنيا بالزهد والرياضة فإنها تنكشف لها أسرار الملكوت فتعلم الغيب وتنكشف لها الحقائق.1
ويزعم أن معرفة الحق لا تكون بالسمع - نصوص الكتاب والسنة - ولا بالتعليم، وأن من يقتصر في طلبه للحق على الكتاب والسنة دون طريق الكشف فإنه لا يستقر له قدم في معرفة الحق.2
بل ويزعم أن الأنبياء وأئمة الدين لم يتلقوا العلم بالتعليم، وإنما بالرياضة والزهد والتصفية التي هي الوسيلة للكشف والفيض.3
1 انظر: مشكاة الأنوار، ص (80) .
2 انظر: ميزان العمل لأبي حامد الغزالي ص (46-48) والإحياء (1/110) .
3 انظر: إحياء علوم الدين، (3/19) .
ويزعم - وبئس ما زعم - أن ما يقذف في القلوب عن طريق الكشف والفيض في النفوس الخالية من العلم بالكتاب والسنة، هو الميزان الذي توزن به نصوص الكتاب والسنة.
فما وافق ما فيها قُبل ويؤمن به على ظاهره، وما خالفها فإن ظاهره باطل يجب تأويله حيث قال:
"وحد الاقتصاد
…
دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنُور إلهي لا بالسماع1، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنُور اليقين قرروه وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف"2.
ومع زعمه أن تعلم القرآن الكريم ليس طريقا للمعرفة وتحصيل العلوم فإنه يرى أنه ليس من الأذكار التي تفيد في تزكية النفوس وصقلها.
وقد أورد في كتابه: [ميزان العمل] نصيحة مُقَدَّم فيهم مَنَعَه من قراءة القرآن ودله على ملازمة الأذكار المبتدعة.
كما يزعم أن القرآن يشغل المريد بذكر الجنة، والمريد الذاهب
1 يقصد بالسماع هنا: نصوص الكتاب والسنة، كما عبر عنها أيضا بلفظ:"السمع"، "الألفاظ الواردة"، ولفظ السماع غالبا ما يطلق في اصطلاحات المتكلمين والمتصوفة ويراد به الغناء بإنشاد الأشعار الملحنة مع الدفوف ونحوها.
2 إحياء علوم الدين، (1/110) .
إلى الله - بزعمه - لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة ورياضها.1
فهو بهذه الأقوال يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من عدة جهات:
فمن جهة أنكر أن يكون الكتاب والسنة أصلاً لتلقي العلوم ابتداء، ومن جهة أخرى أنكر أن يكونا ميزاناً يرجع إليه عند الاختلاف.
ومن جهة ثالثة أنكر أن تكون قراءة القرآن ذكرا نافعا في تزكية النفوس.
ومن مزاعمه الشنيعة: أن تزكية النفوس وتصفيتها وصقلها تمهيداً لانطباع الحقائق فيها، وانكشاف سر الملكوت لها - هو نوع من الوحي الذي يحصل للأنبياء.
فالوحي عنده مكتسب وليس اصطفاء واختياراً من الله، كما أنه يرى أنه لم ينقطع بل هو متاح لكل من جاهد نفسه وراضها وصفّاها.
وقد وصل به التخبط والضلال إلى أن زعم أن سماع الغناء - الأشعار الغزلية الملحنة، التي يناجي فيها الحبيب حبيبه بالأصوات المطربة والدفوف المصلصلة - أنفع لمن يريد وجه الله من قراءة القرآن وتعلمه، وزخرف ذلك بسبعة أوجه ذكرها في كتابه [إحياء علوم
1 انظر: ميزان العمل ص (46-48) ، وكتاب الأربعين في أصول الدين للغزالي ص (65، 66) .
الدين] 1! {بئس للظالمين بدلاً} .
بدأ ذلك بقوله: "فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه" ثم ذكرها.
