المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان - الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله - جـ ٢

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الأمثال المضروبة لاستنارة قلوب المؤمنين وظلمة قلوب الكافرين في سورة النور

- ‌الفصل الأول: المثل المضروب لنور الله في قلوب المؤمنين

- ‌المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثل

- ‌المبحث الثاني: دراسة المثل

- ‌المطلب الأول: نوع المثل

- ‌المطلب الثاني: بيان صورة الممثّل به

- ‌المطلب الثالث: بيان الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به:

- ‌المبحث الثالث: الغرض من ضرب المثل، وأهميته

- ‌المبحث الرابع: أهم فوائد مثل "النور

- ‌المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور

- ‌الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور

- ‌المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان

- ‌المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان وأهميتهما

- ‌المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان

- ‌المطلب الثاني: أهمية المثلين

- ‌المبحث الثالث: _25d8_25af_25d8_25b1_25d8_25a7_25d8_25b3_25d8_25a9 _25d8_25a7_25d9_2584_25d9_2585_25d8_25ab_25d9_250518718d45

- ‌المطلب الأول: نوع المثَل

- ‌المطلب الثاني: تعيين الممثّل به

- ‌المطلب الثالث: تعيين الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: الفوائد المستنبطة من المثل

- ‌المطلب الخامس: خلاصة دراسة هذا المثل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ

- ‌المبحث الرابع: دراسة المثل في قولة تعالى: {أو كظلمات في البحر لجي}

- ‌المطلب الأول: نوع المثَل

- ‌المطلب الثاني: بيان الممثّل به (المثَل) :

- ‌المطلب الثالث: بيان الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من المثَل:

الفصل: ‌المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان

‌المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان وأهميتهما

‌المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان

المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان:

يذكر أكثر المفسرين أن كلا المثلين ضربا لأعمال الكفار، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} ثم عطف عليه المثل الثاني بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ..} الآية.

إلا أن أعمال الكفار المضروب لها المثلان ينظر إليها من عدة جهات، مرجعها إلى ما يلي:

1-

من جهة أنهم عملوها على عمى وضلال، وظلمتها لكونها خالية من نور الإِيمان.

2-

من حيث جزاؤهم عليها يوم القيامة، وعدم قبولها وانتفاعهم بها.

3-

من حيث كونها ظاهرة أو باطنة، أو كونها من جنس الأعمال الطيبة أو من الشر والإِفساد في الأرض.

4-

وهل المقصود هو تحقق دلالة المثلين في أعمال كل كافر، أو أن كل مثل ضرب لبيان أعمال نوع من الكفار.

فلأجل تنوع أعمال الكفار، وتنوع طوائفهم، وسعة دلالة المثلين حتى أنه لا يوجد كافر إلا وله منهما نصيب، اختلفت عبارات المفسرين في تحديد المعنى المضروب له المثلان: ويمكن حصر أقوال المفسرين في اتجاهين.

ص: 462

الاتجاه الأول:

من يرى أن المثلين ضُربا لعمل كل كافر، وأنه يصْدق عليه كلا المثلين باعتبار، وكل منهما يبين جانباً من أعماله.

فمن هؤلاء من يرى أن المثل الأول ضُرب لأعمال الكافر التي هي من جنس الأعمال الطيبة، ومثل لها بالسراب، والمثل الثاني لاعتقاده السيئ ومثل له بالظلمات. وقريب منه من يرى أن المثل الأول لأعماله الظاهرة، والثاني لأعماله الباطنة1.

ومنهم من يرى أنه سبحانه شبه أعمال الكفار في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بالسراب، وشبهها في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإِيمان بظلمات متراكمة.2

ومنهم من يرى أن مثل السراب ضُرب لبيان مصير أعمالهم يوم القيامة عند الحساب، وأنهم لن ينتفعوا منها بشيء، ومثل الظلمات لبيان حالهم في الدنيا، وأن أعمالهم عملت على خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى.3

1 انظر: التفسير الكبير للرازي، (24/9) ، وصفوة التفاسير لمحمد بن علي الصابوني، (2/343) .

