الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: تعيين الممثّل به
.
إن الصورة التمثيلية المبرزة للتأسي بها والقياس عليها لا تقتصر على الألفاظ الواردة في المثل، بل إنها تشمل المعاني المستنبطة من الحال المصورة لكونها لازمة لها.
ولتجلية صورة الممثّل به أستعرض أولاً ألفاظه مع الإِشارة إلى المعاني المستنبطة من كل منها:
السراب: " ما تراه نصف النهار كأنه ماء".1 أو:
" ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة ماء"2.
والتفسير العلمي لظاهرة السراب هو:
ما يُرى في الصحراء من لمعان يشبه الماء نتيجة لأشعة الشمس المنعكسة انعكاساً كلياً، عند مرورها وانكسارها في طبقات الهواء المختلفة الكثافة بسبب اختلاف درجات حرارتها وذلك في الصيف عند اشتداد الحرارة.3
1 انظر: ترتيب القاموس المحيط، (2/543) ، عيسى البابي وشركاه، الطبعة الثانية.
2 فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، (4/38) .
3 انظر: كتاب الفيزياء، المرحلة الثانوية، الصف الثاني، ص (50، 51) الرئاسة العامة لتعليم البنات، بالمملكة العربية السعودية (1415هـ) .
والمعجم العلمي المصور، ص (372) ، إصدار قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بالاتفاق مع دائرة المعارف البريطانية، دار المعارف القاهرة، الطبعة الأولى، (1963م) .
ويستنبط من التشبيه بالسراب: إشراق الشمس، وذلك أن السراب لا يكون إلا والشمس مشرقة قد اشتد حرها، كما دل على ذلك حدّه العلمي واللغوي.
فالصورة التمثيلية الممثّل بها تكون في وضح النهار، عند اكتمال بزوغ الشمس، واشتداد حرها.
القيعة: "جمع قاع كجار وجيرة، والقاع أيضاً واحد القيعان وهي الأرض المستوية المنبسطة "1.
"والقاع أرض واسعة سهلة مطمئنة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام"2.
ويؤخذ من دلالة هذا اللفظ شدة حاجته إلى الماء، وأن حياته متوقفة عليه، لأنه بأرض هلكة، فإذا لم يجد الماء فهو هالك.
يحسبه: أي يظنه.
حَسِبَ، يَحْسَبُ (كرغِب، يرْغَب) : أي ظن يظن.
"حَسِبْت الشيء: ظننته. أحسِبُه، وأحسَبُه، والكسر أجود
1 تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/296) .
2 تهذيب اللغة، (3/33) .
اللغتين"1.
وقد يستنبط من هذا أنه اتبع ظنه ولم يتأمل في السراب الذي رآه ويتثبت منه، بل جرى نحوه بمجرد أنه لاح له.
الظمآن: العطشان2.
وتخصيص الظمآن بحسبان السراب ماءً - مع أن الريان يتراءى له السراب كأنه ماء- فيه إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أن الممثّل به محتاج إلى الماء حاجة شديدة لشدة عطشه، لدلالة لفظ صيغة المبالغة (ظمآن) على ذلك.
الثاني: وجود الدافع لطلب السراب عند الظمآن، وهو الحاجة إلى الماء، وذلك أن الريان، لا يوجد لديه دافع لطلبه، والعالم بحقيقة السراب يمنعه اليأس منه وإنما يندفع إليه من هو محتاج إلى الماء وهو جاهل قليل المعرفة والبصيرة.
قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} .
الهاء في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ} يعود على السراب. والمعنى: حتى إذا جاء الظمآن الموضع الذي رأى السراب فيه، لم يجد السراب شيئاً.3
1 تهذيب اللغة، (4/331) .
2 جامع البيان لابن جرير، (9/333) .
3 انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/333) .
وهذا يدل على خيبة المسعى، وعدم الانتفاع منه بشيء في وقت هو بأشد الحاجة إليه، ووقوعه في الهلكة، وانكشاف الحق بخلاف ما كان يظن ويؤمل.
قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} .
هذا البيان يتعلق بالممثّل له، وسوف يأتي بيانه في المطلب القادم.
إلا أنه يشير إلى أمر في الممثّل به، وهو هل يتوجه إليه اللوم في ما حصل له كاملاً أو أنه معذور، أو أنه ملوم باعتبار معذور باعتبار، فلأجل اختلاف أحوال اللاهثين خلف السراب جاء بيان المحاسبة بألفاظ تصلح لكل الأحوال، ومؤاخذة كل بما يستحق، فقال:{فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} .
خلاصة حال الممثّل به:
تبين من دراسة ألفاظ الممثّل به أن اللَّه عز وجل ضرب مثلاً لأعمال نوع من الكفار بسراب لاح لشخص في صحراء منبسطة قاحلة، في رائعة النهار، والشمس كأشد ما تكون إضاءة وحرارة، وقد اشتد عطشه وقويت حاجته إلى الماء، فظن ذلك السراب ماء، فجرى نحوه، فلما وصل المكان الذي تراءى له فيه لم يجد ماء ولا شيئاً، ولم يغن عنه سعيه، ولا ظنه في إنقاذه من الهلكة، وباء بالخيبة، ولم يسلم من المؤاخذة.
والممثّل به يشتمل على أمرين:
الأول: بيان بطلان نتيجة السعي، وأنه لا حقيقة له نافعة، ولا
حاصل منه، لكونه لم يقع في محله.
الثاني: بيان السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهو جهل هذا المقتحم للصحراء بحالها، وما ينبغي لمن دخلها أن يستعد به من الماء ومعرفة مصادره، وكيفية استخلاصه منها، ومعرفة ما يحصل فيها من المخاطر والأمور الخادعة كالسراب، ونحو ذلك.
فجهله وضعف بصيرته هو الذي جعله ينساق بسرعة وراء الشبه الخادع، فلم يغن عنه حسن ظنه، ولا شدة سعيه شيئاً، وأوقعه جهله في المهالك.