ومن ذلك قوله في الوجه الأول:
"إن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه، وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فمن أين يناسب حاله قوله تعالى {يُوصِيِكُمُ اللهُ فِي أوْلادِكُم للذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} 2، وقوله تعالى: {وَالَّذِين يَرْمونَ المحْصَنات} 3، وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه، والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف".
"الألحان الطيبة مناسبة للطباع
…
فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضا كان أقرب
1 إحياء علوم الدين (2/298-301) .
2 سورة النساء آية (11) .
3 سورة النُور آية (4) .
إلى الحظوظ، وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق للمخلوق
…
فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله"1.
ولم يزل به هذا المنهج الذي تحمس له، وذلك الظن السّيّئ الذي ظنه بالله وبكتابه حتى أوقعه في الطامة الكبرى الشرك.
قال أبو بكر بن العربي: قال لي [يعني أبا حامد الغزالي] بلفظه، وكتبه لي بخطه:
"إن القلب إذا تطهر من علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق
…
وقد تقوى النفس، ويصفو القلب حتى يؤثر في العوالم، فإن للنفس قوة تأثير موجدة
…
وقد تزيد قوتها بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث، وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات للعادات، فإذا نطقت به كان على نحوه.."2.
ولا يسعنا أمام هذا الكلام إلا أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم!! {كبرَتْ كَلِمَة تخْرُجُ من أَفْوَاهِهم إن يَقُولونَ إلا كَذِبا} 3.
سبحان الله ما ظن هذا المفتري برب العالمين حين جعل له شركاء
1 إحياء علوم الدين، (2/298، 301) .
2 آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، (العواصم من القواصم)(2/30-33) .
3 سورة الكهف آية (5)
في ملكه وتدبيره! ونسب إلى المخلوقين أمورا من الشرك لم تصل إليها جاهلية العرب الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يثبتون أن الله هو المتصرف بأحوال العالم وفي إنزال الغيث وإنبات النبات، لا يشركون معه غيره في ذلك، لذلك ألزمهم بتوحيدهم له في ربوبيته بوجوب توحيدهم له في ألوهيته وعبادته، فكما أنه لا شريك له في ملكه وتدبيره فكذلك لا شريك له في العبودية.
قال الله تعالى مبينا إقرار كفار العرب بتصرفه في العوالم: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْض وَسَخَّر الشَّمسَ وَالقمَرَ ليَقُولُن الله فَأَنى يُؤْفَكُون} 1.
وقال في بيان إقرارهم له في إنزال المطر وإنبات النبات: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ نزل مِنَ السَّماء مَاء فَأحيا بِه الأَرضَ من بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولن الله قل الحَمدُ لله بَلْ أكثرُهم لا يَعْقِلُونَ} 2.
فإذا كانوا مع شركهم لم يبلغ بهم أن ينسبوا هذه الأمور لغير الله، فما بالك بمن زاد عليهم في ذلك وبلغ ما لم يبلغوه! وأثبت لله شريكا في ربوبيته وتدبيره! تعالى الله عن ذلك.
1 سورة العنكبوت آية (61)
2 سورة العنكبوت آية (63) .
وليس المراد استقصاء أخطائه، ولكن بيان أن كل من أعرض عن الكتاب والسنة وقع في التخبط والضلال.
قال ابن تيمية رحمه الله: "
…
إن هؤلاء مع إلحادهم، وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه، وعزله في المعنى، هم متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية، فإنه لا بد أن يضل ويتناقض، ويبقى في الجهل المركب أو البسيط"1.
وزن هذه المناهج المحدثة بميزان المثَل:
والمقصود هنا هو بيان أن هذا المثل {مَثَلُ نُوره كمشْكَاة} يبطل هذه المناهج المحدثة - منهج العقلانيين المتكلمين، ومنهج الصوفيين القائلين بالكشف والفيض - من وجوه عديدة أهمها:
أولاً: أن المثل دل على أن نُور المصباح يشعل ويوقد في الفتيلة الصالحة التي يسري فيها الوقود الجيد.
وكذلك نُور الإيمان يقذفه الله في القلوب المؤمنة. وغير المؤمنة لا يكون فيها نُور.