2 انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، لابن القيم، ص (12) .

3 انظر: جامع البيان، لابن جرير، (9/333) .

ص: 463

الاتجاه الثاني:

من يرى أن المثلين ضُربا لبيان أعمال نوعَي الكفار، وأن الكفار في الجملة صنفان: أصحاب الجهل والضلال البسيط، وأصحاب الجهل والضلال المركب1، وكل مثل يصور حال فريق منهما:

إلا أن هؤلاء اختلفوا في أمرين:

الأول: تعيين أي المثلين لأصحاب الجهل البسيط، وأيهما لأصحاب الجهل المركب.

1 الجهل البسيط: "هو عدم العلم أو الاعتقاد لما من شأنه أن يكون عالماً أو معتقداً، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة" والجهل المركب: "هو اعتقاد الشيء على خلاف ما اعتقد عليه اعتقاداً جازماً سواء كان مستنداً إلى شبهة أو تقليد، وهو بهذا المعنى قسم من الاعتقاد بالمعنى الأعم". انظر: كشاف اصطلاح الفنون، للتهانوي، (1/363) .

فالجهل البسيط: هو عدم معرفة الحق، والضلال البسيط: هو عدم اعتقاد الحق والعمل به، والجهل المركب: هو عدم معرفة الحق مع تعلم ضده، والضلال المركب: هو عدم الاعتقاد والعمل بالحق مع الاعتقاد والعمل بالباطل، واعتقاده أنه على الحق.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً الفرق بينهما: "فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه، وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعملوا، والذي معهم ليس بعلم بل جهل" درء تعارض العقل والنقل، (7/285) .

ص: 464

فمن هؤلاء: شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله نص في مواضع على أن مثل السراب: للجهل المركب، ومثل الظلمات: للجهل البسيط.1

إلا أنه في موضع آخر أشار إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب2.

ومن هؤلاء: ابن القيم رحمه الله: وله في ذلك أكثر من قول. ففي قولٍ نصَّ على أن مثل السراب ضرب لأصحاب الجهل المركب، والآخر لأصحاب الجهل البسيط3.

وفي موضع آخر ألمح إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب.4

وفي موضع ذكر أن كل واحد من السراب والظلمات مثل لجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.5

وهذا القول يرجع إلى الاتجاه الأول في تفسير المثلين، الذي سبقت

1 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (7/285) ، (5/376) ، ومجموع الفتاوى (4/75) .

2 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/169) .

3 انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (9، 10) .

4 انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196، 198) .

5 انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، ص (12) .

ص: 465

الإِشارة إليه.

ومن هؤلاء: الحافظ ابن كثير رحمه الله: حيث نص على أن مثل السراب لأصحاب الجهل المركب، ومثل الظلمات لأصحاب الجهل البسيط1.

والحق أن كلا الاصطلاحين يصدق على كلا المثلين باعتبار، فالمثل الأول - مثل السراب- اتفقت آراء من ذكرنا رأيه على أنه من الجهل المركب، وهو كذلك إلا أن المثل الثاني - مثل الظلمات - أقرب إلى الجهل المركب لدلالة صورته وألفاظه على ذلك، في قوله تعالى:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} حيث دل على أن كفرهم مركب من ظلمات ناتجة عن جهالات وضلالات، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء اللَّه.

وأيضاً فالجهل المركب متضمن للجهل البسيط2، فكل من المثلين متضمن له. فهناك تداخل باعتبار انطباق الاصطلاحين على كلا المثلين.

ولهذا الاعتبار مع ما تقدم من الاضطراب في أقوال أهل العلم والتحقيق في بيان أيهما الذي للجهل البسيط أو المركب، أرى عدم التركيز على هذين الاصطلاحين في بيان المراد بالمثلين.

