الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: بيان الممثّل به (المثَل) :
إِن معظم ألفاظ المثَل واردة لبيان الممثّل به، ولا يختص بالممثّل له إلا ما يستفاد من حرف العطف "أو" والكاف في قوله:{كَظُلُمَاتٍ} في بدايته، وقوله:{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} في ختامه.
ولذا فإِن دراسة ألفاظ المثَل، وإِبراز ما تدل عليه باعتبار المعنى اللغوي، واستنتاج ما توحي به من أحوال المشبه به، أمر مهم لفهم صورة الممثّل له.
وأبدأ بعون اللَّه في دراسة ألفاظ المثَل المتعلقة بالممثّل به:
{أَوْ} : حرف عطف. عطف مثل الظلمات على مثل السراب، الذيِّن شبهت بهما أعمال الكفار.
وهي ترد لعدة معان، من أهمها: التخيير، والإِبَاحَة، والشك، والإبهام، والتقسيم.. وغيرها.1
واختلف المفسرون في معنى "أو" المراد في الآية: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ
…
} فأكثرهم على أن معناها الإِبَاحَة. منهم من نص على ذلك2 ومنهم من
1 انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، (3/232) . ت/محمد محي الدين عبد الحميد.
2 انظر: فتح القدير للشوكاني، (4/38) .
فسرها على هذا المعنى دون نص عليه1. ومن المفسرين من فسرها على معنى التقسيم2.
ومنهم من جوز تفسيرها بجميع معانيها على توجيه لكل منها3. إلا أن هذا لا يستقيم إلا إذا رجعت المعاني الأخرى إلى معنى: الإِبَاحَة أو التقسيم.
"والفرق بين الإِبَاحَة والتخيير: أن الإِبَاحَة لا تمنع الجمع، والتخيير يمنعه"4.
وعلى هذا فتفسير "أو" للإباحة معناه: أن كل مثل من المثَلين - مثل السراب، ومثل الظلمات - يصلح لبيان حال وحكم أعمال الكفار باعتبار.
"على معنى أن المثالين سواء في استقلال كل واحد منهما بوجه
1 انظر: جامع البيان لابن جرير، (8/335) ، وصفوة التفاسير، محمد علي الصابوني (2/343) .
2 سبق ذكر من قال إن المثَلين ضربا لبيان نوعي الكفار من أصحاب الجهل البسيط، والجهل المركب، وأن كل مثل قصد به طائفة من الكفار. انظر: ص (464) وما بعدها.
3 الفريد في إعراب القرآن المجيد، ابن أبي العز الهمذاني، (1/235) ، (3/604) .
4 شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، لعبد اللَّه بن عقيل العقيلي، (3/232) ت: محمد محيي الدين عبد الحميد.
التمثيل، فبأيهما مثلتهم فأنت مصيب، وإن مثلتهم بهما جميعاً فكذلك"1.
أما تفسير "أو" للتخيير فمعناه: أن تكون مخيراً فيهم، مَثِّلْهُمْ بأي المثالين شئت، كما لو قلت: خذ درهماً أو ديناراً.2
والمراد أن تأخذ واحداً، لا أن تجمع بينهما.
وهذا التفسير لا يتفق إلا إذا رجع معنى التخيير إلى معنى الإِبَاحَة، وكان كل مثل صالح لتصوير حالهم.
ولذلك اختار أغلب المفسرين معنى الإِبَاحَة.
إلا أن هناك ما يعكر تفسير "أو" بالإِبَاحَة أو التخيير، ألا وهو اشتراط أكثر النحويين أن تسبق "أو" بطلب.
فقد ورد في تعريف هذين المعنيين ما يدل على ذلك.
فـ "أو" للتخيير: "هي الواقعة بعد الطلب، وقبل ما يمتنع فيه الجمع"3.
و"أو" للإباحة: "هي الواقعة بعد الطلب، وقبل ما يجوز فيه
1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، لحسين بن أبي العز الهمذاني، (1/234) .
2 انظر: نفس المصدر، (1/235) .
3 مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ص87، 88.
الجمع"1.
وبيّن صاحب "النحو الوافي" هذا المعنى، والفرق بين "أو" للتخيير والإِبَاحَة بقوله:"ومما تقدم يتبين أن الإِبَاحَة والتخيير لا يكونان إلا بعد صيغة دالة على الأمر دون غيره. كما يتبين وجه الشبه والتخالف بين الإِباحة والتخيير، فهما يتشابهان في أن كلاً منهما يجيز للمخاطب أن يختار أحد المتعاطفين. ويختلفان في أن التخيير يمنع الجمع بين المتعاطفين، أما الإِبَاحَة فلا تمنع"2.
