المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث: بيان الممثل له - الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله - جـ ٢

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الأمثال المضروبة لاستنارة قلوب المؤمنين وظلمة قلوب الكافرين في سورة النور

- ‌الفصل الأول: المثل المضروب لنور الله في قلوب المؤمنين

- ‌المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثل

- ‌المبحث الثاني: دراسة المثل

- ‌المطلب الأول: نوع المثل

- ‌المطلب الثاني: بيان صورة الممثّل به

- ‌المطلب الثالث: بيان الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به:

- ‌المبحث الثالث: الغرض من ضرب المثل، وأهميته

- ‌المبحث الرابع: أهم فوائد مثل "النور

- ‌المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور

- ‌الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور

- ‌المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان

- ‌المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان وأهميتهما

- ‌المطلب الأول: الغرض الذي ضرب له المثلان

- ‌المطلب الثاني: أهمية المثلين

- ‌المبحث الثالث: _25d8_25af_25d8_25b1_25d8_25a7_25d8_25b3_25d8_25a9 _25d8_25a7_25d9_2584_25d9_2585_25d8_25ab_25d9_250518718d45

- ‌المطلب الأول: نوع المثَل

- ‌المطلب الثاني: تعيين الممثّل به

- ‌المطلب الثالث: تعيين الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: الفوائد المستنبطة من المثل

- ‌المطلب الخامس: خلاصة دراسة هذا المثل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ

- ‌المبحث الرابع: دراسة المثل في قولة تعالى: {أو كظلمات في البحر لجي}

- ‌المطلب الأول: نوع المثَل

- ‌المطلب الثاني: بيان الممثّل به (المثَل) :

- ‌المطلب الثالث: بيان الممثّل له

- ‌المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من المثَل:

الفصل: ‌المطلب الثالث: بيان الممثل له

‌المطلب الثالث: بيان الممثّل له

.

لم يرد في ألفاظ المثَل مما يتعلق بالممثّل له إلا ما دل عليه حرف العطف "أو" من أن الممثّل له هو أعمال صنف من الكفار، وقوله تعالى في ختام المثَل:{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

وبقية حال الممثّل له يمكن الاستدلال عليها من الممثّل به. وذلك أن صورة الممثّل به كلها عبارة عن وجه شبه مشترك بين الممثّل به والممثّل له، يمكن من خلال التأمل والقياس عليها استخلاص حقيقة الممثّل له.

كما أن لدلالة الأسلوب، وما تقدم بحثه1 في تحديد الغرض الذي ضرب له المثَلان أثر في تجلية حقيقة الممثّل له. وسوف أكتفي بإيراد خلاصة ما تم بحثه هناك واستكمال ما لم يبحث.

وصورة الممثّل له إجمالاً تتحدد بمعرفة ما تدل عليه الأمور الآتية:

1-

ما يفيده حرف العطف "أو".

2-

ما تفيده كلمة "ظلمات" وكلمة "لجي".

3-

ما يقابل الحجب الثلاثة. (السحاب، والموج الأول، والموج الثاني) .

4-

ما يدل عليه قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض} .

1 انظر صفحة رقم (462) وما بعدها.

ص: 600

5-

ما يدل عليه ختام المثَل بقوله: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

وهذا أوان تفصيل هذه الأمور.

قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} .

أو: تقدم1 أنها حرف عطف، عطفتْ مثَل الظلمات على مثَل السراب، وأن الراجح في معناها أنها للتقسيم. وأن دلالتها على هذا المعنى هي: أن الكفار باعتبار أعمالهم ينقسمون إلى قسمين:

قسم ضرب لهم مثل السراب. وقسم ضرب لهم مثل الظلمات.

وتقدير الكلام: والذين كفروا أعمالهم كسراب.... أو هي كظلمات....

ويستفاد من هذا في بيان الممثّل له: أن الممثّل له في الأصل هو أعمال الكفار، مع شموله لبيان حال عُمَّالها، وأثرها عليهم.

{كَظُلُمَاتٍ} : تقدم أن هذه الكلمة مجملة، وأتبعت بتفصيلها إلى ثلاث ظلمات.

