الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الفوائد المستفادة من المثَل:
يدل مثل الظلمات في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ
…
} الآية، على فوائد هامة في بيان ضلال الكفار وظلمة قلوبهم وأعمالهم، وفي سبب إضلال اللَّه لهم، وختمه على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم.
وعلى فوائد علمية تدل على الإعجاز وعلى نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الفوائد.
وأهم الفوائد المستفادة من المثل:
1-
دلالة المثل على أن الكفار يتقلبون في الظلمات الحالكة لا ينفكون منها.
2-
دلالة المثل على سبب ضلال هذا النوع من الكفار.
3-
دلالة المثل على فعل الله في إضلال الكفار وختمه على القلوب والأسماع.
4-
دلالة المثل على أن الكفار في حيرة وقلق وخوف دائم.
5-
إفادة المثل حقائق علمية، ومعجزة نبوية.
وإلى تفاصيل هذه الفوائد. والله المستعان.
الفائدة الأولى: دل المثَل على أن الكفار يتقلبون في الظلمات الحالكة لا ينفكون منها.
ومأخذ هذه الفائدة من مجموع ألفاظ المثَل، حيث بدأ بقوله:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ} ، ثم بين أنها مركبة وناتجة عن حجب متعددة، بقوله:{يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، ثم أفاد أنهم لن ينفكوا من ضلالهم وكفرهم وظلماتهم - بسبب عدم قدرتهم على تحصيل نور يهتدون به، لأن اللَّه حجب عنهم نوره، وليس عندهم، ولا بمقدورهم تحصيل نور بديل - حيث قال:{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
وهذا المعنى - وهو أن الكفار حائرون في ظلماتهم لا ينفكون عنها - ورد في بعض الآيات، نحو قوله تعالى:
وقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
1 سورة الأنعام الآية رقم (39) .
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
وهذه الظلمات ناتجة عن وجود الحجب، ومن أشدها وأعظمها الختم على قلوبهم وأسماعهم، وقد ربط ابن جرير رحمه الله بين الظلمات وبين الختم والطبع، بقوله:"فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل باللَّه، بأن اللَّه ختم عليه، فلا يعقل عن اللَّه، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ اللَّه، وجعل على بصره غشاوة، فلا يبصر به حجج اللَّه، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض"2.
واستدل ابن جرير بقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، حيث قال: "يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..} الآية3.
وكقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
1 سورة الأنعام الآية رقم (122) .
2 جامع البيان، (9/335) .
3 سورة البقرة الآية رقم (6-7) .
تَذَكَّرُونَ} 1" 2.
وكلام ابن عباس رضي الله عنهما هذا فيه فائدة أخرى ألا وهي الربط بين الكفار المعنيين في مثل الظلمات، والكفار الذين ورد ذكرهم في أوائل سورة "البقرة" في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.
وأن الفريقين من جنس واحد يجمع بينهما وجود الحجب المانعة من الإِيمان والختم والطبع من اللَّه على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على قلوبهم، وتلبسهم بموجب ذلك.
وفي المراد بالكفار في آية سورة "البقرة" المتقدمة أقوال، أهمها قولان مشهوران، رجح كل منهما طائفة من أهل العلم.
القول الأول: أن هذه الآية خاصة بصنف من الكفار، الذين كتب اللَّه عليهم الشقاوة، وسبق عليهم الكتاب بأن يموتوا كفاراً، الذين هم أهل النار المخلدون فيها.
1 سورة الجاثية الآية رقم (23) .
2 جامع البيان، (9/335) .
3 سورة البقرة الآيتان رقم (6، 7) .
فيكون قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} نفي لوقوع الإِيمان منهم مستقبلاً.
ويكون المراد بتلبسهم في الظلمات في المثَل، وبقوله:{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، أن ذلك كائن منهم وعليهم دائماً لا ينفكون منه أبداً.
ويكون حال الكفار المعنيين في آية سورة "البقرة"، وفي مثل الظلمات، كحال من ذكرهم اللَّه بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} 1
قال ابن جرير رحمه الله موجهاً هذا القول:
1 سورة يونس الآيتان رقم (96، 97) .
2 سورة الكهف الآية رقم (57)
"أن اللَّه تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذار غير نافعهم، ثم كان من الكفار من قد نفعه اللَّه بإِنذار النبي صلى الله عليه وسلم إِياه، لإِيمانه باللَّه وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند اللَّه بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار"1.
وقد رجح ابن كثير2 رحمه الله هذا المعنى، في تفسير آية سورة "البقرة" وما شاكلها. كما رجحه بعض المفسرين3.
وفائدة الإخبار بأن هناك صنفاً من الكفار لا ينفكون عن ظلماتهم وضلالهم، ولن يستجيبوا لدعاة الهدى، ولن يذعنوا لأدلة الحق وآياته البينات، هي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقتفي أثره بالدعوة إلى اللَّه. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللَّه تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللَّه السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من اللَّه الشقاوة في الذكر الأول. ففي هذه الآيات - الدالة على أن صنفاً من الكفار لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية - إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن
تولى فلا تحزن
1 جامع البيان، (1/142) .
2 تفسير القرآن العظيم، (1/45) .
3 انظر: مجموع الفتا
عليه ولا يهمنك ذلك1.
القول الثاني: أن الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} - التي ربط ابن عباس رضي الله عنهما بينها وبين مثل الظلمات - عامة تشمل جميع الكفار.
"والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافراً، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه"2.
وقد رجح هذا المعنى شيخ الإِسلام ابن تيمية3 رحمه الله وذكر أنه على هذا القول أكثر تفاسير السلف4.
وقال رحمه الله: "وآية البقرة مطلقة عامة. فإِنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين، فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحُجُب التي على قلبه وسمعه وبصره.
1 انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/45) ، ومجموع الفتاوى، (16/591، 592) .
2 مجموع الفتاوى، (16/584) .
3 انظر مجموع الفتاوى، (16/584-594) .
4 نفس المصدر، ص (16/589) .
وليس قال: إن اللَّه لا يهدي أحداً من هؤلاء، فيسمع ويقبل
…
فالكفار ما داموا كفاراً هم بهذه المثابة. من الإِيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أُنذروا
…
فهذا مثل كل كافر ما دام كافراً"1.
ويفرق رحمه الله بين النصوص التي يذكر فيها الكتاب السابق عليهم بالكفر، وينص فيها على أنهم حقت عليهم كلمة العذاب، وبين النصوص التي ذكر فيها مجرد الختم والطبع.
قال رحمه الله موضحاً هذا المعنى: "وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار.. فيمتنع قبول الإنذار بسبب تلك الموانع، ولكن هذه الموانع قد تزول، فإِنها ليست لازمة لكل كافر.
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدا، كما قال:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} 2.
وأما إذا اقتصر على ذكر الموانع التي فيهم، ولم يذكر ما سبق من
1 مجموع الفتاوى، ص (16/586)
2 سورة يونس الآية رقم (9697-) .
القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضي امتناع تغير حالهم وحصول الهدى.."1.
ويؤيد ما ذهب إليه شيخ الإِسلام أن اللَّه سمى هذه الحجُب المانعة للكفار من الإِيمان أقفالاً، في قوله سبحانه:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2 والأقفال تفتح وتقفل.
كما يؤيده في صورة المثَل - مثل الظلمات - أن الذي يقابل حجاب الختم والطبع هو السحاب. والسحاب يتراكم وينقشع بأمر اللَّه تعالى.
وفائدة الإخبار بأن الكافر لا ينفك عن كفره، وأنه يتقلب في ظلماته، ما دام كافراً مضروبة عليه الحجب، أمور من أهمها:
1-
ما تقدم من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجه في الدعوة إلى اللَّه، وإرشادهم إلى عدم الإفراط في الحزن والشفقة على الكفار إذا لم يستجيبوا.
2-
أن يعلم الداعي إلى اللَّه أنه ليس بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس3 - فلا يداخله العجب، حيث يعلم أن
1 مجموع الفتاوى، (16/594) .
2 سورة محمد الآية رقم (24) .
3مجموع الفتاوى، ص (16/594) .
اللَّه هو الذي يسر انتفاع من انتفع بالموعظة، وكشف عنه الحجاب.
3-
أن لا ييأس الداعي عندما لا يرى لدعوته وبيانه قبولاً، حيث يعلم أن القلوب بيد اللَّه، فقد لا ييسر اللَّه هداية المدعو فلا يستجيب، لا لنقص في الدعوة والبيان ولكن لفساد المدعو1.
إلا أن هناك فائدة هامة دل عليها المثَل من خلال إفادته أن الكفار في ظلمات شديدة، وأنهم لن يجدوا نوراً يهتدون به.
وهذه الفائدة معتبرة من المثَل على كلا المعنيين، سواء كان في الكفار الذين حقت عليهم كلمة العذاب، ولازمهم الحجاب، أم كان عاماً في سائر الكفار ما داموا على كفرهم.
هذه الفائدة هي: أن الكافر في سعيه النظري العلمي، والتطبيقي العملي، في جهل وضلال، وإلى جهل وضلال - ما دام أن جهده تم في ظلمة الكفر - فيما يتعلق بهداية الإنسان وسعادته ونجاته في الآخرة.
وثمرة هذه الفائدة: أن يحذر المسلمون أفراداً وجماعات من الاغترار بزخرف قولهم، وبريق نظرياتهم، وما عندهم من التطبيقات السلوكية، والمعاملات الاجتماعية والمالية، والأطروحات السياسية والاقتصادية، والآداب، وسائر العلوم الإنسانية الضالة.
فإِن تلك العلوم والمفاهيم والقناعات تمت في ظلمة الكفر وضلاله،
1 انظر مجموع الفتاوى، (16/587) .
وحيرته وشتاته، لن يصلوا بها إلى خير وهدى، ذلك أنه ليس عندهم شيء من نور الهداية.
{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
قال ابن جرير رحمه الله: "فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر، يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحق، وبصرناه الرشاد، كطاعة من مثله من هو في الظلمات متردّ، لا يعرف المخرج منها"1.
ومما ورد من الآيات في هذا المعنى، قول اللَّه تعالى:{وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} 2.
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول: لا يسددهم لإِصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون"3.
وهذه القضية جد هامة.
1 جامع البيان، (5/331) .
2 سورة البقرة الآية رقم (264) .
3 جامع البيان، (3/66) .
ولتمام الاعتبار بها: ينبغي على أهل العلم والدعوة تتبع بعض ما وقع من ضلال الكفار وتخبطهم - وخاصة في عصر تقدمهم المادي في العصر الحديث - في كافة مجالات السلوك الإنساني، في النواحي السياسية والاقتصادية، وكرامة الإنسان ومكانته وحقوقه، وهدفه ومصيره، وسعادته وطمأنينته، والأخلاق، والمجتمع ونُظمه، وغير ذلك من القضايا التي تقوم عليها حضارة الإنسان، وتتوقف عليها سعادته أو شقاؤه، والاستفادة من شهادات مفكري الكفار وغيرهم في نقد تلك الحضارة وبيان نتائجها المدمرة على الإنسان.
وهذا المجال واسع جداً، وإنما ميدانه ما يعرف بالثقافة الإِسلامية حيث اجتهد بعض الكتاب والمفكرين في بيان بعض هذه الجوانب1.
1 مثل: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لأبي الحسن الندوي، و"المستقبل لهذا الدين" و"الإسلام ومشكلات الحضارة" لسيد قطب، و "جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، و "الإيمان والحياة" ليوسف القرضاوي، و "نقد أصول الشيوعية" لصالح بن سعد اللحيدان.. ونحوها.
مع ملاحظة: أنه ليس كل ما في تلك الكتب مسلماً لأصحابها، سالماً من الخطإ، وإنما المراد الاستفادة مما فيها من بحوث جيدة في هذا المجال. ويستفاد مما في الكتاب الأخير:"نقد أصول الشيوعية" من إفادة حول أهمية نقد الكتب المؤلفة في الفكر والثقافة الإِسلامية، وتنقيتها مما فيها من أخطاء ومزالق. وضرورة أن يكتب في هذه المطالب الذين تشبعوا بالعلم الشرعي، ومعرفة ما كان عليه السلف الصالح، لتكون الدراسات والحلول أكثر نضجاً، وأبعد عن الزلل. وقد ذكرت فيما يأتي من المتن مقتطفات من هذا الكتاب لأَهميتها.
ومما يزيد الحاجة إلى العناية بهذا الأمر انخداع كثير من المسلمين بحضارة الكفار المعاصرة، وقبولهم الأعمى لكل ما يمت إليها بصلة، دون تمييز بين الغث والسمين، والنافع والضار.
كما يوجد قصور في العلاج والحلول عند بعض من كتب في ذلك من الكُتاب والمفكرين، يستلزم من العلماء وطلبة العلم دخول هذا المضمار برؤية مستبصرة، تستقي حلولها وتصوراتها من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح - رضوان اللَّه عليهم - وما يقتضيه النظر العقلي السليم المنسجم مع الوحي القويم.
وهذه الجهود لازمة لحماية عقائد المسلمين من التذبذب والريب، وسلوكهم من التحلل من شعائر الإِسلام، ونفسياتهم من الانفصام والحيرة، ولأجل سلامة قاعدة الولاء للإسلام وأهله، والبراءة من الطاغوت وأهله، والخلاص من الآفات الأخرى التي تتولد عن الانبهار والإعجاب، والاقتداء بأعداء اللَّه من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين الضالين.
وهذه المباحث مع أهميتها ووجود الداعي إليها في وقتنا الحاضر أشد من غيره، ينبغي عدم الإفراط في تناولها، والتوسع في دراستها، واستقصاء
دقائقها، لأن ذلك يشغل المسلم عن تعلم العلم، والدعوة إليه. لذا فالواجب أن تعطى ما يناسبها من الاهتمام بإزاء ما ينبغي على طالب العلم تحصيله والعناية به، وتعليمه والدعوة إليه.. من معرفة اللَّه، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين.
فالنهج القويم في هذه المسألة وما شابهها من قضايا الثقافة - مثل معرفة كيد الأعداء للمسلمين، في صدهم عن دينهم، وبث الفرقة والشقاق بينهم، والتخطيط لإضعافهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً - وسط بين طرفين:
أحدهما: الإِهمال التام، والإعراض عن ذلك، وربما التقليل من شأنه.
والآخر: التوسع في ذلك، واتخاذه القضية الأهم، وصرف الجهد الأكبر والوقت الأوفر لها، الذي قد ينتج عنه قلة العناية بتعلم مسائل الإِيمان، وأحكام الشريعة وتعليمها. وقد يُعَظِّم من لهم جهود في ذلك إلى حد تفضيلهم على أهل العلم والذكر، وربما قدح في العلماء وقلل من شأنهم بحجة عدم إسهامهم في ميدان الثقافة.
ويعين على العمل بهذا المنهج الوسط: أن تحدد الجوانب التي تقوم عليها حضارة الإنسان، وتتوقف عليها سعادته في الدنيا والآخرة، ثم تحدد أهم الانحرافات، والفساد الحاصل في كل منها في الحضارة الكافرة المعاصرة باعتبارها قمة حضاراتهم، والاستدلال على ذلك بما ظهر من أحوالهم، وما سطروه من شهاداتهم، وربطه بما أخبر اللَّه به من خطوات
الشيطان وكيده لبيان توافق أحوالهم معها.
مع التنبيه على ما بينه اللَّه من أحوالهم وضلالهم وظلماتهم، وحيرتهم وتخبطهم وفسادهم، لتكون تلك الدراسات شاهدة على ذلك، لافتة للفطر السوية، والعقول السليمة إلى ضلالهم وظلمة سعيهم؛ مما يوجب النفور منهم، وعدم الاغترار ببريق حضارتهم.
وفي المقابل يعتني ببيان محاسن الإِسلام، وسمو نظُمه وتعاليمه، وما حققه لأتباعه من الخير والهدى، بالمقارنة مع تلك الأوضاع الكافرة الضالة المترديه، وبيان توافقها مع مسلّمات العلم الصحيح والطب، والدراسات الجادة الموفقة في تلك الجوانب.
وبذلك يظهر سمو الإِسلام وعظمته، وأنواره الهادية إلى الرشاد في مختلف جوانب كدح العباد، مما يبعث على الاعتزاز والاستبشار والاستمساك به.
ولعل من المناسب أن أورد بعض المقتطفات الهامة من كتاب "نقد أصول الشيوعية"1، فيما يتعلق بأهمية العناية بقضايا الفكر والثقافة الإسلامية، وأن يتصدى لذلك أهل العلم والبصيرة في الدين، وضرورة النقد المستمر لما صدر ويصدر في هذا الميدان، مع الإِشارة إلى أن بعض مَن كَتَبَ في هذه المواضع ليس من أهلها.
1 للشيخ: صالح بن سعد اللحيدان، مكتبة الحرمين، الطبعة الأولى، 1401هـ.
فمن أقواله في ذلك: "ولعل إِشكال المعرفة في الفكر الإِسلامي1 كله هو أن الذين
1 الفكر يُطلق على الأفكار الحاصلة من وظيفة التفكّر والتعقّل التي أودعها الله في قلوب العباد، فهو وظيفة بشرية، وعلى هذا فالعقيدة الإسلامية، وشُعب الإيمان ليست فكراً، وإنما وحي من عند الله، وهي غذاء الفكر الإسلامي وقاعدته، وقد بيّن الله تعالى أن من صفات المؤمنين التفكّر في الآيات التنزيلية والكونية، وما فيهما من دلائل التوحيد، وما تشتمل عليه من العبر والمواعظ في نحو قوله تعالى:{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، وقوله:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:167]، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] ، وغيرها.
والتفكير السديد وظيفة أمر الله بها عباده المسلمين، وهم الجديرون بها، وما ينتج عنه من فكر هو فكر إسلامي، إذا قام به المسلم وِفْقَ الضوابط الشرعية، ومن منطلق العقيدة. فالفكر الإسلامي هو الذي يستند على العقيدة الإسلامية، وينطلق من نصوص الوحي في بحثه واجتهاده في مختلف مجالات الحياة، ويمكن حصر أهم ميادين الفكر الإسلامي فيما يلي:
1-
فهم نصوص الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام والعبر والمواعظ.
2-
استنباط براهين الحق، ودلائل التوحيد، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من العقائد بالتدبر للآيات التنزيلية، والتفكر في آيات الله الكونية.
3-
بيان محاسن الإسلام، وسلامة نُظُمه وتشريعاته من النقائص، وأنها هي المصلحة لحياة الناس.
4-
الدفاع عن الإسلام وتفنيد الشبهات المثارة حوله، وبيان بطلان الأفكار المنحرفة والأديان الضالة.
5-
استكشاف الأسرار التي وضعها الله في خلقه، وسخرها للإنسان، والانتفاع من ذلك في تسهيل حياة الناس، والرقي بها، وفي الإعداد لقوة المسلمين في كافة المجالات، ويدخل في ذلك العلوم المادية، كالفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب، والأحياء، والصناعات المختلفة، والزراعة، والعلوم الاقتصادية والتجارية.
والفكر الإسلامي معني بتطهير هذه العلوم، مما أُدرج فيها من الضلالات، بالإضافة إلى نقل المفيد منها، واستخدامه وتطويره.
6-
البحث والدراسة للنفس البشرية والنشاط الإنساني، وإقامته على مبادئ الإسلام ومسلّماته، ويشمل ذلك علم النفس، وعلم الاجتماع وفروعها، والدراسات التاريخية، ونحوها.
7-
التفكر في الأمور الغيبية التي أخبر الله بها، كالموت وأحوال القبر، وما يجري يوم القيامة من أهوال، وصفات الجنة والنار، مما يفيد في إصلاح القلوب واندفاعها للخير، وارتداعها عن الشر، وعدم تماديها في الحرص على الدنيا.