وهذا الشرط وإن كان ليس مجمعاً عليه عند النحاة3، إلا أن أكثرهم يرى ذلك، وهو الأشهر. والمثَل لم يسبق بأمر ولا طلب، بل هو خبر محض. فأقل أحوال هذا الشرط أنه يضعف تفسير "أو" في المثَل بمعنى الإِباحة، خصوصاً عند وجود معنى سالماً من الاعتراض كما سيأتي.
ومن معاني "أو" الشك والإبهام، وهما وإن كان يشترط لهما أن يسبقا بجملة خبرية4، إلا أنهما أبعد في كونهما مرادَيْن في المثَل من المعنيين المتقدمين، إذ أن المثَل ورد للإيضاح والبيان وليس للإبهام والشك والحيرة.
(1) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ص87، 88.
2 النحو الوافي، عباس حسن، (3/605) ، دار المعارف بمصر، ط: الرابعة، 1976م.
3 انظر: روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، (17/182) دار إحياء التراث، بيروت.
4 النحو الوافي، (3/605) .
وكل محاولة لتفسير "أو" في المثَل بهذين المعنيين لا تستقيم إلا إذا أرجعت إلى معنى الإِبَاحَة أو التقسيم.
ومن معاني "أو" التقسيم وبيان الأنواع. نحو: الكلمة: اسم، أو فعل، أو حرف.1
وتكون دلالة "أو" في المثَل على هذا المعنى: أن الذين كفروا باعتبار أعمالهم ينقسمون إلى قسمين في الجملة: قسم بُيِّن حالهم وحال أعمالهم بمثل السراب، والآخرون بُيِّن حالهم وحال أعمالهم بمثل الظلمات.
وهذا المعنى هو الأقرب لتفسير "أو" في المثَل به، للاعتبارات الآتية:
1-
وجود ما يمنع أو يضعف تفسيرها بالمعاني الأخرى، وخاصة معنى الإِبَاحَة الذي عليه أكثر المفسرين، والذي يشترط له أكثر النحاة أن تسبق "أو" بطلب.
2-
أن هذا المعنى قد قال به بعض المفسرين والعلماء المحققين، حيث نصوا على أن أحد المثَلين لأصحاب الجهل المركب، والآخر للجهل البسيط، ففسروها على معنى التقسيم.2
وقال ابن تيمية رحمه الله:
"فيكون التقسيم في المثَلين لتنوع الأشخاص، ولتنوع أحوالهم،
1 انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، (3/232) ، والنحو الوافي، (3/606) .
2 تقدم ص: (464) وما بعدها.
وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثَل هو مماثل لما ضرب له هذا المثَل، لاختلاف المثَلين صورة ومعنى، ولهذا لم يضرب للإِيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد، فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثَل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة، أو بالظلمات المتراكمة"1.
3-
أن هذا المعنى يتفق مع ما تقدم2 من دلالة السياق، وألفاظ المثَلين، والنتيجة المستخلصة من ذلك، من أن كل مثل ضرب لبيان أعمال فريق من الكفار.
وعلى هذا تتظافر الدلائل المستفادة من: السياق، ومن التأمل في ألفاظ المثَلين، ومن المعطيات اللغوية على إفادة أن كل مثل ضرب لبيان أعمال فريق من الكفار وما يتصل بها من أحوالهم.
قوله: {كَظُلُمَاتٍ} .
الكاف: أداة تشبيه، ومحلها في الإعراب: الرفع لكونها معطوفة على الكاف في {كَسَرَاب} وهذه الأخيرة خبر المبتدأ الذي هو أعمالهم.3 وتقدير الكلام:
والذين كفروا أعمالهم كسراب
…
أو هي كظلمات
…
1 مجموع الفتاوى، (7/278) .
2 انظر: ص: (458) .
3 انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604) .
الظلمات: المراد الظلمة الحسية الكائنة في هذا المكان الموصوف.
والظلمات: هي أساس التمثيل، إلا أن مدى التمثيل يشمل حال الكائن في هذه الظلمة وأثرها عليه.
وسيأتي في تدبر ألفاظ المثَل ما يدل على أنها ظلمة حالكة مفزعة.
قوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} .