والمراد بالظلمات في الممثّل له الظلمات المعنوية التي تقابل الظلمات الحسية في الممثّل به.

1 انظر صفحة رقم (600) .

ص: 601

وقبل محاولة معرفة المراد بالظلمات الثلاث وما يقابلها في الممثّل له، لا بد من معرفة المراد بلفظ الظلمات المجمل كما وردت في آيات القرآن الكريم.

ومن تلك الآيات التي ذكر فيها الظلمات، قوله تعالى:{اللهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} 1.

"أجمع المفسرون على أن المراد ههنا من الظلمات والنور: الكفر والإِيمان"2.

"والظلمة عدم النور، وجمعها ظلمات،.. ويعبر بها عن الجهل والشرك والفسق. كما يعبر بالنور عن أضدادها"3.

وأضدادها هي: العلم والإِيمان الخالص، والطاعة.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} : "فأخبر تعالى أن الذين آمنوا باللَّه، وصدقوا إِيمانهم، بالقيام بواجبات الإِيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى

1 سورة البقرة الآية رقم (257) .

2 التفسير الكبير، للرازي، (7/20) ، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، طهران.

3 المفردات للراغب الأصفهاني، ص (315) .

ص: 602

تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإِيمان والطاعة والإقبال الكامل على ربهم"1

من هذه النقول يتبين أن الظلمات التي يتلبس بها الكفار، والتي يخرج اللَّه المؤمنين منها تشمل: ظلمة الجهل، وظلمة الكفر وظلمة الشرك والمعاصي. وهي تقابل ما ينعم اللَّه به على المؤمنين من النور الذي يشمل: نور العلم، ونور الإِيمان والطاعة.

ويمكن حصر المراد بالظلمات في أمرين:

الأول: ظلمة الكفر المتضمن للجحود والضلال العملي.

الثاني: ظلمة الجهل المتضمن للضلال العلمي.

وما دام المقام في تحديد المراد بالظلمات في قوله: {كَظُلُمَاتٍ} التي أشارت إجمالاً إلى الظلمات، فإِن من المناسب أن أقدم الكلام على الجملة الأخرى التي أجملت - أيضاً - ذكر الظلمات بعد تفصيلها، وهي قوله تعالى:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ليتيسر - إِن شاء اللَّه - تحديد ما يقابل الظلمات الحسية الثلاث.

قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} .

1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/318) .

ص: 603

هاتان جملتان1 الأولى تقديرها: هي ظلمات أو هذه ظلمات.

والضمير أو الإشارة تعود إلى الظلمات الثلاث التي سبق تفصيلها.

وهي تفيد تأكيد ما تقدم من أن الحجب ظلمات، أي أنها تسببت في حصول الظلمة وحجب الضوء.

وهكذا الحال في الممثّل له - كما يدل عليه الاعتبار والقياس - هو في ظلمة شديدة حالكة، بسبب حُجُب حَجَبت عنه نور الهداية.

والجملة الثانية: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} : صفة لظلمات. أفادت أن الحجب مترتبة متعاقبة، بعضها أقرب إلى الشخص الكائن في ذلك المكان المظلم وبعضها أقرب إلى مصدر النور.

وهكذا الحال في الممثّل لهم - هذا القسم من الكفار - قام بهم حجب حجبت قلوبهم عن نور الهداية، وضُربت عليهم حجب منعت أنوار الهداية أن تصل إليهم جزاءً وفاقاً.

وقوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} تقابل قوله: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} في مثل النور المتقدم في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآية.

وقد تقدم2 بيان أن النورين يراد بهما:

1 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، للهمداني، (3/605) .

2 عند دراسة المثَل "مثل نور"، ص (306) .

ص: 604

1-

نور الإِيمان الذي يقذِفه اللَّه في قلب عبده المؤمن.

2-

نور العلم الواصل للقلب من تعلم الكتاب والسنة.

تحرير ما يقابل الظلمات الثلاث:

وهي الواردة في قوله سبحانه: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} .

