الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار من سورة النور
المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان
…
المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان.
ورد هذان المثلان في سورة النور في سياق المثل الذي ضربه اللَّه لنوره في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ....} الآية.
حيث بين سبحانه بهذا المثل نوره الذي يجعله في قلب عبده المؤمن وأثر ذلك النور في استنارة القلب وبصيرته في كل وظائفه وخاصة تعقله، مما يجعل المؤمن بسبب ذلك يمشي في الناس على بصيرة من أمره، كما قال عز وجل:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى بذكر أثر النور على أعمالهم حيث رأوا به محاسن الأعمال فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما دونها، وكيف أن اللَّه قبل أعمالهم التي دلهم عليها نور العلم ودلهم على أسباب صلاحها وصحتها، وأثابهم عليها أحسن الثواب، حيث قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
1 سورة الأنعام الآية رقم (122) .
تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّه أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1.
وبعد ذلك بين ما يضاد ذلك ويقابله من حال الكفار الذين لم يجعل اللَّه لهم نوراً لأنهم لا يستحقونه لعدم مجيئهم بسببه - وهو الإنابة والاهتداء - وما نتج عن ذلك من ضلال أعمالهم وظلمتها وعدم انتفاعهم بها في الآخرة.
فذكر - سبحانه - في هذين المثلين ما يخص الكافرين في مقابل ما ذكر في المثل الأول مما يخص المؤمنين، "وبضدها تتبين الأشياء".
وبعد ذلك بين اللَّه تعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء وأن ذلك
1 سورة النور الآيات رقم (36-38) .
2 سورة النور الآيتان رقم (39-40) .
متحقق في خلقه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1.
إذ هو سبحانه الذي له ملك السموات والأرض وإليه مصير جميع الخلائق، فهو إذاً مستغنٍ عن هؤلاء المعرضين الكافرين المستكبرين، وهم المحتاجون إليه وهو الغني الحميد.
ثم ذكر بعض الآيات الكونية الدالة على تفرده بالملك والتدبير، وعلى قدرته الشاملة والتي تستلزم - لمن تأملها وتفكر فيها - الإِيمان باللَّه وعبادته وحده، وهي كافية لهداية أولئك الكافرين الضاربين في الظلمات، وبمقدورهم الانتفاع والاعتبار بها إلا أن حالهم كما بينها ربنا بقوله:{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} 2.
والواقع يبين أن الذين ينتفعون بهذه الآيات ويعتبرون، هم الذين أعطاهم اللَّه ذلك النور فأبصرت قلوبهم. أشار إلى ذلك بقوله في سياق المثلين:
{يُقَلِّبُ اللَّه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} 3.
1 سورة النور الآية رقم (41) .
2 سورة الأعراف الآية رقم (146) .
3 سورة النور الآية رقم (44) .
ثم ختم السياق بما بدأ به فقال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
وقد قال في بداية السياق: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 2.
وهذه الطريقة - وهي أن يبدأ السياق الذي يضم جملة من الآيات، ويختم بنفس المعنى مع التقارب في الألفاظ - له دلالة هامة، حيث يدل على أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بها - يتكلم عن قضية واحدة، أو أن ما يذكر في ذلك السياق له علاقة بالمعنى المشترك بين آيتي البدء والختام.
وهذه الطريقة من روائع البيان القرآني، وقد تكررت في القرآن في مواضع لبيان قضايا هامة، من ذلك مثلاً: قوله اللَّه تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} 3، ثم ذكر جملة من الشرائع والآداب والنهي عن المحرمات وسيئ الأخلاق،
1 سورة النور الآية رقم (46) .
2 سورة النور الآية رقم (34) .
3 سورة الإسراء الآية رقم (22) .
ثم ختم السياق بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 1.
وذكر بعض المفسرين أن الحكمة من البداية بهذه الآية والختم بها إنما هي ليشعر أن هذه الأعمال المذكورة بين الآيتين لا تكون عبادة مقبولة إلا إذا كانت خالصة لا يقصد بها غير اللَّه.2
ومن ذلك قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ إِلَاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لَاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّه مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} 3. إلى أن قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ
…
} 4.
ومن ذلك قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
1 سورة الإسراء الآية رقم (39) .