في: حرف جر، وهي هنا للظرفية المكانية، ومتعلقة بالظلمات. فهي تدل على أن الظلمات كائنة في مكان ما من البحر اللجي. وسيأتي مزيد بيان لطبيعة هذا المكان في تحليل ألفاظ المثَل القادمة.
بحر: "أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير"1
وهو يطلق على البحر الصغير والكبير، كما دل عليه قوله سبحانه:
{وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} 2، ومعلوم أن الفلك تجري في البحار الصغيرة وفي المحيطات الكبيرة.
وقوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ البَحْرَ} 3 ومعلوم أن البحر الذي فرقه اللَّه لبني إسرائيل من البحار الصغيرة.
1 المفردات في غريب القرآن، (37) .
2 سورة البقرة الآية رقم (164) .
3 سورة يونس الآية رقم (90) .
ويطلق أيضاً على الماء المالح والعذب. لظاهر قوله تعالى:
{وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1 ونحوها.
وعلى هذا فلفظ "البحر" يطلق على المحيطات العظيمة، والبحار الصغيرة، والأنهار الجارية، والبحيرات الكبيرة، المالحة منها والعذبة.
وبهذا يعلم ضعف قول من حصر تعريف البحر في البحار الكبيرة المتصل بعضها ببعض2، أو في البحار مالحة الماء3، فإِن ظاهر نصوص القرآن تعارضه.
ولعموم وسعة دلالة لفظ البحر ناسب وصفه بأنه لجي ليكتسب معنى وبعداً هاماً في إبراز الصورة المرسومة في المثَل.
لجي: صفة لبحر4.
وتدور تفاسير أهل العلم لهذا اللفظ على معنين:
الأول: التردد والاضطراب، الناتج عن اختلاط الأمواج وهيجانها.
1 سورة فاطر الآية رقم (12) .
2 انظر: من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. حسن أبو العينين، (2/267) .
3 انظر: المفردات في غريب القرآن، ص (38) .
4 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604) .
ومنه قولهم: "التجّ البحر: اضطرب وهاج وغمر"1.
ويؤيد هذا المعنى ما بعده، من قوله:{يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} .
قال الراغب مبيناً هذا المعنى: "ومنه لَجة الصوت - بفتح اللام - أي تردده، ولُجة البحر - بالضم - أي تردد أمواجه.. قال: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} منسوب إلى لجة البحر.."2.
ويستفاد من هذا المعنى أن المكان المصور للمشبه به مكان مخوف مفزع موحش: "والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإِذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف"3.
الثاني: لجي: "العميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. يقال: لج الماء ولجُته: أي معظمه"4.
1 المنجد في اللغة، لويس معلوف، دار المشرق، الطبعة الثانية عشرة، ص (713) . مادة ((لجّ)) .
2 المفردات في غريب القرآن، ص (448) .
3 فتح القدير للشوكاني، (4/39) .
4 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/604)، وانظر: جامع البيان لابن جرير، (9/335) .
"اللجة معظم الماء،
…
وهو الذي لا يدرك لعمقه"1.
ويؤيد هذا المعنى - وهو دلالة وصف البحر بأنه لجي على عمقه - ما ثبت في علم البحار من أن الأمواج الباطنية - التي تكون تحت سطح الماء المعبر عنها بقوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} - لا تكون إلا في البحار العميقة.2
وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الدلالة العلمية.
ويستفاد من هذا المعنى أن مكان التشبيه مكان مظلم. إذ هذه طبيعة قاع البحار العميقة وذلك أن الأمواج الباطنية لا تكون إلا في عمق البحار العظيمة، ومكان التشبيه كائن تحتها.
ويكون مجموع المستفاد من قوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} .
أن المشبه به كائن في مكانٍ ما في قاع بحر عظيم عميق مظلم مضطرب الأمواج مخيف مفزع.
قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} .
يغشاه: أي يغطيه.
قال في المفردات: "غشى: غشيه غشاوة وغشاءً: أتاه إِتيان ما قد
1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) .
2 انظر: المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي، محمد حسن هيتو، ص (195) ، دار الرسالة بيروت، الطبعة الثانية، 1415هـ.
غشيه، أي ستره. والغشاوه ما يغطي به الشيء"1.
والضمير في {يَغْشَاهُ} : " لصاحب الظلمات أو للبحر"2.
ويحتمل أن يكون: للمكان الذي فيه المشبه به. المدلول عليه بقوله: {فِي بَحْرٍ لّجّيّ} : أي في مكان ما من البحر اللجي، كما تقدم.