قال ابن جرير رحمه الله "يقول: عمل بنية قلب قد غمره الجهل، وتغشته الضلالة والحيرة، كما يغشى هذا البحر اللجي موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، قال:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو قوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 1

"2.

ويتحصل من كلام ابن جرير هذا الإشارة إلى ثلاث ظلمات هي:

الأولى: ظلمة الجهل، من قوله:"قد غمره الجهل".

الثانية: ظلمة الكفر والضلال، من قوله:"وتغشته الضلالة والحيرة".

الثالثة: ظلمة الختم على قلبه وسمعه وبصره، من قوله: "يعني بذلك

1 سورة البقرة الآية رقم (7) .

2 جامع البيان، (9/335) .

ص: 605

فَوْقَ بَعْضٍ} في مقابلة قوله: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} في مثل النور. وأشرت - قريباً - إلى أن النورين هما: نور الإِيمان، ونور العلم المستفاد من الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.

والقياس والاعتبار يقتضي مقابلة الشيء بضده، فيكون من الظلمات التي بعضها فوق بعض ما يقابل هذين النورين، وهما ظلمة الكفر، وظلمة الجهل والإعراض عما جاء من عند اللَّه من العلم والهدى.

ومما يقوي هذا أن ابن جرير رحمه الله نص على أن الكفر إنما سُمّي ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك حقائق الإِيمان، حيث قال:

"وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك حقائق الإِيمان، والعلم بصحته، وصحة أسبابه.

فأخبر تعالى ذكره أنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإِيمان، وسبله وشرائعه وحججه وهاديهم فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر وظُلَم سواتر أبصار القلوب"1.

ويستخلص من هذا النقل - مما يتعلق بهذا المبحث - ثلاث فوائد هامة:

الأولى: أنه نص على أن الظلمات جعلت مثلاً للكفر.

الثانية: نصه على أن الكفر حجاب، يحجب رؤية القلب.

1 جامع البيان لابن جرير، (3/14، 15) .

ص: 607

الثالثة: بيانه أن هذه الحُجُب والظُّلَم إنما هي سواتر وحجب تحجب أبصار القلوب، كما أن الظُّلَم الحسيه تحجب أبصار العيون.

كما أنه يتفق مع دلالة السياق من جهة أخرى، حيث تقدم1 أن هذه الأمثال في سورة النور تشترك في تقرير حقيقة هامة، هي:

"بيان أن سبب الهداية الأهم وطريقها الأوحد، هو تعلم ما أنزل اللَّه من الهدى والنور في كتابه المبين وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

وأن سبب الضلال الأهم هو الإعراض عن ذلك والجهل به".

فتفسير أحد الظلمات الحاجبة لأنوار الهداية بسبب الضلال هذا، يتفق مع هذه النتيجة التي تتظافر هذه الأمثال في بيانها.

3-

ومن الاعتبارات المفيدة في تحديد المراد بالظُّلَم ما يستفاد من كون ظلمة الموجين من جنس واحد، وقريبة من الممثّل به، وفي محيطه، وكون الظلمة الثالثة خارجة عن محيطه، وبعيدة عنه وأقرب إلى مصدر الضوء.

وكذلك ظلمة الجهل والإعراض عن العلم بالكتاب والسنة، وظلمة الكفر - اللتان يُقابَل بهما الموجان - هما من جنس واحد باعتبار أنهما من فعل العبد، وكل منهما ضلال وعمى.

أما ظلمة الختم والطبع والغشاوة - التي تقابل السحاب - فهي من

1 انظر: المبحث الثاني: أهمية المثَلين، ص (476) .

ص: 608

فعل اللَّه المحض، فهي بعيدة عن استطاعة العبد وفعله.

وهي مناسبة لمقابلة السحاب من جهة أخرى، حيث إن أثرها في حجب الهداية، ونور العلم عن الكفار عظيم، كما أن أثر السحاب في حجب الضوء عن الممثّل به هو الأقوى والأشد. لذلك قال اللَّه تعالى في ختام المثَل:{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، حيث إن هذا الختام يتكلم عن فعل اللَّه سبحانه.