انظر لما تقدم: كتاب أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة (ص484) ، وما بعدها، الطبعة الأولى – للمؤلف.
يكتبون عنه أناس ليس لهم معرفة كبيرة بأصول وفروع دين الإسلام.. إِن أكثر مفكري الإِسلام الذين برزوا إلى ساحة الفكر يحتاجون أنفسهم إلى عودة إلى كتب الأولين الأعلام، ومن ثم يهون عليهم المشكل ولا يحتاجون إلى زيادة بيان.. إن الخطر يكمن في أن الفكر الإِسلامي دخل
فيه من لا يحسنه أو يحسنه ولكنه أساء إليه"1.
وقال أيضاً: "ولست أنكر ما قدمه بعض المفكرين الإِسلاميين من دراسات طيبة ونقد رفيع، إلا أن هذا لا يغني في الرد على المذاهب المتأخرة.. بيد أني أريد أن نقوم لا بعمل مبتور بل بعمل متكامل، يوحي بقوة المعرفة، وإدراك أسباب انتشار المذاهب، ومن ثم دراسة ما يمكن دراسته للرد والنقد والنقاش، ونعلل بطلان غير ما جاء به الإِسلام في الحياة وبعد الممات"2.
ثم بين أهمية النقد لمن يكتب في ميدان الفكر والثقافة الإسلامية، ليتمكن من نقد أحوال الكفار، والأفكار والمذاهب الهدامة، أو حتى نقد ما كتب ويكتب في الثقافة نفسها، فقال:
"وتوديع الكلام في هذا هو أنه لا بد من نقد يكون الناقد فيه على جانب كبير من سعة الصدر، وممارسة النقد الجزئي أولاً بأول، ولا بد من معرفة لقواعد النقد في الأدب الإِسلامي والتاريخ، وعليه أن يكون واسع الأفق، لديه حصيلة من الإدراك والذكاء وحسن التصور"3.
1 نقد أصول الشيوعية، ص (107) .
2 نفس المرجع، ص (91) .
3 نفس المرجع، ص (97) .
فقال وهو يبين قواعد النقد: "وأول هذه القواعد التي نراها في هذا السبيل:.. معرفة العقيدة الإِسلامية المعرفة الكافية الحامية، وفهم الكتاب والسنة الفهم الصادق الواعي، والتغذي بكتب السلف من علماء هذا الدين الذين كتبوا في العقيدة، ومعاني القرآن وأسراره، وفهموا الحديث فهماً تاماً، وقصروا أنفسهم على ذلك. وهذه قاعدة مهمة لمن أراد الخوض في مجال النقد والمناقشة والردود"1.
وقال مبيناً الطريق إلى نشر ثمرات الدراسات الطيبة المفيدة في هذا المجال:
"وخطوة أخرى في هذا الطريق نسجلها لعلها تكون مأخذ التنفيذ من العاملين على التعليم، وهي أن تدرس الأنظمة والمذاهب البشرية الحديثة، ويكون الدارس لها على جانب عظيم من علم بالإسلام أصوله وفروعه، ويكون على درجة علمية رفيعة بالنقد وبيان الموضوع.. ولا يعني هذا إهمال المذاهب والفرق التي ظهرت قديماً بل يجعل كل هذا بجانب أو جوانب وتدرس للطلاب خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية والدراسات العليا. ويحسن بجانب أن تدرس حال المسلمين في العالم2،
1 نقد أصول الشيوعية، ص (117) .
2 تدرس في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة في كلية الدعوة وغيرها - هذه الجوانب، مثل: الأديان والفرق، والغزو الفكري، وحاضر العالم الإِسلامي، والإعلام.. ونحوها.
وهذا فيه ما فيه من النفع والخير العميم.. ونحن بحاجة إلى أن يكون أبناؤنا على علم بما حولهم من شر كبير"1.
ويضاف إلى ذلك: أن تبسط وتختار بعض شهادات وشواهد ضلال الكفار في مختلف جوانب الحياة، وتُلقى على العامة في بعض خطب الجمعة، ووسائل الإعلام العامة، ليعم الوعي بذلك.
بعد هذه الإشارات إلى أهمية هذا الجانب من الثقافة الإِسلامية والمنهج الأقوم في تناولها، وحاجة ذلك إلى كاتب عالم بالكتاب والسنة ونهج وفهم السلف الصالح، ناقد منصف، بعد هذا، أرى أنه لا بد من تحديد الجوانب الضالة عند الكفار التي لن يصلوا فيها إلى الهدى، كما دل على ذلك هذا المثَل وغيره من الآيات.
تحرير جوانب ضلال الكفار وظلماتهم.
قد يرى المرء ما فيه كثير من الكفار من التقدم المادي في جوانب كثيرة من الحياة، فتأخذه الحيرة في فهم المراد بضلال الكفار وظلماتهم التي دل عليها مثل الظلمات، وما في معناه من الآيات.
ولتجلية هذا الأمر ينبغي التعرف على المجالات التي بمقدورهم
1 المصدر السابق، ص (121) .
تعلمها وإتقانها، والاستفادة منها في نواحي الحياة، والمجالات التي ليس بمقدورهم الاهتداء إلى الصواب فيها، والتي هم في عمى وضلال تام عن معرفتها والعمل بها.
فقد أثبت اللَّه للكفار علماً، ونفى عنهم علماً. وبين مجال ما أثبت ومجال ما نفى. حيث قال سبحانه:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1.
فأثبت لهم سبحانه العلم بظاهر من الحياة الدنيا، ونفى عنهم العلم بما ينفعهم يوم القيامة.
وقد أورد ابن جرير2 رحمه الله أقوال علماء السلف في المراد بظاهر الحياة الدنيا - الذي أثبت لهم علمه -، وخلاصة أقوالهم تدور حول ما يلي:
1- معرفة تدبير معايشهم من الزراعة وما يتصل بها. وقد عبر عن ذلك بعضهم بقوله "يعني معايشهم، متى يحصدون، ومتى يزرعون".
2-
معرفة الصناعة وما يتصل بها، عبر عن ذلك بعضهم بقوله:
1 سورة الروم الآيتان رقم (6، 7) .
2 انظر: جامع البيان، (10/168) .
"الخرازون، والسراجون".
3-
معرفة أساليب العمران وما يتصل بها، عبر عن ذلك بعضهم بقوله:"يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"وهؤلاء الذين لا يعملون، أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها. وإنما {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فينظرون إلى أساليب، ويجزمون بوقوع الأمر، الذي في رأيهم انعقدت أسبابه، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئاً.
فهم واقفون مع الأسباب، غير ناظرين إلى مسببها، المتصرف فيها. {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قد توجهت قلوبهم، وأهواؤهم، وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها، وحطامها، فعملت لها وسعت، وأقبلت بها وأدبرت، وغفلت عن الآخرة.
فلا الجنة تشتاق إليها، ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي اللَّه ولقائه يروعها ويزعجها، وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة.
ومن العجب أن هذا القسم من الناس، قد بلغت بكثير منهم، الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا، إلى أمر يحير العقول، ويدهش الألباب.
وأظهروا من العجائب الذرية، والكهربائية، والمراكب البرية
والبحرية، والهوائية، ما فاقوا به وبرزوا، وأُعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم اللَّه عليه.
فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك، أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب.
قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي باطلهم يترددون.
{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ} 1"2.
كما دلت آيات كثيرة على أمور أخرى من جوانب الحياة الدنيا، يعتني بها الناس علماً وتطبيقاً، ويقصر الكافر همه عليها، فمن تلك الآيات، قول اللَّه تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَآءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ} 3.
فللكفار علم وعناية وسعي حثيث لهذه الشهوات المزينة للناس، من
1 سورة التوبة الآية رقم (67) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (6/111، 112) .
3 سورة آل عمران الآية رقم (14) .
شهوة النساء، وتجاوزها إلى سائر الفواحش، والتكاثر بالبنين، والعناية بالتجارة، وأمور الاقتصاد، وتربية الحيوانات، والزراعة، وما يتصل بها من متاع الحياة الدنيا.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 2.
ومعلوم أن الإنسان مكون من روح وبدن، وأن عمله قسمان: عمل للدنيا، وعمل للآخرة.
فالمسلم مع سعيه في إصلاح بدنه، وعمله لدنياه، فإِنه يعمل في تزكية نفسه بإِقامة الدين للَّه. ويرجو بذلك النجاة يوم القيامة.
1 سورة الحديد الآية رقم (20) .
2 سورة محمد الآية رقم (12) .
أما الكافر فإِن همه هو إِصلاح بدنه، والعمل لدنياه، وهو مُعرض عما فيه زكاة نفسه، من إِقامة الدين لله، وما دل عليه من العلم، غافلاً عن الآخرة.
وقد تبين مما تقدم من الآيات، وأقوال أهل العلم أن سعي الكافر في هذين المطلبين - إِصلاح البدن، والعمل للدنيا - يكاد يتلخص في الأمور الآتية:
1-
تدبير أمور معيشتهم، وما يتصل بها من الزراعة والصناعة والتجارة.
2-
الاهتمام بأبدانهم وما يتصل بذلك من الطب ووسائل التجمل.
3-
التمتع بالشهوات والاسترسال معها بدون ضابط.
4-
العناية بوسائل الزينة، والتكاثر والتفاخر بالأموال والأولاد، ومتع الحياة، والمساكن، ونحوها.
5-
العناية باللعب واللهو، والتفنن في إِيجاد وسائلها، ككثير من أنواع الرياضة والفنون والآداب.
6-
تعلم ما يظهر لهم ويدركونه بعقولهم من أحوال المخلوقات، وتجارب الإنسان في سائر العلوم المادية والنظرية.
ففي هذه الوسائل وما شابهها مما يظهر للإنسان من أمور الحياة الدنيا، يكون علم الكفار ونجاحهم، وعليها تقوم حضارتهم.
أما ما يتصل بتزكية النفوس، وإقامة الدين والعبودية التي خلقوا من
أجلها، والاستعداد لليوم الآخر، فهم في ظلمات وعمى وضلال عنه.
مع أن لهم في ذلك كلاماً كثيراً ونظراً في جانب الفلسفة وعلم النفس والاجتماع، ونحوها. إلا أنها تدور في الضلال والظلمات، لا يهتدون من ذلك إلا إلى معرفة أنهم على ضلال. وبعضهم زين له سوء عمله فرآه حسناً.
ومعلوم أن ما يعرف بقضايا الفلسفة ومسائلها، هي القضايا التي جاء الدين لبيانها، في جانب العقيدة، والشريعة، والمعاملات والأخلاق، وقاعدة الخير والشر، والحسن والقبيح ونحوها.
وقد أعلن رواد الفلسفة في هذا الزمان - الذي بلغت فيه حضارتهم المادية أوجها - إفلاسهم وعجزهم عن الوصول إلى الحق والهدى في تلك القضايا.
وسأورد هنا شاهدين من أقوالهم، ليعلم أنهم لم يخرجوا ولن يخرجوا من ظلماتهم، ولن يصلوا إلى هدى في هذه المطالب الهامة.
ورد في كتاب "مدخل إلى الفلسفة":
"من الطبيعي أن يصبح الباحث حين يواجه هذه الحالة مرتبكاً، مشدوهاً، فاتر الهمة. فبينما كان يرجو أن يجد الحقيقة الواحدة وجد نفسه بدلاً من ذلك مسوقاً إلى أن يسأل: ما هو الحق؟ لقد رجا أن يمسح على شكوكه بيد اليقين، لكنه بدلاً من ذلك وجد أن التفلسف يثير شكوكاً وارتباكاً أكثر مما يطمئن، وإِنه يثير أسئلة هي أعسر بكثير من أن يقدر
على الإِجابة عنها، والحاصل غالباً هو انتفاء الرجاء في الفلسفة..
فما الفائدة؟ إن الفلسفة لا تقدر أن تبرهن على شيء
…
والفلاسفة لا يتفقون أبداً. كلها استراق وتحايل على كل حال. وهكذا يقع المتشكك فريسة سائغة لمعتقد يبشر به أهله تبشيراً تعسفياً"1.
وورد في "الموسوعة الفلسفية المختصرة" كلمة المحرر ما يلي:
"ومن هنا كانت أي مجموعة من الإجابات التي توضع لمشكلات الفلسفة الرئيسية
…
إِما أن تمثل وجهة نظر واحدة من بين ما لا يحصى من وجهات النظر، وأن تكون بمثابة بيان حزبي، وإما أن يظل يناقض بعضها بعضاً. ويترتب على هذا أن لا يمكن لأي موسوعة فلسفية أن تضطلع بتقديم إِجابات قاطعة لمشكلات الفلسفة دون أحد أمرين: فإما أن تخدع قراءها بأن تصور لهم ما هو في حقيقة الأمر أحد الآراء المتخاصمة على أنه الإجابة المتفق عليها.
وإِما أن تربكهم بسلسلة من الإجابات المتعارضة. ولما كان الأمر كذلك آثرنا ألا نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقاً"2.
1 مدخل إلى الفلسفة، تأليف: جون هرمان راندال، وجو ستاس يوخلر، ص (30)، ترجمة: د. ملحم قربان. دار العلم للملايين، بيروت، 1963م.
2 الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها بورمسون. تصدر باللغة الإنجليزية، ترجمة نخبة من المترجمين، المقدمة ص 1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م.
وإذا كان الفلاسفة الذين تعتبر جهودهم الركيزة الفكرية التي قامت عليها حضارات الأمم الكافرة المعاصرة - وخاصة الحضارة الغربية - قد وصلوا إلى طريق مسدود، وأعلنوا إفلاسهم - كما تقدم في كلام الذين يشرحون الفلسفة ويبسطونها للقراء - ويئسوا من الاتفاق على نهج واحد يقطعون بأنه الحق، في مختلف المسائل، وأن كل نظر جديد يسهم في زيادة الآراء المتخاصمة المختلفة، ويعقد الطريق، فإِن ذلك أكبر شاهد على أنهم في ضلالهم يعمهون، وفي ظلماتهم سادرون، وأنهم لن يخرجوا من تلك الظلمات إلا برجوعهم إلى نور اللَّه الذي لا طريق للهدى سواه.
خلاصة هذه الفائدة:
دل المثَل - مثل الظلمات من سورة "النور" - على أن الكفار الجاحدين المكذبين للرسل، المعرضين عن هدى اللَّه ووحيه، في ظلمات شديدة حالكة، لا يهتدون معها إلى طريق نجاتهم في الآخرة، وفلاحهم وسعادتهم وأمنهم وطمأنينتهم في الدنيا.
وذلك أن الطريق إلى الهداية، وزكاة النفوس، وصلاح الأعمال، إنما يكون بتعلم ما أنزل اللَّه من الوحي والاستجابة له. وهم قد أعرضوا عن ذلك وكذبوا به، وعاقبهم اللَّه على ذلك بأن حجب قلوبهم عن الهداية وأنوارها، وختم عليها. فبعدوا عن طريق الخير وسبيل الهداية بعداً شديداً.
وأن الكافر في سعيه النظري العلمي، والتطبيقي العملي، في جهل وضلال، وإلى جهل وضلال، فيما يتعلق بهداية الإنسان وسعادته ونجاته
في الآخرة.
وأن على المسلمين أفراداً وجماعات أن يحذروا من الاغترار بزخرف قولهم، وبريق حضارتهم، وما عندهم من الممارسات السلوكية، والمعاملات الاجتماعية والمالية، والنظريات السياسية والاقتصادية، والتوجهات الأدبية، وسائر العلوم الإنسانية الضالة المخالفة للشرع القويم.
كما ينبغي على أهل العلم، والجامعات الإِسلامية، ومراكز البحوث والدعوة، الاهتمام بجانب الثقافة الإِسلامية الذي يكشف جوانب ضلال الكفار، وحيرتهم، ويبين شواهد ذلك من أحوالهم، وشهادات مفكريهم التي تبين مدى الانحدار الذي يسيرون فيه، والأضرار التي أصابت الإنسان في المجتمعات الكافرة.
وأن المجالات التي سيبقى سعيهم فيها ضالاً مظلماً، وسيبقون فيها عمياناً حيارى هي: ما يتصل بتزكية النفوس، وإقامة الدين والعبودية للَّه، التي خلقوا لها، والاستعداد لليوم الآخر، وما يتفرع عن ذلك من سلوك النفس البشرية وأحوالها، والنشاط والعلاقات الاجتماعية.
الفائدة الثانية: دلالة المثَل على سبب ضلال هذا النوع من الكفار:
تقدم1 أن هذا المثَل - مثل الظلمات، الوارد في سياق مثل النور من سورة "النور" - فقرة في تأكيد ما دل عليه مثل النور من أن العلم النازل من اللَّه، المدلول عليه بنصوص الكتاب والسنة، الموحى بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الطريق إلى الهداية.
وأن الإعراض عنه بأي شكل من الأشكال، ولأي دافع من الدوافع هو السبب في الضلال.
فقد دل مثل النور على أن سبب هداية المؤمنين هو استجابة فطرهم، وتشرب قلوبهم للعلم بالكتاب والسنة - المشبه بالزيت الذي تشربته فتيلة السراج - وجزاهم اللَّه على ذلك بأن شرح صدورهم، وقذف فيها نور الإِيمان، فقام بها {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} . ويزيدهم - سبحانه - من هداه كلما زادوا من العلم والاهتداء.
ودل مثل السراب على أن سبب ضلال أولئك الكفار الذين شبهت حالهم وأعمالهم به، هو: تطلبهم العلم والإِيمان من مصادر خادعة لاحت لهم فظنوها حقاً - وأعرضوا بذلك عن المصدر الحق، الكتاب والسنة، فقام ضلالهم على: اتباع الظن، والسير وراء الشبهات، والإعراض عن
1 انظر: ص (282) .
الآيات البينات.
وهذا المثَل - مثل الظلمات - دل على أن سبب ضلال هذا النوع من الكفار، هو: الإعراض التام عن هدى اللَّه ووحيه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم والتكذيب به، والجحود لألوهية اللَّه واستحقاقه للعبادة، وربما جحدوا ربوبيته، والإنكار التام للبعث واليوم الآخر. فهم أهل الكفر التام الخالص، والضلال والظلمة التامة الحالكة.
وقد تبين من دراسة مثل الظلمات أن الذي يقابل الموج الباطني - الحجاب الأول القريب من الكائن في ذلك المكان المظلم - هو: الجهل والإعراض عن وحي اللَّه المطهر - الكتاب والسنة - الناتجة عن التكذيب والجحود1.
والمثَل يدل بوضوح على أن ضلال هؤلاء الكفار حاصل بسبب بعدهم وانحجاب قلوبهم عن النور الإلهي - الكتاب والسنة - وأن النور موجود لكن دونه الحجب المانعة عنه.
وهذه الحجب منها ما هو من فعلهم، كالحجاب الأول: الذي هو التكذيب والإعراض. والحجاب الثاني: الذي هو ضلالهم وكفرهم العملي والعلمي. ومنها ما هو من فعل اللَّه جازاهم به على فعلهم، وهو الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار.
1 انظر: ص (609) .
فهم إذاً تسببوا فيما هم فيه من الكفر والختم على قلوبهم، بقذفهم أنفسهم في بحر عميق من الجهل والكفر والضلال. وحيث أوقعوا أنفسهم في بحر الظلمات، زادهم اللَّه ظلمة وبعداً.
وقد كثر التقرير في القرآن الكريم لهذه الحقيقة، وهي: أن كفرهم إنما هو بسبب تكذيبهم وإعراضهم عما نزل من الآيات البينات، وعدم استعمال ما أعطاهم اللَّه من العقول في استكشاف ما فيها من دلائل الحق.