والأمر الثاني: الذي اختلف فيه هؤلاء: هو تعيين الذي يصدق عليه

1 انظر: تفسير القرآن العظيم، (296) .

2 انظر: درء تعارض العقل والنقل، (5/376) .

ص: 466

كل مثل:

فمنهم من يرى أن مثل السراب للدعاة إلى كفرهم الذي يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، ومثل الظلمات للمقلدين لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون.1

ومنهم من يرى أن مثل السراب لحال المغضوب عليهم، والظلمات لحال الضالين.2

ومنهم من يرى أن مثل السراب لأهل البدع والأهواء الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومثل الظلمات: لأصحاب العلوم والنظر والأبحاث التي لا تنفع.3

وليس الغرض استقصاء أقوال المفسرين والعلماء في بيان المعنى المضروب له المثلان، وإنما ذكر بعض النماذج التي تبين اختلاف عباراتهم في ذلك، مما يبرز الحاجة إلى تحرير المقصود بالمثلين ليتضح معناهما، وتتم الاستفادة والاعتبار بهما.

تحرير الغرض الذي ضرب له المثلان:

إن تحديد الغرض الذي ضرب له المثلان يحتاج إلى نظر في المعطيات

1 انظر: تفسير القرآن العظيم، (3/296) .

2 انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196) .

3 انظر: الأمثال لابن القيم، ص (196، 198) .

ص: 467

المستخلصة من السياق، ومن التأمل في ألفاظ كلا المثلين وصورتهما.

ويمكن حصر تلك المعطيات المستفادة من ذلك فيما يلي:

أولاً: تقدم في المبحث السابق1 أن السياق الذي تضمن هذين المثلين والذي بدأ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ

} الآية، وختم بقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ

} الآية. يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها.

كما دل التأمل في السياق على أن هذين المثلين ضُربا في مقابل المثل الذي ضُرب لبيان نور العلم والإِيمان في قلوب المؤمنين وأعمالهم وسائر أحوالهم في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} .

وفائدة هذه الدلالة من السياق هي العلم بأن المثلين ضُربا لبيان حال الكفار مع العلم - المستمد من الوحي الإلهي بواسطة الرسل (صلوات اللَّه وسلامه عليهم) - وضلالهم عنه بسعيهم أو بإعراضهم، وأن إعراض

1 ص (480) .

ص: 468

أصحاب مثَل السراب يختلف عن إعراض أصحاب مثل الظلمات.

ثانياً: أن التأمل في صورة المثلين يدل على اختلافهما صورة ومعنى مما يدل على اختلاف الذين ضُرب لهما المثلان، وأن كل مثل ضرب لطائفة معينة، بحسب الطريق الذي كان به ضلالها عن نور العلم والإِيمان.

قال ابن تيمية رحمه الله: "فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضُرب له هذا المثل هو مماثل لما ضُرب له هذا المثل، لاختلاف المثلين صورة ومعنى، ولهذا لم يُضرب للإِيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضُرب مثله بالنور، وأولئك ضُرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة، أو بالظلمات المتراكمة"1.

ويمكن بيان اختلاف المثلين فيما يلي:

1-

حال الشخصين مع النور:

إِن المثل الأول لا يتحقق إلا في رائعة النهار والشمس مشرقة، فاللاهث وراء السراب قد استنار ما حوله، ومع وجود النور حوله فإنه لم يهتد إلى موضع الماء الحقيقي، وإنما سار خلف السراب الخادع.

أما في المثل الثاني فنور الشمس محجوب عنه بحجب غليظة، قد حجبها السحاب، وظلمة الأمواج، فالمحيط حوله ظلام دامس.

1 مجموع الفتاوى (7/278) .

ص: 469

والنور الحسي يقابل نور العلم والوحي، وفي المثلين إشارة إلى نورين:

الأول: نور المحيط خارج الشخص الممثّل به، وهو يقابل نور الوحي الذي أنزله اللَّه إلى الناس، فبلغه رسله، وحوته كتبه، وآمنت به بلاد فاستنارت به، وكفرت به أخرى فأظلمت.