ومما تقدم من أقوال أهل العلم، وهذه الاعتبارات يمكننا تحديد المراد بالظُّلَم الثلاث القائمة بهذا الصنف من الكفار، والتي تقابل الظُّلَم الحسية في البحر اللجي، وهي:

1-

ظلمة الجهل: المتمثل في الإعراض عن وحي اللَّه المطهر - الكتاب والسنة - والجحود والتكذيب له، وغير ذلك من الضلالات العلمية والعملية الباطنة. وهي تقابل الموج الأول الباطني.

2-

ظلمة الكفر: المتضمن للضلالات العلمية والعملية الظاهرة، وهي تقابل الموج السطحي الظاهر على سطح البحر.

3-

الحجاب الناتج عن ختم اللَّه على قلوبهم وأسماعهم، وجعله الغشاوة على أبصارهم. وهو يقابل السحاب في الممثّل به.

قال ابن جرير رحمه الله مبيناً هذا الحجاب في قوله تعالى:

ص: 609

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1..، قال:"فأخبر2 صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل اللَّه عز وجل والطبع، فلا يكون للإِِيمان إليها مسلك، ولا للكفر منه مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره اللَّه تبارك وتعالى في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإِيمان إلى قلوب من وصف اللَّه أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها"3.

1 سورة البقرة الآية رقم (7) .

2 يشير إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإِن تاب ونزع واستغفر، صُقِل قلبه، فإِن زاد زادت حتى تغلق قلبه، فذلك الران، الذي قال اللَّه جل ثناؤه: {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "[المطففين:14]، انظر: جامع البيان (1/45) ، ورواه الإمام أحمد، المسند (2/97) والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح" تحفة الأحوذي، (9/254) والحاكم وقال:"صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، المستدرك (2/517) .

3 جامع البيان، (1/145-146) .

ص: 610

وخلاصة الظلمات الثلاث التي حالت بين ذلك الكافر وأنوار الإِيمان والهداية الإلهيه هي:

1 -

تكذيبه وإعراضه عما أنزل اللَّه من العلم والهدى وجهله به.

2 -

كفره وضلالاته العلمية والعملية.

3 -

طبع اللَّه على قلبه وسمعه وبصره.

وكل واحد من هذه الظلمات عبارة عن حجاب يسهم في إبعاده عن مصدر النور والهدى، فهو إذاً بعيد جداً، وفي ظلمة وحيرة شديدة. نسأل اللَّه السلامة والعافية.

بيان دلالة قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} ، وقوله:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} على الممثّل له.

لقد أخرت الكلام على قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} إلى حين الكلام على قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لكون هاتين الجملتين تسهمان في تحديد مكان الظلمة في الممثّل له، وأثرها عليه.

ويستفاد من هاتين الجملتين أمور منها:

أولاً: تحديد ما يقابل المكان الممثّل به.

ثانياً: ما يقابل الشخص المقدر وجوده في ذلك المكان، في قوله تعالى:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .

ص: 611

وعليه فالأنسب - واللَّه أعلم - تفسير البحر اللجي بما يتناسب مع ما فسرت به الأمواج، حيث إنها من جنس واحد فالكل ماء. والبحر كلٌ والأمواج أفراده، فيكون تفسير "البحر اللجي": بما يفيد عمق كفر وضلال ذلك الكافر وسعته. وأنه مغمور ببحر من الظلمات تتلاطم فيه أمواج الضلال والفساد والجهالات والشرور.

وإن كان المراد أن قلب الكافر يقابل ذلك المكان الكائن في عمق البحر اللجي تحت الموج الباطني - الذي يدور السياق حول بيان شدة ظلمته، والمقدر فيه الذي إذا أخرج يده لم يكد يراها - فهو تفسير مناسب تماماً لتطابق الممثّل به والممثّل له.

وذلك أن ذلك المكان في قعر المحيط يغمره الماء - ماء البحر المالح - من داخله ومن خارجه. وكذلك قلب الكافر تغمره الضلالات والكفر والجهالات من داخله وخارجه. فاعتقاده وعمل قلبه كفر وضلال، وعمله الظاهر وأقواله كفر وضلال، وتغشاه أمواج الفتن والفساد، وتيارات الكفر والإِلحاد من كل مكان.