وهذا يبطل زعم القائلين بالكشف والفيض، فإنهم يزعمون أن النور يتجلى في كل قلب بمجرد التصفية، وأن ذلك سنة جارية ممكنة لكل أحد
1 درء تعارض العقل والنقل، (5/356) .
دون اختيار واصطفاء من الله لمن يُعطى النور أو يحرم.
وواضح من المشبه به وهو المصباح أن نُوره طارئ بفعل غيره، لا يتقد ويضيء إلا إذا أوقد وأشعل وقد توفرت الفتيلة الصالحة والوقود الجيد.
فالله سبحانه شبه نُوره: بمشكاة فيها مصباح، وهم شبهوه: بانعكاس في مرآة1، وفرق كبير بين التشبيهين.
والحق بلا شك هو ما ورد عن رب العالمين خالق الإنسان ومعطي النور، وما خالفه فهو الباطل قطعا.
وهذا الاعتبار - والله أعلم - هو الذي جعل أبا حامد الغزالي يلجأ إلى تزييف آخر أقرب بزعمه إلى صورة المثل إلا أنه أبعد في الضلال. "نعوذ بالله من الخذلان".
ورد ذلك في كتابه الذي خصصه للكلام على هذا المثل من سورة " النور "{مثلُ نُُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأسماه: [مشكاة الأنوار] .2
وزعم فيه أن في قلوب الناس نُورا هو جزء من نُور الله.3
1 انظر: مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (147) مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
2 تقدم التعريف بالكتاب ص (333، 334) المتن والهامش.
3 انظر: مشكاة الأنوار ص (60)، وانظر: تصدير المحقق، ص (14) .
وأن هذا النور قد يحجب بالغفلة والمعاصي والتعلق بالدنيا، والتصفية - على مذهبه - تصقل القلب فيتجلى هذا النور، وهذا القول هو الذي قربه إلى قول أصحاب وحدة الوجود1، حيث زعم أن النور الذي في قلوب الناس هو جزء إلهي من نُور ذات الله عز وجل تعالى عما يقوله المبطلون.
وهذا الزعم الأخير باطل بدلالة المثل أيضاً، حيث أن الله شبه نُوره بنُور مصباح يقبل الإيقاد، ويطفأ إذا قطع عنه الزيت أو تعرض لما يوجب انطفاءه، ويوجد عند من اصطفاهم الله للإيمان ولا يوجد عند الكفار.
أما على قوله فالنور يستوي فيه البشر وهو لا يتقد أو ينطفئ وإنما يحجب بحجاب كما أن نُور ذات الله محجوب بالحجاب.
وهذا التخبط والضلال يصدق عليه قول الله تعالى: {وَلَو كَانَ مِن عِنْد غَيْر الله لَوَجَدوا فِيه اخْتِلافاً كَثِيراً} 2.
ثانياً: دل المثل على أن النور مركب من نُور المصباح الموقد في الفتيلة، ونُور الوقود الجيد الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، وهذا يقابل نُور الإيمان الذي يقذفه الله في القلب، ونُور العلم الذي يمده {نُّورٌ
1 انظر ما تقدم ص (221) . بالهامش
2 سورة النساء آية (82) .
عَلَى نُورٍ} .
وهذا الاعتبار يرد على كلتا الطائفتين - المتكلمين العقلانيين، والمتصوفة القائلين بالكشف - حيث عطلوا أثر العلم بالكتاب والسنة في تحصيل المطالب اليقينية، فهم بمثابة من قطع الزيت عن المصباح، فأنطفأ وأظلم، وقد يحرق الفتيلة.
وكذلك القلب إذا قطع عنه العلم فإنه يظلم ويعمى، وقد تفسد فطرته، وكل ما يقوم به بعد ذلك فهو ضلالات وأوهام.
ثالثاً: دل المثل على أن صحة التعقل وسلامته مستفادة من النور الذي أشرق في القلب من الإيمان والعلم، وذلك أن الزجاجة في المصباح تقابل الوظائف القائمة بالقلب كما دل عليه الاعتبار بالمثل المتقدم1.