الثاني: قدرة الشخص على الإِبصار بعينه.

والمثلان يصوران حال الشخصين مع هذين النورين.

ففي المثل الأول دلالة على أن النور حول اللاهث إلى السراب أتم ما يكون، مما يدل على أن المضروب له المثل يعيش في وسط مستبصر يؤمن بالوحي.

أما نور قلبه فمعدوم أو ضعيف حيث لم يميز السراب وانخدع به، وهذا يدل على أن المضروب له المثل أعمى القلب أو ضعيف البصيرة، بسبب عدم تعلمه من الوحي، وإعراضه عنه.

أما في المثل الآخر - مثل الظلمات - فكلا النورين - نور المحيط حوله، ونور قلبه - معدوم، فالمثل يصور حال من يتقلب في الظلمات ليس بخارج منها.

2-

حال الشخصين الممثّل بهما مع البحث والطلب.

يصور مثل السراب شخصاً عطشاً لهثاً يبحث عن الماء الذي يعرف أهميته، وهو بأشد الحاجة إليه، ففيه معنى شدة البحث والطلب لشيء ثمين

ص: 470

لكن في غير محله.

أما المثل الآخر فهو يصور الشخص الحيران، الذي لا يهتدي إلى طريق، ولا يدري موقع رشده، ولا أين يتجه فهو في عمى تام من أمره.

3-

حالهما مع الماء:

في مثل السراب تصوير لحال من يعرف قيمة الماء، ويحس بالحاجة إليه ويطلبه ويبحث عنه، لكنه ضل في معرفته واتبع شبهه الخادع.

أما الآخر فهو مغمور بالماء، إلا أنه ماء مالح لا يناسبه، لا يروي عطشه بل يزيده، ويقتله.

والمطر والماء العذب يُشَّبه بالعلم والإِيمان، وضده الماء المالح المتغير يشبه بالجهل والأوهام والعقائد الباطلة.

فالأول إذاً يعرف قيمة العلم والإِيمان ويتعطش له، لكنه يطلبه من غير محله ويتبع الشبه الخادع.

والثاني مغمور بالجهل والأوهام والعقائد الضالة لا يستطيع منها خلاصاً.

ثالثاً: التعقيب على المثل الأول بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وعلى المثل الثاني بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مناسب لكل منهما.

فالأول عنده أصل التعبد للَّه، ويطلب الحق، ويعمل لما يتوصل إليه

ص: 471

بسعيه، لكن عمله ضال باطل إذ لم يأخذه من مصدره الصحيح من مشكاة النبوة، وإِنما صُرف عنه بشبهات لاحت له ظنَّها علماً ويقيناً، كما حسب الظمآن السراب ماء. وما دام أنه يتعلم ويعمل ويظن أنه يحسن صنعاً، ويرجو ثواباً، فناسب أن يذكر الحساب في ختام المثل.

أما الآخر فليس عنده شيء من العلم باللَّه أو التعبد له، فهو في جاهلية وظلمة مطبقة، وهذا حال الكافر الخالص المستكبر عن عبادة اللَّه، المعرض عما جاء به المرسلون.

وهذا النوع في جهل تام وظلمة مستحكمة، قد بعد جداً عن نور اللَّه، الذي يشبه - بالنسبة له - الشمس التي حال دونها السحاب وظلمة الأمواج، وقد يكون في تلك الظلمات يتطلع إلى نور يأتيه، إلا أنه لن يجده، إذ أن مصدر النور هو الشمس التي فوق السحاب، وقد حيل بينه وبينها، فلن يجد نوراً من غيره.

وكذلك مصدر نور العلم والإِيمان - الذي هو الوحي وهداية اللَّه - قد أعرض وبعد عنه. فناسب أن يختم المثل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .

خلاصة التأمل في السياق وألفاظ المثلين:

مما تقدم يتبين أن المثلين يبينان حال فريقين من الكفار مع العلم والإِيمان.