الأمر الثاني: تحديد ما يقابل الشخص المقدر وجوده في ذلك المكان في قوله تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .

مما تقدم تبين أن البحر اللجي يقابله: بحر الكفر والضلال والجهالة التي يتقلب فيها الكافر.

وأن المكان الكائن في قعر البحر تحت الأمواج يقابله: قلب الكافر،

ص: 613

المغمور في ظلم الكفر والجهل والضلال.

ويكون ما يقابل الشخص المقدر وجود في ذلك المكان هو: بصر القلب وعينه. فالمراد بيان عدم قدرة قلب الكافر على الإِبصار، في مقابل عدم قدرة عين ذلك الشخص على الإِبصار.

وقد أشار ابن جرير رحمه الله إلى هذه المقابلة بقوله المتقدم، ومنه:

"فأخبر تعالى ذكره أنه ولي المؤمنين، ومبصّرهم حقيقة الإِيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتره عن أبصار القلوب"1.

فقوله: "بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظُلَم سواتره عن أبصار القلوب": يدل على أن تلك الحجب والظلم إنما هي سواتر وحجب تحجب أبصار القلوب، كما أن الظُلَم الحسية تحجب أبصار العيون".

وقال أيضاً: "ويعني بالظلمات: ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإِيمان وحقائق أدلته وسبله"2.

وهذا التشبيه مداره على أن عدم الإبصار سببه انعدام النور، وليس

1 جامع البيان، (3/23) .

2 نفس المرجع.

ص: 614

علة في الآلة المبصرة. وهذا المعنى ظاهر في الممثّل به، والممثّل له.

فالممثّل به - الشخص المقدر وجوده في قعر البحر - لا يبصر يده ولا يبصر غيرها من باب أولى بسبب انعدام الضوء لوجود تلك الحجب المذكورة في المثَل.

والممثّل له - قلب الكافر، المقابل للذي إذا أخرج يده لم يكد يراها - لا يبصر سبل الهدى، وأسباب النجاة، لسبب الحجب التي حالت بينه، وبين أنوار الهداية.

كما أن هذا المعنى يبين حسن المقابلة بين هذا المثَل - مثل الظلمات - ومثل النور. وذلك أن مثل النور بَيَّن استنارة قلب المؤمن، والعوامل التي ساعدت على اكتمال ذلك النور وتوهجه، وأثره الطيب على صاحبه.

وهذا المثَل - مثل الظلمات - بين ظلمة قلب الكافر، والعوامل التي ساعدت على استحكامها، وشدتها، وأثرها السيئ على صاحبها.

وقد ورد ما يشير إلى المقابلة بين المثَلين في ألفاظهما، من قوله سبحانه في مثل النور:{نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} ، ويقابلها في مثل الظلمات قوله:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، وقوله في مثل النور:{يَهْدِي اللَّه لِنُورِهِ مَن يَشَآء} ويقابلها في مثل الظلمات: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

الأمر الثالث: ما تدل عليه جملة: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} وجملة: {إِذَآ أَخْرَجَ

ص: 615

يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، من الظلمة والخوف، والاضطراب والتردد والحيرة.

تقدم عند دراسة الممثّل به1، أن لفظ "لجي" الذي وصف به البحر يدل على أمرين:

الأول: التردد والاضطراب الناتج عن هيجان الأمواج.

الثاني: العمق، حيث إن البحر اللجي: هو العميق كثير الماء.

وتقدم - أيضاً - أن خلاصة المستفاد من هذين المعنيين: أن المشبه به كائن في مكان ما في عمق بحر عظيم مظلم مضطرب الموج، مخيف مفزع.

ويقابل هذه المعاني في الممثّل له:

أن هذا الصنف من الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - مغمورون في بحار الكفر والضلال والفساد، قد أظلم عليهم طريق الهداية، وأظلمت قلوبهم وأعمالهم، فهم في عمى تام، وضلال بعيد، وأنهم بسبب هذه الظلمة، وما يحيط بهم ويغشاهم من العقائد الباطلة والظنون السيئة، وأمواج الشكوك والريب، وتيارات الشهوات الفاسدة، والإرادات الخبيثة، والأفكار والنظريات المنحرفة، في خوف وفزع وقلق وحيرة.