ومن ذلك قوله تعالى في بيان مَن حق عليه وصف الكفر، وكلمة العذاب، وأنه إنما استحق ذلك بتكذيبه:{بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الكَافِرِينَ} 1.
وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرُ} 2، فذكر اتصافهم بالكفر، وعقابهم عليه يوم القيامة. ثم ذكر - على لسانهم - سبب كفرهم، واستحقاقهم ذلك العذاب، وأنه التكذيب، بقوله: {قَالُوا بَلَى قَدْ
1 سورة الزمر الآية رقم (59) .
2 سورة الملك الآية رقم (6) .
جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} 1.
ثم بين أن سبب التكذيب والإعراض، إنما هو عدم استعمالهم لما أعطاهم اللَّه من العقول والأسماع:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2.
والآيات المبينة لهذا المعنى كثيرة جداً.3
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى إلى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني. وإني النذير العُريان4 فالنجاء،5 فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا6 فانطلقوا على
1 سورة الملك الآية رقم (9) .
2 سورة الملك الآية رقم (10) .
3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: مادة "كذب"، "أعرض"، "عقل"، الآيات التي تدل على أن كفرهم بسبب تكذيبهم، وإعراضهم، وعدم تعقلهم.
4 النذير العريان: هو رقيب القوم الذي ينذرهم من عدو قادم ويخلع ثيابه ليكون أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي، (15/48)(بتصرف) .
5 النجاء: أي اطلبوا النجاء، نفس المصدر. والمراد حثهم على الفرار من العدو طلبا للنجاة.
6 فأدلجوا: أي ساروا أول الليل، نفس المصدر.
مهلتهم1 وكذّبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".2
فبين صلى الله عليه وسلم أن الناس بإزاء دعوته فريقان. مؤمن وكافر. وبين سبب ذلك وأنه الطاعة والاتباع لما جاء به من الحق من المؤمن. والعصيان والتكذيب لما جاء به من الحق من الكافر.
خلاصة هذه الفائدة:
دل المثَل - وما في معناه من النصوص - على أن سبب كفر هذا النوع من الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - وما ترتب عليه من استحقاقهم للعذاب، والختم على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم، إنما هو من أنفسهم، وتمثل في إعراضهم عن تعقل ما نزل من الآيات البينات، المتضمنة لدلائل الحق وبراهينه، وتكذيبهم به، ومعارضته بضده من الباطل والضلال.
1 على مُهْلَتهم: أي على مهلهم. نفس المصدر، والمراد أنهم ساروا مطمئنين لأنهم استجابوا للنذير مبكرين.
2 رواه مسلم، الصحيح تحقيق فؤاد عبد الباقي، (4/1788) . ح (2283) ، كتاب الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته.
فهذا فعلهم الذي تسبب في فعل اللَّه الجاري عليهم من الختم والطبع وغيره.
وسيأتي مزيد إيضاح - إِن شاء اللَّه - لهذه المسألة المتعلقة بفعل اللَّه في الهداية والإضلال، في الفائدة القادمة.
الفائدة الثالثة: دلالة المثَل على فعل اللَّه في إضلال الكفار وختمه على القلوب والأسماع.
ومأخذ هذه الفائدة من المثَل - مثل الظلمات - من وجهين:
الأول: تبين من دراسة الممثّل له1 أن الحجاب الثالث - المقابل للسحاب - هو الختم والطبع من اللَّه على قلوب وأسماع الكافرين. وتقدم2 بيان مناسبة المقابلة بينهما - كما تقدم3 من كلام ابن عباس رضي الله عنهما وابن جرير رحمه الله في الربط بين هذه الآية وآية سورة "البقرة": {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4.
الثاني: ختام المثَل بقوله سبحانه - {وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ، فيه دلالة على فعل اللَّه عز وجل. وأنه لم يجعل لهم نوراً حيث منع
1 انظر: ص (609) .
2 انظر: ص (609) .
3 انظر: ص (623) .
4 سورة البقرة الآيتان رقم (6، 7) .
عنهم النور بالحجاب الذي ضربه على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم.
وهذا المعنى الذي دل عليه المثَل - وهو ختم اللَّه وطبعه على قلوب وأسماع الكافرين - دلت عليه نصوص كثيرة، منها قوله تعالى:
وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما ربط في المعنى بين هذه الآية ومثل الظلمات، كما ربط بينه وبين آية سورة "البقرة"2.
وقوله - سبحانه -: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ، دليل شامل لهذه الفائدة التي بينها المثَل.
وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ
1 سورة الجاثية الآية رقم (22) .
2 تقدم ص (623) .
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ} 1.
ونحوها كثير.
ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهم3 الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين".4
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يحلف: "لا. ومقلب
1 سورة النحل الآية رقم (106-108) .
2 سورة الأنعام الآية رقم (25، 26) .
3 وَدْعِهم: أي تركهم.
4 رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، (865) ، الصحيح بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (2/59) .
القلوب"1.
وقد فسر الإمام البخاري رحمه الله بهذا الحديث، قوله اللَّه تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 2.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله في المراد بقوله: "مقلب القلوب".
"وتقليب اللَّه القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي"3.
وقال في المراد بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} "إشارة إلى ما قيل في وصفه يقلب القلوب، وهو أن يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك"4.
وقال ابن بطال5 رحمه الله في مناسبة الحديث للآية:
1 رواه الإمام البخاري، كتاب:"القدر"، باب:"يحول بين المرء وقلبه"، ح (6617) ، الصحيح مع الفتح، (11/513) .
2 سورة الأنفال الآية رقم (24) .
3 المفردات في غريب القرآن، ص (411) .
4 المصدر السابق، ص (137) .
5 أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي. كان من أهل العلم، وعنى بالحديث عناية كبيرة. له شرح صحيح البخاري. توفي سنة 449 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/47) ، وشذرات الذهب (5/214) .
"أن الآية نص في أن اللَّه خلق الكفر والإِيمان، وأنه يحول بين قلب الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكسبه إن لم يُقدره عليه، بل أقدره على ضده وهو الكفر، وكذا في المؤمن بعكسه، فتضمنت الآية أنه خالق جميع أفعال العباد خيرها وشرها، وهو معنى قوله: "مقلب القلوب"، لأن معناه: تقليب قلب عبده عن إيثار الإِيمان إلى إيثار الكفر وعكسه،
…
وكل فعل اللَّه عدل فيمن أضله وخذله، لأنه لم يمنعهم حقاً وجب لهم عليه"1.
أما الإجماع فقد قال القرطبي2 رحمه الله: "ولأن الأمة مجمعة على أن اللَّه تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين، مجازاة لكفرهم، كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} 3"4.
1 فتح الباري، شرح صحيح البخاري، (11/514) .
2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرجي الأنصاري القرطبي، من أئمة العلم والتفسير، صنف: الجامع لأحكام القرآن، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. توفي (671?) .
انظر: شذرات الذهب (7/584) ، والأعلام للزركلي (5/322) .
3 سورة البقرة الآية رقم (155) .
4 الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد القرطبي، (1/187) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، ت: بدون.
إِشكال.. وبيانه:
كثيراً ما يثار حول هذا المعنى إشكال، فيقال: إذا كان اللَّه قد أَضلهم، وكتب عليهم الضلال، وختم وطبع على قلوبهم، فإِن في ذلك إبطالاً لحجة اللَّه عليهم، بل تكون الحجة لهم على اللَّه - سبحانه -، ويقولون:"كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه، ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله، وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه، وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سداً محكماً لا يمكنه الدخول معه البتة، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول"1.
كما رتب بعض الضالين على هذه الشبهة إنكار فعل اللَّه في الهداية والإضلال، والختم والطبع على القلوب والأسماع، وتأولوا النصوص الواردة في ذلك على غير تأويلها2.
والإجابة عن هذا الإِشكال تكون في الفقرات الآتية:
أولاً: إثبات فعل اللَّه - سبحانه - في هداية المهتدين، وإضلال الضالين، وختمه وطبعه على قلوب وأسماع الكافرين.. ونحو ذلك. كما
1 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، ص (182) .
2 كالمعتزلة، الذين تأولوا النصوص الدالة على هداية اللَّه للمؤمنين، وضلاله للضالين بان المراد:"تسمية اللَّه العبد مهتدياً وضالاً" وقد رد العلامة ابن القيم على تأويلاتهم في كتابه المبارك "شفاء العليل" انظر: من ص (174-179) .
دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
ثانياً: أن الطبع والختم ليس موضوعاً عليهم ابتداءً في أصل الخلقة، وإِنما هو طارئ عليهم، وعقاب لهم من اللَّه بسبب منهم اقتضى ذلك.
فاللَّه سبحانه خلق الخلق أسوياء على الفطرة، ولا تتبدل هذه السنة. قال اللَّه تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1.
وقد تقدم2 أن هذه الآية تدل على ثلاثة أمور تتعلق بالفطرة، هي:
1-
أن اللَّه فطر الناس على الدين الحنيف.
2-
أن خلق الناس على الفطرة عام لجميعهم، وأنه سنة جارية، لا تتخلف عن أحد من المكلفين.
3-
أن الفطرة قابلة للتغيير، والحرف عن الأصل الذي خلقوا عليه، بأسباب تكون من الناس.
وقال ابن القيم رحمه الله ملخصاً المراد بِفَطْر الناس على الدين الحنيف:
"فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار، واتفاق السلف على أن
1 سورة الروم الآية رقم (30) .
2 انظر الصفحات: (393، 403، 406) .
الخلق مفطورون على دين اللَّه الذي هو معرفته، والإقرار به، ومحبته، والخضوع له. وأن ذلك موجب فطرهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده.. وحصول الحنيفية والإخلاص، ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة، وإِن توقف كماله وتفصيله على غيرها.. وباللَّه التوفيق"1.
ومما يؤكد هذا المعنى إبطال اللَّه دعوى اليهود الذين زعموا أنه لا يتوجه إليهم اللوم على كفرهم لأنهم خلقوا وقلوبهم مغلفة. حيث بين - سبحانه - أن الغلاف الذي عليها إنما هو طبع من اللَّه طارئ بسبب كفرهم، وليس من أصل الخلقة.
قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} 2.
قال ابن جرير رحمه الله:
1 شفاء العليل، ص (604) .
2 سورة البقرة الآية رقم (88) .
3 سورة النساء الآية رقم (155) .
"في قوله تعالى ذكره {بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ، تكذيب منه للقائلين من اليهود:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، لأن قوله:{بَلْ} دلالة على جحده جل ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك.. فبين أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال اللَّه تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن اللَّه أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلاً ما يؤمنون.1
وتدور أقوال السلف في تفسير {غُلْفٌ} على معنى: الطبع، والتغطية، وأن قلوبهم في أكنة لا يفقهون.2
وعلى هذا يكون ما ادعوه من وجود الأغلفة، والطبع على قلوبهم، نظير ما أثبته اللَّه لهم في قوله:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} .
إلا أن ما أبطله اللَّه من دعواهم أمر زائد على ذلك، هو زعمهم أن قلوبهم مغلفة مطبوع عليها في أصل الخلقة، ولذلك فليس باستطاعتها الفقه، والاهتداء، والاستجابة لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً أنهم إنما أرادوا أنها مغلفة في أصل الخلقة:
1 جامع البيان، (1/453) .
2 انظر: جامع البيان، (1/451) ، وتفسير القرآن العظيم (1/124) .
" (والغُلف) : جمع أَغْلَف، وهو ذو الغلاف، الذي في غلاف
…
كأنهم جعلوا المانع خلقة، أي خلقت القلوب وعليها أغطية"1.
وهم إنما قالوا ذلك واحتجوا به، ومرادهم أنهم معذورون لا يتوجه إليهم لوم على عدم استجابتهم.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله مبيناً هذا المعنى: "أي: اعتذروا عن الإِيمان لما دعوتهم إليه، يا أيها الرسول، بأن قلوبهم غلف، أي: عليها غلاف وأغطية، فلا تفقه ما تقول، يعني: فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم، وهذا كذب منهم"2.
فأقرهم اللَّه على بعض دعواهم، وأبطل بعضاً.
أقرهم على أن قلوبهم مغلفة مطبوع عليها، حيث قال:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} .
وأبطل زعمهم أنها هكذا بأصل الخلقة، وبين أن هذه الأغلفة والأقفال التي عليها، طارئة، قد جعلها اللَّه عليهم بسبب كفرهم، وقبل أن يكفروا لم تكن عليهم.
ويحتمل أن يكون احتجاجهم بفعل اللَّه المطلق. فيكون المعنى إِنهم قالوا: إن قلوبهم مغلفة بأغلفة ضربها اللَّه عليها، وما دام أن ذلك من فعل
1 مجموع الفتاوى، (7/26) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/110) .
اللَّه - سواءً كان عند خلقهم أم طارئ بعد ذلك - وليس من فعلهم فلا لوم عليهم.
فأبطل اللَّه ذلك الزعم، وبين أنهم إنما تسببوا فيما فعله اللَّه بهم، من الطبع على قلوبهم، فهم يلامون على ما جاؤوا به من السبب الذي أوجب الطبع على قلوبهم، لذلك قال:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} .
وعلى كلا المعنيين فإِن المقصود حاصل، وهو دلالة الآية على أن الطبع والختم على القلوب.. ونحوهما، طارئ عليها، وليس في أصل خلقتها. وأنه فعل الله الذي يجريه على من يستحقه من عباده إذا جاء بسببه.
وما دام أن الطبع ونحوه، هو فعل اللَّه سبحانه، وسببه فعل الإنسان من الكفر والنفاق.. ونحوهما، فإِن رفع الطبع وإزالته هو فعل اللَّه أيضاً، وسببه يكون من الإنسان.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإِيمان، بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل، ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلّمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه، بمفاتيح توفيقه التي هي بيده.. وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1.
وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك، لا يفتحها سواك.
فعرفها له عمر، وزادته عنده خيراً"2.
وخلاصة هذه الفقرة:
إن الختم والطبع وغيرهما من الحجب التي يجعلها اللَّه على قلوب الكافرين، إنما هي طارئة عليها، حيث إنهم يولدون كغيرهم من المكلفين على الفطرة السوية، ثم إذا جاؤوا بسبب يقتضي الختم والطبع، على قلوبهم طبع اللَّه عليها.
ثالثاً: أن ذلك هو مقتضى علمه - سبحانه - وحكمته وعدله.
والمراد بذلك: أن اللَّه عليم بعباده وما هم فاعلون، فيهدي مَن يعلم أنه أهل للهداية، ويضل ويختم على قلب من يعلم أنه أهل للغواية. وتقتضي الحكمة والعدل: أن يجازي كلاً بما يستحق، فيهدي من اهتدى، ويضل من كذب وغوى، ويختم على قلبه وسمعه جزاءً وفاقاً.
قال اللَّه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
1 سورة محمد الآية رقم (24) .
2 شفاء العليل، ص (193) .
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 1.
قال ابن جرير رحمه الله مبيناً المراد بقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} : "يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه، على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية"2.
وهذا المعنى - وهو أن إضلال اللَّه له كان على علم منه (سبحانه) - الذي اختاره ابن جرير ولم يذكر غيره، اكتفى به أيضاً جمهور المفسرين3.
وذكر بعض المفسرين مع هذا القول قولاً آخر.
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ، يحتمل قولين:
(أحدهما) : وأضله اللَّه بعلمه أنه يستحق ذلك.
(والآخر) : وأضله اللَّه بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه".4
وقال ابن القيم رحمه الله ذاكراً هذين المعنيين، ومبيناً أهمية
1 سورة الجاثية الآية رقم (23) .
2 جامع البيان، (11/262) .
3 انظر: شفاء العليل، لابن القيم، ص (63) .
4 تفسير القرآن العظيم، (4/150) .
المعنى الأول في فهم الحكمة في معاملة اللَّه للمكلفين، وأهميته لفهم القدر:
"وعلى الأول: يكون {عَلَى عِلْمٍ} حالاً من الفاعل، فالمعنى: أضله اللَّه عالماً بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.
وعلى الثاني: حالاً من المفعول. أي أضله اللَّه حال علم الكافر بأنه ضال.
قلت1: وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله اللَّه عالماً به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره، قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلاً للهدى، وأنه لو هدى لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه. والرب تعالى حكيم، إِنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.
فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر، والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه، ومنعه من لا يستحقه. إن هذا لا يحصل بدون العلم.
فهو - سبحانه - أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه"2.
1 القائل ابن القيم رحمه الله.
2 شفاء العليل، ص (63) .
وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} ، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ} ، تبين فعل اللَّه عز وجل.
وهذه الدلالة - وهي كون الآية في بيان فعل اللَّه - من مرجحات القول الأول، وهو أن قوله تعالى:{عَلَى عِلْمٍ} حال من الفاعل وهو اللَّه عز وجل. فيفيد أن فعله وقع عن علم وحكمة.
وهذه الآية دلت على الفوائد التي تقدم تقريرها في هذه الفقرة والفقرتين السابقتين، وهي:
1- إثبات فعل اللَّه في إضلال الضالين، وختمه على قلوبهم وأسماعهم. وذلك في قوله تعالى:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} ، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} .
2-
إثبات أن ذلك عن علم اللَّه، وهو الحكيم العدل - سبحانه - وذلك في قوله:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} .
3-
إثبات أن إضلاله لهم وختمه على قلوبهم وأسماعهم، إنما هو بسبب منهم، وذلك في قوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، حيث ذكر فعل العبد، وسببه الذي أوجب له فعل الرب المناسب.
رابعاً: علاقة ذلك بالقدر.
تبين مما تقدم: ثبوت فعل اللَّه في إضلال الضالين، وختمه على قلوب الكافرين وأسماعهم، ونحوها، وأن ذلك يكون من اللَّه عن علم بحال أولئك. وأنه يجريه عليهم لكونه مقتضى حكمته وعدله، حيث جاؤوا بسبب ذلك من أفعالهم التي استوجبت أن يعاقبهم عليها بتلك العقوبات.
كما تبين أن ضلالهم والختم على قلوبهم. ونحوها، طارئ عليهم، ليس مضروباً عليهم في أصل الخلق، وأن أفعال العباد أسباب لها.
وإذا كانت أفعال العباد أسباباً لما يجري عليهم من فعل اللَّه، ففعل اللَّه لا يتقدم على فعل العبد، وإنما يجازيه بما يستحق بعد أن يفعل العبد ذلك السبب.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد جمع سبحانه بين الأمرين [فعل الرب وفعل العبد]، في قوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .1
فالإزاغة فعله، والزيع فعلهم..
أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولاً، عقوبة لهم على زيغهم، والرب تعالى يعاقب على السيئة
1 سورة الصف الآية رقم (5) .
بمثلها، كما يثيب على الحسنة بمثلها. فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول. فهم زاغوا أولاً فجازاهم اللَّه بإزاغة فوق زيغهم.."1.
وإذا تقرر ذلك - وهو أن اللَّه يجازي عباده بما يستحقون من الهداية، أو الإضلال والختم على القلوب والأسماع، كما تقتضيه الحكمة، وعلم اللَّه بحالهم، وأن أفعالهم أسباب لفعل اللَّه بهم، وأن المُسَبَّب يأتي بعد السبب لا قبله - فيبقى بيان علاقة ذلك بالقدر السابق، وبيان كيف يستقيم هذا الفهم مع ما ورد من أن اللَّه كتب عليهم ذلك، وقدّره عليهم قبل أن يخلقهم، والقدر حكم لازم لا مخلص منه.