ص: 472

فالمثل الأول: يصور حال من يعرف أهمية العلم والإِيمان، ويبحث عنه، إلا أنه أعرض عن مصدره وهو الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب المعرفة والإِيمان من غير محله، مع أنه في وسط مستبصر لدلالة كون الشمس مشرقة في المثل.

ويدخل في ذلك من طلب القربة إلى اللَّه بوسيلة غير مشروعة لم يدل عليها العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لاهث خلف السراب.

وهذا النوع من الكفار الذين يكونون بين المسلمين، وقد يؤمنون باللَّه، وينطقون بالشهادتين، ويصدّقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، كفروا بسبب إعراضهم عن تلقي العلم من الوحي، واستمدادهم علومهم من مستنقعات الجاهلية، وممارستهم أعمالاً يظنونها قربة أو وسيلة صحيحة، وهي تؤدي بهم إلى الشرك والكفر.

وهذا وصف مجمل يدخل تحته أفراد كثيرون.

فمن أفراده من انتسب إلى المسلمين ثم أعرض عن كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطلب معرفة ربه ومسائل الإِيمان بميراث الفلاسفة، فكذّب بصريح الكتاب والسنة، ولهث خلف الشبهات التي يظنها بينات ودلائل قاطعات، فأوقعه ذلك في الكفر والضلال.

ومن أفراده من دخل في الإِسلام إلا أنه طلب العلم واليقين من طريق الكشف والفيض وأعرض عن الوحي، فوقع في الكفر والضلال، ولهث خلف الأوهام والظنون ووحي الشياطين، فهو يشبه من طلب

ص: 473

السراب يحسبه ماء.

ومن أفراده من طلب القربة بأسباب كفرية أو شركية، فتقرب إلى اللَّه بما لم يأذن به، بسبب جهله، وطلبه العلم من غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله من لجأ إلى غير اللَّه، وتوكل عليه، وطلب منه جلب النفع أو كشف الضر، وصرف له العبادة، وهو يظن أن ذلك مشروع، وأنه يحسن صنعاً، وهو في الحقيقة لاهث خلف السراب، قد بطل عمله، ووهن سببه.

وأفراد هذا النوع كثيرون، يجمعهم كونهم في وسط مستبصر، توفرت لهم أسباب العلم الصحيح، ومعرفة الدين القويم، قد أشرقت الشمس من حولهم، ولديهم نهمة وطلب لما ينفعهم من العلم والعمل، إلا أنهم تنكبوا الصراط، وساروا خلف الأوهام والشبهات والسراب، فكفروا باللَّه بإعراضهم عن دينه الحق، وعملهم على غير هدى، وحبطت أعمالهم فلا ينتفعون منها بشيء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ويصدق ذلك على كل من وقع في أمور مكفرة ممن ينتسب إلى الإِسلام بسبب إعراضه عن الوحي وتتبعه للشبهات.

والمثل الثاني: يصور حال الكافر الخالص الذي أعرض عن الوحي وكذب المرسلين، فحجب تكذيبُه عنه نورَ العلم الإلهي، كما حجب السحاب وظلمة الأمواج ضوء الشمس، فهو في ظلمات مستحكمة، قد بَعُد عن العلم الصحيح بُعْد الممثّل به عن ضوء الشمس، وبَعُد عن الإِيمان

ص: 474

بُعْدَه عن الماء العذب.

وأفراد هذا المثل متعددون بتعدد أنواع الكفار المكذبين الجاحدين.

فحال الفريق الأول مع العلم والإِيمان أنهم طلبوه في غير محله وضلوا عنه، وعملوا على غير هدى، ولم يجنوا من سعيهم نفعاً.

أما الفريق الثاني، فإنهم أعرضوا عن العلم والإِيمان، ولم يرفعوا به رأساً، وردوه من البداية، ولم يروا للَّه حقاً، فهم غارقون فيما هم فيه من الكفر والضلال والظلمات.

ص: 475