والقول أن الضمير يعود على البحر فيه نظر، وذلك أن الموج داخل البحر، وجزء منه، والغشيان هو التغطية، والموج لا يغطي البحر وإنما يتردد فيه.
والقول أن الضمير لصاحب الظلمات، جيد إلا أنه لم يتقدم ما يشير إليه في السياق، وإن كان سيأتي بعد في قوله:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . لذلك فالأقوى أن الضمير يعود على المكان الذي حدد في قاع البحر العميق والذي هو مسرح المثَل. وهو يتضمن صاحب الظلمات إذ هو فيه.
فتكون جملة: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفة للمكان الواقع فيه المشبه به صاحب الظلمات في قاع البحر.
فالسياق يبين المكان الذي يقع فيه المشبه به وما يعتريه من أسفل إلى أعلى.
1 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، (361) .
2 الفريد في إعراب القرآن المجيد، (3/605) .
فالمكان في قاع البحر المظلم، ويغطيه ويغمره موج من فوقه، وفوق ذلك الموج موج آخر، وفوق البحر سحاب.
كما يدل السياق على أن هذه العوامل تسهم في حجب النور عن الكائن في ذلك المكان، وتصور شدة الظلمة المحيطة بالمشبه به. كما سيأتي في قوله:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} .
وهذه الصورة المرسومة للممثل به تدل على وجود موج داخل البحر واقع بين قاعه والموج الذي يكون على سطحه. ففي هذا تقرير لحقيقة علمية.
قال محمد حسن هيتو: "فقوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} : فيه إشارة لا لبس فيها ولا غموض إلى هذه الأمواج الداخلية التي تكلم عنها العلم الحديث وأثبتها، كما يشير إلى الأمواج السطحية التي نراها ونعرفها، وهذا المعنى واضح من قوله تعالى:{مّن فَوْقِهِ} ، أي أن الموج الأول من الأسفل، والموج الثاني يأتي من فوقه، ولم نعد بحاجة إلى ارتكاب المجاز في قولنا1: من فوقه: أي من
1 يشير إلى قول بعض المفسرين الذين فسروا "من فوقه بمن بعده" انظر فتح القدير للشوكاني، (4/39) وقوله:"ولم نعد بحاجة إلى المجاز": الحق أن أهل الإسلام ليسوا بحاجة إلى المجاز دائماً، فلا يليق أنه كلما استشكل المفسرون والعلماء أمراً لكونه من الغيب أو لم يأت تأويله بعد، صرفوه عن ظاهره، ومالوا بمعناه بالمجاز والتأويل. وإنما الواجب تفسيره على المعنى الظاهر المعلوم من لغة المخاطبين به، والتوقف في حقيقته حتى يأتي تأويله، وانكشاف حقيقته إما في الدنيا كما في هذه الآية، أو في الآخرة كما قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (الأعراف الآية رقم: 53) . انظر لمعرفة بطلان ما اصطلحوا عليه من قواعد المجاز وضوابطه، وما حصل بالتأويل من تحريف نصوص الكتاب والسنة والإلحاد في آيات اللَّه وأسمائه:
- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (كتاب الإِيمان) - (7/87) وما بعده.
- والصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة للإمام ابن قيم الجوزية.
بعده، وأن تتابع الموج يظهره كأن بعضه يركب بعضه الآخر.
إن الآية واضحة كل الوضوح، وصريحة في دلالتها على هذا الذي اكتشفه العلم الحديث من الأمواج الباطنة التي تعلوها الأمواج السطحية، ولا سيما أن الآية قالت:{فِي بَحْرٍ لّجّيّ} أي عميق،..، وهذا إِنما يكون في المحيطات، لا على الشواطئ والخلجان1.
ويأتي الكلام - إِن شاء اللَّه - على دلالة هذه الفائدة العلمية، عند الكلام على فوائد المثَل.
قوله: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} .
1 المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي، ص (195-196) .
الضمير في قوله: {مّن فَوْقِهِ} يعود على الموج المتقدم ذكره في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} ، فقوله:{مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} صفة للموج المتقدم ذكره.1
وهذا الموج هو الكائن على سطح البحر، المشاهد بالعيان، وذلك إِن هذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن إزاء لفظ "الموج" ولم يصرف عن ذلك بصارف. كما أنه هو الموج الذي يكون السحاب من فوقه.
قوله: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} .
الضمير في قوله {مّن فَوْقِهِ} يعود على الموج المذكور في قوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} فتكون هذه الجملة {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفة له.2
وهذا الحجاب خارج عن البحر منفصل عنه، وأثره في حجب النور أعظم حيث حجب مصدر النور الحسي الذي هو الشمس في النهار، ومعالم الاهتداء التي هي النجوم في الليل.