وبيان ذلك يكون في المسألتين الآتيتين:
المسألة الأولى: في بيان أهم معالم الإِيمان بالقدر.2
إِن الإِيمان بالقدر كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة يشمل:
الإيمان بأن اللَّه - تعالى - كتب ما اشتمل عليه علمه الأزلي من مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأراد وقوعها لآجالها إرادة كونية3، لاقتضاء الحكمة
1 شفاء العليل، ص (279) .
2 "معالم الإِيمان بالقدر" هي التي تسمى: "مراتب الإِيمان بالقدر"، باعتبار فعل العبد. أو:"مراتب القدر" باعتبار صفة الرب تعالى وفعله.
3 الإرادة المنسوبة إلى اللَّه نوعان:
الإرادة الكونية: وهي متعلقة بالخلق والإيجاد. وأمر اللَّه المتوجه إلى سائر المخلوقات بما يريد خلقه وإيجاده. كما قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس82) وهي نافذة لا يتخلف عنها المراد {فَعَّالٌ لما يُرِيد} (البروج 16) وهذه الإرادة متعلقة بحكمة اللَّه الكونية، أي أنه سبحانه يخلق ويوجد، ويصرف خلقه كما تقتضيه حكمته من تهيئة الكون بما يصلحه والأرض للعيش عليها، وما يحقق حصول الابتلاء والامتحان للعباد، وغير ذلك من الحِكَم التي يُعلم بعضها ويقصر العقل عن معرفة الكثير منها.
والإرادة الشرعية: وهي إرادة اللَّه المتعلقة بالشرع والتكليف، وأمره سبحانه المتوجه إلى المكلفين بما يحب أن يفعلوه وما يرضاه لهم من الشرائع والعبادات والأخلاق، كما في قوله تعالى:{إِنْ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ} (يوسف 40) وهي إرادة متعلقة بالحكمة الشرعية أي أنه يشرع لعباده ما تقتضيه حكمة التكليف من حصول المصالح لهم كما في المعاملات والأخلاق، ودفع المفاسد كما في الحدود. وحصول محبوبات للَّه كما في العبادات. وقد ورد ذكر الإرادة الشرعية في بعض النصوص نحو:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185) أي أن اللَّه شرع لعبادهِ الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو مسافراً لأنه يحب لهم اليسر. ولكن اليسر لا يحصل إلا لمن امتثل هذه الشرائع فأفطر.
ويمكن حصر الفروق بين الإرادة الكونية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة وبين الإرادة الشرعية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة فيما يلي:
1-
الإرادة الكونية متعلقة بالخلق والإيجاد، والشرعية بالشرع والتكليف.
2-
الكونية لا يلزم منها محبة المراد فيخلق سبحانه ما يحبه وما لا يحبه. فخلق الأنبياء مثلاً وهو يحبهم. وخلق إبليس والكفار وهو لا يحبهم. أما الشرعية فهي متعلقة بالمحبة فلا يشرع لعباده إلا ما يحبه ويرضاه.
3-
الكونية نافذة لا محالة لا يتخلف عنها المراد، أما الشرعية فإنها لا تنفذ إلا فيمن جاء بالسبب وامتثل الشرع وانقاد للأمر، وتتخلف عمن أعرض عن الأمر.
4-
الكونية متوجهة إلى جميع المخلوقات، أما الشرعية فهي متوجهة إلى المكلفين.
انظر: مجموع الفتاوى (8/159-160، 188-189) وشفاء العليل لابن القيم (559-567) وشرح العقيدة الطحاوية (249-254) الطبعة الثامنة.
لها، ويأذن بوقوعها ويخلقها - سبحانه - إذا حان الأجل.
ومن النصوص المبينة لهذا المفهوم للقدر، قول اللَّه تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .1
1 سورة الأنعام الآية رقم (59) .
2 سورة سبأ الآيتان رقم (2، 3) .
فهذه الآيات ونحوها تربط بين علم اللَّه السابق بمقادير الخلائق وبين كتابتها في اللوح المحفوظ.
فالمكتوب في اللوح المحفوظ هي مقادير الخلائق التي كانت في علم اللَّه لم يزل عالماً بها.
ومن تلك المقادير - التي لم يزل اللَّه عالماً بها وكتبها في الكتاب المبين - ما يتعلق بأفعال العباد كما دلت على ذلك الآية الثالثة آية سورة "يونس".
فهذه النصوص ونحوها تربط بين مرتبة علم اللَّه بمقادير الخلائق ومرتبة كتابتها.
وتدل هذه النصوص على شمول العلم والكتابة لجميع مقادير الخلائق صغيرها وكبيرها، مجملها ومفصلها، وكل ما يتصل بها.
وقد دل على شمول كتابة المقادير قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كتب اللَّه مقادير
1 سورة يونس الآية رقم (61) .
الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. قال وعرشه على الماء"1.
وهذا الحديث مع دلالته على شمول الكتابة لجميع مقادير الخلائق، دل أَيضا على وقت كتابتها. وأنه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. مما يدل على أن كتابة المقادير حادثة، لكنه - سبحانه - لم يزل عالماً بها قبل وبعد الكتابة.
كما جاءت نصوص أخرى تربط بين القدر السابق ومرتبة الخلق.
من ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} 2.
وأمر اللَّه: يراد به كلامه هو صفة من صفاته. ويراد به المأمور وهو الشيء الحاصل بأمر اللَّه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فالأمر يراد به نفس مسمَّى المصدر، كقوله:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح (2653)(4/2044) .
2 سورة الأحزاب الآية رقم (38) .
3 سورة طه الآية رقم (93) .
{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 2، ويراد به المأمور به، كقوله تعالى:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} ، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} 3.
فالأول: هو من كلام اللَّه وصفاته، والثاني: مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه"4.
وأمر اللَّه الذي هو كلامه الذي يأمر به ينقسم إلى قسمين:
الأول: أمره الكوني، وهو كلامه المتوجه إلى المخلوقات بالخلق والإيجاد وهو قوله للشيء "كن".
قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5.
وقال - سبحانه -: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 6
1 سورة النور الآية رقم (93) .
2 سورة الطلاق الآية رقم (5) .
3 سورة النحل الآية رقم (1) .
4 درء تعارض العقل والنقل، (7/261) .
5 سورة يس الآية رقم (82) .
6 سورة النحل الآية رقم (40) .
الثاني: أمره الشرعي: وهو كلامه ووحيه الموجه للمكلفين بما شرعه لهم من الدين.
قال تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 1.
وقال - سبحانه -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3.
وعلى هذا فإِن "أمر اللَّه" يراد به ثلاثة معان:
الأول: كلامه الكوني، الذي يأمر به ويخلق به. كما قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4.
1 سورة الطلاق الآية رقم (5) .
2 سورة النحل الآية رقم (2) .
3 سورة النور الآية رقم (63) .
4 سورة الأعراف الآية رقم (54) .
الثاني: كلامه الشرعي، الذي يأمر به ويشرع به. وهو وحيه إلى أنبيائه.
الثالث: المأمور به، الذي يوجد ويكون بأمر اللَّه.
والمراد بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} : هو النوع الثالث. أي المأمور به المخلوق الكائن بأمر اللَّه الكوني كما تقدم ذلك في كلام ابن تيمية رحمه الله.
فإذا أمر اللَّه الشيء، وقال له:"كن" فإِنه يوجَد ويكون موافقاً للقدر المقدور أي للقدر السابق.
فهذه الآية ونحوها تجمع بين مرتبة الخلق، والقدر السابق، وتبين أن ما يخلقه اللَّه إنما يوجد كما قدر له في كتاب المقادير.
وبين ذلك - أَيضا- بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1ونحوها.
كما وردت نصوص تربط بين مرتبة الخلق وإرادة اللَّه ومشيئته، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.
1 سورة القمر الآية رقم (49) .
2 سورة يس الآية رقم (82) .
وقوله: {فَعَّالٌ لما يُرِيدُ} 1.
ومن ذلك أفعال العباد، كما في قوله سبحانه:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلآَّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2.
فهذه الآية ونحوها تبين أنه لا يقع من العباد فعل إلا إذا شاءه اللَّه وأراده. فهي تقرر مشيئة اللَّه لأفعال العباد. كما تقرر أن ذلك يكون بعلم اللَّه وحكمته.
من هذه النصوص ونحوها، ينتظم الإِيمان بالقدر الذي يتضمن الإِيمان بصفات اللَّه وأفعاله المتعلقة بمقادير الخلائق عامة، وأفعال المكلفين وما يجري منهم وعليهم خاصة.
حيث تبين أن اللَّه خالق لكل شيء بأمره الكوني. وأن ما خلقه فقد أراده وأذن بوقوعه لاقتضاء الحكمة له.
وأن كل ما يكون ويوجد فإِنه يخلق موافقاً للقدر السابق.
وأن اللَّه قد كتب جميع مقادير الخلائق - ما علم أنه يكون منهم، وما يجري عليهم - في كتابه المبين اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق السموات
1 سورة البروج الآية رقم (16) .
2 سورة الإنسان الآيتان رقم (29، 30) .
والأرض بخمسين ألف سنة.
وبذلك تتضح أهم معالم الإيمان بالقدر، وإجمالها فيما يلي:
1-
إن اللَّه خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد.
2-
إن ما خلقه وأوجده فقد أراده إرادة كونية، وأذن بوقوعه.
3-
إن ما يخلقه – سبحانه – بأمره الكوني يُخلق موافقاً للقدر السابق.
4-
إن القدر هو كتابة علم اللَّه الأزلي بمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
5-
إن كتابة المقادير وإرادة اللَّه لها وخلقه إياها تم بعلم اللَّه وحكمته - سبحانه - القائمة على العدل أو الفضل، وإعطاء كلٍ ما يستحقه ويتناسب مع حاله.
وعلى هذا فإضلال اللَّه للضالين، وختمه على قلوبهم وأسماعهم، ونحو ذلك هي من مقاديرهم الجارية عليهم، والتي تتحقق فيها تلك الحقائق المبينة لمعالم الإِيمان بالقدر.
وسيأتي زيادة بيان لهذا فيما يلي:
المسألة الثانية: في المراد بكتابة أفعال العباد وما يقابلها من فعل اللَّه.
إِن المراد بيانه هنا هو جزء من المقادير، التي تتعلق بالمكلفين، وهي قسمان: كتابة أفعالهم الجارية باختيارهم، وكتابة أفعال اللَّه التي يقابل بها
تلك الأفعال ومنها الإضلال والختم على القلوب.
القسم الأول: أفعال العباد التي علم اللَّه أنهم سيفعلونها.
وتقدير هذا النوع: تم بإثبات علم اللَّه بها وكتابته في اللوح المحفوظ. وإذنه بوقوعها، وخلقه لها بتهيئة الأسباب وإزالة الموانع.
علاقة تقدير هذا النوع بعلم اللَّه:
تقدم أن تقدير أفعال العباد تم بإثبات علم اللَّه بها وكتابته اللوح المحفوظ، حيث كتب ما علم أنه سيعملونه.
وعلم اللَّه بأفعال العباد، وكتابته في اللوح المحفوظ، لا تأثير له في سيرها إيقاعاً أو منعاً. إذ أن مجرد العلم - سواء كان مكنوناً في النفس، أو مكتوباً في كتاب - لا تأثير له على المعلوم. لذلك لم يَعُدَّ أهلُ العلم عِلْمَ اللَّه تعالى في صفات الأفعال.
قال الخطابي1 رحمه الله: "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من اللَّه والقضاء منه معنى الإِجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدر.. وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه.
1 أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي. كان من العلماء المحدثين الفقهاء المجتهدين. صنف: غريب الحديث، معالم السنن، والعزلة، والغنية عن الكلام وأهله. توفي سنة 388 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/23) ، والبداية والنهاية (11/346) .
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللَّه - سبحانه - بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم1 وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها"2.
قال بعض العلماء معقباً على قول الخطابي هذا: "وعلم اللَّه - سبحانه - بما سيقع، ووقوعه حسب هذا العلم لا تأثير له في إرادة العبد، فإِن العلم صفة انكشاف3 لا صفة
1 اكتساب العبد: هو فعله وعمله. كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقوله:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11]، وقوله:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] .
2 معالم السنن، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، (4/322) الناشر: محمد راغب الطباخ، حلب، الطبعة: الأولى، 1352هـ.
3 قوله: "العلم صفة انكشاف": هذا باعتبار علم العبد. حيث إن "انكشاف" مصدر "انكشف" والأصل في الإنسان الجهل، كما قال تعالى:{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] وينكشف له العلم بالتعلم انكشافاً.
أما اللَّه (فليس علمه من انكشاف - ولا يستجد له علم كان خافياً عليه. بل هو - سبحانه - لم يزل عالماً بما كان وما يكون وما سيكون، محيط علمه بكل شيء.
لكن المعنى العام المطلق لهذه اللفظة، المجرد عن معنى الاكتساب، وهو كون العالم منكشف له حال المعلوم - صحيح في حق اللَّه تعالى. والاعتبار حاصل بهذا القدر العام المشترك. حيث إن علم اللَّه بفعل العبد ليس له تأثير على فعل العبد إقداماً أو إحجاماً. ومثال ذلك:{وَلِلّهِ المثَل الأَعْلَىَ} [النحل:60] : لو أن رجال الأمن علموا بطريق خفي عن سرقة ستحصل، وكتبوا ذلك في محاضرهم، فإِن علمهم هذا وكتابتهم لا أثر لها على فعل السارقين إقداماً أو إِحجاماً. واللَّه أعلم.
تأثير"1.
وإذا تبين هذا فإِن أول فعل العبد هي إرادته وعزمه على الفعل.
فاللَّه يعلم مشيئة العبد، وهل تقتضي الحكمة تمكينه من الفعل أم لا؟
قال اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2.
- فهو يعلم - سبحانه - ما يريدون فعله! وكتب ما علم من إراداتهم.
- ثم هل تقتضي الحكمة تمكينهم من الفعل أم لا؟
فكتب من سيؤذن له بالفعل ويمكن منه! ومن لا يمكن!
1 العقائد الإِسلامية، لسيد سابق، ص (96) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ت بدون.
2 سورة الإنسان الآيتان رقم (29، 30) .
- والذي أذن له بالفعل كتب الكيفية التي سيتم بها فعله!
- والذي لم يؤذن له بالفعل، كتب عليه ذلك، وكَتَب الأسباب التي سيُحَال بها بينه وبين الفعل.
وكل ذلك يجري على مقتضى علم اللَّه بعباده، وحكمته في معاملتهم.
أفعال العباد.. وإرادة اللَّه الكونية:
إِن مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده معتبر فيها أمور هي من مقتضى صفاته وما أوجبه على نفسه - سبحانه -.
ومجمل تلك الاعتبارات فيما يلي:
1-
العلم والحكمة.
فما شاءه اللَّه لعباده من الإذن لهم بإنفاذ ما شاؤوا من الأعمال، أو عدم الإذن، وما شاءه من أفعاله الجارية عليهم، إنما هو عن علم اللَّه وحكمته، فأرادها وقدرها عليهم لذلك.
ومن ذلك فعلهم من الضلال وتعاطي أسباب الهلاك، وموجبات الختم على القلوب والأسماع، وفعل اللَّه المناسب لأفعالهم من الإضلال والختم على القلوب والأسماع ونحوها.
قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.
1 سورة الإنسان الآية رقم (30) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: مبيناً أن هداية المهتدي، وإضلال الضال إنما يكون عن علم اللَّه وحكمته:" {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فله الحكمة في هداية المهتدي، وإضلال الضال"1.
وقال ابن جرير رحمه الله مبيناً أن ما قدّره اللَّه على عباده مما أراده من أفعالهم الواقعة منهم، وأفعاله الجارية عليهم، إنما تم عن علم اللَّه وحكمته:"وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} : فلن يعدو منكم أحد ما سبق له في علمه بتدبيركم"2.
ومن الآيات التي تبين أن مشيئة اللَّه في معاملة عباده إنما هي عن حكمة تتضمن علمه بحالهم وما يستحقونه من الجزاء. قوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3.
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (7/540) .
2 جامع البيان، (12/376) .
3 سورة إبراهيم الآية رقم (4) .
بِالمُهْتَدِينَ} 1.
وقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} 2.
وقال - سبحانه -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} 3.
والحكمة: تشمل ما علمه اللَّه من أعمالهم السابقة التي توجب التوفيق للخير والتمكين منه، أو الخذلان عنه، والتيسير للشر والتمكين منه أو العصمة منه. على حد قوله - سبحانه -:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4 ونحوها.
2 -
العدل وعدم الظلم.
والمراد أن اللَّه - سبحانه - قيد إرادته بعدم الظلم، فلا يظلم - سبحانه - أحداً من عبيده، حيث حرّم الظلم على نفسه.
1 سورة الأنعام الآية رقم (117) .
2 سورة النحل الآية رقم (125) وسورة القلم الآية رقم (7) .
3 سورة القصص الآية رقم (56) .
4 سورة الليل الآيات رقم (5-10) .
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} 1.
وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 2.
وقال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ} 3.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرّما فلا تظالموا"4.
3 -
الفضل.
والمراد أن اللَّه شاء أن يعامل أهل الفضل من عباده بالفضل.
وهذا من حكمته - سبحانه - ورحمته وشكره وإحسانه.
1 سورة النساء الآية رقم (40) .
2 سورة الكهف الآية رقم (49) .
3 سورة فصلت الآية رقم (46) .
4 من حديث طويل، رواه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، ح (2577) ، (4/1994) .
قال تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ} 1.
فقد شاء اللَّه أن ييسر أهل الفضل من عباده لليسرى، ويوفقهم للخير، ويزيدهم هداية وثباتاً، فضلاً منه ورحمه، موافقاً لأفعالهم الحسنة.
قال ابن جرير رحمه الله: "وقوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} يقول: ولكن اللَّه حبب إليكم الإِيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة، التي عدّها فضلاً منه، وإحساناً ونعمة منه أنعمها عليكم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يقول: واللَّه ذو علمٍ بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم اللَّه وفضله أهل، وحكمةٍ في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه"3.
1 سورة الرحمن الآية رقم (60) .
2 سورة الحجرات الآيتان رقم (7، 8) .
3 جامع البيان، (11/385، 386) .
وهاتان الآيتان من سورة "الحجرات" بينتا أموراً هامة من أهمها:
- إثبات فعل اللَّه من تحبيب الإِيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وتكريههم الكفر والفسوق والعصيان.
- بيان أن فعل اللَّه ذلك إنما هو من فضله ونعمته عليهم.
- بيان أن ذلك عن علم اللَّه بهم، وحكمته التي تقتضي معاملة المحسن بالإحسان، وأهل الفضل بالفضل.
- أن هذه الآية جمعت ثلاثة من الأمور التي تتم بموجبها مشيئة اللَّه في معاملة عباده - والتي يجري تقريرها - وهي: الفضل، والعلم، والحكمة.
4-
أن رحمته - سبحانه - تسبق غضبه.
والمراد أن مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده، ويأذن بها لما يقع منهم وعليهم، يراعي فيها - سبحانه - تقديم مقتضى رحمته على مقتضى سخطه، إذا قام بالعبد موجب للرحمة وموجب للغضب.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي"1.
1 رواه الترمذي، أبواب الدعوات، باب 109، ح (3611) .
وقال: "هذا حديث حسن صحيح" سنن الترمذي (5/209) .
وفي رواية: "رحمتي سبقت غضبي"1.
قوله: "رحمتي تغلب غضبي". دليل على علم اللَّه أنه سيكون من عباده المؤمنين ما يوجب الرحمة، وما يوجب الغضب. وستكون المغالبة بإزاء ذلك بين مقتضى رحمة اللَّه، ومقتضى غضبه، الذين استحقهما العبد أو العبيد، وسَيُنفِذ مقتضى رحمته ويقدمه على مقتضى الغضب، وذلك من فضل اللَّه ولطفه بعباده.