والنور ينبعث من المصباح وينير الزجاجة، ثم ينفذ من خلالها إلى الخارج فيبصر صاحب المصباح بقلبه المستنير مواطن الخير والشر والهدى والضلال.
والذي لم يتعلم العلم الشرعي فإن نُور قلبه ضعيف - إن كان مسلماً - أو قلبه مظلم إن لم يكن مسلماً، فالعلم بالوحي مؤثر في العقل ينير له الطريق.
1 تقدم ص (321) .
وقد تقدم1 ذكر النصوص الدالة على أن العقول المؤهلة للتذكر والاعتبار هي عقول أهل الإيمان المستنيرة بنُور العلم المستفاد من الوحي، والعمل به، كما في قوله سبحانه:
حيث دلت هاتان الآيتان على أن المؤمنين العالمين بما أنزل الله من الذكر هم أولو الألباب الذين استنارت قلوبهم بنُور الإيمان والعلم فنفعهم ذلك في إعمال عقولهم في تدبر آيات الله المتلوة والتفكر في آيات الله المشاهدة والانتفاع من ذلك.
1 تقدم ص (414) .
2 سورة الرعد آية (16) .
3 سورة الطلاق آية (10)
وهذا الاعتبار يرد قول المتكلمين الذين زعموا أن النظر العقلي المجرد عن نُور العلم والإيمان تعرف به الحقائق والخير والهدى من ضدها، وعلى قولهم يكون العقل ينير القلب، وهذا قلب وعكْس لمدلول المثل والبيان الإلهي فيكون باطلاً قطعا.
والحق أن العقل يستنير بالعلم، وذلك أن العلم النازل من الله في نصوص الوحي يبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، بأحكام معلقة بأوصاف ومعالم وأمثال، والعقل يتعرف عليها ويتحقق من وجودها في الأعيان والمعاني ويلحق بها الأحكام.
ومثال ذلك: قائد السيارة في الظلماء فإنه يحتاج إلى إنارة المصابيح، والمصابيح مثال نُور العلم، وقائد السيارة مثال العقل، فالمصباح ينير للقائد والقائد يتعرف به على مواقع الطريق ويتقي أخطاره.
وقد قلت في ذلك: [ملف الجداول]
علمُ الفتى بالله أَصْلُ حَياته
وَربيعُ قلبِ العَبد حُبُ الأوحدِ
والعلمُ نُور للفتى في دَرْبه
والعقلُ يحكم سَيره ويسدد
رابعاً: ورد في سياق المثل ما يدل على أن الطريق لحصول نُور الله واحد هو ما دل عليه المثل، وذلك في قوله:{مَثَلُ نُورِهِ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وفائدة هذا الاعتبار: أن يُعلم أن من زعم أن لديه نُورا من غير هذا الطريق فهو ليس بنُور إلهي بل سراب خادع مُلْهٍ.
وكل نتيجة لم يستنر صاحبها بنُور العلم الواصل من طريق الأنبياء فهي أوهام وضلالات وظلمات.
وحالهم في حيرتهم وظلمة قلوبهم كما صورها الله بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
خلاصة هذه الفائدة:
أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة المبتدعة في منهج تلقي الحقائق اليقينية في المطالب الدينية، وقد تبين أنه يبطل ويرد ما أحدث من ذلك من طريقة المتكلمين الزاعمين أن الحق في المطالب اليقينية طريقة الدلائل العقلية المستفادة من النظر العقلي، وطريق القائلين بالكشف والفيض الزاعمين أن اليقين يفيض على القلوب فيضاً دون تعلم أو نظر.
1 سورة النور آية (40) .
كما تبين خلال هذا العرض ما وقع فيه البارزون من هؤلاء من الضلال والاختلاف والتناقض بسبب إعراضهم عن نُور العلم الإلهي وهدي النبي صلى الله عليه وسلم واقتحامهم لتلك المناهج المتخبطة المظلمة.