والسياق لم يذكر هل الزمان ليل أو نهار.
ومن ذكر من المفسرين3 أن الزمان ليل اعتبر أنه هو الأنسب
1 الفريد في إعراب القرآن المجيد، للهمذاني، (3/605) .
2 نفس المرجع والصفحة.
3 انظر: فتح القدير للشوكاني، (39/4) والفريد في إعراب القرآن المجيد للهمذاني، (3/605) .
لسياق المثَل المصوِّر لشدة الظلمة.
إلا أن اعتبار الزمان نهاراً له وجه معتبر في المثَل، حيث يدل على أن مصدر النور الذي هو الشمس موجود إلا أن صاحب الظلمات أوقع نفسه في مكان محجوب عن النور، وفي حال أوجبت أن يحال بينه وبينه.
قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} هذه الجملة فيها إجمال بعد تفصيل، وقد تضمن أسلوب المثَل إجمالاً ثم تفصيلاً ثم إجمالاً. وذلك أنه قال في أول المثَل:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ} ثم فصلها وبين أنها مكونة من ظلمة قاع البحر الناتجة عن موج فوقه، وموج فوق الموج الأول، وسحاب فوق الجميع، ثم أجمل بقوله:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} .
وقد تضمن قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} فائدة علمية في علم الضوء. وذلك أنه - سبحانه - عَدَّ في الظلمات الموج الأول والموج الثاني.
والموج هو حركة ماء البحر، وماء البحر شفاف. فكيف يسمى ظلمة؟
إن تسمية هذه الحجب ظلمة إنما هو باعتبار أنها مسببة لها.
والسياق يدل على أن الظلمة لم تحدث من شيء واحد، وإنما ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تكوينها واستحكامها.
فالسحاب، والموج الأول، والموج الثاني، كل منها عزل شيئاً من الضوء فأحدث ظلمة فيما تحته.
وهذا المعنى تماماً هو ما يقرره قانون انعكاس وانكسار الضوء عند مروره في الأوساط المختلفة وخلاصته:
أنه إذا سقطت حزمة من الأشعة الضوئية على سطح فصل بين وسطين شفافين فإنها تنقسم إلى حزمتين، حزمة تنعكس، وأخرى تنفذ إلى الوسط الثاني وتنكسر داخله.1
والأشعة المنعكسة: هي أشعة مرتدة إلى الوسط الأول.
والأشعة المنكسرة: هي أشعة تنفذ إلى الوسط الثاني، إلا أنها تنكسر فيه، ونظراً لتعدد الأوساط المائية داخل البحر، بسبب اختلاف كثافتها، فإِن عملية الانعكاس والانكسار تتكرر، وكمية الضوء النافذ تقل.
"ذلك لأن المياه في البحار والمحيطات سرعان ما ترتب نفسها رأسياً وأفقياً تبعاً لاختلاف كثافتها، وتتركز طبقات المياه الأثقل وزناً والأعلى كثافة في الأسفل، وتعلوها طبقات المياه الأقل وزناً والأقل كثافة"2.
وإِذا تعدد الانكسار - بسبب تعدد الأوساط المائية المختلفة
1 انظر: الفيزياء العامة والتطبيقية، الضوء، (2/83) ، ت/محمد بشير مكي، مديرية المطبوعات، جامعة حلب، 1969م، وانظر: الموسوعة العربية العالمية، (15/328) .
2 من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، (2/264) .
الكثافة - فإِن ذلك "يؤدي.. إلى ازدياد زاوية سقوط الشعاع الضوئي بانتقاله من الطبقات العليا للطبقات السفلي. وإذا زادت زاوية سقوط الشعاع بحيث أصبحت أكبر من الزاوية الحرجة، فإِن الشعاع ينعكس انعكاساً كلياً"1.
وهذا يعني أن الضوء في هذا الوضع يرتد إلى أعلى ولا ينفذ منه شيء.
ويوجد عوامل في طبيعة المشبه به تساعد على انعكاس الضوء، وزيادة انكساره، وعدم نفوذه إلى أسفل، منها:
1-
عدم استقامة الوسط الفاصل على سطح البحر نتيجة للتموج، فيتخذ الماء أشكالاً مختلفة تساعد على زيادة انعكاس الضوء2.
2-
سماكة الوسط وكثافته، تزيد من انكسار الأشعة الضوئية وتقلل من نفوذها إلى أسفل.