وهذا يكون إذا فعل العبد أو الجماعة المؤمنة، فعلاً يستحقون عليه الرحمة والثواب، وفعلاً آخر يستحقون عليه الغضب والعقاب، فتتعارض الحكم، فعندها يقدم - سبحانه - مقتضى رحمته.
ولعل من أمثلة ذلك: ما حصل من الصحابة من اتخاذ الأسرى يوم بدر، وأخذ الفدية منهم قبل أن تحل لهم.
فقد جاؤوا بعمل صالح عظيم وهو شهود بدر. وهو من موجبات الرحمة وجاؤوا بمعصية خطيرة، هي أخذ الفدية من الأسرى قبل أن تُحَل لهم، وهي من موجبات الغضب والعذاب، كما دل عليه قوله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
1 رواه ابن ماجة في المقدمة، باب (13) فيما أنكرت الجهمية، ح (189) سنن ابن ماجة (1/67) .
2 سورة الأنفال الآية رقم (68) .
فسبقت رحمته غضبه، فغفر لهم، ورحمهم، وأباح لهم الغنائم كما دل عليه قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
فالذي يُقدَّر على العبد في مثل هذه الحالة مقتضى الرحمة، ويتخلف مقتضى الغضب. والمغالبة بينهما والمسابقة إنما هي في تقدير الحكمة، وليس في المقادير المكتوبة، وإنما المكتوب هو مقتضى الرحمة.
ومن أمثلة ذلك:
علم اللَّه بقيام عبد من عبيده بعقوق أمه وضربها.
وهذا العمل من موجبات الغضب، وحقه في حكمة اللَّه أن تعجل له العقوبة.
لكن علم اللَّه - أَيضا - أنه لا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر وينكسر بين يدي اللَّه. أو أن والدته المضروبة تدركها الشفقة عليه لمقتضى علمها باللَّه وسنته، وتشفع له في تلك الحالة وتسأل اللَّه أن يقيله ولا يعاجله بالعقوبة.
فيكون قد قام بذلك العبد موجب عذاب وغضب، وقام به أو له موجب رحمة، وكل ذلك في علم اللَّه - سبحانه -.
فإِن اللَّه من رحمته يعامله بمقتضى رحمته. حيث إن رحمته تسبق
1 سورة الأنفال الآية رقم (69) .
غضبه، ويكتب عليه ما يناسب ذلك. واللَّه أعلم.
وخلاصة ما دلت عليه تلك الأمور المعتبرة في مشيئة اللَّه التي يعامل بها عباده:
أن اللَّه قدَّر الهداية والضلال على عباده، وأذن لهم بأفعالهم، وأجرى عليهم من أفعاله، بهذه الاعتبارات المتقدمة من علمه بهم وبأفعالهم وحكمته التي تقتضي أن يجازي كلاً بما يستحق، بأن يهدي من اهتدى، ويضل من زاغ وغوى، وعدم ظلمه، وفضله لأهل الفضل، وأن رحمته تسبق غضبه.
فهو - سبحانه - يدبر أمر عباده، وقدر عليهم مقاديرهم، وهو بصير بهم، كما قال تعالى:{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} 1.
قال ابن كثير رحمه الله: "واللَّه عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، ولهذا قال:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة
1 سورة آل عمران الآية رقم (20) .
وهو الذي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1 وما ذلك إلا لحكمته ورحمته"2.
وبهذه الاعتبارات يقيد كل لفظ للمشيئة مطلق في النصوص فيما يتعلق بمعاملة اللَّه لخلقه المكلفين. نحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 3.
فالقدر ليس معناه: أن اللَّه اختار لعباده، بمحض المشيئة المطلقة، ومحض التحكم، أفعالهم وأفعاله الجارية عليهم، وقدرها عليهم وأجبرهم عليها، فهم سائرون على ما اختاره لهم.
وإنما معنى القدر: أن اللَّه قدَّر عليهم ما اقتضته حكمته من أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها وأذن لهم بها، ومن أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها تلك الأعمال التي علم أنهم سيعملونها.
فالمشيئة التي قدر بها تلك المقادير من أفعال العباد، وتلك التي يخلقها
1 سورة الأنبياء الآية رقم (23) .
2 تفسير القرآن العظيم، (1/354) .
3 سورة النحل الآية رقم (93) .
ويمكن من وقوعها بها، معتبر فيها علمه سبحانه وحكمته وعدله، وأن رحمته تسبق غضبه، وغيرها من مقتضى أسمائه وصفاته، وسننه الجارية التي يعامل بها عباده.
أفعال العباد.. وإذن اللَّه الكوني1:
1 الإِذن المنسوب إلى اللَّه نوعان:
إذن اللَّه الكوني: وهو التمكين من الفعل الموافق للمشيئة راضياً منه الفعل أم لم يرضَ به. [انظر: المفردات للأصفهاني ص (15) بتصرف] فهو نوع من أنواع أمر اللَّه الكوني، الصادر بالمشيئة.
إلا أنه - بدلالة الاستقراء للنصوص القرآنية - يستخدم (إذن اللَّه الكوني) ، وتصرفاته بإزاء أفعال المخلوقات وأسباب الخلق.
أما ما ورد من أمره الكوني فإِنه يكون بإزاء أفعال اللَّه تعالى.
والمراد دائماً عند الكلام في القدر هو الإِذن والأمر الكوني.
ومن أدلة الإذن الكوني، قول اللَّه تعالى:
{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102] وقوله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249] وقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] .
وإذن اللَّه الشرعي: وهو المتعلق بما شرعه اللَّه لعباده وأعلمهم به، وهو يتضمن الرضى والتكليف بما أذن به، ولا يأذن اللَّه لعباده بشريعة إلا وهو يحبها. ومن أدلة هذا النوع، قول اللَّه تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وقوله: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] .
وهو سبحانه متفرد بالأمر والإذن:
فلا مالك لحق التشريع إلا هو، كما قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . وهو سبحانه متفرد بالأمر والإذن الكونيين، الذين بهما الخلق والتدبير، وليس له شريك في هذا الملك، ولم يعط شيئاً منه أحداً من خلقه. ومن أدلة تفرده بالأمر ومنه الإذن الكوني قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] وقوله: {بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وقوله:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وقوله:{لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] ونحوها كثير.
أن إرادة اللَّه لأفعال العباد تستلزم إذنه الكوني بوقوعها إذا حان أجلها.
فالإِذن الكوني للعباد بإيقاع أفعالهم يكون عن مشيئة اللَّه، ومشيئة اللَّه مستلزمة لفعله سبحانه، كما قال تعالى:{فَعَّالٌ لما يُرِيدُ} 1.
وعليه فإِن الأذن الكوني يستلزم فعلاً للَّه يتحقق به فعل العبد.
1 سورة البروج الآية رقم (16) .
وذلك يكون: بإزالة الموانع، وتهيئة الأسباب، وإقداره على الفعل.
وبدون ذلك لا يستطيع العباد أداء أفعالهم.
ولذلك سُمّي إذناً كونياً لتضمنه فعل اللَّه تعالى.
ونُسِب الفعل إلى اللَّه، لكون العبد لا يستطيع الفعل بدونه، إذ هو الذي أذن بالفعل، وأزال موانعه، وهيأ أسبابه، ويسر الفعل، وأقدره عليه.
ولا ينسب الفعل إلى اللَّه مزاولة ومباشرة، وإنما ينسب إليه إرادةً وإذناً وتمكيناً.
مثال ذلك:
لو أن ولداً طلب الإذن من والده في الزواج من امرأة بعينها، فوافق الوالد وأذن له بالزواج منها. وكان الولد قادراً على نفقات الزواج ولا يحتاج من والده إلا إذنه وموافقته.
فهذا إذن مجرد من الفعل، لا يتطلب من الآذن إلا الموافقة، ولا يقال فيه إن الوالد زوج ولده لمجرد إذنه له بالزواج. أما إذا كان الولد لا يستطيع الزواج من تلك المرأة، لغلاء مهرها الذي لا يملك منه شيئاً، أو لممانعة والدها، أو لغير ذلك من الموانع التي لا يستطيع تجاوزها إلا بمساعدة والده، فإِنه إذا قال لوالده زوجني من فلانة، نما يريد منه ما هو أبعد من الموافقة! يريد إذناً يستلزم فعلاً.
والوالد قد يقول لا أريد تزويجك منها، فلا يأذن بزواجه منها ولا يُمكنُه. فينتهي الأمر، إذ أن الولد لا يستطيع، والوالد لم يأذن.
أما إذا وافق الوالد على الزواج، فإِنه عند ذلك يسعى في إزالة الموانع والصعوبات، ويُقدم المهر ويُهيِّئ الأسباب، ويقنع والد المرأة حتى يتم الزواج.
وعندها يقال الوالد زوج ولده.
ولا يعني لك أن الوالد هو الذي تزوج وباشر الفعل!
وإنما ينسب الفعل إلى الوالد إذناً يتضمن التمكين بإزالة الموانع وتهيئة الأسباب.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} 1.
فهو سبحانه المزوِّج ورسوله المتزوج. وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} 2، فهو المزوِّج وهم المتزوجون.
وقد جمع - سبحانه - بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوآأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 3، فالإزاغة فعله، والزيغ فعلهم"4.
فإذن اللَّه الكوني يستلزم تيسير حصول الفعل، كما أن عدم الإذن
1 سورة الأحزاب الآية رقم (37) .
2 سورة الدخان الآية رقم (54) .
3 سورة الصف الآية رقم (5) .
4 شفاء العليل، ص (279) .
كوناً يستلزم منع الفعل. كما قال تعالى: {وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 1.
وقال: {وَلَوْ شَآء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2.
ومعلوم أن قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، ليس المراد منه أن اللَّه هو الذي باشر الاقتتال. وإنما أراده وأذن به كوناً وهيأ أسبابه التي لو لم تكن لما حصل اقتتال. وهذا هو فعله الذي تحققت به إرادته لاقتتالهم.
فالاقتتال منسوب إلى اللَّه إرادة وإذناً وتمكيناً، ولولا ذلك ما حصل، ومنسوب إليهم مباشرة ومزاولة.
قال ابن القيم رحمه الله: "إحداث اللَّه - سبحانه - لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد، فجعل فاعلاً بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة. وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإراداته وقدرته.
وكل من الإحداثين مستلزم للآخر، ولكن جهة الإضافة مختلفة، فما أحدثه الرب - سبحانه - من ذلك فهو مباين له، قائم بالمخلوق، مفعول له لا فعل. وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به، يعود إليه حكمه، ويشتق له منه اسمه..
1 سورة الأنعام الآية رقم (112) .
2 سورة البقرة الآية رقم (253) .
فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه. وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسباباً لحصولها. [ولا تعارض] بين الإضافتين، ولا تناقض بين السببين.
وإذا كان كذلك: تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق التسبب، وقيامه به، ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب - سبحانه - خلقاً ومشيئة وقدراً.
ونظيره، قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَآ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 1.
وقال لنوح: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} 2.
فالرب - سبحانه - هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته، ونوح حملهم بفعله ومباشرته"3
وخلاصة القول في تقدير أفعال العباد:
أن اللَّه لم يزل عالماً بأفعال العباد التي سيفعلونها، وأنه كتب علمه بأفعالهم في اللوح المحفوظ، حيث اقتضت الحكمة أن يأذن لهم بفعلها، وتعلقت بها إرادته الكونية. وإذا جاء الأجل هيأ لهم أسباب الفعل، وصرف عنهم الموانع، ومكنهم منه، فباشروه وفعلوه.
1 سورة الحاقة الآية رقم (11) .
2 سورة هود الآية رقم (40) .
3 شفاء العليل، ص (258، 259) .
ومن ذلك إضلاله للكافرين، فإِن اللَّه عالم بأنهم سيقصدون طريق الزيغ والضلال، فكتب عزمهم ذلك، ثم إن الحكمة تقتضي أن يمكنوا من ذلك الضلال، فأراده منهم وأذن لهم به، لعلمه بحالهم وأنهم أهل لذلك.
فكتب ذلك الفعل الذي أذن لهم بفعله كوناً. وكتب ما يتعلق بوقوعه من التفاصيل. وكل ذلك عن علم بأفعالهم، وحكمة في إرادتها وتقديرها.
فاللَّه - سبحانه - أضلهم بمعنى أنه أراد منهم ذلك كوناً، وأذن لهم به، ومكنهم منه، وقدره عليهم، إذ أن الحكمة تقتضي ذلك.
وهم ضلوا حيث قصدوا طريق الضلال، ومارسوه وباشروه بما أعطاهم اللَّه من قدرات، وهيأ لهم من أسباب.
وعِلْمُ الله وكتابته لا تأثير لها في مقاصدهم وأعمالهم، وإنما هم قصدوها بطوعهم واختيارهم، وفعلوها بقدراتهم وأسبابهم، واللَّه لم يزل عالماً بتلك الأفعال فكتبها عليهم، وإذا جاء الأجل أذن لهم بفعلها ومكنهم منها. فإذا فعلوها جازاهم عليها بما يستحقون من الختم والطبع والعقوبات التي تقتضيها حكمته. والله أعلم.
القسم الثاني1 من المقادير المتعلقة بأفعال المكلفين: كتابة أفعال اللَّه التي يقابل بها أفعال العباد.
إن أفعال اللَّه المقصودة هنا هي: أفعاله التي يقدرها جزاء على أفعال عباده التي علم أنهم سيفعلونها، وأذن لهم بفعلها، ومكنهم منها، وقدرها وكتبها عليهم.
وهذا النوع من أفعال اللَّه غير أفعاله التي سبقت الإشارة إليها في القسم الأول. إذ إن المراد في النوع الأول فعل اللَّه المتضمن لإِذنه لعباده بمزاولة أعمالهم، وتمكينهم منها، أو عدم الإذن والحيلولة بينهم وبينها.
وقد تقدم في بيان القسم الأول من المقادير المكتوبة على المكلفين - الذي هو عبارة عن أفعالهم التي يمارسونها ويتلبسون بها - ما يلي:
1-
أن العباد يقصدون تلك الأفعال بما أعطاهم اللَّه من إرادة واختيار، ويفعلونها بما أعطاهم من قدرة، وهيأ لهم من أسباب.
2-
أن اللَّه - سبحانه - لم يزل عالماً بمشيئة عباده لأفعالهم، وتقتضي حكمته أن يأذن لبعضها ويمنع بعضاً.
3-
أن اللَّه - سبحانه - كتب من سيأذن له، وكتب ما علم من فعله، وكيف سيكون، وكل ما يتصل به.
4-
أن علم اللَّه بأفعال العباد، وكتابته وتقديره لها، لا تأثير له في
1 القسم الأول: ص (682) .
إرادة العبد وفعله.
هذا ما يتعلق بأفعال العباد وعلاقتها بالقدر والكتابة.
وهذه الأفعال التي سيفعلها العباد لحينها، وعلمها اللَّه وكتبها، يستحقون عليها جزاءً مناسباً من اللَّه - سبحانه -.
وهذه الجزاءات من اللَّه للعباد على أفعالهم تجري وفق حكمته وعلمه بأحوالهم، حيث تقتضي الحكمة أن يجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالسوء والحرمان.
فكتب - سبحانه - أفعاله التي سيقابل بها أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها.
وقد دلت نصوص كثيرة على أن اللَّه يقابل أفعال عباده بأفعاله - سبحانه - المناسبة لها بمقتضى حكمته.
فمن ذلك قوله: {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ} 1.
وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَاّ الكَفُورَ} 2.
1 سورة الرحمن الآية رقم (60) .
2 سورة سبأ الآية رقم (17) .
وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} 1.
فقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} فعل العباد.
وقوله: {زَادَهُمْ} : فعل الرب الذي يقابل به أفعالهم.
وقال: {فَلَمَّا زَاغُوآ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 2.
فقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا} : فعل العبيد. وقوله: {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} : فعل اللَّه.
وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 3.
وقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4.
قوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى} فعل العباد، وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} : فعل الرب تبارك وتعالى.
1 سورة محمد الآية رقم (17) .
2 سورة الصف الآية رقم (5) .
3 سورة الليل الآيات رقم (5-7) .
4 سورة الليل الآيات رقم (8-10) .
وقال تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 1.
وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2.
قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} هي أفعال اللَّه تعالى التي جازى بها هؤلاء على فعلهم المبين في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وشواهد هذا المعنى في القرآن كثيرة جداً.
أما شواهده من الحديث، فمنها:
قوله صلى الله عليه وسلم: "لينتهينّ أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم"3.
ففعل اللَّه هو: الختم على القلوب.
1 سورة محمد الآية رقم (7) .
2 سورة الأنعام الآية رقم (110) .
3 رواه مسلم. تقدم: ص (684) .
وسببه من فعل العباد هو: ترك الجمعات.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"1.
ففعل العبد: هو معاداة وليٍّ من أولياء اللَّه تعالى.
وفعل اللَّه هو: إعلان الحرب على من فعل ذلك.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده أمامك، تَعَرَّفْ إلى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة".2
قوله: "احفظ اللَّه" و "تعرف إلى اللَّه في الرخاء" هذا فعل العبد.
وقوله: "يحفظك" و "تجده أمامك" و "يعرفك في الشدة"، هي أفعال اللَّه، ومظاهر ولايته لعباده المتقين.
وشواهد ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة.
1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح (6502)(11/340) .
2 رواه الإمام أحمد. المسند (1/307) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، ح (318) ، (1/139) .
كما رواه الترمذي بنحوه، وقال:"حديث حسن صحيح".
وقال ابن رجب: "وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة" جامع العلوم والحكم ص (174) . وصححه الألباني أيضاً في ظلال الجنة، ح (318) ، (1/138) .
ودلالة هذه الشواهد من الكتاب والسنة، هي:
أن اللَّه اقتضت حكمته أن يقابل أفعال عباده بأفعاله المناسبة لها. فيجري عليهم من أفعاله سبحانه ما يستحقونه على أفعالهم التي يعملونها. وأفعالهم أسباب لما يجري عليهم من فعله - سبحانه -.
أما كتابة هذا النوع في كتاب المقادير السابق فبيانه فيما يلي:
أن اللَّه لم يزل عالماً بما سيفعله العباد.
وتقتضي حكمته أن يجازي كلاً بما يستحق على فعله الذي علم أنه سيفعله.
فكتب - سبحانه - أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها.
وكتب أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها تلك الأفعال.
ثم إذا جاء أجل الفعل أذن اللَّه كوناً بوقوعه ففعله العبد.
ثم أجرى عليه سبحانه فعله المناسب. وكل ذلك مكتوب مقدر عن علم اللَّه وحكمته.
وعلى هذا فالإضلال والختم والطبع على قلوب الضالين وأسماعهم وجعل الغشاوة على أبصارهم.. ونحوها، هي من هذا القسم. أي: من أفعال اللَّه التي يقابل ويجازي بها عباده على أفعالهم التي تستوجبها.
وذلك: أن اللَّه علم أن ذلك الكافر سوف يسلك أسباب الزيغ والضلال، وتقتضي الحكمة أن يؤذن له، لعلم اللَّه بحاله وكونه من الذين
لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها، أو لكونه لم يؤمن أول مرة مع تبين الحق له، أو لأي سبب سابق ترتب عليه في حكمة اللَّه أن يؤذن له بالزيغ.
وكتب - سبحانه - عليه ذلك الفعل.
وكتب عليه فعله - سبحانه - المناسب أن يقابل به زيغ ذلك الزائغ، من إزاغة قلبه، والختم والطبع عليه، أو غير ذلك من أفعاله الحكيمة التي يقابل بها أفعال عباده.