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عملت على

1 انظر ص (580) وما بعدها.

ص: 616

خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها منها، وعلى غير هدى، مثل ظلمات في بحر لجي"1.

قوله تعالى: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

هذه الجملة تلخيص وتأكيد للمعنى الذي دل عليه المثَل، والمعنى الذي دل عليه السياق.

فالمثَل دل على وجود حجب حجبت هؤلاء الكفار عن أنوار الهداية فهم بعيدون عنها، وأن أهم هذه الحجب هو فعل اللَّه بالختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، والحيلولة بينها وبين النور والهداية، فليس بمقدورهم - والحالة هذه - الحصول على نور يهتدون به، إذ إن ذلك بيد اللَّه وحده، وقد حال بينهم وبينه.

ودل السياق2 على أن طريق الهداية الوحيد هو تعلم ما نزل من الوحي والهدى على الرسول صلى الله عليه وسلم وأن سبب الضلال هو الإعراض عن ذلك ومعارضته بضده. وهؤلاء قد أعرضوا عن مصدر النور والهداية، وكذبوا به، وجازاهم اللَّه على ذلك بأن حرمهم منه، وحال بينهم وبينه، فلن يقعوا في سعيهم على مصدر آخر يهتدون به، ولن يجدوا لهم من

1 جامع البيان، (9/335) .

2 انظر: ص (283) .

ص: 617

الظلمات مخرجاً. فهم كما وصفهم اللَّه بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.

ونجد في هذه الآية مقابلة مجملة بين المؤمن صاحب النور، والكافر صاحب الظلمات، التي ورد تفصيلها في سورة النور بمثَل النور ومثَل الظلمات.

قال ابن جرير رحمه الله: "فجعل إِبصاره الحق تعالى ذكره، بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياءً يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل، وإِضلالة الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر، يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحق، وبصرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردد، لا يعرف المخرج منها"2.

1 سورة الأنعام الآية رقم (122) .

2 جامع البيان، (5/331) .

ص: 618

وفي هذه الجملة {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} إثبات لفعل اللَّه سبحانه في إضلالهم، ومنعه النور عنهم، بما ضُرِب عليهم من الختم والطبع والغشاوة.

وسيأتي بيان ذلك في فوائد المثَل إِن شاء اللَّه تعالى.

خلاصة صورة الممثّل له:

دل المثَل على تصوير حال قسم من الكفار، أحاطت بهم الظلمات من كل جانب، فقلوبهم مغمورة في بحر عميق واسع من الجهالة والكفر والضلالة والفساد، مظلمة ظلمة تامة. بعيدة جداً عن مصدر الهدى والنور الإِلهي. بسبب حُجُب حجبتها عنه، من أهمها: ظلمة الجهل الناتج عن التكذيب والإعراض عما أنزل اللَّه من الآيات البينات، وظلمة أعمالهم الكفرية الضالة القولية والفعلية، وظلمة ضربت عليها من اللَّه، حيث ختم على قلوبهم وأسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، جزاءً موافقاً لما تلبسوا به من الإعراض والكفر والضلال.

وأنهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومتوقف بعضها على بعض. وذلك أن ظلمة القلوب وعماها انعكس على أعمالهم فأظلمها. وظلمة الأعمال حجبت عن قلوبهم أنوار الهداية. والختم والطبع الذي حصل لهم إنما هو بسبب إِعراضهم وتماديهم في الغي والكفر.

وأنهم مع ما هم فيه من الظلمات والضلال والغي والعمى، في

ص: 619

خوف وفزع واضطراب وحيرة.

وأنهم لن يهتدوا أبداً ما دام حجاب اللَّه مضروباً عليهم، وطبعه وختمه مستمراً على قلوبهم، حيث حجب به عنهم نوره وهداه. وليس عندهم إلا الظلمات والعمى. فأنى لهم الفكاك مما هم فيه؟ ومن أين لهم نور يهتدون به؟ {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .

ص: 620