ومعلوم أن ماء البحر كثافته كبيرة لوجود الأملاح الذائبة فيه.
1 الفيزياء المرحلة الثانوية، الصف الثاني، الرئاسة العامة لتعليم البنات بالمملكة العربية السعودية الرياض، 1415هـ.
2 وهو ما يسمى علميا: "الانكسار المضاعف" و "انتثار الضوء" بسبب عدم تماثل المناحي، وتعدد الأوساط، وغير ذلك من العوامل: انظر: الفيزياء العامة والتجريبية، الضوء، بيير فلوري، جان بول، ص (4، 443، 459) مطبوعات جامعة دمشق، الطبعة الأولى، 1394 هـ.
كما أن سماكة الأمواج - في البحار العظيمة - كبيرة، فقد تصل سماكة كل من الموج السطحي، والموج الباطني إلى (30) متراً.1
3-
حركة الماء وتموجه وتفاوت درجة حرارته تحدث وضعاً مختلف الأوساط تشبه ألواح الزجاج الموضوعة بعضها على بعض، وينتج عن هذا تكرر عملية الانعكاس والانكسار مما يقلل كمية الضوء الذي ينفذ إلى أسفل2.
وعلى هذا فالأشعة الضوئية التي تنفذ من الحجاب الأول - السحاب - ينعكس جزء كبير منها عند سطح البحر عند سقوطه على الموج السطحي - الحجاب الثاني - ويتوالى انعكاس وتكسر الضوء النافذ إلى الماء حتى لا يكاد يصل إلى الموج الباطني - الحجاب الثالث - شيء، وما قد يصل إليه يحصل له ما حصل للضوء عند مروره في الموج الأول، فيتلاشى الضوء تماماً داخل الموج الثاني ولا ينفذ منه شيء إلى أسفل.
وإذا علم أن أعماق البحار الكبيرة سحيقة - فالمحيط الهادي مثلاً متوسط عمقه (4282) متراً، وأقصى عمق له هو (11022) متراً3 -
1 الفيزياء العامة والتجريبية، الضوء، بيير فلوري، جان بول، ص (9) .
2 انظر: الموسوعة العربية العالمية، لنخبة من الأساتذة المتخصصين، (22/388، 407) . الناشر: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1416هـ.
3 انظر: من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. حسن أبو العينين، (2/276) .
عُلِم بُعد مكان الممثّل به عن مصدر الضوء، وشدة ظلمته لوجود الحجب الكثيرة بينه وبينه.
وهذه الظلمة ملازمة لا تتأثر بإشراق الشمس نهاراً فوق السحاب، أو غيابها ليلاً. فسببها الحجب الكثيفة المانعة للضوء والبعد السحيق.
وعلى هذا فالأنسب - واللَّه أعلم - في اعتبار المثَل افتراض أن الشمس مشرقة فوق السحاب، وذلك للاعتبارات الآتية:
1-
أن ذلك أبلغ في إفادة شدة الظلمة، إذ إن الظلمة اللازمة التي لا تتأثر بليل ولا بنهار أشد وأعظم من الظلمة الطارئة المتأثرة بالشمس.
2-
أن افتراض أن الشمس مشرقة، يفيد في الدلالة على بُعد الواقع في ذلك المكان المظلم عن مصدر النور - الشمس - والذي يقابل في الممثّل له بنور العلم. مما يفيد في بيان أن ضلاله إنما هو بسبب بعده عن مصدر النور، ووجود تلك الحجب، وليس انعدام مصدر النور.
3-
أن التفصيل في ذكر الحجب، وتسميتها ظلمات يدل على أن لها أثراً في إحداث الظلمة، وذلك لا يتحقق إلا بافتراض أن الشمس مشرقة، حيث يخترق بعض أشعتها السحاب.
أما في الليل فإِن السحاب كاف في إحداث الظلمة، حيث يحجب النجوم، وعندها تستوي الظلمة فوق البحر وداخله، ولا حاجة لذكر الحجب الأخرى. ولكن يناسب ذلك مع وجود بعض الضوء الذي تسرب من السحاب - والشمس مشرقة - إذ يبرز أثر تلك الحجب في
حجب ذلك الضوء النافذ عن قاع البحر.
ودلالة هذه الجملة من المثَل {ظلمات بعضها فوق بعض} : هي التأكيد على شدة الظلمة المحيطة بالممثّل به، وبعده عن مصدر النور.
قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .
تتضمن فائدتين:
الأولى: ما دل عليه فاعل أخرج في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} من تقدير وجود شخص كائن في المكان الذي تقدم وصفه في قاع البحر. حيث إن "فاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام: أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتُلِيَ بها.."1.
الثانية: بيان المراد من وصف الظلمة المتقدم، وهو إِفادة عدم قدرة من كان فيها على الإبصار والاهتداء إلى طريق النجاة.
وقد اختلف المفسرون واللغويون في المراد بقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، ومرد أقوالهم إلى ثلاثة أقوال هي2:
الأول: لم يرها ولم يكد، أي لم يقرب من رؤيتها. فإِذا لم يقارب
1 فتح القدير، للشوكاني، (4/40) .
2 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/336) ، وفتح القدير للشوكاني، (4/40) ، والفريد في إعراب القرآن المجيد للهمذاني، (3/606) .
رؤيتها فهو من أن يراها أبعد.
الثاني: أن يكون يراها ولكن بعد بطء وجهد ومشقة. أي أنه يراها بعد أن يقارب ألا يراها.
الثالث: بمعنى: لا يراها.
والقول الأول والثاني - مع تضادهما في الدلالة - متفقان مع أصل معنى "كاد"، وذلك أنها تدل على المقاربة، إذ هي من أفعال المقاربة. "فهذه الأفعال جاءت لتفيد قرب زمن وقوع الخبر من الاسم قرباً كبيراً، وقد يقع الخبر أو لا يقع، بل قد يستحيل وقوعه، نحو قوله تعالى:{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ.} .1.
أما القول الثالث فهو غير متفق مع معنى "كاد" لعدم اشتماله على معنى المقاربة. وإِن كان صحيحاً في المعنى، متفقاً مع دلالة السياق.
والقول الأول والثاني مع اتفاقهما مع معنى (كاد)، إلا أن سبب الاختلاف بينهما إنما هو في دلالة الأسلوب في قوله:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .
هل معناه: وقوع الرؤية مع الصعوبة والمشقة والتردد، ومقاربة عدم الفعل، نظير قوله تعالى:{فَذَبَحُوهَاوَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} 2 أو المراد: نفي
1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/615) الهامش.
2 سورة البقرة الآية رقم (71) .
الرؤية، ونفي مقاربتها.
والقائلون بأَن الأصل في الأسلوب يدل على وقوع الرؤية بعد جهد وشدة أكثرهم رجح تفسيره في الآية بعدم الرؤية لدلالة السياق.
وعبر عن هذا الاتجاه ابن جرير رحمه الله بقوله:
"وقد علمت أن قول القائل: لم أكد أرى فلاناً، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدة".
إلى أن قال: "وهذا القول الثالث [أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد] أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب "كاد" في كلامها. والقول الآخر الذي قلنا إِنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها، قول أوضح من جهة التفسير، وهو أخفى معانيه، وإنما حسن ذلك في هذا الموضع، أعني أن يقول: لم يكد يراها، مع شدة الظلمة التي ذكر"1.
وفريق آخر يرى أن أسلوب "لم يكد يفعل" يدل على مطلق نفي المقاربة، إِما نفي مقاربة الفعل - مقاربة تركه - مع الفعل، كما في قوله:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . أو نفي الفعل مع نفي مقاربته، كما في قوله:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . وكل المعنين مستفاد من الأسلوب، جارٍ على أصل معنى "كاد" وهو المقاربة.
1 جامع البيان، (9/336) .
وقد عبر عن هذا المعنى بعضهم بقوله:
" {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرب من رؤيتها، فإِذا لم يقارب رؤيتها فهو من أن يراها أبعد، فهذا جاء على أصل الكلمة، وإن كانت اللغة قد جاء فيها (لم أكد أفعل) معناه: فعلته بعد جهد أو تقاعد عنه، وعلى هذا قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} فهذا المعنى الذي دخل الكلمة لم يزل عنها الأصل الذي لها".1
وعلى هذا يكون الأصل في نحو قولنا: "لم يكد يفعل" نفي مقاربة الفعل، ونفي الفعل من باب أولى. لكن قد يأتي في السياق ما يدل على المعنى الآخر، وهو: وقوع الفعل بعد جهد أو ممانعة. وهذا المعنى فيه معنى نفي المقاربة، فلم يزل به أصل الوضع تماماً - وهو نفي المقاربة - وإن كان المعنى قد اختلف.
ففي قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} رجح معنى: وقوع الفعل مع مقاربة عدم الفعل، قوله في السياق {فَذَبَحُوهَا} وليس مجرد قوله:{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} .