وخلاصة هذه الفائدة هي:
أن المثَل - مثل الظلمات في سورة "النور" - دل على إضلال اللَّه للكفار، وختمه على قلوبهم وأسماعهم، بحُجُب تحجب عنهم أنوار الهداية.
وأن ذلك لم يضرب عليهم في أصل الخلقة، حيث خُلقوا كغيرهم من المكلفين على الفطرة السوية، وإنما هو عقوبة لهم بسبب كفرهم وضلالهم.
وأن ذلك هو مقتضى حكمة اللَّه التي يعامل بها عباده حيث يكتب الخير والإحسان للمحسنين، ويقدر العقوبة والحرمان والأغلال على الضالين المكذبين.
وأن اللَّه قدر ذلك عليهم في اللوح المحفوظ، إذ كتب علمه بها.
وذلك أن اللَّه لم يزل عالماً ما سيفعلونه، فكتب أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها واقتضت الحكمة أن يؤذن لهم بفعلها، ومن ذلك ضلال
واستكبار الكافرين.
كما اقتضت الحكمة أن يجازيهم بما يستحقون على أفعالهم، ومن ذلك الطبع والختم ونحوهما على قلوب وأسماع الكافرين.
فكتب أفعاله التي تقتضي الحكمة أن يقابل بها أفعالهم التي علم أنهم سيفعلونها. ومن ذلك الختم والطبع والغشاوة لمن يستحقها من عباده، وقدّرها عليهم جزاء وفاقاً. واللَّه أعلم.
الفائدة الرابعة: دلالة المثَل على أن الكفار في حيرة وقلق وخوف دائم.
وهذه الفائدة مستفادة مما تقدم1 من حال الممثّل به الكائن في مكان ما في عمق بحر عظيم مظلم مضطرب الموج مخيف مفزع، وهو في حيرة من أمر خلاصه لا يستطيع التقدم في أي اتجاه لشدة الظلمة.
ومما يقابله من حال الكفار - المضروب لهم مثل الظلمات - المغمورين في بحر الكفر والضلال والفساد، قد أظلم عليهم الطريق، وأظلمت قلوبهم وأعمالهم، فهم في عمى تام، وضلال بعيد، وأنهم بسبب هذه الظلمات، وما يحيط بهم ويغشاهم من: أمواج العقائد الباطلة، والظنون السيئة وما يتولد عنها من الشك والريب، وتيارات الشهوات الفاسدة والإرادات الخبيثة، والنظريات المنحرفة، في خوف وفزع وقلق وحيرة.
وقد أشار ابن جرير - رحمة اللَّه - إلى إفادة المثَل حيرة الكفار بقوله: "ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عملت على خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها فيها، وعلى غير هدى، مثل ظلمات في بحر لجي"2.
كما أشار بعض المفسرين إلى إفادة حال الممثّل به الخوف الشديد حيث قال:
1 تقدم: ص (612) . وما بعدها.
2 جامع البيان، (9/335) .
"والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف"1.
فالخوف والوحشة، والقلق والحيرة، مردّها إلى الكفر الذي يبعد النفس عن اللَّه فتستوحش وتخاف، وإلى الغفلة عن ذكر اللَّه الذي به طمأنينة النفس وسكونها، وإلى الجهل بنور الهداية الذي يكشف معالم الطريق.
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أسباب الوحشة والخوف، وأن مردها إلى البعد عن اللَّه بالكفر والمعاصي، وأنه كلما زاد العبد بعداً زاد خوفه ووحشته، وقلقه وحيرته.
من ذلك قوله رحمه الله في معرض بيانه لعقوبات المعاصي: "ومن عقوباتها ما يلقيه اللَّه - سبحانه - من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإِن الطاعة حصن اللَّه الأعظم، مَنْ دَخَلَهُ كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب"2 وقال أَيضا: "ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشاً قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة"3.
1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) .
2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص (50-51) .
3 نفس المصدر والصفحة.
وقال كاشفاً عن سر ذلك: "وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب - سبحانه - وكلما اشتد القرب قوي الأنس. والمعصية توجب البعد من الرب وكلما زاد البعد قويت الوحشة"1.
والكفر هو أصل المعاصي وأكبرها، وحظ صاحبه من هذه الآفات أوفر. وهم بذلك أبعد ما يكونون عن سبب الأمن والهداية الذي هو الإِيمان باللَّه وحده، كما دل عليه كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوآ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وعلى هذا فقلوب الكفار، مظلمة حائرة، قلقه مضطربة، حتى أصبحت هذه الأمراض هي سمتها المميزة، ومشكلتها المسيطرة. ولا يتأثر ذلك بحضارة الكفار وتقدمهم المادي، إذ إن سببه الكفر، بل إنه يزيد كلما زادوا في كفرهم وإلحادهم، كما هو الحال في العصر الحديث.
وهذه شهادة من بعض الباحثين: "يوصف العصر الحديث - بصفة عامة - بأنه عصر القلق والتوتر الفردي والجماعي، لما يبدو على إنسان العصر الحديث - عصر العلم والتكنلوجيا3 - أنه ليس أكثر سعادة اليوم من إِنسان الأمس القديم، لما
1 فتح القدير للشوكاني، (4/39) .
2 سورة الأنعام الآية رقم (82) .
3 التكنولوجيا: "ذلك الفرع من النشاط الإنساني الذي يتناول تطبيق العلم في الأغراض العملية ويسمى أحيانا: العلم التطبيقي" المعجم العلمي المصور، ص (549) ، قسم النشر بالجامعة الأمريكية، القاهرة.
نراه من شواهد كثيرة حوله تدعو إلى الاهتمام بحاله، وتشير إلى أن العلاقات الإنسانية على مختلف مستوياتها مهددة بالاضطراب والخوف، ومتدهورة إلى مراحل الخطر، ومن مؤشرات الخطر إدمانه المخدرات ليسكن بها ما ينتابه من شعور الضياع والغربة، ثم يدع نفسه فريسة لأمراض الوهم التي تحبب إليه الميل إلى العزلة وعدم الاشتراك في العمل الاجتماعي أو الجماعي، أو يغيب بأوهامه عن ضبط سلوكه الفردي، فيفقد تفهم المغزى من معنى وجوده، ثم أخيراً يصبح في تيار العواصف من الشك، فاقداً نفسه وإِيمانه. ثم يتحول سلوكه إلى التخريب وحب الهوس1 الجدلي دون تحديد لهدف الجدل أو الالتزام بإطاره المعياري. وتصبح المذاهب الإلحادية والمادية بما تحويه من العبث العقلي واللاعقلي محل اطمئنان لذهنه المكدود والمشتت"2.
1 الهوس: مرض نفسي "من أهم أعراضه تضخم الأفكار وتهيجها وانتقالها السريع من موضوع إلى آخر دون التمييز بين قيم المعاني، وينتقل المريض من عمل إلى عمل دون راحة ولا هوادة، والاندفاع إلى تحقيق كل فكرة تخطر له". انظر: معجم المصطلحات النفسية والتربوية، د. محمد مصطفى زيدان، ص (180) دار الشروق، جده، الطبعة الثانية، 1404هـ.
2 د. محمد إبراهيم الفيومي، القلق الإنساني، ص (28) دار الفكر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1405هـ.
وليس اللجوء إلى المسكرات والمخدرات هي الظاهرة الوحيدة لما ينتاب الكفار ومن في حكمهم من الخوف والقلق والوحشة واليأس والحيرة. فهناك مظاهر أخرى كثيرة، كالانتحار الذي يعتبر الخطوة الأخيرة التي يلجؤون إليها بعد المخدرات والمسكرات.
ومن مظاهره: شيوع مذاهب القلق، في الفلسفة والآداب والفنون، التي تعبر عن السخط على الحياة، والشعور بسخفها، والإحساس بالغربة والكآبة، وكذلك شيوع الفوضى الأخلاقية الناتجة عن التوتر، وعدم معرفة الهدف والغاية من الحياة، وما تولد عن ذلك من الإحباط وعدم الثقة بالنفس.1
ومن مظاهره: انتشار العيادات النفسية، التي تعالج الأمراض النفسية، ومن أبرزها: الخوف، والقلق، والكآبة، والإحباط.. ونحوها.
ومن ذلك: تعالي صيحات الأطباء، والمفكرين المحذرة من خطورة ما يعانيه الإنسان في ظل الحضارة المادية الملحدة المعاصرة من تلك الآفات.
ومن مظاهر الخوف والقلق والكآبة، اندفاع الكافر وتوسعه في وسائل اللهو واللعب والترفيه، ليتخلص مما في قلبه من ذلك.
عبر عن هذا بعض فلاسفتهم2 بقوله: "إن الناس قد اخترعوا شتى ضروب اللهو أو التسلية حتى يتجنبوا
1 انظر: القلق الإنساني، المصدر السابق، ص (14)(بتصرف) .
2 هو (بسكال) فيلسوف فرنسي ولد عام 1923 وتوفي عام 1963م.
انظر: دائرة المعارف، لبطرس البستاني، (5/418) .
الخوف من الوحدة أو العزلة، وكأن الإِنسان هو الموجود الذي يخاف من ظله، فهو لا يملك سوى العمل على الهرب من نفسه، أو الفرار من ذاته، والحق أن حياة الموجود البشري تكاد تمثل سلسلة متصلة الحلقات من المخاوف المستمرة"1.
وإذا كان الخوف والقلق والحيرة، هي التحديات الكبرى في حياة الإنسان الكافر، فليس غريباً أن تتوجه كثير من جهود العلماء والمفكرين لهذه القضية.
عبر عن ذلك بعضهم بقوله: "وقد لا نخرج عن الصواب إذا قلنا أن جانباً كبيراً من جهود الإنسان المعاصر نفسه قد أصبح يستهدف القضاء على العديد من مصادر الخوف في حياة الموجود البشري"2.
أما الحيرة فمردها إلى قناعة الكافر بعدم وجود طريق للحق يهتدي به.
وذلك أن الكافر بين طريقين:
إِما أن يتمسك بدين باطل مليء بالخرافات، والأباطيل، يتدين به
1 نقلاً عن كتاب: تغلب على الخوف، من سلسلة: في سبيل موسوعة نفسية، لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم: د. مصطفى غالب، ص (13) مكتبة الهلال، بيروت 1985م.
2 تغلب على الخوف. ص (13) .
تقليداً، أو اقتناعاً عارياً عن الفكر والبرهان، ويبقى حائراً يتهرب من تساؤلات العقل أو مما يوجه إليه من نقد.
وإما أن يتوجه إلى الفلسفة التي تشبع نهمته في النظر والاستدلال، وتحقق مطلبه في الاستقلال، إلا أنها لا تضعه على يقين في أي مطلب كان.
وكل من جرب الفلسفة خرج بهذا الاقتناع من عدم جدوى الفلسفة لطالب الحقيقة. فهي لا تعدو أن تكون مضماراً للفكر، والتساؤل، والنقد الهادم1. يمارسها الفيلسوف كرياضة يزجي بها وقته،
1 النقد الهادم: هو ما دأب عليه الفلاسفة من مجابهة العقائد والنظريات والأفكار بسيل من التساؤلات والمعارضات، مما يؤدي إلى التشكيك، وإضعاف ثقتهم وثقة من يستمع إليهم بها. ثم هم عاجزون عن تقديم الجواب والتصور السالم من المعارضة. فيبقون حيارى.
ومما زاد أمرهم سوءاً وحالهم ظلمة أنهم لا يقيمون وزناً لعلماء الدين الإِسلامي، ولا ينتفعون بإجاباتهم وحججهم، لما رسخ في أذهانهم من سذاجة علماء الدين وضعف حجتهم بسبب جهلهم بالفلسفة.
وقد أقام اللَّه عليهم الحجة بعلماء فهموا الإسلام فهماً سليماً، ودرسوا الفلسفة وأتقنوها، ثم بينوا تعارض الفلاسفة وتناقضهم وحيرتهم، وأجابوا عن كثير من معارضاتهم التي أثاروها على الحق والدين الخاتم، كما فعل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله في كتابة العظيم (درء تعارض العقل والنقل) . حيث خاطبهم بأساليبهم واصطلاحاتهم، وأرى أن الكتاب يحتاج إلى جهد للتوسع في نشره، تمكيناً لحجة اللَّه على الناس، وأهم الخطوات في ذلك ما يلي:
1 -
أن تفرد كل مسألة بمجلد مستقل بُجمع فيه ما يتصل بها من سائر المجلدات.
2-
أن يتولى ذلك جهة علمية متخصصة.
3 -
ترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية المشهورة.
فإن الحاجة ملحة الآن لمثل هذه العمل، حيث ضعف تعلق المفكرين في العالم بالفلسفة وازدادت حاجتهم وتطلعهم إلى مصدر واضح صحيح يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجاتهم العلمية في معرفة الحكمة من الحياة، وما بعدها، وفي المطالب الإلهية والغيبية، وقاعدة الخير والشر والأخلاق.. ونحوها.
ويروي بها نهمته، دون أي طائل يذكر في الوقوف على اليقين.
والحقيقة أن تلاشي الأمل في الفلسفة عند مفكري العالم الكافر في العصر الحديث، والذي سبقه فقدان الثقة بالديانة النصرانية واليهودية التي حُرِّفت، وتسريتهم ذلك الحكم على كل دين حتى الدين الخاتم المحفوظ، كل ذلك أوجب لهم حيرة، ويأسا قاتلاً جعلهم يتمسكون بالتافه من القول، كما يفعل الغريق الذي يتمسك بالقشة، طلباً للنجاة.
وقد ذكرت1 في الفائدة الأولى بعض شهادات علماء الفلسفة على إِفلاسها، وفقدان الأمل بها. وأذكر هنا زيادة تبين نتيجة ذلك من الحيرة والقلق.
فمن ذلك قول بعضهم:"وهكذا بعد ذلك نجد أنفسنا في حيرة
…
ولكن الإِنسان الأوربي ما تردد في التضحية في سبيل نظرية مشكوك فيها، خير من أن ينقلب مرة أخرى إلى رجال الدين ويتلقى عقائده منهم.
إذن أي مأزق نواجهه حين ينكر بعضنا المادة، وينكر بعضنا الآخر الشعور.
1 انظر ص: (646) . وما بعدها.
وتستطيع أن تتصور الابتسامة الحزينة التي قد ترسم على وجوهنا عند رؤية هذا الجنون الفكري في عصرنا"1.
إلى أن قال: "فهل يمكن أن يكون للفلسفة معنى صحيحاً؟
حقيقة أن الفلسفة ما تعلقت بقضية من القضايا لأجل أن تلتمس لها حلاً أو تصطفي لنفسها حلاً من الحلول المطروحة، وإذا وقفنا بها أمام شيء من ذلك فلسوف نجدها في صورة سؤال جديد: لماذا؟
إن الفلسفة تثير في الإنسان دائماً شعوراً بالعجز والنقص عندما تعرض للإنسان جوانب الغموض في الكون والنفس، وشعور الكبرياء والغرور عندما ينكر ويرفض.
فالفلسفة دائماً تصوغ حيرة الإنسان وقلقه، وليس لها غير هذا الجانب"2.
وهذا فيلسوف آخر يصرخ معلناً يأسه من الفلسفة، وتطلعه إلى مصدر آخر يبين له الأسس المتيقنة التي يبني عليها سعيه، وتبلغه السعادة الأبدية بعد الموت، فيقول: "وإذا أردنا حل المشكلة الفلسفية، وجب الخروج من الفلسفة!
…
فهذا هو السؤال الذي على الفلسفة وضعه وحله:
- ما أساس يقيننا أو ما أساس العالم؟
1 القلق الإنساني، ص (232) .
2 القلق الإنساني، ص (233) .
السؤال هو بعبارة أخرى:
-كيف نحقق غايتنا؟
كيف نستطيع بلوغ الحياة الأبدية؟ "1.
وهذا التساؤل من هذا الفيلسوف متعلق بثلاثة مطالب مهمة، يتشوق إلى معرفتها - كما تتشوق إليها كل نفس واعية - ويرى أن السعادة والخروج من الحيرة تكون بالإجابة عليها، وأن الفلسفة لا تملك الجواب عن أي منها. وهذه المطالب هي:
معرفة الحكمة والغاية من خلق العالم والإِنسان.
ومعرفة الطريق لتحقيق تلك الغاية.
ومعرفة المصدر اليقيني الذي يدل عليهما.
وحول هذا المعنى يقول صاحب كتاب "الإِيمان والحياة":
"فالجاحدون للَّه، أو المرتابون فيه، وفي لقائه يوم الحساب، يحيون حياة لا طعم لها ولا معنى. حياة كلها قلق وحيرة، كلها علامات استفهام. كلها أسئلة لا تجد لها عندهم جواباً.
إِنهم لا يوقنون بشيء يطمئنون إليه، ويستريحون له في قضية وجودهم أنفسهم، ووجود الكون كله من حولهم. من أين جاؤوا؟ ومن جاء بهم؟ ولماذا جاء بهم؟ وإلى أين يذهبون بعد هذه المرحلة القصيرة، التي لم يفهموا لها سراً، ولم يعرفوا لها غاية؟ وما هذا الكون؟ وما مبدؤه؟ وما
1 من كلام الفيلسوف (بسكال)، نقلاً عن: القلق الإنساني، ص (92) .
غايته؟ وما علاقتهم به؟
إن عقولهم المحدودة لا تستطيع أن تجيبهم إِجابة تشفي الصدور،.... وتمحو بنورها ظلمات الشك والحيرة والاضطراب".1 [ملف الجداول]
وهذه شهادة شاعر منهم تبين هذه الحقيقة - وهي حيرة الكافر بسبب جهلة بتلك القضايا الهامة - وتصورها أبلغ تصوير حيث قال:
جئت لا أعلم من أين - ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إِن شئتُ هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرُّ طليقٌ، أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري، ولكن
…
1 د. يوسف القرضاوي، الإِيمان والحياة، ص (110، 111) مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.
لستُ أدري _
وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد. أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائر في الدرب، أم الدرب يسير؟
أم كلانا واقف، والدهر يجري؟
لستُ أدري
أتُراني قبلما أصبحتُ إِنساناً سوياً
كنت محواً ومحالاً، أم تراني كنتُ شيئاً؟
ألهذا اللغز حلّ، أم سيبقى أبدياً؟
لستُ أدري.. ولماذا لستُ أدري؟؟
لستُ أدري _1
إن تصوير هذا الشاعر التائه الحائر لحيرته وجهله المطبق بربه،
1 قصيدة (الطلاسم) لإِيليا أبو ماضي، ديوان ايليا أبو ماضي، نيويورك، 1919م. ص (191) .
والحكمة من خلقه، ومصيرهُ بعد الموت، إذا قورن مع تصوير المثَل لحيرة الكفار، تبين انطباق المثَل ودقة تصويره لذلك. فالمثَل يصور الكائن في أعماق المحيط في ظلمة تامة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والظلمة التامة تتضمن الجهل التام، وعدم القدرة على تبين أي معلم من معالم الطريق. فما أقرب هذا التصوير لحال هذا الشاعر الحيران التائه الذي لا يدري ولا يدري لماذا لا يدري في هذه المطالب العزيزة، التي تتوقف عليها طمأنينة القلوب، وسعادتها، والفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.
أما أهل البصائر وأولو الألباب فإنهم يعرفون لماذا لا يدري؟
إِنه لا يدري لأنه أعرض عن وحي اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وحشد في دواوين شعره معارضته، والتقول على اللَّه، ومعارضة حكمته وقدره - سبحانه -، فأنى له أن يدري؟ وكيف يدري وهو معرض عن نور اللَّه؟ ونور اللَّه محجوب عنه؟
{وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
نسأل اللَّه السلامة من حال أهل الظلمات.