2 انظر: التفسير الكبير للرازي، (10/214) ، دار أحياء التراث العربي ط3.
3 سورة الممتحنة الآية رقم (4) .
4 سورة الممتحنة الآية رقم (6) .
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ
…
} 1 ثم قال بعد عدد من الآيات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} 2.
وهذا الأسلوب جدير بأن يُراعى في التفسير على أساس أن ما بين الآيتين المبدوء والمختوم بهما، يتكلم عن قضية واحدة، أو له علاقة بالمعنى الذي دلت عليه آيتَا البدء والختام.
وعلى هذا يكون السياق - في سورة النور - الذي بُدِئَ بقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الآية، وختم بقوله:{لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي ما دلت عليه آيتا البدء والختام من نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم
1 سورة الروم الآية رقم (30) .
2 سورة الروم الآية رقم (43) .
وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها، وغير ذلك من الأمور التي لها اتصال بالعلم والهداية.
وقد جمع اللَّه بين العلم، وما رتب عليه من الهداية، في آية الختام، كالتلخيص لما تقدم، حيث قال:{لَقَدْ أَنْزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
والذي يتلخص لنا من دلالة السياق الذي وردت فيه الأمثال الثلاثة في سورة "النور" هو: أن اللَّه عز وجل بين في سياق المثل الأول أمرين بارزين وذكر ما يقابلهما في المثلين الآخرين.
فالأمران اللذان دل عليهما سياق مثل النور، هما:
1-
وجود النور الحقيقي المركب من نور الإِيمان ونور العلم في قلوب المؤمنين، وأنه من اللَّه عز وجل توفيقاً وإمداداً، وسببه من المؤمنين إنابة واستجابة لما نزل من العلم بالوحي المطهر، وأثر ذلك النور في استنارة قلوبهم وبصيرتها، وصلاح أعمالها ووظائفها، وصحة إراداتها.
2-
أثر نور العلم والإِيمان القائم في قلوب المؤمنين على أعمالهم وسلوكهم من جهتين:
- من جهة كشف لهم الأعمال الحسنة العالية المقربة إلى اللَّه فتوجهوا إليها، وحافظوا عليها.
- ومن جهة كشف لهم كيف يؤدونها على الوجه المشروع مما جعلها مقبولة عند اللَّه يجزيهم عليها أحسن الجزاء.
وبيّن ما يقابل هذين المعنييْن عند الكفار بمثلين هما: مثل السراب، ومثل الظلمات، حيث إن كل مثل بيّن أعمال فريق من الكفار التي عملوها في ظلمة الكفر، وصور الكيفية التي أعرض بها كل فريق عن العلم الذي تضمنه وحي اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك الإِعراض في ضلال أعمالهم.
والمعنى الرئيسي المشترك بين المثلين، والذي يقابل المعنى المستفاد من مثل النور، هو:
بيان أن سبب كفرهم، وضلال أعمالهم، وظلمة قلوبهم وأحوالهم هو: الإِعراض عن هدي اللَّه الذي هدى به عباده، وأنزله على رسله، والذي لا طريق للنور والهداية سواه.
وبهذه الأمثال الثلاثة وما ورد في سياقها، يكتمل البيان لحقيقة هامة، هي:
أن اللَّه أنزل وحيه إلى أنبيائه، وجعل ما تضمنه من العلم والحكمة، الطريق إلى الهداية، واستنارة القلوب، وصلاح الأعمال، وأنه لا سبيل إلى الهداية إلا به، وأن المؤمنين الذين هداهم اللَّه، وقذف في قلوبهم الإِيمان هم الذين استجابوا واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
كما تبين أن طريق الضلال سببه الإِعراض عما نزل من الوحي،
بتلمس الهدى من غيره، أو بالإِعراض والتكذيب والكفران، وأن ذلك يحدث ظلمة في القلوب، وظلمة وضلالاً في الأعمال.
وقد جمع اللَّه هذه المعاني في أول سورة "محمد" في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوآ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 1.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} بعد أن بين تلك الحقائق الهامة، فيه إشارة إلى الأمثال المضروبة لهم، والتي تم تفصيلها في سورة "النور" وغيرها- واللَّه أعلم -.
1 سورة محمد الآيات رقم (1-3) .