وفي قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، جاءت على الأصل: نفي مقاربة الرؤية،
1 الفريد في إعراب القرآن الكريم، للهمذاني، (3/606) .
وأنه لم يرها ولم يكد.
ورد في "النحو الوافي":
" (كاد) كغيرها من الأفعال في أن معناها ومعنى خبرها منفي إذا سبقها نفي، خلافاً لبعض النحاة، فمثل:(كاد الصبي يقع) معناه: قارب الصبي الوقوع، فمقاربة الوقوع ثابتة.
ولكن الوقوع نفسه لم يتحقق. وإذا قلنا: (ما كاد الصبي يقع) فمعناه: لم يقارب الصبي الوقوع، فمقاربة الوقوع منتفية، والوقوع نفسه منفي من باب أولى"1.
وقال أيضاً: "وقد قالوا في بيت ذي الرمة2:
إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى3 من حب مية يبرح
إِنه صحيح بليغ - لأن معناه: إذا تغير حب كل محب، لم يقترب
1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/618) .
2 ذو الرمة: هو غيلان بن عقبة بن بهيش، ويكنى أبا الحارث، وهو من بني صعب بن ملكان بن عدي بن عبد مناة. عاش بين سنتي 77-117هـ. انظر الشعر والشعراء، لابن سلام، (1/437) . وديوان ذي الرمة، شرح الخطيب التبريزي ص (7) . دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ.
3 رسيس الهوى: ابتداء الحب وهو أشده. انظر: ترتيب القاموس، للطاهر أحمد الزاوي، (2/336) . عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الثانية.
حبي من التغير، وإذا لم يقاربه فهو بعيد منه. فهذا أبلغ من أن يقول:(لم يبرح) ، لأنه قد يكون غير بارح مع أنه قريب من البراح. بخلاف المخبر عنه بنفي مقاربة البراح.
وكذا قوله تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هو أبلغ في نفي الرؤية من أن يقال: لم يرها، لأن من لم ير، قد يقارب الرؤية. بخلاف من لم يقارب.."1
وخلاصة القول في المراد بقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، أن الراجح في معناها: أنه لا يراها ولا يقرب من رؤيتها. وإذا لم يقارب رؤيتها فهو من أن يراها أبعد.
وأن هذا التفسير متفق مع معنى "كاد" الذي يفيد المقاربة. ومتفق مع دلالة الأسلوب {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} الدال - كما تقدم - على نفي مقاربة الرؤية. فهو مع صحته أبلغ في إِفادة المعنى المراد المتفق مع السياق الذي دل على استحكام الظلمة.
ودلت هذه الجملة بجانب تأكيد استحكام الظلمة على نتيجة ذلك، وهو عدم قدرة الكائن في هذا المكان على إِبصار يده، وإِذا عجز عن
1 النحو الوافي، عباس حسن، (1/618) . (الهامش) .
إبصار يده فهو عن إبصار غيرها أعجز، فيكون عاجزاً عجزاً تاماً عن الاهتداء إلى طريق النجاة، والفكاك عن ذلك المكان المظلم الموحش المهلك.
قوله تعالى: {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
هذا الختام خاص بالممثّل له. إلا أنه يدل على فائدة في صورة الممثّل به وهي التأكيد على أن الكائن في ذلك المكان لم يصله نور البتة، وأنه لا طريق له إلى النور مع وجود تلك الحجب، ما دام في هذا الوضع وذلك المكان.
خلاصة صورة الممثّل به:
لقد دل المثَل على تشبيه أعمال صنف من الكفار في ظلمتها وضلال عمالها وعدم قدرتهم على الانفكاك منها: بشخص كائن في مكان مظلم في قاع بحر عظيم مضطرب الموج، قد حجب الضوء عنه بحجب كثيرة: من السحاب، والموج المتلاطم على سطح البحر، والموج الداخلي، فلا ينفذ من هذه الحجب شيء من الضوء إلى قاع البحر. كما دل المثَل على أن هذه الحجب هي ظلمات تسهم مجتمعة في انعكاس الضوء وتكسره ثم ارتداده، مما يجعله عند حد معين لا ينفذ منه شيء إلى أسفل، ويكون ما تحته مظلماً ظلمة تامة. كما دل المثَل على أن ذلك المكان في قاع البحر مع ظلمته المطبقة مكان مفزع مخوف، بسبب الظلمة وتلاطم الأمواج وترددها من فوقه.