ويشترك مع هذا الشاعر غيره من الكفار في هذا الإحساس.
إلا أنه استطاع بما أُعطي من موهبة شعرية أن يعبر عن ذلك.
ولذلك تجد كثيراً من الكفار يُسَرَّوْن بمثل هذه الأشعار لأنها تصف
ما يختلج في نفوسهم من الحيرة والقلق مما لا يستطيع الكثير منهم التعبير عنه. وسرورهم بذلك جار على طبائع النفوس وانجذابها إلى ما يشاكلها.
وهذا الموضوع مضماره الفكر والثقافة الإسلامية، وإِنما أكتفى بما تقدم في بيان دلالة المثَل على هذا الأمر من حال الكفار، وبعض شواهده من أقوالهم وأحوالهم.
وأحيل على ما ذكر في الفائدة الأولى1 من أهمية العناية بمواضيع الثقافة الإِسلامية، وأهم ضوابطها، وضرورة النقد لما يكتب فيها، وإبرازها للشباب وغيرهم ليحصل لهم التحصن - بإذن اللَّه - من الانخداع بحضارة الكفار المادية الظاهرة، وبريقها الخادع.
وخلاصة هذه الفائدة:
أن مثل الظلمات دل على أن الكفار في خوف وقلق، واضطراب وتوتر وحيرة دائمة.
وتبين أن سبب ذلك هو بُعدهم عن اللَّه، بكفرهم وعصيانهم. والبعد عن اللَّه يورث الوحشة والخوف.
ومن أسبابه جهلهم التام بالحكمة مِنْ خلْقهم، وبطريق هدايتهم، وماذا ينتظرهم بعد الموت.. وغيرها من المطالب الهامة.
وأما الحيرة فسببها الرئيس هو يأسهم من الاهتداء إلى طريق علمي
1 تقدم ص: (632) وما بعدها.
يدلهم على اليقين في تلك المطالب. ذلك أنهم استكبروا عن وحي اللَّه إلى رسله، واعتمدوا على الفلسفة التي وصلت إلى طريق مسدود. وأثمر لهم ذلك الحيرة والضياع والشتات في الحياة.
فانصرفوا - لأجل ذلك - إلى وسائل اللهو واللعب، واخترعوا شتى صنوف الملهيات، وأطلقوا لأنفسهم العنان في المتع والشهوات، كما وصف اللَّه حالهم بقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 1.
وإذ لم يُجْدِ ذلك، جنح الكثير منهم إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، للهرب من الخوف والقلق والحيرة، التي تلهب قلوبهم، وتوحش نفوسهم. ومنهم من أصابه الجنون وانتهت حياته في المصحات العقلية. ومنهم من غلبت عليه شِقوته فانتحر، أو نزع إلى الإجرام والفساد.
1 سورة محمد الآية رقم (12) .
الفائدة الخامسة: إفادة المثَل حقائق علمية ومعجزة نبوية.
بين يدي هذه الفائدة: المراد بالحقائق العلمية هنا ما يتصل بالعلوم الدنيوية كالطب، والفلك والضوء، وعلم النبات، والحيوان والبحار، وما إلى ذلك من العلوم المادية التطبيقية أو النظرية.
ولقد كثرت البحوث في العصر الحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وشط بعضها، وتجاوز الحد إلى تحميل آيات القرآن الكريم ما لا تحتمل، وخرج بها إلى التأويل البعيد عن المدلولات اللغوية والشرعية للنصوص، لموافقة النظريات العلمية.
وقد حاول صاحب كتاب "المعجزة القرآنية، الإعجاز العلمي والغيبي" 1 أن يحدد مفهوماً للمعجزات العلمية، ومنهجاً وسطاً لتناولها تجنباً للمحْذورات التي وقع فيها بعض من كتب في هذا الموضوع. ولعل من المناسب أن أورد بعض المقتطفات من هذا الكتاب لتكون توطئة لهذه الفائدة:
فمن ذلك قوله: "لقد نزلت آيات القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. وفي عصر لم يكن الإِنسان يعرف فيه عن الطبيعة
1 د. محمد حسن هيتو.
والكون والحياة إلا القليل النادر، وكان يعتقد الكثير من العقائد الباطلة عن الكون والحياة.
فجاء القرآن في خضم تلك المعتقدات
…
وكان من المفترض أن يتكلم القرآن بنفس الأساليب والمعتقدات التي يعتقدها الناس في ذلك الوقت، فيما لو كان القرآن من صنع البشر وكلامهم، كما هو المتوقَّع والمعروف.
إلا أن القرآن لم يخض أبداً في مثل تلك الخرافات، بل جاء على خلافها، فأثبت أن الأرض كوكب سابح في الفضاء، فليست على قرن ثور، وأن الأمطار تنزل من السحاب، وأن السحاب يجتمع بفعل الرياح، وأنه بفعل اجتماعه يخرج البرق.
إلى آخر ما هنالك من الآيات التي نزلت مخالفة لما كان سائداً في ذلك العصر، ولعصور طويلة بعده، والتي جاء العلم الحديث، فأثبت بالبراهين اليقينية ما أخبر به القرآن قبل قرون طويلة.
فلو كان القرآن من صنع محمد صلى الله عليه وسلم لكان من المستحيل أن يصدر عنه مثل هذا الكلام الذي كان يجهله أهل عصره، بل كانوا يعتقدون خلافه، والذي يعتبر تصحيحاً لمعتقداتهم وعلومهم، مطابقاً للواقع الحقيقي الذي كشف عنه العلم الحديث بالبراهين اليقينية، بعد أن بذل الإِنسان في سبيل الوصول إليه النفس والنفيس، وأمضى في الطريق إليه الأيام والدهور والأعوام.
ولم يقتصر القرآن في العلوم التي تكلم عنها على جانب ما كان يعرفه الناس في ذلك العصر، مصححاً لمعتقدات الناس فيه، أو مفصلاً لما كان مجملاً منه، بل تعدى هذا فتكلم في آيات كثيرة على أنواع أخرى من العلوم التي لم يكن يعرف الإنسان عنها شيئاً البتة، مما أثار دهشته، وجعله يؤمن بها إيماناً غيبياً، دون أن يعرف الحقيقة التي تنبني عليها، كاشتعال الماء1 مثلاً، إلى أن جاء العلم الحديث، فأثبت هذه الحقيقة العلمية على نحو ما أخبر به القرآن، مما لفت نظر الإِنسان ثانية، وجعله يؤمن أنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام من كلام البشر، لأنه لم يكن
1 يشير إلى قول اللَّه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [سورة التكوير:6] وقد بين المؤلف هذا المعنى في موضع آخر بقوله: وجاءت العلوم والمعارف الحديثة، واكتشف أن الماء يتكون من عنصرين، هما: الهيدروجين والأوكسجين، وأن الجُزَيْء المائي الواحد يشتمل على ذرتين من عنصر الهيدروجين، وذرة واحدة من الأوكسجين، وأن الهيدروجين غاز قابل للاحتراق ويشتغل، وأن الأوكسجين غير قابل للاحتراق ولا يشتعل ولكنه يساعد على الاشتعال.
ومعنى هذا أن جزيء الماء الواحد لو تحلل لأمكن أن يشتعل، ولأعطانا أشد أنواع الاشتعال والاحتراق، بسبب تكونه من هذين الغازين، المشتعل والمساعد على الاشتعال، كما هو معروف ومسلم في العلوم.
انظر: (المعجزة القرآنية) د. محمد حسن هيتو، ص (218) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1415هـ) .
يعرف عن هذه الحقيقة العلمية إبان نزول القرآن شيئاً، ولم يكن له سبيل أبداً إلى إدراكها.
إذاً فلا بد أن يكون هذا الكلام من قبل عالم السر والعلن، وخالق الإِنسان والمادة، والكون والحياة، ولذلك أخبر بما علم مما خلق"1.
وقال أيضاً: "لم ينزل القرآن كتاب علوم يقرر في المدارس والجامعات، يتلقى الناس من خلاله معارفهم الكونية.
وإِنما نزل القرآن الكريم كتاب هداية وإِرشاد للبشرية الحائرة، ودستوراً ونظام حياة للإِنسانية.
قال تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 2.
1 المعجزة القرآنية، ص (156-158) .
2 سورة البقرة الآية رقم (2) .
3 سورة المائدة الآيتان رقم (15، 16) .
وقال جلّ شأنه: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1.
إلا أنه رغم هذا تعرّض لكثير من حقائق الكون والحياة التي كانت مجهولة، إما إِجمالاً، وإِما تفصيلاً عند نزول القرآن، للفت نظر الإِنسان إلى الكون والحياة، والاهتمام بالعلم والمعرفة، وفي نفس الوقت ليكون يوماً ما معجزة دالة على أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، وإِنما هو من كلام اللَّه، وذلك عندما يضع الإِنسان يده على كثير من أسرار الكون والحياة والعلم والمعرفة.
وبناء على ذلك، يجب علينا حينما نعرض للإِعجاز العلمي في القرآن، أن لا ننسى الوظيفة الأساسية التي جاء من أجلها، ألا وهي هداية البشر، ورسم المنهاج القويم، والسبيل المستقيم، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى.
فلا يجوز لنا بعد هذا أن ننحرف عن الوظيفة الأساسية لكتاب اللَّه، ونُحمّلَ الآيات ما لا تطيق من المعاني العلمية التي لم تُسق الآية من أجلها، ولا نزلت لبيانها، وإِنما هي من أوهام القارئ، وربما انقلبت إلى ضرب من التأويل الباطني الباطل.
1 سورة النحل الآية رقم (64) .
كما لا يجوز لنا في نفس الوقت أن نجمد على معارفنا القديمة الضيقة، وتفسيراتنا الجزئية المحدودة، المبنية على تلك المعلومات القديمة، والتي ربما كانت قاصرة، أو خاطئة في تفسير ظواهر بعض أو أكثر الجوانب العلمية التي كشف عنها العلم الحديث، مما يؤدي في النتيجة إلى فهم القرآن فهماً غير سليم في ضوء المعارف الحديثة، وفي الآيات التي لها مساس بالعلوم"1.
ثم أشار إلى طرفين خاطئين في تناول هذه القضايا.
الأول: المنهج الذي يرفض الانفتاح للعلوم الحديثة المعاصرة، في تفسير القرآن الكريم، حتى تلك التي أصبحت يقينية لا يجوز الإعراض عنها بحال. مما قد يؤدي إلى إِيجاد ثغرات بين التفسير الذي أرادوه وتلك الحقائق الثابتة.2
الثاني: منهج الذين فتنوا بالنهضة العلمية الحديثة، وأرادوا أن يبرزوا سمو الدين والقرآن في عصر المادة، فصاروا يحملون - بمناسبة أو غير مناسبة - آيات القرآن على المكتشفات أو القوانين العلمية الحديثة، مما جعلهم يخرجون بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية، ومدلولاتها الشرعية، وينحرفون بها عن الغاية والهدف الساميين، اللذين جاءت من أجلهما،
1 المعجزة القرآنية، ص (149، 150) .
2 انظر: نفس المرجع، ص (151) . (بتصرف) .
ومما جعلهم - أَيضا - يقعون في كثير من المتناقضات.1
ثم بين ما يرى أنه المنهج الوسط في تناول هذه القضايا. فقال: "وأما الفئة الثالثة، وهي فئة جماهير علماء المسلمين، فهي فئة التوسط بين جانبي الإِفراط والتفريط.
فلم تجمد هذه الفئة جمود الفئة الأولى، ولم تتهور تهور الفئة الثانية.
ولكنها عمدت إلى الآيات التي لها مساس بالعلوم، وفهمتها بناء على ضوء المعارف الحديثة اليقينية، لا الظنية، وفي نطاق قوانين الشرع العامة، وقواعد اللغة الثابتة، فرأت فيها ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن ليس من عند البشر، وإِنما هو من عند اللَّه، وإلا لما كان من الممكن قول مثل تلك الآيات في تلك القرون الخالية، التي لم يكن الإِنسان عارفاً فيها شيئاً عن الحقائق العلمية الحديثة.
ولم يضرها أبداً أن تقف عند ظاهر النص القرآني إذا كانت دلالته قطعية، وإِن كان يتعارض مع بعض النظريات العلمية الرائجة، جازمة بأن الخطأ في النظرية العلمية، وأن على أصحابها أن يبحثوا عن وجه الصواب في موضوعها.
وإلا فمن المحال أن يتعارض الدين مع العلم، أو القرآن مع القوانين اليقينية الثابتة.
1 المعجزة القرآنية، ص (152)(بتصرف) .
وهذا هو الحق الذي لا يجوز لأحد أن يتعداه، والذي يجب المصير إليه، والتعويل عليه، ولا يوجد بعد الحق إلا الضلال.
فنحن ما دام الأمر العلمي لم يصل إلى درجة القانون اليقيني الثابت، وإِنما هو في طور التجربة والبحث والنظر، لا يمكننا أبداً أن نجعل القرآن تبعاً لشهوات البشر وأهوائهم، ولا يمكننا أبداً أن نعبث بآيات القرآن ونتلاعب بها.
فإذا ما وصل الأمر العلمي إلى درجة القانون اليقيني، فمن المحال عند ذلك أن يتعارض مع القرآن، بل سنجده عند ذلك راكعاً على أعتاب الدين، كاشفاً لنا عن سر الآية، معترفاً بأن قائلها وصانعه ومبدعه واحد، ألا وهو اللَّه الذي لا إله إلَاّ هو، وداعياً كل عاقل إلى الإِيمان بهذه الحقيقة.
وعند ذلك يجب علينا أن نستفيد من هذه المعارف الحديثة اليقينية، وأن نستغلها من أجل إِظهار الحقيقة، وبيان الإِعجاز القرآني الذي يخفى على كثير من الناس، من مسلمين وغيرهم.
فالحكمة ضالة المؤمن، وأنَّى وجدها التقطها
…
والقرآن أُنزل معجزة لكل زمان وجيل ومكان، ولم يكن إعجازه قاصراً على الجيل الأول، ولذلك كان لا بد لهذا الجيل المعاصر أن يجد في القرآن المعجزة، ولئن فاته الوقوف عليها عن طريق اللغة، فلن يفوته الوقوف عليها عن
طريق العلوم المعاصرة1.
وبعد هذه التوطئة أعود إلى المقصود، وهو بيان ما دل عليه المثَل - مثل الظلمات من سورة النور - من الحقائق العلمية الثابتة في العلوم الحديثة المادية الدنيوية.
فقد اشتمل المثَل على العديد من تلك الحقائق، يصل بعضها إلى الإِعجاز العلمي، والآخر وردت الإشارة إليه بما يتفق مع الحقائق التي توصل إليها المتخصصون في تلك العلوم. ويمكن تقسيم ما أفاده المثَل من ذلك إلى ثلاثة أقسام:
1 المعجزة القرآنية، ص (153، 154) .
القسم الأول: الإِعجاز العلمي.
وذلك يتمثل في دلالة المثَل على وجود موج باطني في داخل مياه البحر اللجي، في قوله تعالى:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} .
فدل على وجود موج يغشاه من فوقه موج آخر.
والموج الفوقي هو الموج السطحي.
والموج الكائن تحته هو الموج الباطني.
وكلمة "من فوقه" لا تدل بالضرورة على الملاصقة، بل قد يكون بين الشيئين مسافة بعيدة، بدليل قوله:"من فوقه سحاب"، ومعلوم أن المسافة بين الموج الثاني والسحاب بعيدة. وقد يكون كذلك الحال بين الموج الباطني، والموج السطحي.
وهذه الحقيقة - التي قررها المثَل بوضوح، من وجود أمواج باطنية في البحار اللجية العميقة - لم تكن معلومة في ذلك الوقت ولم يكن بمقدور البشر معرفتها، لأنها لا تكون إلا في البحار العميقة - المحيطات - وعلى عمق لا يصله إلا الغواصات أو الغواصون المزودون بالأوكسجين.
ولذلك لم تكتشف هذه الأمواج الباطنية إلا حديثاً بعد اختراع الغواصات التي تجوب أعماق المحيطات.
قال صاحب كتاب "البحر المحيط"1: "فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعباً هي أمواج غير منظورة، تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيداً في أعماق البحار.. وفي أوائل عام 1900 لفت الأنظار كثير من مساحي البحار الاسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء.
والآن وبالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع وتهبط بعيداً أسفل السطح، فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط أصبح أمراً معروفاً جداً، فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة، كما تعمل شقيقتها السطحية على قذف السفن، ويظهر أن هذه الأمواج تتكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق"2.
"فنحن الآن بعد أن وضعنا أيدينا على هذا الاكتشاف العلمي الجديد نستطيع أن نفهم الآية فهماً جديداً، لا يتعارض مع الأول، إلا أن يوضحه ويبينه.
فقوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} فيه إشارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض إلى هذه الأمواج الداخلية التي تكلم عنها العلم الحديث
1 شارل: ل. كارسون.
2 نقلاً عن كتاب: (المعجزة القرآنية) د. محمد حسن هيتو، ص (195) .
وأثبتها، كما يشير إلى الأمواج السطحية التي نراها ونعرفها، وهذا المعنى واضح من قوله تعالى:{مّن فَوْقِهِ} أي أن الموج الأول في الأسفل، والموج الثاني يأتي من فوقه
…
إِن الآية واضحة كل الوضوح، وصريحة في دلالتها على هذا الذي اكتشفه العلم الحديث من الأمواج الباطنية التي تعلوها الأمواج السطحية، ولا سيما أن الآية قالت:{فِي بَحْرٍ لّجّيّ} أي عميق،
…
وهذا إنما يكون في المحيطات، لا على الشواطئ والخلجان.
إن هذه الصورة لا تشاهد على شواطئ بحارنا الهادئة الوادعة إذا ما قيست بمياه المحيطات، ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان هو الذي ألف القرآن وأملاه لكان من المستحيل عليه أن يأتي بمثل هذه الحقائق العلمية التي كانت خافية إلى أيامنا هذه، ولم تكن البشرية تعرف عنها شيئاً.
إذن فهي الحقيقة المصدقة بأن هذا القرآن تنزيل من حكيم عليم"1.
وهذه المعجزة العلمية هي من الآيات التي وعد اللَّه بإخراجها للناس وإظهارها لهم حتى يروها، ويدركوا بها أن القرآن حق من عند اللَّه تبارك وتعالى، كما قال - سبحانه -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ
1 المعجزة القرآنية، ص (195، 196) .
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.
ويمكن تلخيص أوجه الإِعجاز في هذه الفائدة بما يلي:
1-
كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس من البحَّارة، ولم يكن له ولا لقومه عناية بذلك.
2-
أن الأمواج الباطنية الكائنة في أعماق المحيطات لم يكن أحد عالماً بها في ذلك الوقت، لبعد مكانها في قعر البحار العميقة، ولم تكتشف إلا في العصر الحديث.
3-
إفادة المثَل أن تلك الصورة المتضمنة للموج الباطني كائنة في بحر لجي أي عميق ضخم. وهذا مطابق لما عرف عن هذه الأمواج من أنها لا توجد إلا في أعماق المحيطات العظيمة.
فوصف القرآن لها مطابق لما عرف من طبيعتها.
وعلى هذا فإِخبار القرآن عن ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم دالة على أن هذا القرآن حق من عند اللَّه - وأنه ليس من كلام البشر. إذ إن هذه الحقيقة من علم اللَّه الغيبي - حيث لم يكن الناس يعلمونها عند نزول القرآن - ضمنه كتابه شاهداً به عند من يكتشفه ويتبينه أن هذا القرآن من عند عالم الغيب والشهادة.
1 سورة فصلت الآية رقم (53) .
قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 1.
قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} : تدل على أن الشهادة كائنة فيما أنزل وهو القرآن الكريم. ثم ذكر أنه أنزل القرآن مشتملاً على علمه - سبحانه - بقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} : فدل على أن الشهادة هي بالعلم الكائن في هذا الكتاب العزيز.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "لما تضمن قوله تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} 2 إلى آخر السياق، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب، قال تعالى:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي وإن كفر به من كفر ممن كذبك وخالفك، فاللَّه يشهد لك، بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
1 سورة النساء الآية رقم (166) .
2 سورة النساء الآية رقم (163) ، وما بعدها.
حَمِيدٍ} 1، ولهذا قال:{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه اللَّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه اللَّه به"2.
قوله رحمه الله: "وما فيه من العلم بالغيوب في الماضي والمستقبل" يشمل الإخبار بحقائق علمية ليست معروفة في وقت نزوله فهي غيب بالنسبة للمعاصرين لنزوله، فتكون من الآيات التي لم يأت تأويلها، ثم إذا جاء حين تأويلها، وأذن اللَّه للناس باكتشافها ومعرفتها، وهيأ لهم أسباب ذلك، فعرفوها، ثم قارنوا ما عرفوه ببحثهم واجتهادهم مع ما أخبر اللَّه به، فوجدوا التطابق الدقيق، مع جزمهم أنها لم تكن تعرف من قبل من قِبَل بشر، أفادهم ذلك يقيناً أنها من عند الخالق المبدع العليم.
1 سورة فصلت الآية رقم (42) .
2 تفسير القرآن العظيم، (1/589) .
القسم الثاني: الإِخبار عن حقائق في العلوم المادية الدنيوية بما يطابق ما ثبت عند المتخصصين فيها:
والمراد ما ورد في المثَل من تقرير أمور من مباحث العلوم المادية، جاء بيان القرآن لها موافقاً لما تقرر عند علماء ذلك الفن.
وهي وإن كانت لا تصل إلى حد الإعجاز باعتبار آحادها، لكنها توجب الثقة والاقتناع بأن هذا القرآن من عند خبير عليم بالخلق. كما قال - سبحانه -:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.
وإذا تظافرت الدلائل من هذا النوع أوجبت لمن تأملها وأدرك وجه العبرة منها، القطع أن هذا البيان لا يمكن أن يصدر من ذلك الرسول الأمي الذي لم يعرف عنه ولا عن قومه الاهتمام بمثل هذه المطالب.
وهذه المسائل العلمية - التي ورد البيان عنها مطابقاً للحقائق التي اكتشفت وثبتت عند أهلها - لفتت أنظار كثير من الباحثين من المسلمين وغيرهم، وأوجبت لهم تعظيم القرآن، وقادت بعضهم إلى اعتناق الإِسلام.
وأكتفي في الاستدلال على ذلك بما ذكره المستشرق الفرنسي: "موريس بوكاي" في كتابة: "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" حيث قال:
1 سورة الملك الآية رقم (14) .
"لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهْشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإِمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقة تماماً للمعارف العلمية الحديثة. وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إِيمان بالإِسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة.
إِن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق، وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، والتناسل الإِنساني. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة، لا نكتشف في القرآن أي خطإ.
وقد دفعني ذلك لأن أتساءل: لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول.. ما التعليل الإِنساني الذي يمكن أن نعطيه لتلك الملاحظة؟.. في رأيي ليس هناك أي تعليل، إذ ليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية
…
استطاع أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالي عشرة قرون ثقافتنا
العلمية فيما يخص بعض الموضوعات"1.
والذي يلاحظ من هذا النص أن كاتبه لخص أهم النتائج التي خلص بها من دراسة النصوص القرآنية المتعلقة بالعلوم المادية، وأجملها في نتيجتين، هما:
1-
أن القرآن محفوظ، لم يحصل به اختلاف عن النص الأول. عبر عن هذه النتيجة بقوله:"ليس هنا مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً النص الأول".
2-
أن القرآن ليس من عند بشر. عبر عن هذه النتيجة بقوله: "لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع..".
وبعد هذه النبذة في التعريف بهذا القسم، والإشارة إلى أهميته، أخلص إلى المقصود، وهو بيان ما وردت الإشارة إليه من هذا النوع في المثَل.
لقد اشتمل مثل الظلمات من سورة "النور" على فائدتين من هذا النوع، وهما:
أولاً: إفادة المثَل أن أعماق البحار اللجية مظلمة ظلمة تامة، بحيث لا يرى الكائن فيها شيئاً البتة.
1 دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة الطبعة الرابعة، 1977م.
وإفادته سبب ذلك، وهو: وجود حجب ساهمت مجتمعة في حجب النور عن ذلك المكان، هذه الحجب هي: السحاب، والموج السطحي، والموج الباطني.
والسحاب يحجب كمية كبيرة من الضوء. إلا أن ما ينفذ من خلاله من ضوء الشمس يكفي لإِنارة سطح الأرض وسطح البحر، فيبقى أن إحداث الظلمة في قاع البحر المحيط ناتج عن الحجابين الآخرين، وهما الموجان.
والموجان وفوقهما الهواء أوساط شفافة.
فالمثَل يدل على أن هذه الأوساط هي ظلمات، حيث إن كل وسط أحدث ظلمة فيما دونه.
فهذه الدلالة العلمية يمكن تركيزها فيما يلي:
- إفادة المثَل ظلمة أعماق البحار اللجية العميقة ظلمة شديدة.
- إفادة المثَل سبب ذلك وهو وجود أوساط شفافة متعددة أسهمت مجتمعة في حجب الضوء والتسبب في تلك الظلمة.
وقد جاءت البحوث والاكتشافات الحديثة في علم البحار وعلم الضوء لتؤكد هاتين الحقيقتين، وتزيد في بيان علة ذلك.
فقد "كشف العلم الحديث أن في قاع البحار العميقة - كثيرة الماء - (البحر اللجي) ظلمات شديدة، حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بدون آلات بصرية، وإنما تعيش بواسطة السمع، ولا توجد هذه
الظلمات الحالكة في قاع البحر الذي يحيط بالجزيرة العربية"1.
وتقدم2 في دراسة الممثّل به أن الثابت في علم الضوء أن الضوء إذا انتقل من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف فإِن جزءاً من الضوء ينعكس، والجزء الآخر ينفذ لكنه ينكسر.
وتتكرر العملية بتعدد الأوساط المختلفة الكثافة.
فلا يزال الضوء - الذي يخترق مياه البحر - ينعكس جزء منه، وينكسر جزء آخر، إلى أن تصل زاوية الانكسار إلى الزاوية الحرجة (زاوية الانكسار الكلي) ، فيرتد ما بقي من الضوء، ولا ينفذ منه عندئذ شيء إلى أسفل، ويكون ما تحت ذلك مظلماً ظلمة تامة.
فعلم البحار يؤكد ظلمة قاع المحيطات ظلمة شديدة، وعلم الضوء الحديث يؤكد ما دل عليه المثَل من أن الظلمة ناتجة بسبب تلك الأوساط المعترضة له، وهي الأمواج المتعددة في تلك المحيطات.
ولا يشك كل عالم بهذه العلوم من تطابق ما دل عليه المثَل من ذلك مع ما ورد فيها.
ثانياً: دلالة المثَل على أن الإِبصار يكون بوصول الضوء من مصدر مضيء إلى الجسم المرئي (المُبْصَر) ، وأنه إذا انعدم الضوء ولم يصل منه
1 كتاب توحيد الخالق، عبد المجيد عزيز الزنداني، (3/47) دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الثالثة، 1408هـ.
2 انظر: ص (588) وما بعدها.
شيء إلى الجسم فإِنه يظلم ولا يُرى.
وهذه الفائدة واضحة في دلالة المثَل. حيث قال - سبحانه -: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ، بعد أن ذكر الحجب التي حجبت النور عن ذلك المكان. فدل على أن السبب في عدم الرؤية هو انعدام النور.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذه الفائدة، بقوله:
"ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة، وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء"1.
وهذا البيان لكيفية الرؤية واشتراط أن يكون الجسم المُبْصَر مضيئاً أو مضاءً من غيره، هو الصواب الذي قرره المحققون من الباحثين في الضوء قديماً وحديثاً، كما أمكن إثباته بالتجربة القاطعة.
قال صاحب "كتاب المناظر"2: "وقد تبين.. أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان، فإِن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء إلى كل جهة تقابله فإِذا قابل البصر مُبْصَراً من المبصرات، وكان المُبْصَر مضيئاً بأي ضوء كان، فإِن الضوء الذي في المُبْصَر يرد منه ضوء إلى سطح البصر. وقد تبين - أيضاً - أن من خاصية
1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين الألوسي، (17/184) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2 الحسن بن الهيثم، المتوفي سنة (432هـ) .
الضوء أن يؤثر في البصر، وأن من طبيعة البصر أن ينفعل بالضوء. فأخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المُبْصَر إِنما هو من الضوء الذي يرد منه إلى البصر"1
وقال - أيضاً -: "وقد تبين.. أن البصر ليس يدرك شيئاً من المُبْصَرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت له عدة معان هي:
أن يكون بينه وبينه بعداً ما. ويكون مقابلاً للبصر
…
ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره
…
"2.
أما في العلم الحديث، فإِنه لا يعتمد إلا هذه الحقيقة المتمثلة بأن الرؤية إنما تكون عندما تصل الأشعة الضوئية المرتدة أو المنبعثة من الأجسام المرئية إلى العين.
قال بعض الأساتذة3 الجامعيين في علم الفيزياء:
1 كتاب المناظر، للحسن بن الهيثم، ت: عبد الحميد صبره، ص (137) ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، (1983م) .
2 نفس المرجع، ص (189) .
3 الأستاذ الدكتور: محمد عبد المقصود الجمال، أستاذ الفيزياء الهندسية، جامعة الإسكندرية وجامعة بيروت العربية.
"وكيفية رؤية العين للأجسام هي أنه عندما تستقبل هذه الأجسام أشعة ضوئية ساقطة عليها، ترتد هذه الأشعة فتسبب رؤية الأجسام. لا كما كان يفسر قديماً بأن العين يخرج منها الأشعة فتسقط على الأجسام وبالتالي تراها العين. (ودلالة على عدم صحة هذا التفسير أن العين لا ترى في الظلام) . ونلخص هذا بأن تعريف الضوء: هو الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية
…
"1.
ويستفاد من هذا النص فائدتان هامتان:
1-
تقريره للحقيقة العلمية الثابتة من أن الإبصار يتم عندما ترتد الأشعة الساقطة على الأجسام إلى العين.. وأن الضوء المنبعث من الأجسام المرئية إلى العين هو السبب في رؤيتها، مما يدل على اشتراط أن تكون الأجسام مضيئة أو مضاءة لكي ترى.
2-
إشارته إلى بطلان التفسير القديم لسبب الرؤية المتمثل: في خروج أشعة من العين تسقط على الأجسام فتراها العين2.
وذكر دليل بطلانه بقوله: "ودلالة على عدم صحة هذا التفسير أن
1 مبادئ الفيزياء (2) ، للكليات والمعاهد التربوية والهندسية، الأستاذ الدكتور محمد عبد المقصود الجمال، ص (193) ، دار الراتب الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ.
2 انظر: أيضاً -: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، (17/184) .
العين لا ترى في الظلام".
واختياره لهذا الدليل يدل على قوته ووضوحه.
وهذا الدليل الذي استدل به على بطلان التفسير القديم للرؤية، يتفق تماماً مع دلالة المثَل، حيث دل المثَل على أن الكائن في ذلك المكان لا يرى شيئاً البتة بسبب شدة الظلام. {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .
وعلى هذا يمكننا القول: أن المثَل مع دلالته بمنطوقه على أن الضوء شرط في رؤية الأجسام - حيث دل على أن انحجاب الضوء عن اليد تسبب في عدم رؤيتها. ومفهوم المخالفة الَّذِي يقتضي أن وصول الضوء إليها يمكن من رؤيتها - فإِنه - أيضاً - دل على بطلان التفسير القديم - الذي يقوم على أن الضوء يخرج من العين ويسقط على الأجسام فتحدث رؤيتها - فالاعتبار بصورة المثَل يرد ذلك، حيث لا يوجد حجاب بين اليد والشعاع المنبعث من العين، فلو كان ذلك التفسير صحيحاً لأمكنت الرؤية. واللَّه أعلم.
القسم الثالث: إفادة المثَل حقائق علمية ثابتة في نفسها، وإِن لم تكن مسلمة عند كل المشتغلين بتلك العلوم.
والفرق بين هذا القسم والقسمين السابقين، أن السابقين يتعلقان بالعلوم المادية القائمة على المشاهدة والتجربة المحسوسة ويتفق العلماء المتخصصون بها على حقائقها غالباً. وكل منهم يستطيع التحقق بنفسه إذا هيئت لهم الوسائل.
أما هذا القسم فمداره على التفكر والتعقل. فهي أمور عقلية يبحثها الفلاسفة والنظار فيما يسمى بعلم النفس والاجتماع ونحوها.
إلا أنه لا يدركها إلا ذوو البصائر المستنيرة، الذين ينظرون نظراً صحيحاً، ويحسنون استخلاص العبر والعواقب والعلل، الذين استنارت عقولهم واستلهموا الهدى من نور اللَّه ووحيه.
فهذا القسم لا يدركه إلا أولو الألباب. كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألبَابِ} 1.
وقوله - سبحانه -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي
1 سورة الزمر الآية رقم (9) .
الألبَابِ} 1.
أما الكفار فإنهم لا يدركونها، لظلمة قلوبهم، وعمى بصائرهم، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 2.
وقد دل المثَل - مثل الظلمات من سورة "النور" - على حقيقتين من هذا القسم، هما:
أولاً: حقيقة أن الكفار يتقلبون في ظلمات حالكة لا ينفكون منها وقد تقدم الكلام على هذه الحقيقة في الفائدة الأولى من فوائد هذا المثَل.
ثانياً: حقيقة أن الكفار في خوف وقلق وحيرة دائمة.
وقد تقدم الكلام على هذه الحقيقة في الفائدة الرابعة من فوائد هذا المثَل.
والمراد هو إثبات هاتين الحقيقتين ضمن الحقائق العلمية التي دل عليها المثَل.
ويعتمد الكفار في بحث موضوع هاتين الحقيقتين على علم النفس
1 سورة آل عمران الآية رقم (190) .
2 سورة الحج الآية رقم (46) .
والسلوك والاجتماع. إلا أن هذه العلوم لا يوجد فيها - في الغالب - حقائق متفق عليها عند أهلها. وإِنما شأنها شأن الفلسفة، يوجد فيها لكل قضية سيل من الآراء والنظريات والأقوال المتناقضة.
والكفار بإزاء هاتين الحقيقتين ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: من زُين له سوء عمله فرآه حسناً.
فهؤلاء معجبون مفتونون بما هم عليه من الباطل، يدعون إليه، وينشرونه، ويدافعون عنه.
وضمن هذا الفريق ذوو الطبائع الفاسدة، والنزعات الشريرة، الذين لا يركنون إلا إلى الشر والغي والفساد، كما وصفهم اللَّه بقوله:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 2.
1 سورة فاطر الآية رقم (8) .
2 سورة الأعراف الآية رقم (146) .
القسم الثاني: من يدرك بطلان ما هو عليه، لفساد نتائجه، وآثاره، وغير ذلك. لكنه لا يسلم بعجزه عن الاهتداء إلى الطريق القويم، بل هو مقتنع أنه سيصل ببحثه وجهده إلى ذلك، فيضل يبحث ويكدح دون جدوى.
القسم الثالث: من أدرك بطلان ما هو عليه، وأخذه اليأس من الوصول إلى الطريق القويم، لعلمه أن ما قُدِّم على موائد الفلسفة لا يخلو من الفساد والتناقص، وأن فرص التطبيق التي أتيحت للنظريات السلوكية لم يحالف واحدة منها النجاح في الاهتداء إلى النظام والسلوك الأمثل. وأن كلاً منها وإن حقق جانباً من الصلاح إلا أنه أنتج أضعافه من الفساد. ولم يفلح أي منها في تقليل نوازع الشر عند الإنسان، وتحقيق الطمأنينة والسعادة له.
ومن هؤلاء من أسلمه اليأس إلى الإِحباط، وعاش في الحياة عيشة منفلتة، بلا هدف ولا غاية، معطلاً لعقله، يائساً من أمره، فحاله كما وصفها اللَّه بقوله:{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1.
1 سورة الفرقان الآيتان رقم (43، 44) .
ومنهم من دفعه اليأس من الأحوال القائمة، والحلول المطروحة، إلى البحث عن الحق والهدى، حتى توصل إلى الإِسلام، وتعرف عليه، وقرأ القرآن والسنة، فاستنار له الطريق، ووقع على ضالته، وأدرك بُغيته، فأسلم واهتدى.
ومصداق ذلك في قصص بعض من أسلم من الكفار في هذا العصر، فلا بد من إبراز هذه الحقائق العلمية من هذا النوع وغيره، لتكون شاخصة أمام طالب الحق. فإِذا وقع عليها، وأدرك تطابقها مع ما توصل إليه في سابق بحثه، أو ما يجده من نفسه، تبين له الحق الذي لا مرية فيه. فكانت من أسباب هدايته.
خلاصة هذه الفائدة:
أن مثل الظلمات في سورة "النور" دل على حقائق علمية تتصل بالعلوم الدنيوية المادية التطبيقية أو النظرية. وأن هذه الحقائق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دلالة المثَل على معجزة عِلمية للنبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في الإخبار بوجود أمواج في باطن البحار العميقة اللجية (المحيطات) ، والتي لم تكن معلومة في ذلك الوقت، بل لم يكن بمقدور البشر اكتشافها لكونها على عمق لا يصله إلا الغواصات أو الغواصون المزودون بالأكسجين.
القسم الثاني: الإخبار عن حقائق علمية في العلوم المادية الدنيوية بما
يطابق ما ثبت عند المتخصصين فيها.
وقد اشتمل المثَل على فائدتين من هذا القسم، هما:
أولاً: إفادة المثَل أن أعماق البحار العميقة مظلمة ظلمة شديدة. مع بيان سبب ذلك، وهو وجود حُجُب حجبت الضوء، هي عبارة عن أوساط شفافة متعددة أسهمت مجتمعة في منع الضوء عن تلك الأماكن، وتسببت في ظلمتها.
واتفاق ذلك مع ما تقرر في علم البحار، وعلم الضوء.
ثانياً: دلالة المثَل على التفسير العلمي للرؤية، وأنه يشترط له وصول الضوء من مصدر مضيء إلى الجسم المرئي، وإذا انعدم الضوء ولم يصل منه شيء إلى الجسم فإِنه يظلم ولا يُرى.
واتفاقه مع التفسير الصحيح، المتقرر عند المتخصصين في ذلك الشأن.
كما تضمن المثَل - أَيضا - إبطال التفسير القديم القائم على أن سبب الرؤية خروج أشعة من العين تسقط على الأجسام فتحدث رؤيتها.
القسم الثالث: إفادة المثَل حقائق علمية ثابتة في نفسها، وإِن لم تكن مسلمة عند كل المشتغلين بتلك العلوم. وذلك في الأمور العقلية التي تبحث عادة فيما يسمى بعلم النفس والسلوك والاجتماع.
وقد دل المثَل على حقيقتين من هذا القسم، هما:
أولاً: حقيقة أن الكفار يتقلبون في ظلمات حالكة وضلالات لا
ينفكون عنها.
ثانياً: حقيقة أن الكفار في خوف وقلق وحيرة دائمة.
وبهذا ينتهي الكلام على هذا المثَل العظيم. واللَّه أعلم بالصواب.